منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

امعان النظر فيها والتروي في معانيها يوصل الى فهم ذلك منها ، ومن هذا كله يعلم بطلان ما قال ابن ابي الحديد : واما الوراثة فالامامية يحملونها على ميراث المال او الخلافة ونحن نحملها على وراثة العلم انتهى ، وقد تحقق لك ان الامامية لا يحملونها على وراثة المال لاجماعهم على ان لا وارث مع ولد من ذوي النسب الا الأبوان ، فكلام ابن ابي الحديد فرية عليهم ، اللهم الا بعد وفاة فاطمة فميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المالي بواسطتها ينتقل الى علي (عليه‌السلام) وولديها الحسن والحسين فيجتمع لهم هنالك المراتب والمال ، واما قبل وفاتها فعلي (عليه‌السلام) وارث في الامامة ولوازمها لا يحمل الامامية الوراثة هنا إلّا على هذا وهي صريحة فيه ، واما تخصيصه اياها بوراثة العلم فهو تخصيص للعام بالرأي ، وتقييد للمطلق بالاستحسان ، وذلك ميراثه واصحابه من أسلافهم كما سيأتي القول فيه ، وليس ذاك بجائز اذ ليس عليه من الشرع دليل فما الى القول به سبيل مع ان قوله غير وارد علينا ولا مناقض لنا ، بل مواقف لما نقول ، لأنا نذهب الى ان وارث علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يجب ان يكون هو الامام بعده ، ولا يجوز ان يتقدم عليه احد من الناس كما بيناه فيما سبق من المقدمة والفصل الأول من وجوب تقديم الأفضل على المفضول ، فقوله لنا لا علينا بل نزيد على ذلك ونقول ان العقل السليم يجزم بان وارث علم النبي هو الوارث مقامه وانهما متلازمان لا ينفك احدهما عن الآخر عقلا ، ووجهه يؤخذ مما اسلفنا من التحقيقات ومن تأمل وانصف عرف صحة ما نقول.

واما ما ورد بلفظ الأحقية والأولوية : فما رواه ابن ابي الحديد عن ابي اسحاق الثعلبي في تفسيره عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما نزل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) بعد انصرافه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من غزاة حنين جعل يكثر من سبحان الله استغفر الله ثم قال : (يا علي انه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح ودخل الناس في دين الله افواجا وانه ليس احد

٢٦١

احق منك بمقامي لقدمك في الإسلام ، وقربك مني ، وصهرك ، وعندك سيدة نساء العالمين ، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن فأنا حريص أن اراعي ذلك لولده) (١) انتهى وهذا الحديث نص صريح في ان عليا (عليه‌السلام) احق بمقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كل احد للخصال التي ذكرها (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي ، وهذه الخصال هي التي نقول ان الموصوف بها على لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو الإمام لأن من شرط الإمام الاتصاف بها لاقتضائها الفضل ، وهو دليل لنا على الوجهين.

وبالجملة فالحديث المذكور نص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بالامامة بعده لا يعتريه الريب ، ولا يتطرق إليه العيب ، ومن الأولوية ما في بعض خطب امير المؤمنين (عليه‌السلام) من قوله : (لا يقاس بآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من هذه الأمة احد) الى ان قال : (ولهم خصائص الولاية) (٢) وسنذكرها فيما بعد جميعها ان شاء الله فالمراد بالولاية هنا اوليتهم بمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه اذا كان لهم حق ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كانوا هم الأحق والأولى بمقامه.

قال ابن ابي الحديد في شرح الخطبة : ثم ذكر (عليه‌السلام) خصائص حق الولاية والولاية الأمرة ، فاما الامامية فتقول اراد نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه وعلى اولاده ، ونحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق انتهى (٣) اقول ما ارى ابن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٤.

(٢) نهج البلاغة من الخطبة ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٩.

٢٦٢

ابي الحديد في ايراده صنع شيئا ، وانما زاد المعنى إيضاحا وزاد الحجة اثباتا ، لأنه لو قيل له ما ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق؟ لكان يقول الإمرة عليهم ، لا محيص له عن ذلك إذ لا معنى لها غيرها ، فيقال له : اذا اقررت ان لعلي (عليه‌السلام) واولاده حق تلك الولاية كنت مقرا بأن لهم الأمرة لأن الولاية المذكورة هي الإمرة بعينها ، فلعلي (عليه‌السلام) واولاده الإمرة على الخلق وهو نص كلام الامامية الذي انكرته فانهم لا يزيدون على ان لعلي (عليه‌السلام) واطهار ولده ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق ، فنعوذ بالله من اللجاج بغير فائدة ما سوى التعصب للمذاهب وقصد تصحيح قول الأسلاف بما لا يصح به ، ومما يشير الى معنى الأحقية والأولوية اخبار فمنها اخبار المماثلة وقد تقدمت.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند وفي كتاب فضائل علي (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (انا اوّل من يدعى به يوم القيمة فاقوم عن يمين العرش في ظله ثم اكسى حلة ، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على اثر بعض فيقومون عن يمين العرش ويكسون حللا ، ثم يدعى بعلي بن ابي طالب (عليه‌السلام) لقرابته مني ومنزلته عندي ويدفع إليه لوائي لواء الحمد آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء) ثم قال لعلي (عليه‌السلام) : (ثم تسير به حتى تقف بيني وبين ابراهيم الخليل ، ثم تكسى حلة وينادي مناد من العرش نعم الأب أبوك ابراهيم ونعم الأخ أخوك علي ، ابشر فانك تدعى اذا دعيت وتكسي اذا كسيت وتحبا اذا حبيت) (١) ودلالته على أولوية علي بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) نفس المصدر ٩ / ١٦٩ ورواه المحب الطبري ٢ / ٢٠٢ عن مناقب احمد كما رواه آخرون ممن تطول الحاشية باستعراض بعضهم ولكن اردنا اثبات نقل ابن ابي الحديد عن الامام احمد كما في المتن.

٢٦٣

ظاهرة من مواضع دعائه دون غيره مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكون اولى بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من غيره ، والا لدعى ذلك الغير ، والقرب منه والمنزلة عنده ، ولو كان احد اولى منه لكان اقرب منه الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكانت منزلته عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ارفع ، لكن ليس غيره كذلك فهو اولى ، واعطاؤه لواء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلو كان غيره اولى بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكان له ذلك اللواء ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر الحديث : (انك تدعى اذا دعيت) الخ تصريح بالأولوية ، واذا كان اولى به في الآخرة فهو في الدنيا كذلك فيكون هو الأولى بمقامه ، فالحديث فيه اشارة الى إمامته بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ومنها ما رواه عن احمد في كتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اعطيت في علي خمسا هن احب الى من الدنيا وما فيها ، اما واحدة فهو كاب بين يدي الله عزوجل حتى يفرغ من حساب الخلائق ، واما الثانية فلواء الحمد بيده آدم ومن ولد تحته ، واما الثالثة فواقف على عقر حوضي (١) يسقى من عرف من امتي ، واما الرابعة فساتر عورتي ومسلمي الى ربي ، واما الخامسة فاني لست اخشى عليه ان يعود كافرا بعد ايمان ، ولا زانيا بعد احصان) (٢) والأظهر في الأولوية الرابعة ثم الثانية والثالثة ، والتقرير كما في الأول.

وأما ما ورد بلفظ المختار : فما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند قال قالت فاطمة : انك والخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) زوجتي فقيرا لا مال له فقال : (زوجتك أقدمهم سلما ، واعظمهم

__________________

(١) نفس المصدر ٩ / ١٧٢ عن مناقب احمد.

(٢) العقر : مؤخر الحوض حيث تقف الابل.

٢٦٤

حلما ، واكثرهم علما أما تعلمين ان الله اطلع الى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك) (١) أقول هذا الحديث نص واضح في إمامة علي (عليه‌السلام) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن الله اختاره بعده فدخل في قوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢) ولا يختار الله احدا من الناس ، فيقال اختاره الله الا نبيا أو خليفة نبي ولما كان نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاتم الأنبياء وجب ان يكون اختار الله عليا لخلافته ، اذ لا معنى لاختيار الله رجلا الا نصبه نبيا أو إماما ، وهذا ظاهر لا يحتاج الى بيان.

ومثله ما رواه ابن ابي الحديد عن محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي قال : اخبرنا عمر بن موسى الوجيهي ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : قال على (عليه‌السلام) على المنبر (ما احد جرت عليه المواسي إلا وقد انزل الله فيه قرآنا) فقام إليه رجل من مبغضيه فقال فما انزل الله تعالى فيك؟ فقام الناس إليه يضربونه ، فقال (دعوه أتقرأ سورة هود)؟ قال : نعم ، قال فقرأ (عليه‌السلام) : (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (٣) ثم قال : (الذي كان على بينة من ربه محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والشاهد الذي يتلوه انا) (٤) فدل الحديث بصراحته على ان عليا هو التالي للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اختيار الله له فهو الإمام بعده بلا اشتباه ، فما هما الا سابق ولاحق ، ومجل ومصل (٥) ، فالنبي السابق وعلي اللاحق والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٤.

(٢) الدخان : ٣٢.

(٣) هود : ١٧.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٨٧.

(٥) المصدر السابق ٩ / ١٧٥. والمجلي : السابق والمصلي : تالي السابق ، يقال : صلى الفرس اذا جاء مصليا يتلو السابق لأن رأسه عند صلاة اي مغرز ذنبة.

٢٦٥

المجلّى وعليّ المصلّى ، فصلوات الله عليهما وآلهما.

واعلم ان الحديثين خصوصا الأول كما يدلان بنصهما على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذلك يدلان على أنه افضل من جميع الأنبياء ، وذلك لأن سبق الاختيار من الله لأحد دليل على شدة اعتناء الله تعالى بشأنه قطعا وشدة الاعتناء من الله يوجب الأفضلية للمعتنى بشأنه على غيره ، ولما كان المخصوص بسبق الاختيار هو النبي المختار كان افضل المخلوقين ، ولما كان المثنى به في الاختيار هو حيدر الكرار كان افضل البرية بعد النبي الأمين ، وهذا بحمد الله ظاهر المنار ، ليس عليه غباوة ولا غبار ، وهو تصديق ما ورد في هذا المعنى من طرقنا من الأحاديث والأخبار ، وبه يبطل ما ابطله عز الدين ابن ابي الحديد من القول بافضلية علي (عليه‌السلام) على الأنبياء ، واندفع بذلك تشنيعه على بعض اصحابنا في هذا القول بسبق الاجماع من اصحابنا على خلافه ، فانه لا اجماع على خلاف هذا القول من اصحابنا ان لم يكن اجماعهم عليه ، والأخبار ادلة وشواهد على ان ابن أبي الحديد قال بعد روايته جملة احاديث هذا منها : ان من قيل فيه ما قيل لو رقى الى السماء ، وعرج في الهوى ، وفخر على الملائكة والأنبياء تعظما وتبجحا لم يكن ملوما ، بل كان بذلك جدير انتهى ، وهو صريح فيما كان ينفيه ويشنع على قائليه من تفضيل على (عليه‌السلام) على الأنبياء والملائكة ، فكان القوم سكارى عن النظر في تناقض اقوالهم ، ووا عجباه من فاضل محقق يروي مثل هذه الأحاديث واضعافها محتجا بها على مذاهبه ومصححا لها في مآربه ثم يقول لا نص على عليّ (عليه‌السلام) بالامامة ، فكأنّه لا يفهم معاني هذه الأخبار ، ولا يدرك حقائق هذه الآثار ، قد اغشت الشبهة قلبه واعمى التقليد للأسلاف عين بصيرته ، فلم يهتد للصواب.

٢٦٦

وأما ما ورد بلفظ السيادة : فكثير ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما تقدم من حديث انس (اوّل من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين ، وسيد المسلمين) وفي الحديث الآخر المتقدم أيضا : (مرحبا بسيد المؤمنين ، وامام المتقين) ومنه ما رواه ابن ابي الحديد عن الحافظ ابي نعيم في الحلية من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ادعو لي سيد العرب عليا) (عليه‌السلام) فقالت عائشة : الست سيد العرب؟ فقال : (انا سيد ولد آدم ، وعلى سيد العرب) فلما جاء ارسل الى الأنصار فاتوه فقال لهم : (يا معشر الأنصار ، الا ادلكم على ما ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا؟) قالوا : بلى يا رسول الله قال : (هذا علي فاحبوه بحبي واكرموه بكرامتي فان جبرئيل امرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل) (١).

وعن احمد في المسند عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النظر الى وجهك يا علي عبادة ، انت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، من احبك أحبني وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله) (٢) فعلي كما ترى تارة سيد المسلمين ، واخرى سيد المؤمنين ، وثالثة سيد العرب ، ورابعة سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، والسيد هو الرئيس المطاع ومالك الأمر ولا سيادة باحد هذين المعنيين على المسلمين والمؤمنين والعرب في الدنيا غير النبوة والامامة ، ولا رئيس بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على المسلمين والمؤمنين الا الامام ، ولا رئيس على جميعهم سواه ، فيكون علي (عليه‌السلام) هو الامام ، لأنه الرئيس الواجب الطاعة على المسلمين ، فهي نص في إمامته ومصرحة بخلافته لا يعترض فيها بالشبه كما قاله في الاسعاف ان سيادته لهم من حيث النسب أو نحوه فلا يستلزم افضليته على الخلفاء الثلاثة

__________________

(١) المصدر السابق ٩ / ١٧٠ وحلية الأولياء ١ / ٦٣.

(٢) كذلك ٩ / ١٧١ ورواه المحب في الرياض ٢ / ١٦٦ وقال : «اخرجه احمد».

٢٦٧

قبله (١) انتهى وعلى ما ذكره فتكون سيادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على ولد آدم في النسب فلا يستلزم افضليته على الأنبياء ولا على الثلاثة أيضا والحاصل ان هذا كلام متجاهل متعصب لا يبالي بما قال فيما يوافق مشتهاه ، ولو كان له بعض التدبر لكفاه فهم عائشة من إرادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلفظ السيادة من التقدم والفضل ، ولذا قالت له مستفهمة الست سيد العرب ولكن ديدن الرجل واصحابه رد الحق النير بما لا يعقل ولا يمكن من القول كما لا يخفى على الناظر في كلامهم ، وذلك لا يغني من الحق شيئا.

واما ما ورد بلفظ المحبة : فمنه حديث الطائر المتواتر ، وقد اشار إليه ابن ابي الحديد مرارا ، ورواه الحاكم في المستدرك ، وقال بعض العامة انه صح في كتب النقل والأحاديث الصحيحة والاخبار الصريحة ، عن انس بن مالك قال : اهدى الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) طير مشوي يسمى الحجل ، وفي رواية ما اراه إلّا حبارى (٢) فقال : (اللهم أتني باحب خلقك أليك يأكل معي من هذا الطير) فجاء علي فحجبته ، وقلت : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشغول رجاء ان تكون الدعوة لرجل من قومي ، ثم جاء على ثانية فحجبته ، ثم الثالثة فقرع الباب ، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ادخله فقد غيبته) فلما دخل قال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ما حبسك عنا يرحمك الله) قال : هذه آخر ثلاث مرات وانس يقول انك مشغول فقال : (يا انس ما حملك على ذلك) قلت : سمعت دعوتك فأجبت ان تكون لرجل من قومي فقال (صلى الله

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٥٥.

(٢) الحبارى : طائر اكبر من الدجاج الأهلي واطول منه عنقا ، ومن امثال العرب «ابله من الحبارى» لأنها فيما زعموا اذا غيرت عشها نسيته وحضنت بيض غيرها.

٢٦٨

عليه وآله وسلم) : (لا يلام الرجل على حبه لقومه) رواه الترمذي (١) انتهى ومنه حديث الراية بخيبر المتواتر وقد رواه جميع المحدثين كالبخاري ومسلم والحاكم والترمذي وغيرهم (٢) وذكره ابن ابي الحديد واشار إليه مرارا وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار لا يرجع او يفتح الله على يديه) فاعطاها عليّا وفتح الله خيبر على يديه ، وفي حديث مسلم قال عمر بن الخطاب : فما احببت الامارة الا يومئذ.

ورووا أن حسان بن ثابت قال يخبر عن ذلك :

وكان عليّ ارمد العين يبتغى

دواء فلما لم يجد من مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة

فبورك مرقيا وبورك راقيا

وقال ساعطي راية القوم فارسا

كميا شجاعا في الحروب محاميا

يحب إلها والإله يحبه

به يفتح الله الحصون الأوابيا (٣)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٧ ، وحديث الطائر اخرجه جماعة من اصحاب السنن منهم الترمذي ٢ / ٢٩٩ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ و ١٣١ ، والنسائي في الخصائص ص ٥ ، وأبو نعيم في الحلية ٦ / ٣٣٦ ، وابن الأثير في اسد الغابة ٤ / ٣٠ والمحب الطبري في الرياض ٢ / ١٦٠ وغيرهم ، وكلهم اسندوا ذلك الى انس بن مالك ، وقال الحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، وقد رواه عن انس جماعة من الصحابة زيادة على ثلاثين نفسا ثم صحت الرواية عن علي وابي سعيد وسفينة».

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٠ ، كتاب بدأ الخلق ، باب مناقب علي بن ابي طالب ، وج ٥ / ٧٤ كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر بطريقين الأول عن أمّ سلمة رضي الله عنها ، والثاني عن سهل بن سعد ، وصحيح مسلم ٧ / ١١٧ كتاب فضائل الصحابة من عدة طرق ، والترمذي ٢ / ٣٠٠ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٠٩.

(٣) الأوابي ـ جمع آب ـ وهو الممتنع والمراد الحصون المنيعة.

٢٦٩

فخص بها دون البرية كلهم

عليا وسماه الولي المواليا

وكان ذلك القول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي بعد رجوع الشيخين براية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منهزمين.

ومنه الأخبار التي قدمناها المشتملة على (من احب عليّا فقد احب الله ومن احبه احب رسول الله) بألفاظ مختلفة ومعان متفقة والأحب الى الله الأكثر ثوابا عنده فيكون افضل ، وكذا الذي يحبه الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن محبته محبة الله ومحبة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والمحب لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو التابع لهما كما قدمنا بيانه في فصل التمسك ، واذا كان علي (عليه‌السلام) هو المخصوص بمحبة الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واحب الخلق لهما وجب ان يكون المقدم والرئيس على المسلمين لأنه افضلهم فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الأفضل والشبهات مندفعة.

وأما ما ورد بلفظ الأعلمية وما يئول الى ذلك فكثير لا يحصى نذكر منه شيئا يسيرا.

فمنه : قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لفاطمة في حديث الاختيار المتقدم (زوجتك اقدمهم سلما واعظمهم حلما واكثرهم علما) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي في حديث خصمه بالنبوة وابصرهم بالقضية وقد قدمنا ذكره في حديث المنزلة والأبصر بالقضية هو الأعلم ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحديث المشهور (أقضاكم علي) اشار إليه ابن ابي الحديد في مواضع ونقل عن عمرانه قال : علي اقضانا ، والأقضى هو الأعلم بالقضاء.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (خازن وعيبة علمي وانا مدينة العلم وعليّ بابها) وقد مر ذكر ذلك كله مشروحا ، على انا لا نحتاج

٢٧٠

هنا الى الأطناب في القول للاجماع على ان عليّا اعلم الصحابة من جميع اهل العلم ، وابن ابي الحديد مقر بذلك ومطنب فيه حتى قال في كلام له يعدد فيه خصائص علي (عليه‌السلام) : والثانية علومه التي لولاها لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام ، وقد اعترف بذلك له ، والخبر مشهور «لو لا عليّ لهلك عمر» (١) انتهى واذا كان اعلم وجب ان يكون هو الامام المتبع ، والرئيس المقدم ، ولم يجز لمن ليس مثله في ذلك ان يتقدم عليه لقول الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما) (لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢) وغيرها من الآيات ، بل بالعقل كما سبق ذكره واذا كان الأعلم هو الأحق بالاتباع والمتبع هو الامام لا غيره فعلي (عليه‌السلام) هو الامام لأنه الأعلى وهو ظاهر.

وأما ما ورد بلفظ الأقربية : فمنه ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خطب الناس يوم جمعة فقال : (ايها الناس قدموا قريشا ولا تقدموها ، وتعلموا منها ولا تعلموها قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم ، وامانة رجل منهم تعدل امانة رجلين من غيرهم ، ايها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق ، من احبه فقد أحبني ومن ابغضه فقد ابغضني ، ومن ابغضني عذبه الله بالنار) (٣) وهذا الخبر نص في ان عليا (عليه‌السلام) هو

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤١ ، وقد قالها في اكثر من موطن ، وهي من كلماته المشهورة ، ومن رواتها ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٣٩ ، والسبط في التذكرة ص ٨٧ وابن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص ١٣ والمحب الطبري في الرياض ٢ / ١٩٤.

(٢) يونس : ٢٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ ، وتذكرة الخواص ص ١٧ ، والرياض النضرة ٢ / ٢١٢.

٢٧١

ذو القربى من الرسول وهو المخصوص بها دون سائر قريش لتخصيص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اياه بذلك في قوله : (أوصيكم بحب ذي قرباها) ودليل على إرادة تقديمه على كل الأمة وتوضيح ذلك ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حث الناس أولا على تقديم قريش والتعلم منها فدخل علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) في ذلك لأنه من ذروتها ، واولى الجميع بالعلتين المذكورتين اللتين لأجلهما امر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بتقديم قريش والتعلم منها ، وهما القوة والأمانة ، ثم خصص عليّا (عليه‌السلام) بالوصية بحبه ووصفه بصفة اراد بها التعليل على تخصيصه دون قريش بوجوب الحب المراد منه المتابعة وهي صفة خاصة به ، فكان مفاد الحديث قدموا قريشا على كل الناس لقوتهم وامانتهم وقدموا عليا (عليه‌السلام) على قريش في المتابعة لأنه اقربهم إليّ ، ثم اكد وجوب تقديمه بما ذكره من انه (لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق) ، الى آخر ما بينه من الأوصاف المؤكدة لوجوب تقديمه.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ثم يدعي بعلي لقرابته مني ومنزلته عندي) (١).

ومنه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وانه ليس احد احق منك بمقامي لقدمك في الإسلام وقربك مني) (٢) فصرحت هذه الأحاديث بان الوصية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بحب علي (عليه‌السلام) وتقديمه على قريش وتقديمه في الدعوة مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على غيره ، وان احقيته بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيره ، كل ذلك لقرابته منه فكان ذلك دليلا على ان الأقربية من الرسول (صلى الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩.

(٢) المصدر السابق.

٢٧٢

عليه وآله وسلم) تقتضي التقديم والأحقية بمقامه ، ويوازرها في هذه الدلالة قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١) واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الأقرب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأقرب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو الأحق بمقامه واولى بالتقديم وجب ان يكون هو المقدم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والقائم مقامه ، فهو اذن الامام وذلك كله مفاد الأحاديث كما سمعت قال ابن أبي الحديد روى ابو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالاستيعاب في معرفة الصحابة ان انسانا سأل الحسن ـ يعني البصري ـ عن علي (عليه‌السلام) فقال : كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه ، ورباني هذه الأمة ، وذا فضلها وسابقتها ، وذا قرابتها من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يكن بالنؤمة عن امر الله ولا بالملولة في دين الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، اعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة (٢) انتهى.

اقول وبما ذكرنا هنا يندفع ما أورده بعض الخصوم فيما ذكرناه في مسألة الأقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من أنه لو كانت الامامة تستحق بالأقربية لكان العباس احق بها من علي (عليه‌السلام) ، فهذه الأخبار والأقوال رادة لذلك ومثبتة ان عليا (عليه‌السلام) اقرب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من العباس وذلك لبعض ما ذكرناه من الوجوه هناك.

وأما ما ورد انه اشد جهادا : فانه امر متعارف متعالم وقد ذكره اهل المغازي والسير وذكر ابن ابي الحديد في كتابه منه كثيرا ويكفيك في ذلك قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في خبر الراية المتواتر : (كرارا غير فرار لا

__________________

(١) الأحزاب : ٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ٩٥ ، والاستيعاب ٣ / ٤٧.

٢٧٣

يرجع أو يفتح الله علي يديه) (١) وسنذكر جملة من هذا في ذكر شجاعته عند ذكرنا جمعه للصفات الحميدة.

قال ابن ابي الحديد في كلام : فان قيل : لا ريب ان في كلامه ـ يعني عليّا ـ (عليه‌السلام) تعريض بمن تقدم عليه ، فاي نعمة له عليهم؟ قيل : نعمتان الأولى منهما جهاده وهم قاعدون فان من انصف علم انه لو لا سيف علي (عليه‌السلام) لاصطلم المشركون من اشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمت آثاره في بدر واحد والخندق وخيبر وحنين ، وان الشرك فيها فغرفاه فلولا أنه سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة (٢) انتهى واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الأشد جهادا والأكثر عناء في نصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واعزاز دينه ودفع بأس المشركين عن اهل ملته كان هو الأحق بمقامه ، والأولى بالتقديم على غيره ، لأن تلك الصفات تقتضي تقديمه وتعظيمه ولا شيء من التقديم غير الامامة فيجب ان يكون هو الامام بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وأما ما ورد بانه مع الحق دائما : فمنه ما رواه كثير من اهل الحديث قال

__________________

(١) حديث الراية رواه المحدثون عامة منهم البخاري في صحيحه ج ٤ / ٥ وص ٢٠٧ في كتاب بدأ الخلق باب مناقب علي بن ابي طالب ، وفي كتاب الجهاد والسير باب دعاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الاسلام والنبوة ، وص ١٢ باب ما قيل في لواء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وج ٥ / ٧٦ في كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، ومسلم في صحيحه في ٣ / ١٤٤١ في كتاب الجهاد والسير باب غزوة ذي قرد ، وج ٤ / ٨٧١ في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن ابي طالب ، والترمذي ج ٢ / ٣٠٠ وابن ماجه في سننه ص ١٢ ، في باب فضائل الصحابة ، والامام احمد في المسند ١ / ٩٩ و ١٣٣ والنسائي في خصائصه ص ٥ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ و ١٣١ الخ ...

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤١.

٢٧٤

ابن ابي الحديد في شأن علي (عليه‌السلام) وحكمه في ذلك حكم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة انه قال : (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار) وقال له غير مرة : (حربك حربي وسلمك وسلمي) (١) انتهى.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث الغدير (وادر الحق معه حيث دار) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (٢) وما يعطى هذا المعنى من الأحاديث الكثيرة مثل احاديث (ان طاعته طاعة الله وطاعة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان محبته محبة الله) واحاديث التمسك به والاقتداء وغير ذلك مما مضى ويأتي ، واذا كان علي مع الحق لا يزال ولا يزول عنه كان واجب التقديم لا سيما انه قد طلب الخلافة ، وانف من تقدم غيره عليه وامتنع من بيعته حتى قهر عليها كما بيناه سابقا ، فوجب ان تكون إمامة غيره باطلة اذ ليس بعد الحق الا الضلال فهذه الأحاديث دالة على أن عليّا (عليه‌السلام) هو الاولى بمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو الامام بعده والله الهادي.

واما ما ورد بأنه خير الأمة وخير الخلق ، وما ادى مؤداه : فكثير منه ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند عن مسروق قال : قالت لي عائشة انك من ولدي ومن احبهم الي فهل عندك علم من المخدج؟ فقلت : نعم قتله علي بن ابي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان بين لخافيق وطرفا (٣) قالت : ابغنى على ذلك بينه ، فأقمت رجالا شهدوا عندها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤١.

(٢) تقدم تخريج مصادر حديث الثقلين.

(٣) تامرا ـ كما في معجم البلدان ـ : نهر واسع يخرج من جبال شهرزور ، ولخافيق جمع

٢٧٥

بذلك قال : فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله؟ فقالت نعم سمعته يقول : (انهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة واقربهم عند الله وسيلة) (١) قال ابن ابي الحديد : وفي كتاب صفين أيضا للمدائني عن مسروق ان عائشة قالت له لما عرفت ان عليا قتل ذا الثدية : لعن الله عمرو بن العاص فانه كتب الي يخبرني انه قتله بالاسكندرية ، الا انه ليس يمنعني ما في نفسي ان اقول ما سمعته من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سمعته يقول : (يقتله خير امتي من بعدي) (٢).

وعن ابي جعفر الاسكافي بسنده عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن ابيه عن جده ابي رافع قال : اتيت أبا ذر بالربذة اودعه فلما اردت الانصراف قال : لي ولأناس معي ستكون فتنة فاتقوا الله وعليكم بالشيخ علي بن ابي طالب فاتبعوه ، فاني سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول له : (انت اوّل من آمن بي واوّل من يصافحني يوم القيمة ، وانت الصديق الأكبر ، وانت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ، وانت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، وانت اخي ووزيري وخير من اترك بعدي ، تقضي ديني ، وتنجز موعودي) (٣).

وروى ابن ابي الحديد أيضا عن ابن الكلبي عن رجل من ولد عقيل بن أبي طالب حكّمه عمر بن عبد العزيز الأموي في قضية المرأة التي حلف زوجها ان علي بن أبي طالب خير هذه الأمة واولاها برسول الله ، والا فامرأته طالق

__________________

لخفوق وهو شق في الأرض ، والطرفا : شجر الحمض واحدته طرفاء.

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٦٧.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٢٦٨.

(٣) كذلك ١٣ / ٢٢٨ عن نقض العثمانية.

٢٧٦

ثلاثا فقال العقيلي لعمر : نشدتك الله يا امير المؤمنين ألم تعلم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لفاطمة وهو عندها في بيتها عائد لها يا بنية : ما علتك؟ قالت : الوعك يا أبتاه ، وكان علي غائبا في بعض حوائج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال لها : أتشتهين شيئا؟ قالت : اشتهي عنبا وأنا اعلم انه عزيز ، وليس وقت عنب فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله قادر على ان يجيئنا به) ثم قال : (اللهم ائتنا به مع افضل امتى عندك منزلة) فطرق على الباب فدخل ومعه مكتل (١) قد القى عليه طرف ردائه ، فقال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما هذا يا علي؟ قال عنب التمسته لفاطمة قال : (الله اكبر الله اكبر اللهم كما سررتني بان خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء ابنتي) ثم قال : (كلى على اسم الله يا بنية) فأكلت وما خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى استقلت وبرئت فقال عمر : صدقت وبررت اشهد لقد سمعته ووعيته ، يا رجل خذ بيد امرأتك فان عرض لك ابوها فأهشم انفه ثم قال : يا بني عبد مناف ـ وكان المجلس جامعا لبني هاشم وبني امية وافخاذ قريش ـ والله ما نجهل ما يعلم غيرنا ولا بنا عمى في ديننا ولكنا كما قال الأول :

تصيدت الدنيا رجالا بفخها

فلم يدركوا خيرا بل استحقبوا الشرا

واعماهم حب الغنى واصمهم

فلم يدركوا الا الخسارة والوزراء

قيل : فكأنما القم بني امية حجرا وكتب الى عامله ميمون بن مهران الذي بعث بالمرأة وزوجها وأبيها إليه ليحكم في امرهم ان يستيقن ذلك الحكم ويعمل عليه (٢) ،

__________________

(١) المكتل : وعاء شبه الزنبيل.

(٢) كذلك ٢ / ٢٢٢ والقصة نقلها المؤلف رحمه‌الله اختصارا وهي في شرح نهج البلاغة اطول.

٢٧٧

قلت : وهذا الخبر الذي رواه العقيلي تدل القصة على انه متواتر بين الناس لا سبيل لأحد الى انكاره فلهذا لم ينكره من القوم منكر ، ولا قال منهم قائل ، بل كلهم سلموا الراوية مع انه جل من في ذلك المجلس مبغضون لأمير المؤمنين ، ولا مانع لهم من الطعن في الخبر لو لم يكن معلوما من تقية او خوف لا سيما عمر بن عبد العزيز فانه السلطان القاهر إذ ذاك ، وقد اقر بانه روى الحديث ووعاه ، فلا شك اذن في صدق الحديث ومعلوميته وما مضى من احاديث السيادة والاختيار والمحبة ومماثلة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما يأتي من الأخبار مثل تشبيهه بالأنبياء وغير ذلك كلها تعضد هذه الأخبار المصرحة بانه خير الخلق وافضل الأمة في دلالتها ، ثم ان نصها على افضلية علي (عليه‌السلام) على الأمة ، بل على الخلق كافة بمعنى كثرة الثواب واطلاقها يدل على افضليته بمعنى الأجمع للخصال المحمودة لشمول الخيرية والأفضلية لذلك ، مع ان هذا المعنى لا ينازع فيه عاقل وسنوضحه ان شاء الله.

وروى ابن ابي الحديد ان قيس بن سعد بن عبادة لما اتى مصر عاملا لعلي (عليه‌السلام) قام خطيبا على المنبر وقال بعد الحمد لله والثناء عليه وما اراد أن يذكره : ايها الناس انا بايعنا خير من نعلم بعد نبينا ـ يعني عليا ـ (عليه‌السلام) فقوموا فبايعوا على كتاب الله فان نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله فليس لنا عليكم طاعة (١).

وقال المعتزلي أيضا : وروى ابان بن أبي عياش قال : سألت الحسن البصري عن علي (عليه‌السلام) فقال : ما اقول فيه كانت له السابقة والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة ، ان عليا كان في امره عليا ، رحم الله عليّا وصلى عليه ،

__________________

(١) كذلك ٦ / ٥٩.

٢٧٨

فقلت يا أبا سعيد : أتقول صلى الله عليه لغير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : ترحم على المؤمنين اذا ذكروا وصل على النبي وآله وعلي (عليه‌السلام) خير آله قلت : أهو خير من حمزة وجعفر : قال : نعم ، قلت : وخير من فاطمة وابنيها قال : نعم والله انه خير آل محمد كلهم ، ومن يشك انه خير منهم وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وابو هما خير منهما) ولم يجر عليه اسم شرك ولا شرب خمر ، وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لفاطمة زوجك خير امتي) فلو كان في امته خير منه لاستثناه ، ولقد اخى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين اصحابه فأخى بين علي ونفسه ، فرسول الله خير الناس نفسا وخيرهم اخا فقلت : يا أبا سعيد فما هذا الذي يقال عنك انك قلته في علي؟ فقال : يا بن اخي احقن دمي من هؤلاء الجبابرة لو لا ذلك لسالت بي الخشب (١) انتهى. وقد دل آخر الكلام على ان اخفاء الحسن القول بافضلية علي (عليه‌السلام) على جميع الأمة كما صرح به هنا وروى فيه الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انما كان للخوف على نفسه من القتل ، لأن بني امية كانوا يقتلون من ذكر امير المؤمنين (عليه‌السلام) بخير فكيف من فضّله على الأمة ، وهذا امر شائع معلوم ، على ان المعتزلي مقر بذلك وبه معترف حتى انه قال في دعوة علي (عليه‌السلام) للأشتر : إني لا أشك ان الأشتر يغفر الله له ويدخل الجنة بهذه الدعوة فانها لا فرق عندنا بينها وبين دعوة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) انتهى.

ثمّ ان الأحاديث قد اشتملت تارة على انه خير الأمة وخير من يترك النبي

__________________

(١) الخشب ـ بضم الخاء والشين المعجمتين ـ جمع خشب وهو الصقيل من السيوف.

(٢) كذلك ٤ / ٩٦.

٢٧٩

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده ، وخير الخلق والخليفة ، فيكون افضل الخلق حتى الأنبياء والملائكة لأنهم من جملة الخلق والخليقة الذين نص الخبر على ان عليّا (عليه‌السلام) خيرهم ، فكونه (عليه‌السلام) افضل الصحابة امر واضح ومع هذا انا نعلم يقينا ان الخصال التي توجب الفضل والصفات التي تقتضي كثرة الثواب كلها حصلت له دون غيره واجتمعت فيه دون من سواه وفاق في جميعها كل الناس فيجب ان يكون افضل بالضرورة والا لخرج المقتضى عن كونه مقتضيا وهو باطل ، وها نحن نذكر استكماله في خصال الخير مفصّلا ونأتي به مشروحا.

اما نسبه (عليه‌السلام): فهو النسب الجليل الذي لا يساجل (١) ، والمجد الأثيل الذي لا يطاول ، فانه من السّرو (١) من قريش ، والصريح المهذب من قصى ، والذروة من عبد مناف ، والسلالة من هاشم ، ابوه ابو طالب شريف قريش مانع الجار وحامي الذمار أمنع الناس جانبا ، وابلغهم حجة ، واثبتهم قلبا ، وافصحهم لسانا ، واوفاهم موعدا ، وحمايته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وغيرها تشهد له بذلك ، وقال معاوية بن ابي سفيان في ابيات يخاطب بها عمرو بن العاص بعد قتل علي (عليه‌السلام).

نجوت وقد بل المرادى سيفه

من ابن ابي شيخ الأباطح طالب (٢).

__________________

(١) يساجل : يبارى ، والاثيل : الاصيل ، والسرو : أعلا الشيء أو السخاء في مروءة.

(٢) البيت من شواهد النحاة على جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالنعت عند الضرورة ، وهو من ابيات بعث بها معاوية الى عمرو بن العاص لما اصيب امير المؤمنين (عليه‌السلام) وسلم هو من ضربة الخارجي ، وقتل خارجة مكان عمرو. خطأ ، وأولها :

وقتك واسباب الأمور كثيرة

منية شيخ من لوى بن غالب

فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه

وصاحبه دون الرجال الأقارب

نجوت وقد بل المرادى سيفه

 ... البيت

٢٨٠