منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

من ائمة اللغة واعترف بثبوت ذلك وصحته القوشجي في شرح التجريد.

الثاني : وروده في القرآن كما في الآيات المذكورة وغيرها ، وفي السنة مثل الرواية المتقدمة وغيرها وهما افصح الكلام العربي.

الثالث : وروده في اشعار العرب على كثرة.

قال لبيد بن ربيعة العامري :

فغدت كلا الفرجين تحسب انها

مولى المخافة خلفها وامامها (١)

فالمولى فيه بمعنى الأولى مثله في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) قاله ثعلب النحوي وابو عبيدة ، وقال الشنفري جابر بن ثابت الأزدي.

وانّي لمولى الصبر احباب بزة

على مثل قلب السمع والحزم افعل

أي انّى اولى بالصبر من غيري ، وأنا مالك أمره ، وذلك أنه يصف نفسه بكثرة الصبر زيادة على غيره من ذوي الصبر فلا بد من معنى التفضيل.

وقال عمرو بن البراقة الفهمي.

اذا جر مولانا علينا جريرة

صبرنا لها انا كرام دعائم

وننصر مولانا ونعلم انه

كما الناس مجروم عليه وجارم

فمولانا في البيتين بمعنى سيدنا قاله شراح الشواهد وهو بمعنى الأولى بنا والمالك لأمرنا.

وقال الأخطل :

فاصبحت مولانا من الناس بعده

واحرى قريش ان تهاب وتحمدا

__________________

(١) رأي ثعلب. نقله الزوزني في شرح المعلقات عند شرحه البيت المذكور من معلقة لبيد.

٢٤١

وقال غيره :

كانوا موالي حق يطلبون به

فادركوه وما ملوا وما لعبوا

والشواهد عليه كثيرة ، واطلاق المولى في لسان العرب على مالك العبد معلوم غير مجهول ، وبه ورد الكتاب العزيز قال الله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) والمراد به الأولى به والمالك لأمره ، اما في العرف فلأن اطلاق لفظ «المولى» على من بيده أمر المرأة في النكاح وعلى مالك العبد امر شائع ذائع بين الفقهاء والمحدثين وعامة الناس في جميع الأقطار بحيث لا ينكر ولا يدفع ، فقد جاء مولى بمعنى الأولى بالشيء والأحق به شرعا ولغة وعرفا ، بل قال بعض المحققين من اهل الاطلاع على دقائق اللغة العربية : ان الأصل في المولى الأولى بالشيء والأحق به وما سواه من معاني المولى راجع إليه ، فالمعتق مولى لأنه أولى بميراث المعتق وهذا مولى لأنه أولى بنصرة المعتق من غيره ، وابن العم لأنه اولى بنصرة ابن عمه لقرابته ، والورثة موالى لأنهم اولى بميراث الميت من غيرهم ، والحليف لأنه اولى بامر محالفه للمحالفة التي جرت بينهما ، والولي لأنه اولى بنصرة من يواليه ، والسيد لأنه اولى بتدبير من يسوده انتهى والصبان في غفلة عن هذا كله ، والجواب عن قوله : ان مفعلا لم يرد بمعنى افعل ، من وجهين.

الأول : انا قد اثبتنا بالأدلة الظاهرة والبراهين الزاهرة مجيء هذا الحرف من مفعل بمعنى افعل فلا يضرنا عدم مجيء غيره بمعناه لأنا لا ندعى العموم وانما الدعوى في واحد وقد اثبتناها.

الثاني : انه ليس المدعى ان مولى صفة بمعنى الأولى حتى يرد قوله وانما المدعى ان مولى اسم للأولى وقد اعترف بذلك القوشجي وغيره من محققيهم وبوروده كذلك في كلام العرب واشعارهم فزال اعتراض الصبان.

٢٤٢

الثالث : (١) تسليم انه بمعنى اولى لكن لا نسلم انه اولى بالامامة ، بل بالاتباع له والقرب منه كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) (٢) وقول التلاميذ : نحن اولى باستاذنا مثل به في المقام القوشجي.

والجواب انا لا ندري ما مرادهم من هذا العبارة المضطربة الألفاظ الزائلة المعنى ولا بد من ان يكونوا ارادوا احد وجوه اما انهم ارادوا ان معنى قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «من كنت مولاه فعلي مولاه» من كان لي تابعا فهو لعلي تابع فيكون حاصله ان من لم يكن تابعا لي فليس تابعا لعلي فمن لم يكن تابعا لعلي (عليه‌السلام) فليس بتابع للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فيقال لهم : على هذا فأبو بكر واصحابه تابعون للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أم غير تابعين له فان كانوا له تابعين لزمهم ان يتبعوا عليا بعده ، والمتبوع هو الامام وان لم يكونوا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اتباعا لم تجز لهم خلافته فدلالة الخبر على المدعى بحالها وان ارادوا ان معناه من كنت تابعه فهذا معنى قبيح لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يتبع أحدا من الناس ، بل هو الرئيس المتبوع ، وان ارادوا ان معناه من كان تابعا لي كان علي تابعا له ، فهو معنى مستهجن جدا لأن مراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الكلام مدح علي (عليه‌السلام) بالاتفاق ، وعلى هذا المعنى يكون مدحا لواحد غير معين ويكون علي (عليه‌السلام) ملزوما بتبعية ذلك الغير فلا مدح له وهو خلاف المراد ، ولا تنصرف عبارتهم الى غير هذه المعاني الثلاثة ، والأول لنا لا علينا وان كان من لفظ الخبر بعيدا ، والأخيران مع ما فيهما مما سمعته بعيدان عن حاق اللفظ فحمل كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهما بين الفساد ، واما الأولى في الآية

__________________

(١) أي من الوجوه المزعومة على عدم دلالة حديث الولاية على الامامة.

(٢) آل عمران : ٦٨.

٢٤٣

فلولا القرنية الدالة من العقل على ان التابع لا يلي امر المتبوع لدلت على ولاية الأمر لكن القرنية صارفة عنه وهي دليل متبع ، ومع هذا كله فان خروج اولى في الآية عن معنى الأحقية الى معنى المتابعة غير مسلم لأنه على قولهم بمعنى ان اتبع الناس لابراهيم للذين اتبعوه وهذا ممتنع من جهة ان اسم التفضيل يدل على المشاركة والزيادة ومن لم يتبع ابراهيم لم يشارك متبعيه في متابعته وحيث لا مشاركة فلا تفضيل ، وكذا لا مشاركة في الأقربية بين تابعيه ومن لم يتبعه فينتفي التفضيل في الأقربية أيضا فكان لا محالة الأولى فيها باقيا على معناه ، والمراد ان الأولى بطريقة ابراهيم والأحق بدينه من جميع الناس من كان تابعا له من الأنبياء والأوصياء واتباعهم في الملة الحنيفية بدليل قوله تعالى : بعد (وهذا النبي) فان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير تابع شريعة ابراهيم في التحليل والتحريم ليكون مؤتمّا به بالاجماع وانما تبعيته لابراهيم كونه على الملة الحنيفية مثله والذين آمنوا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فالآية رد على اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق المدّعين أنهم على دين ابراهيم وطريقته هذا ظاهرها وسرها ان الأولى بمقام ابراهيم والأحق بامامته المجعولة تابعوه من ذريته في الدين القويم الذين لم يجر عليهم اسم ظلم طول اعمارهم ، وهذا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والذين آمنوا الذين لم يلبسوا ايمانهم بظلم ، وهم علي (عليه‌السلام) وأطايب اولاده فهي تشير الى قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) (١) في عقبه يعني الامامة وهذا الوجه هو الوارد عن علماء اهل البيت في معنى الآية (٢) فهي دالة على مطلبنا من جميع الجهات وبعيدة عن مطلبهم ، وكذا مثال القوشجي فان المراد منه ان التلاميذ أحق بفوائد استاذهم وعوائده من غيرهم وذلك موافق لنا لا له ، وليس

__________________

(١) الزخرف : ٢٨.

(٢) قال الطبرسي في مجمع البيان ٩ / ٤٥ : «قيل : الكلمة الباقية هي الامامة الى يوم الدين عن ابي عبد الله عليه‌السلام».

٢٤٤

المراد منه انا اتبع لاستاذنا كما لا يخفي على المتدبر ، ثم لو سلمنا حمل الولاية في الآية والمثال على ما ذكروه لكن لا نسلم جواز حمل الخبر عليهما لاختلاف التأليف المقتضى لاختلاف المعنى ، فان الأولى في الآية مسند الى التابعين وابراهيم متعلق الولاية فجاز أن يكون المعنى ان اقرب الناس لابراهيم المتبعون له ، وفي المثال كذلك وفي الخبر الولاية مسنده الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يجوز أن يكون اراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كنت تابعا لامتناع ذلك ، وعلى ما قالوه يكون المعنى هكذا نعم لو قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كان مولاي فهو مولى علي لجاز حمله على ما قالوه على ما فيه من القول الذي مر فتبين من هذا ان حمل الخبر على ما في الآية مستحيل وليس ذلك بخفي على من له معرفة بعلم العربية ولا على مثل القوشجي ولكن يلجئهم ضيق المسلك الى ترك ما يعلمون ، والله المسدد لمن طلب السداد.

الرابع : (١) تسليم انه الأولى بالأمر لكن في المئال بعد الثلاثة لا بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يدل على بطلان إمامة الثلاثة ونحن نقول بذلك ونقر بأنه رابع الأئمة والجواب ان نقول لهم اذا قررتم بان معنى «من كنت مولاه فعلي مولاه» من كنت اولى به من نفسه فعلي اولى به من نفسه فلا بد لكم من التزام احد امرين لا محيص لكم عن اختيار واحد منهما ، اما ان تحكموا على المتقدّمين عليه بانهم من المؤمنين الذين كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى منهم بانفسهم في اعتقادهم او بانهم ليسوا منهم فان اجبتم بالأول فلازمه ان يكون علي (عليه‌السلام) اولى بهم من انفسهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، لأن من كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى به من نفسه فعلي اولى به من نفسه على جهة

__________________

(١) أي من الوجوه المزعومة على عدم دلالة حديث الولاية على الامامة.

٢٤٥

العموم في الشرط المقتضى لعموم الجزاء لتناول القضية جميع الأشخاص والأوقات كما هو دأب الشرطية المطلقة العامة ، فيجب ان يكون علي إمامهم اذ كان اولى بهم من انفسهم ، ولا يجوز لهم ان يولّوا عليه ولا على انفسهم وقد جعله رسول الله عليهم وليّا وأولى بهم من انفسهم فبطلت إمامتهم قطعا ، وان اجبتم بالثاني فقد اخرجتموهم من حيز الإيمان ونفيتموهم من ملة الاسلام لأن من لم يعتقد ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى به من نفسه فهو كافر والكافر لا يجوز ان يكون إماما بالاجماع ونص الكتاب وهذا الوجه لا تجوزونه بل تحكمون بكفر من نسب الى الثلاثة الكفر فبقى الوجه الأول وهو يعين بطلان إمامتهم فثبت المطلوب وصحت دلالة الحديث على إمامة علي (عليه‌السلام) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فصل وعدم جواز إمامة غيره كائنا من كان.

واما قول صاحب الاسعاف بان تجويز النسيان على سائر الصحابة السامعين لهذا الحديث مع قرب العهد في غاية البعد ، (١) فباطل لأنا لم ندع نسيان الصحابة للحديث ، ولا جهالتهم بمراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منه ، ولا عدم معرفتهم دلالته على إمامة علي (عليه‌السلام) وعموم ولايته على الناس كافة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكيف وعمر بن الخطاب لما سمعه عرف جميع ذلك منه وقال مخاطبا لعلي (عليه‌السلام) : هنيئا لك يا بن ابي طالب اصبحت وامسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ، كما قدمنا ذكره في رواية احمد بن حنبل والبيهقي عن البراء بن عازب (٢) ، افترانا ندعى ان عمر كان شاكا في دلالة الحديث على ان عليا اولى

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٥٤.

(٢) المسند ٤ / ٢٨١ وفي تفسير الرازي ١٢ / ٤٩ فلقيه عمر فقال : «هنيئا لك اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» ومثله في تاريخ الخطيب. ٨ / ٢٩٠.

٢٤٦

بكل المؤمنين والمؤمنات من انفسهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو يقول ما سمعت ويصرح به؟ أو ترى انه اراد تهنئته بان ناصر المؤمنين الذي يشاركه فيه جميعهم كما تدعون؟ بل هنأه بالخلافة والإمامة بلا ريبة ، وهذا من اقوى الأدلة على ما ذكرنا سابقا من أن الصحابة عرفوا من الحديث النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على عليّ (عليه‌السلام) بالامامة ، ولم يعرض لهم نسيانه ولا ارتياب في معناه وذلك مدعانا عليهم ولذا لا نعذرهم فيما فعلوا وقوله : وزعم ان الصحابة علموا هذا النص ولم ينقادوا له عناد باطل مردود بما بيناه من قرب في تهنئة عمر لعلي (عليه‌السلام) ، وما ذكرناه في حديث سعد بن عبادة وابنه قيس ، وحديث تسليم الأنصار على امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالولاية ، وغير ذلك ، وليس الصحابة بمعصومين حتى يجب تنزيههم عن الخطأ ، في الأحكام وارتكاب العصيان وقد صدرت من بعضهم المخالفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كثير من الأمور وفي كثير من القضايا والأحكام وسنذكره مفصلا في محله ان شاء الله ، فما ذكره من عدم انقياد القوم لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع علمهم به هو اليقين عندنا من فعلهم ، وليس فيه عناد اصلا بعد انتفاء عصمتهم بالاجماع ، وثبوت المخالفة منهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتواتر ، بل هو عمل بالدليل وانما يكون عنادا اذا ثبتت عصمتهم أو عدم مخالفتهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شيء من الأمور دائما وكل ذلك لم يكن فلا سبيل اذن الى رد الأدلة الصريحة حذرا من تجويز المخالفة على الصحابة ، ولسنا نحكم بذلك على جميع الصحابة فنعارض بما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا تجتمع امتي على ضلال) (١) ، لأنا

__________________

(١) هذا الحديث رواه كثير من المحدثين وناقش في صحته بعضهم ، وعلى فرض الصحة فان موضوعه لم يتحقق حتى الآن فان الأمة لم تجتمع على ضلال كما لم تجتمع على حق وهذا معلوم لا يمارى به الا مكابر فان الاختلاف وقع بين الأمة من يوم وفاة رسول

٢٤٧

نقول ان عليّا واصحابه الاخيار ما زالوا على العمل بذلك النص في سرهم وان لم يتمكنوا من اظهاره في زمان تغلب الأولين ، والحق معهم وحجة الله فيهم والامام بالحق على قولهم فهو الاجماع الصحيح فاندفع ما أورده الصبان باذن الواحد المنّان ، ثم انه زاد في كتابه وجها خامسا في الإيراد على الخبر لا ينبغي ان يذكر لهجنته لو لا ان الواجب على المناظر الاستظهار في الحجة وازالة جميع الشبه الواردة على دليله.

قال (١) : خامسها كيف يكون ذلك نصا في إمامة علي (عليه‌السلام) مع ان عليا بنفسه صرح بانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم ينص عليه ولا على غيره كما في البخاري وغيره انتهى (٢).

أقول : ما أضعف ما يتشبث به هؤلاء القوم في اخفاء الحق الزاهر ، وما أوهن ما يتعلقون به في اطفاء نور الهدى ، وهل خفي على احد من ذوي المعرفة ادعاء امير المؤمنين (عليه‌السلام) النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بهذا الخبر وغيره ، واستشهاده من معه من الصحابة على ذلك وشهادة جماعة منهم له به ، وقد قدمنا ذكر شيء منه ويأتي غيره ، ولا نعرف موضعا صرح (عليه‌السلام) فيه بعدم النص عليه ، وكيف يصرح بعدم النص عليه وهو ما زال يدّعي النص ويستشهد عليه وهل هذا إلا تناقض لا يجوز أن يقع من أدنى العقلاء فكيف يصدر منه مع استكمال بصيرته ووفور علمه وحكمته! وذكر البخاري ذلك وامثاله عنه غير مقبول

__________________

الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى يوم الناس هذا وما اختلفت دعوتان الا كانت احداهما ضلالة.

(١) الضمير في «قال» للصبان ، والوجه الخامس زاده الصبان على الوجوه الاربعة التي ذكرها اصحابه.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٥٤.

٢٤٨

فانه متهم في ذلك لموافقة غرضه ومطابقة مذهبه ، وهل هو في ذلك الا كثعالة شاهده ذنبه ، ومن روى له مثله ، فليس بدليل اصلا لو لم يكن له معارض فكيف وقد عارضه ما هو معلوم من تصريح عليّ (عليه‌السلام) بوجود النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فمن المقطوع به ان ما ذكره البخاري منكر من القول وزور فهو باطل يقينا هذا والناقل لم يذكر لفظ البخاري ليزيل عن نفسه تهمة الكذب على شيخه والحوالة في مثل هذا المقام غير جائزة عند المناظرة ، ولا يثبت بها الاحتجاج ، ولذا كان للخصم ان يقول لعلك تقولت على الشيخ أو لعله من كلامه لا من روايته فلا يكون حجة أو لعلها رواية ليس صريحة كما يدعى وتدّعى والتأويل البعيد فيها ليس بمقبول منكم والا لقبلناه في حديث الغدير ، ولو ذكر اللفظ لم يتوجه عليه شيء من ذلك ولكان الاحتجاج فيه والإيراد متوجها على البخاري دونه.

وأما الرواية التي نقلها ابو العباس الدمشقي في تاريخه عن ابن عساكر فلا شك انها مصنوعة مزورة فلا ريب في بطلانها لاشتمالها على اعتراف امير المؤمنين (عليه‌السلام) بما تواتر عنه القول بضده مثل عدم عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليه في قتال اهل الجمل واخوانهم من اهل الشام مع اشتهار الرواية بوصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ان فيكم من يقاتل على تأويل القرآن) الخبر (١) ، وقول ابي أيوب الأنصاري : عهد إلينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن نقاتل مع علي الناكثين والقاسطين والمارقين رواه ابن ديزيل : ونصر بن مزاحم (٢) وعلى أن خلافة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٠٧ ورواه الامام احمد في المسند ٣ / ٣٣ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٢ وابو نعيم في الحلية ١ / ٦٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٠٧ ورواه ابن الأثير في اسد الغابة ٤ / ٣٢ و ٣٣.

٢٤٩

الأولين بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهما وقد حصل الاتفاق على رده بيعة ابي بكر حتى اخرج إليها قهرا وقد شرحنا ذلك فيما مر فكيف يعترف بالنص ويخالفه وهو منزه عن مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جميع الأمور ، ولتضمنها نسبة امير المؤمنين (عليه‌السلام) الى نفسه ما صح عند المؤالف والمخالف انه لم يفعله ومن جملته انه يغزو إذا اغزاه ابو بكر وعمر وعثمان وقد صح عند كل اهل الرواية انه لم يخرج من المدينة غازيا في زمان الثلاثة قط وامتناعه عن الخروج مع عمر الى الشام حين دعاه إليه معروف (١) ، ومذاهبه المخالفة للثلاثة مشهورة ، وفي كتب القوم مذكورة ، وتصريحه بدفعهم اياه واخذهم حقه وغصبهم مقامه على ذروات المنابر معلوم ، قد بيناه في مواضع من هذا الكتاب يستغنى بشرحه فيها عن ذكره هنا ، وكلما كان من الروايات مخالف للمعلوم فالواجب رده والحكم عليه بالبطلان خصوصا اذا كان مما يختص به المدعي ولم يروه خصمه كهذه الرواية ، على ان هذا الرجل قد ذكر قبل الوجه المذكور بقليل ان عليا قد احتج بالخبر على إمامته في خلافته فكيف يعتبر باحتجاج عليّ (عليه‌السلام) على إمامته بالخبر ثم يقول ولم يطل الكلام ان عليّا قد اعترف بعدم النص عليه! فانظر الى هذا التضاد الشديد البين في كلامه فيا سبحان الله ما أبعد هؤلاء الجماعة عن التأمل فيما يقولون؟ وقد بينا سابقا ان الحديث المذكور قد احتج به امير المؤمنين (عليه‌السلام) على اهل الشوري في اختصاصه بالامامة دون غيره باعتراف الخصوم من معتزلة واشاعرة فلا وجه لتخصيص الصبان احتجاجه (عليه‌السلام) بالحديث بايام خلافته ، ثم يقال له : اذا كان علي قد احتج به على إمامته في خلافته باعترافك فوجب ان يكون حجة على ذلك ابدا اذ لا تخصيص فيه بوقت ، بل هو صريح في تناول جميع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٧٨.

٢٥٠

الأوقات ، وبذلك تبطل إمامة المتقدمين مع ما في اعترافك بهذا من اكذابك نفسك في دعواك اعتراف امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعدم النص وتكذيبك البخاري في ذكره ذلك كما قلت ، فتأمل ايها المنصف في تناقض كلام هؤلاء القوم لتعلم (أي الفريقين احق بالأمن) (١) وقد اتضح من جميع ما ذكرنا سلامة الخبر من الإيرادات وخلوصه من التشكيكات وعصمته من التمويهات ، وثبت انه نص على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد سيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك المراد.

ومنها : ما رواه ابن ابي الحديد عن اكثر المحدثين وعن احمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل ولفظ الرواية بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خالد بن الوليد في سرية وبعث عليا (عليه‌السلام) في سرية اخرى وكلاهما الى اليمن ، وو قال ان اجتمعتما فعلي على الناس وان افترقتما فكل واحد منكما على جنده ، فاجتمعا واغارا وسبيا نساء واخذا اموالا وقتلا ناسا ، واخذ علي (عليه‌السلام) جارية فاختصها لنفسه فقال خالد لأربعة من المسلمين منهم بريدة الأسلمي اسبقوا الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاذكروا له كذا واذكروا له كذا لأمور عددها على عليّ (عليه‌السلام) فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه فقال : ان عليا فعل كذا فاعرض عنه ، فجاء الآخر فقال : ان عليّا فعل كذا فاعرض عنه ، فجاء بريدة الأسلمي فقال : يا رسول الله ان عليّا فعل كذا واخذ جارية لنفسه فغضب (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى احمر وجهه وقال : (دعوا لي عليّا) يكررها (ان عليّا مني وانا من علي وان حظه في الخمس اكثر مما اخذ وهو ولي كل مؤمن من بعدي).

__________________

(١) الأنعام : ٨١.

٢٥١

قال ابن أبي الحديد : رواه ابو عبد الله احمد في المسند غير مرة (١) والمراد انه رواه بطرق متعددة وروى الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ما تريدون من علي ما تريدون من علي ما تريدون من علي ان عليّا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي) (٢).

اقول : وهو نص صريح غاية الصراحة في ان عليا (عليه‌السلام) ولى المؤمنين بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا معنى للولاية بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا الامامة ، ولا يجوز حملها على المعونة والنصرة لأنه يلزم من ذلك ان عليّا في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير ناصر للمؤمنين ولا معين لهم وانما يكون كذلك بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهذا ظاهر البطلان بالبديهة ، وهل نصر الايمان والمؤمنين في حياة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احد كنصره او ذب عن حريم الاسلام احد كذبّه فتعين ان المراد الأول فهو النص الواضح الذي لا تدخله الشبه ولا يتطرق إليه فاسد التأويل ولذا قال امير المؤمنين في خطبة له : (فو الله اني لأولى الناس بالناس) ، رواها المعتزلي (٣) : المنكر النص عليه ومن هنا يعلم فساد ما قاله الصبان حيث قال : والجواب عما يوهمه ظاهره يعني الخبر من تقديمه على غيره واستحقاقه الامامة عقب وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يؤخذ مما ذكرناه في حديث (من كنت مولاه) وانا اقول جواب هذا الكلام المتهافت يؤخذ مع ما ذكرناه هنا من جوابنا عليه هناك وقد صرح

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٠ وانظر مسند الامام احمد ج ٤ / ١٦٤ و ١٦٥ و ٤٣٧ وج ٥ / ٣٥٦.

(٢) الترمذي ٢ / ٢٩٧ من طريق عمران بن الحصين ومستدرك الحاكم ٣ / ١١٠.

(٣) شرح النهج ٧ / ٢٨٤.

٢٥٢

الحديث كما ترى بان القوم كانوا مبغضين لعلي (عليه‌السلام) في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانهم مجهدون انفسهم في عيبه ونقصه عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليغضب عليه لكنهم لم يجدوا الى ذلك سبيلا فما فاتهم منه في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ادركوه منه بعد وفاته فدفعوه عن مقامه واخرجوه قهرا الى من قدموه عليه.

قال ابن ابي الحديد قال ابو بكر : وحدثني ابو زيد عمر بن شبّة عن رجاله قال : جاء عمر الى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ، ونفر قليل من المهاجرين فقال : والذي نفسي بيده لتخرجن الى البيعة او لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر فندر (١) السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم اخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر (٢) ، ولا شك ان من سكن في قلبه ذلك البغض القديم لعلي في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يحدث منه بعد وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) هذا الفعل الذميم ، ويأتي لهذا زيادة تحقيق في موضعه فترقب ، ومن تبصر أدنى تبصر عرف يقينا ان القوم قد ارتكبوا من امير المؤمنين امرا عظيما ، وانهم تعمدوا انكار فضله واخفاء النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانهم قصدوا مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جميع ما عهد إليهم في حقه وما اوضحه لهم من علو شأنه ، أو لا تراهم كيف شاهدوا غضب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم من ذكرهم عليا (عليه‌السلام) بشيء من سيئ القول وإبدائهم الشكاية منه إليه! (٣) ثم هم يعمدون بعد أيام الى حرق بيته ويخرجونه ملببا يسوقونه ومن معه سوقا عنيفا ، فما ذا

__________________

(١) ندر : سقط.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٦ و ٥ / ٤٨.

(٣) نفس المصدر ٦ / ٤٥.

٢٥٣

تظن بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لو رآهم حين اخرجوا عليا (عليه‌السلام) على تلك الحال في ذل وصغار؟!! وهل يجوز لعاقل لبيب ان يستبعد عليهم مخالفة نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو يرى منهم هذه المخالفات ، ويعلم من افعالهم هذه المنكرات بعد مشاهدتهم من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما سمعت من غضبه الشديد لقول في علي دون فعل فيقول (١) لو سمع الصحابة نصا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) لما خالفوه! لأنا لا نظن عليهم مخالفته وهذان الحديثان قالعان لشبهتهم التي إليها يستندون كما ترى وسيأتي من الأخبار ما هو اصرح في هذا المطلب ثم ان الحديثين يدلان على ان ما يفعله علي (عليه‌السلام) حق وصواب لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يسمع الشكاية فيه ولو جاز عليه الخطأ لم يكن يحابيه ولا يراعيه فزالت بحمد الله كل شبهة وذلك من فضل الله وعونه.

وأما ما ورد بلفظ المنزلة : فهو الحديث المتفق على روايته بين الأمة وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) يوم توجه الى تبوك واستخلفه على المدينة فقال علي (عليه‌السلام) : خلفتني على النساء والصبيان فقال : (أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي) هذه صورة الحديث عن سعد بن أبي وقاص (٢) وصورته عن

__________________

(١) القائل هو ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة / وانظر أيضا ج ٦ ص ١٢.

(٢) حديث المنزلة من طريق سعد اخرجه البخاري صحيحه ٤ / ٢٠٨ في كتاب بدأ الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب وفي ٥ / ١٢٩ كتاب المغاري باب غزوة تبوك ومسلم في صحيحه ٧ / ١٢ في كتاب فضائل الصحابة ، في باب من فضائل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) والترمذي في سننه ٢ / ٣٠٨ كما أخرجه الامام احمد في مواطن من مسنده ج ١ / ١٧٣ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٥ وج ٦ / ٣٦٩ و ٤٣٨ ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٤٥ عن حديث المنزلة : «رواه جماعة

٢٥٤

العباس بن عبد المطلب عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وأنت مني بمنزلة هارون من موسى كذب من زعم انه يحبني وهو يبغضك) في خبر رواه في الخصائص (١) وكثير من الناس يرويه (انت مني بمنزلة هارون) الى آخر ما مر عن سعد ، وقد تقدم في حديث الوزارة ذكره وذكر معناه ، وجملة الأمر فيه ان لهارون من موسى منزلة الأخوة والوزارة وشد الأزر والشركة في الأمر والخلافة عنه في قومه ، فالوزارة تحمل الثقل عنه ، وشد الأزر كونه ردأ له يصدقه ، والشركة في الأمر النبوة معه ، فاثبت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) منه جميع منازل هارون من موسى ولم يستثن الا النبوة ، فعلي وزير رسول الله وشاد ازره وخليفته في قومه واخوه وليس من النسب لكنه من جهة المماثلة ، ومؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) متفق عليها ، فمفهوم الاخوة ثابت له من الحديث المذكور ، وقد قال الحسن البصري فيما تقدم نقله وقال له يوم تبوك ما قال ، فلو كان ثمة شيء غير النبوة لاستثناه انتهى ، فقدح بعض الخصوم في عموم الخبر لكل المنازل بان عليا ليس اخا النبي (صلى الله عليه وآله

__________________

من الصحابة وهو من أثبت الآثار واصحها ، رواه عن النبي سعد بن ابي وقاص» قال : «وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن ابي خيثمة وغيره ، وكرره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مواطن منها يوم غزوة تبوك كما مر في البخاري وعند التنازع في ابنة حمزة كما في الخصائص للنسائي ص ١٩ ويوم المواخاة كما في كنز العمال ٦ / ١٨٨ ومنها يوم ولد الحسن (عليه‌السلام) كما في ذخائر العقبى ص ١٢٠ وفي صواعق ابن حجر ص ١٧٩ قال : اخرج احمد «ان رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عنها عليا فهو اعلم ، قال : جوابك فيها احب الي من جواب علي قال : بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره العلم غرا ولقد قال له : (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) وكان عمر اذا اشكل عليه شيء أخذ منه».

(١) كذا في المتن والظاهر عبد الله بن العباس كما في كنز العمال ٦ / ٣٦٥.

٢٥٥

وسلم) يقينا فلا يشمل جميع المنازل مندفع بما ذكرناه من ثبوت الاخوة له اجماعا ، وليس كونها من النسب بواجب في صدقها مطلقا حتى تكون خارجة ، بل الواجب دخولها في مفهوم الخبر لثبوتها من وجه آخر وصحة اطلاقها على علي (ع) دائما فيقال هو اخو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كثيرا ما يقول في علي (أخي وابن عمي واخي وصاحبي) ، فالاخوة من هذا الوجه مرادة من الخبر يقينا ولم تستثن ، فالخبر شامل لجميع المنازل الا النبوة لا تخصيص فيه بدونها ، واذا ثبت لعلي جميع تلك المنازل من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) التي من جملتها انه خليفته على الاطلاق ثبت كونه الامام بعده ، فدلالة هذا الخبر المتواتر على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) دلالة نص صريح لا تخفى استفادتها منه الا على جاهل صرف لا معرفة له بمعاني الألفاظ ، ولا علم له بتراكيب الكلام العربي ، أو معاند يرتكب تغيير المعاني ويتعسف طريق التأويل ، ولسنا في ذلك نبحث ولا انصافهم ندعي كما قدمنا القول فيه ، وقد تقدم عن ابن ابي الحديد اعترافه باستفادة ثبوت جميع منازل هارون من موسى ومراتبه غير النبوة لعلي (عليه‌السلام) من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من هذا الحديث ، والانكار غير مقبول بعد الاقرار ، وما اورده بعض الخصوم كالقوشجي وغيره على دلالة الخبر على المطلوب مضافا الى ما سبق تارة باحتمال كون هارون خليفة لموسى (عليهما‌السلام) في حياته خاصة لأنه مات قبله ، وتارة باحتمال انه لو بقي بعد موسى ان تكون إمامته بالنبوة لا بالخلافة عن موسى ، فلا يلزم ان يكون علي إماما بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه ليس بنبي تشكيك في المعلومات ، والجواب عن الأول بانا انما نتكلم على دلالة الألفاظ دون ما يئول إليه امر الناس من سبق موت الخليفة على من استخلفه ، فانا نعلم يقينا ان الرجل اذا اوصى الى اخر دل على انه النائب عنه بعد موته بحيث اذا مات كان للوصي التصرف ، ولو

٢٥٦

مات الوصي قبل الموصى تحقق بموته انفساخ وصيته لا بدلالة اللفظ ، فقول موسى (عليه‌السلام) لهارون (عليهما‌السلام) (اخلفني في قومي) (١) نص على استخلافه غير مقيد بوقت ، فلو فرض ان موسى (عليه‌السلام) توفاه الله في مسيره ذاك لكان هارون خليفته بذلك الاستخلاف قطعا ، وليس لأحد ان يقول انه ينعزل بموت موسى (عليه‌السلام) مع شمول اللفظ للحالين ، ولا يقول بذلك نبيه ، بل نقول انه خليفة موسى (عليه‌السلام) في غيبته وموته غيبة وان لم يرج زوالها فالحال واحدة ، وكذا القول فيما لو رجع ومات بعد رجوعه ولم يصرح بعزل هارون فانه يكون أيضا خليفته بذلك الاستخلاف الأول ، ولا يعترض الشك لعاقل فيه ، واما انفساخ خلافته بموته قبل موسى فليس من جهة قصور الدلالة اللفظية في الاستخلاف ، بل من جهة استحالة نيابة الميت عن الحي ، فكذا نقول في علي (عليه‌السلام) ثبتت له الخلافة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على سبيل العموم على ما ثبتت لهارون ولم يعرض ما يفسخها من فعل او قول فيجب بقاؤها له بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالضرورة وعن الثاني بان القيام مقام النبي الأول لا يكون بمجرد النبوة فيقوم من بعده من هو نبي مقامه مطلقا ، بل لا بد من استخلافه والوصية إليه والا لكان كل نبي يقوم مقام من قبله فيلزم تعدد الخلفاء في زمان واحد ، وهذا باطل بما صح بالاتفاق ان موسى (عليه‌السلام) قام مقامه يوشع بوصيته إليه ولم يكن لأنبياء ذلك الزمان مع كثرتهم ذلك المنصب بالنبوة ، وكذلك بعد يوشع لوصيه وهكذا الى طالوت وداود والى سليمان وهلم جرا الى ان جددت شريعة عيسى (عليه‌السلام) وكان الحال فيها كسابقتها يقوم الثاني مقام الأول بوصية إليه لا بنبوة الثاني فقط ، فهارون (عليه‌السلام) لو بقي بعد موسى (عليه‌السلام) لكان خليفته بذلك الاستخلاف لا بنبوته والا لكان خليفته في حياته بالنبوة ولم يحتج الى

__________________

(١) الأعراف ١٤٢.

٢٥٧

استخلافه في ذلك فلا حاجة الى قوله (اخلفني في قومي) وأيضا ان موسى (عليه‌السلام) لو لم يستخلف هارون واستخلف غيره لوجب عليه الطاعة لذلك الغير ولم تكن نبوته نافية عنه تبعية وصى أخيه موسى وخليفته فلا يكون احد مطلقا خليفة نبي الا باستخلاف ، وهذا ظاهر لكل ذي علم ، فكذلك علي (عليه‌السلام) هو خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بذلك الاستخلاف لأنه لم يعزله ولم يوص الى غيره بل اكد استخلافه والوصية إليه بخبر الغدير وغيره فثبت المراد وزال الإيراد.

ومما يقرب شبها من هذا الحديث ما رواه ابن ابي الحديد عن الحافظ ابي نعيم في الحلية من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (اخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي ، وتخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها احد من قريش انت اولهم ايمانا بالله ، واوفاهم بعهد الله ، واقومهم بامر الله ، واقسمهم بالسوية ، واعد لهم في الرعية ، وابصرهم بالقضية ، واعظمهم عند الله مزية) تمام الخبر (١) فالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يخرج من خصائصه ومراتبه عن علي (عليه‌السلام) الا النبوة ولوازمها فتبقى له الخلافة والامامة لأنها لم تنقطع بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاتفاق ، بل بالضرورة من الدين فهو قريب من الخبر الأول في الدلالة فتأمل.

وأما ما ورد بلفظ الوراثة : فمنه ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي جعفر الطبري في التاريخ ان رجلا قال لعلي (عليه‌السلام) يا امير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال على هاؤم (٢) ثلاث مرات حتى اشرأب الناس ونشروا اذانهم ، ثم قال : جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٣.

(٢) هاؤم : ها اسم فعل بمعنى خذ ، ويجوز مد الفها فاذا مدت جاز تعريف همزتها

٢٥٨

وسلم) بني عبد المطلب بمكة وهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق (١) ، وصنع مدا من طعام (٢) حتى اكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ، ثم دعا بغمر (٣) فشربوا ورووا ، وبقي الشراب كأنه لم يشرب ، ثم قال : (يا بني عبد المطلب اني بعثت إليكم خاصة والى الناس عامة ، فايكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي ، فلم يقم إليه احد فقمت إليه وكنت من اصغر القوم ، فقال : (اجلس) ثم قال ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك اقوم إليه فيقول (اجلس) حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي ، فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي (٤) ، وظاهر الحديث بل صريحه ان الناس لا يشكون في ان عليا وارث رسول الله دون عمه العباس ، بل هو معلوم عندهم ، وانما يسألون عن السبب في ذلك.

قال ابن ابي الحديد : ـ وروى يعني احمد بن حنبل ـ عن جعفر بن محمد الصادق قال : كان علي (عليه‌السلام) يرى مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قبل الرسالة الضوء ، ويسمع الصوت ، وقال له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت نبيا ، فأن لا تكن نبيا فانك وصي نبي ووارثه ، بل انت سيد الأوصياء وامام الأتقياء) (٥) وهذا الحديث قد اشتمل أيضا على ذكر الوصية والامامة اللتين لا يحتملان الا الخلافة العامة فهو كما قدمناه من الأخبار في ذلك على ما قررناه هناك.

__________________

فيقال : هاء للمذكر ـ بالفتح ـ وهاء للمؤنث ـ بالكسر ـ وهاؤما ، وهاؤن ، وهاؤم ، قال تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ).

(١) الفرق ـ بكسر الفاء ـ وقيل ـ : بفتحها ـ : مكيال يكال به اللبن.

(٢) المد : ربع الصاع ، ومقدر بوزن اليوم ثلاثة ارباع الكيلو تقريبا.

(٣) الغمر : الكثير والمراد هنا اللبن.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٢ وتاريخ الطبري ٣ / ١١٧٣ ط ليدن.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٠ عن مسند احمد.

٢٥٩

وروى ابن ابي الحديد عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) انه قال في خطبة : «ورثت نبي الرحمة ، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة (١) ، وانا خاتم الوصيين» ، الخطبة الى غير ذلك من الاخبار ووارثة علي (عليه‌السلام) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اما في المال وذلك غير صحيح عند اصحاب ابن ابي الحديد واخوانهم من الأشاعرة لوجهين.

الأول حديث ابي بكر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (٢).

الثاني ان العباس عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) موجود مع فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والعمّ عندهم يحجب ابنت العم مطلقا ، فلفاطمة نصف وللعباس نصف فلا ميراث لعلي (عليه‌السلام) من المال ، واما عندنا فلان ابن العم لا يرث مع الولد مطلقا ذكرا كان أو انثى ، وفاطمة موجودة فالمال جميعه لها فليس لعلي (عليه‌السلام) ميراث من مال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجماعا مع انه وارثه بالنص الصريح ، فحينئذ لم يبق الا المراتب والمنازل ، والنبوة في علي (عليه‌السلام) منتفية لختمها برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيبقى الباقي من الفضل والعلم والامامة فعلي وارث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيها ، فيكون هو الامام والخليفة من بعده لعموم الوراثة وبقاء ما لم يخرج بدليل قاطع تحت العموم ، بل لو قلنا : ان المراد من الوراثة في الأحاديث المذكورة وشبهها هو وراثة الامامة ولوازمها لا غير لم نبعد عن الصواب ، فان

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ٢٨٧.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ٨٢ كتاب المغازي باب غزوة خيبر وج ٤ / ٢٠٩ كتاب بدأ الخلق باب مناقب قرابة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومنقبة فاطمة (عليها‌السلام) ، وصحيح مسلم ٥ / ١٥٣ كتاب الجهاد والسير.

٢٦٠