منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

فمحبة علي (عليه‌السلام) طاعته ومتابعته وهذا معنى التمسك.

واعلم ان في اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن نفسه بعدم المحاباة لقرابته فيما قال فيهم ظهورا او اشعارا بعلمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بان جماعة من اصحابه يتهمونه بمحاباة قرابته فيما شرفهم به على غيرهم من الأفعال والأقوال ولو لا ذلك لكان قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخبر غير محاب فيه لقرابتي قليل الفائدة بل لا فائدة فيه اصلا ، لأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذا كان عالما من جميع اصحابه عدم اتهامه بالمحاباة لقرابته فيما يفضله به من قول وفعل كان اخباره بنفي ذلك عنه اخبار للعالمين به ومعتقديه ، ولا ريب ان اخبار العالم بنسبة الخبر او معتقد حصولها عديم الفائدة ، وانما يكون مفيدا اذا كان المخبر يجهل نسبة الخبر او يعتقد نقيضها ليفيد اعلامه بما جهل اورده عن الخطأ في الاعتقاد فتحقق من هذا انه لا تتحقق فائدة في ذلك الأخبار الا مع علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من جماعة من اصحابه اتهامه بالمحاباة لقرابته عمدا منهم او جهلا ليكون نفيه المحاباة عن نفسه تكذيبا للمتعمد ورفعا لجهل الجاهل وازالة لتجويز المجوز فتحصل فائدة تامة فيظهر من البيان ان نسبة جماعة من الصحابة الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) محاباة القرابة واقعة فمن العجب قول بعض الخصوم (١) (ان الصحابة لو سمعوا من رسول الله (عليه‌السلام) نصا ما عدلوا عنه) لأن من يتهمه كيف تبعد منه مخالفته ، وقول بعضهم ما حاصله «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص ولو أوصى ما تأمر ابو بكر على وصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان أبا بكر ود أنه سمع من رسول الله كلمة فتكون في انفه خزمه» وقول القوشجي محصوله : انه لا يظن ذو مسكة ان الصحابة سمعوا

__________________

(١) يريد ببعض الخصوم ابن ابي الحديد.

٢٢١

النصوص الجلية على علي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخالفوها ، واستبعاد عبد الحميد المعتزلي صدور ذلك من الصحابة كما لم يصدر منهم تغيير القبلة والصوم الى آخر لغطهم فان هذا الحديث الصحيح عندهم يبطل دعاويهم ويذهب خرافاتهم ، ومثله ما رواه المعتزلي وغيره عن علي (عليه‌السلام) من قوله : (انه لعهد النبي الأمي الى ان الأمة ستغدر بك من بعدي) (١) ويشير الى ذلك أيضا ما قدمنا من حديث ابي نعيم في لفظ الامام ، وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه مخبرا عن الله في حق علي (غير اني مختصه بشيء من البلاء لم اختص به احدا من اوليائي ـ الى قوله ـ إنه لمبتلى ومبتلى به) ، والا فأي نص وأي وصية اوضح واصرح من هذه الأقوال المؤكدة والألفاظ الصريحة والكلمات الظاهرة؟ مثل : (ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا وليقتد بالأئمة من بعدي فليوال عليا من بعدي (٢)) ، مع تأكيد الجميع ببشارة المحبين وتوعد الغاصبين بما هو مذكور في تلك الأخبار وهل فوق هذا في الوصية والنص مزيد؟ والحمد لله الحميد.

ومن ذلك قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحديث المشهور وقد رواه ابن ابي الحديد : (إنا مدينة العلم وعلى بابها فمن اراد الحكمة فليأتها من بابها) (٣) وهو صريح في أن من أراد علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فليأخذه عن علي (عليه‌السلام) فالتمسك به لازم لأنه باب العلم الذي يجب على الناس اخذه والعمل به لقوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٥.

(٢) رواه جماعة من المحدثين منهم الحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٦ وص ١٢٧ وابن حجر في الصواعق ص ٧٣ وقال : «اخرجه البزار والطبراني والحاكم والعقيلي وابن عدي والترمذي» ومثله في فتح القدير للمناوي ٣ / ٤٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٨. بلفظ «فليأت الباب».

٢٢٢

فَخُذُوهُ) (١) فثبت منه وجوب التمسك بعلي لمن اراد علم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومن لم يرده فهو كافر مرتاب وفاجر كذاب.

من ذلك ما رواه ابن ابي الحديد من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي خازن علمي) قال : وقال فيه تارة اخرى (عيبة علمي) اقول : وهما مشهوران أيضا (٢) واستفادة التمسك منهما بعلي (عليه‌السلام) بتقريب ما ذكرناه في حديث (انا مدينة العلم).

وروى ابن أبي الحديد عن ابي نعيم في الحلية واحمد بن حنبل في المسند عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (يا علي ان الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة احب إليه منها هي زينة الابرار عند الله تعالى الزهد في الدنيا جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا ولا ترزأ (٣) منك شيئا ووهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم اتباعا ويرضون بك إماما فطوبى لمن احبك وصدق فيك وويل لمن ابغضك وكذب فيك) (٤) والمتابعة له هي التمسك به وهي زينة الأبرار التي ذكرها النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نسأل الله ان يجعلنا من اولئك المساكين الذين رضيهم امير المؤمنين (عليه‌السلام) له اتباعا وبه متمسكين ثم ان الخبر مصرح بالامامة فهو من المعاضد للأخبار التي ذكرت في مقامها ومن ذلك حديث الحافظ عن انس وقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (انه راية الهدى ومنار الايمان)

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٥ وقال المناوي في فتح القدير ٤ / ٣٥٦ : (علي عيبة علمي) أي مظنّة استفصاحي وخاصتي وموضع سري ومعدن نفائسي والعيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه.

(٣) رزأ : أخذ.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٧.

٢٢٣

وقد ذكرناه ومن المعلوم أن راية الهدى يجب اتباعها ، ومنار الايمان يجب الاقتباس منه والاقتداء به ، وذلك معنى التمسك بلا ريب.

ومن ذلك الحديث المتواتر في الجملة وهو حديث الثقلين وقد صححه ابن ابي الحديد (١) وهو مروي باسانيد كثيرة والفاظ مختلفة بالزيادة والنقصان فمنها (اني مخلف فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي) ومنها (اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي كتاب الله الثقل الأكبر وعترتي الثقل الأصغر فتمسكوا بهما فان اللطيف الخبير اخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) (٢) وغير ذلك من الألفاظ والأسانيد وعلى كل حال فهو نص صريح في وجوب التمسك بالعترة الذين امير المؤمنين (عليه‌السلام) سيدهم وحاث على لزوم متابعتهم ، ومصرح بان قولهم قول القرآن فالمخالف لهم مخالف للقرآن على عمد فهو فاسق ظالم فالخبر ناص على إمامة العترة المحمدية بلا شك لأن واجب المتابعة على الاطلاق هو الامام لا غيره من الأمة ، وعترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هم الذي دعاهم للمباهلة يوم نصارى نجران وقال فيهم ذلك اليوم (اللهم هؤلاء اهل بيتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) كما هو مشهور عند المفسرين (٣) ومعلوم عند المحدثين ولا شك ان المخاطبين بالتمسك بالثقلين بالمشافهة هم الصحابة فهم مأمورون باتباع الكتاب والعترة وبه يبطل ما ادعا خصومنا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (٤) للتناقض

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧٠.

(٢) قد مر حديث الثقلين ومن أيضا مستدرك الحاكم ٣ / ١٠٩ و ١٤٨. سنن الترمذي ٢ / ٣٨ ، مسند أحمد ٣ / ١٧ و ٥ / ١٨١ وفي مواضع أخرى.

(٣) ممن رواه من المفسرين الطبري ج ٢٢ ص ٥ عن علي وأمّ سلمة وانس وابي هريرة وأبي الحمراء وسعد وغيرهم.

(٤) هذا الحديث في مقابلة ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (الأئمة من اهل

٢٢٤

الظاهر لكل ذي فهم الا ان يحمل على إرادة العترة من لفظ الأصحاب كما قال امير المؤمنين في بعض خطب النهج مخبرا عن وبينه (نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب) الخطبة (١) وهو موافق لما روى من طريقنا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فسر الأصحاب الذين هم كالنجوم اذ سئل عنهم باهل بيته وعترته ، فما أدرى أهل السقيفة اذ قالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا بالثقلين تمسكوا أم بآرائهم اخذوا وما بعد عبادان قرية فليجبنا ابن ابي الحديد بحق لا بما يختار ويريد ، مما يربى على كلام المبرسمين (٢) سماجة ويزيد فان مثل ذلك مما لا ينفع عند الخصام ولا يقنع به في الحجة ذوو الأفهام.

وروى ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن

__________________

بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) رواه القاضي في دعائم الإسلام ورواه غيره بتفاوت في بعض الحروف واتفاق في المعنى والواقع يمنع ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأمر بالاقتداء بأي كان ممن يطلق عليه اسم الصحبة لأن الصحابة اختلفوا في كثير من الأمور ، ورد بعضهم على بعض ، وطعن بعضهم ببعض بل وقاتل بعضهم بعضا والعقل يمنع ان يكون علي وصحبه ومعاوية وحزبه كلهم على هدى وبأيهم يجوز الاقتداء ، ثم هل يجوز لمسلم ان يقتدي بمعاوية وعمرو بن العاص بسب علي في إعقاب الفرائض وعلى صهوات المنابر أو يقتدي ببسر بن أرطاة ـ وقد عد من الصحابة ـ وقد سفك دماء المسلمين وخرّب ديارهم ولم يتورع عن ذبح الأطفال بيده فيكون على هدى ، وهل يجوز الاقتداء بابي محجن الثقفي في شرب الخمر وهل وهل وهلم جرا!! ثم هل يصح معنى هذا الحديث فيخاطب النبي اصحابه فيقول يا اصحابي اقتدوا بأصحابي.

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٥٢.

(٢) البرسام : ذات الجنب وهو التهاب يصيب الغشاء المحيط بالرئة ، قال ابن منظور في لسان العرب ٢ / ٤٦ في (برسم) : «وكأنه معرب ، بر وهو الصدر وسام من اسماء الموت).

٢٢٥

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خطب الناس يوم جمعة فقال : (ايها الناس قدموا قريشا ولا تقدموها ـ الى ان قال ـ ايها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن ابي طالب) (١) الخبر والمحبة تستلزم المتابعة كما ذكرنا من قبل بل اذا كانت مأمورا بها كما هنا كانت هي نفس المتابعة لا غير ، وسيأتي ما يوضح هذا المقام باتم إيضاح فدلالة الخبر على وجوب التمسك بعلي (عليه‌السلام) ظاهرة غاية الظهور ، فهو الامام الواجب اتباعه بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والا فلا فائدة في التمسك به اذا كان المتبوع في الأمر والنهي غيره بل لا تمسك به على هذا بالمرة وانما المتمسك به ذلك المطاع المتبع وهو غيره على قول الخصوم وهو (عليه‌السلام) مأمور عندهم باتباع ذلك الغير فاين اذن وجوب التمسك بامير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي صرحت به اخبارهم ونصت عليه رواياتهم الصحيحة مما ذكرناه هنا وغيره؟ فلازمهم اما رد الأخبار وتكذيبها ولا سبيل لهم الى ذلك ، او الإقرار بانها نص في إمامة علي (عليه‌السلام) من بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبطلان إمامة غيره؟ وهو المراد والتأويلات الفاسدة مردودة مع انها في المقام مفقودة.

واما ما ورد بلفظ الولي : فمن القرآن قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢) وهي عند المفسرين نازلة في امير المؤمنين (عليه‌السلام) حين تصدق في ركوعه بخاتمة على السائل ، ورووا ذلك عن ابي ذر (رضي الله عنه) وعن عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) ورواه عنه المحدثون من الخصوم أيضا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ قيل هو الجدري.

(٢) المائدة : ٥٥.

٢٢٦

وصححوه (١) وبالجملة فالاتفاق حاصل عليه ، والولي هنا هو الأولى بالتصرف لقول الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وجملة (وَهُمْ راكِعُونَ) حال من ضمير (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) اي يؤتون الزكاة في حال ركوعهم واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الأولى بالناس بولاية الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم كان هو الامام اذ لا ولاية كذلك لغير الامام ولا ولاية لغير علي (عليه‌السلام) من الصحابة للحصر ب «انما» فالآية نص في إمامة علي (عليه‌السلام) وفي نفي إمامة غيره بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومتى قيل : كيف جعل لفظ الجمع موضع المفرد وما الفائدة في ذلك اذا كان المراد الواحد دون الجمع؟ قلنا : وضع الجمع موضع المفرد وارد في كلام العرب على كثرة اذا قصدوا تعظيم ذلك الواحد وتفخيم شأنه ، وفي القرآن الكريم من ذلك الكثير قال الله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٢) وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) (٣) والاستدلال على هذا المطلب مما لا حاجة إليه لوضوحه وحمل الولاية في الآية على ما لا يرجع الى فرض الطاعة والامامة مثل المعونة والنصرة كما قاله القوشجي وقبيله والمعتزلي واصحابه فاسد ، لأنه يستلزم ان لا معين ولا ناصر للمؤمنين الا الله تعالى والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (عليه‌السلام) لدلالة الحصر بانما على ذلك كما ذكرنا فيجب ألا يكون بعض المؤمنين ناصرا ومعينا لبعض ، وهو خلاف نص الله تعالى بقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٤) وما يخالف كتاب الله باطل مردود ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري واحكام القرآن للجصاص ٢ / ٤٤٦ وتفسير الرازي ١٢ / ٢٦. والكشاف للزمخشري ٢ / ٤٤٢ الخ.

(٢) الداريات : ٢٧.

(٣) النحل : ١٢٠.

(٤) التوبة : ٧١.

٢٢٧

على أنه يلزم على قوله ان لا يكون المتقدمون علي (عليه‌السلام) من أعوان المؤمنين وانصارهم لا في زمان النبي (ص) ولا بعده فلا يجوز جعلهم ائمة لأن الامام ناصر المؤمنين وهم انصاره فيجب ان يكون علي (عليه‌السلام) هو الامام بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لثبوت نصرة المؤمنين له مطلقا بالآية وهذا لا يرضى به القوشجي وحزبه ، فما ارتكبه من التأويل الفاسد لدفع حجتنا كان لقولنا محققا ولمذهبه مبطلا وهو يقدر بجهله انه ازال بتأويله استنادنا الى الآية في اثبات إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) وهو ما زادنا الا تقوية وانتصارا باخراجه ائمته من ولاية المؤمنين وحمل وهم راكعون على العطف والاستيناف دون الحال كما ارتكبه هو أيضا واشباهه فلا تكون الآية خاصة بعلي (عليه‌السلام) مع ما فيه من المخالفة لقول المفسرين منهم والمحدثين من اختصاص الآية بعلي (عليه‌السلام) كمجاهد (١) والسدى (٢) وعطا (١) والثعلبي (٤) وابي بكر الرازي (٥)

__________________

(٢) السدي : ـ بضم السين المهملة وتشديد الدال المهملة ، نسبة الى سدة مسجد الكوفة وهو ما تبقى من الطاق المسدود ، وهذا اللقب يطلق على رجلين من المفسرين ، الأول : أبو محمد اسماعيل الكوفي المتوفى في حدود سنة ١٢٨ وهو المراد هنا ، والثاني : حفيده محمد بن مروان بن عبد الله بن اسماعيل المذكور ويفرق بينهما بالسدي الكبير والمراد به الجد والسدي الصغير ويراد به الحفيد.

(١) مجاهد وعطا من اكابر المفسرين يراجع في معرفتهما مقدمة مجمع البيان للسيد الأمين رحمه‌الله وطبقات المفسرين.

(٤) الثعلبي ابو إسحاق احمد بن محمد بن ابراهيم صاحب التفسير المشهور وهو صاحب كتاب العرائس في قصص الأنبياء توفي سنة ٤٢٧ أو ٤٣٧.

(٥) قوله : «ابو بكر الرازي» من سهو القلم فان هذه الكنية للطبيب المشهور والمقصود ابو عبد الله محمد بن عمر الرازي المتوفي سنة ٦٠٦ ، الملقب بفخر الدين ، صاحب التفسير الكبير المعروف المسمى «مفاتيح الغيب» الذي مات قبل إكماله فأكمله كل من نجم الدين القمولي المتوفى سنة ٧٢٧ ، وشهاب الدين الخوبي الشافعي المتوفي سنة ٦٣٧.

٢٢٨

والرماني (١) والطبري (٢) وغيرهم مستلزم لعطف الجملة الاسمية المحضة على الجملة الفعلية المحضة وذلك مرغوب عنه في العربية ومرجوح عند اهل اللغة فلا يحمل عليه القرآن الكريم الذي هو في أعلى طبقات البلاغة وأيضا مستلزم للتكرير الغير المفيد لأن قوله عزوجل (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) دخل فيه الركوع فذكره ثانيا تكرير غير مفيد فيكون مرجوحا يصان عنه الكتاب العزيز ، وجعل الجملة المذكورة حالا مفيد فائدة قريبة فالحمل عليه اولى ، بل هو الواجب والاستئناف ممتنع لتلبس الجملة بضمير الذين يؤتون الزكاة ولأنه لم يبق لها معنى محصل اذا قطعت عن ما قبلها ومع هذا كله ان قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) خطاب للمؤمنين كافة والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) داخل فيهم قطعا لأن الله وليه وقوله : (وَرَسُولُهُ) خارج من الخطاب وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لا بد فيه من احد وجهين اما ان يكون اخراجا لواحد خاص فقدتم المعنى وثبت ان ذلك الواحد هو الولي الذي تجب طاعته بطاعة الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا قائل من العلماء على تقدير اختصاص الآية وكون الولاية فيها بمعنى فرض الطاعة بان المعنى بها غير علي (عليه‌السلام) فتثبت إمامته بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ضرورة ـ واما ان يكون اخراجا لكل المؤمنين الذين يصلون ويزكون ويركعون كما هو مقتضى قول الخصم فحينئذ لم يبق مخاطب بالآية وكان المضاف هو عين المضاف إليه وكان كل مؤمن هو ولي نفسه وهو محال لأن الخطاب بالآية غير مرتفع بالاتفاق ، والواجب في ذلك ان يكون من جعلت له الولاية غير المخاطبين بالآية الذين جعلت عليهم الولاية حتى يكون ولي ومولّى عليه وليس على تأويل الخصم الا الولي خاصّة ، فالخطاب اذن قد

__________________

٣ أو ٣٨٤.

(١) الرماني : نسبة الى قصر الرمان في واسط هو ابو الحسن علي بن عيسى الواسطي توفي سنة.

(٢) الطبري : ابو جعفر محمد بن جرير المؤرخ والمفسر المشهور توفي سنة ٣١٠.

٢٢٩

ارتفع وهو باطل بدون تأمل فبطل ما تأولوه من التأويلات الركيكة وانزاح ما تمحلوه من التمحلات الممتنعة وتبين ان الآية نص في إمامة امير المؤمنين بلا ريب.

ومن السنة خبر الغدير الذي ملأ الأسماع وطبق البقاع وذكر في اسعاف الراغبين (١) انه مروي عن ثلاثين رجلا من الصحابة وذكر غيره ان طرق هذا الحديث تزيد على مائة طريق روى احمد بن حنبل في مسنده عن البراء بن عازب (رضي الله عنه) قال «كنا مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تحت شجرتين فصلى الظهر واخذ بيد علي (عليه‌السلام) فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ، قالوا : بلى ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم فوال من والاه وعاد من عاداه) ، فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك فقال له هنيئا لك يا بن ابي طالب اصبحت وامسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (٢) ورواه احمد بن الحسين البيهقي بهذا اللفظ أيضا مرفوعا الى البراء بن عازب (٣) في حديث الزهري في ذكر خطبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بغدير خم ثم قال يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ايها الناس من اولى الناس بالمؤمنين) قالوا الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى بالمؤمنين ، يقول ذلك ثلاث مرات ثم قال في الرابعة واخذ بيد علي (عليه‌السلام) (اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) يقولها ثلاث مرات (الا فليبلغ الشاهد منكم الغائب).

__________________

(١) ص ١٥٢ وفيه : «رواه ثلاثون صحابيا» وقال بعد ذلك : «وكثير من طرقه صحيح أو حسن».

(٢) مسند الامام احمد ٤ / ٢٨١ وليس فيه «اللهم» الأولى.

(٣) نقله ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٥ عن البيهقي.

٢٣٠

وفي رواية الحافظ ابو الفتوح اسعد بن ابي الفضائل بن خلف في كتابه الموجز بسنده عن حذيفة بن اسيد الغفاري وعامر بن ابي ليلى بن ضمرة في ذكر الخطبة أيضا ثم قال يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (يا ايها الناس الا تسمعون الا فان الله مولاي ، وانا اولى بكم من انفسكم الا ومن كنت مولاه فعلي مولاه) (١) واخذ بيد علي (عليه‌السلام) فرفعها حتى نظرها القوم ثم قال : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (٢) وبعض المحدثين رواه مختصرا بدون المقدمة المذكورة وهي قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم) اما اختصارا او تدليسا أو استغناء بما بعدها في افادة المراد لا لأنها غير موجودة في اصل كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقدح القوشجي في دلالة الخبر على المقصود بان اكثر من رواه لم يرو المقدمة المذكورة معه مقدوح أولا بوجودها في قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برواية جملة من اكابر المحدثين كما سمعت فلا سبيل الى انكارها وثانيا بان الباقي كاف في الدلالة على المطلب لو لم تكن مذكورة قبله في اصل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخطبته وهذا الخبر مما احتج به امير المؤمنين (عليه‌السلام) على اهل الشورى في جملة ما احتج به على اولويته بالامامة فما انكره من القوم منكر ولا قدح فيه قادح ، وقد صحح ذلك المعتزلي واعترف به القوشجي (٣) فقول بعض الخصوم ان الخبر غير متواتر

__________________

(١) نقل الحديث بطوله في الفصول المهمة ص ٢٤ عن الترمذي والزهري عن زيد بن أرقم وفيه ما نقل في المتن بحروفه.

(٢) رواه ابن الأثير في اسد الغابة ٣ / ٩٢ ونقله ابن الصباغ في الفصول عن الموجز لابن أبي الفضائل كما في المتن ، ورواه ابن حجر في الاصابة ٢ / ٢٥٧ عن كتاب الموالاة لابن عقدة عن عامر وحذيفة.

(٣) القوشجي علاء الدين علي بن محمد توفي سنة ٨٧٩ وفيه ذكر حديث الغدير مسلما بصحته ولكنه ناقش في دلالته على الامامة.

٢٣١

تعصب محض وعناد صرف ومن هذا شأنه فهو ملئ بالجهالات ودفع الضرورات فلا يلتفت إليه.

وروى ابن ابي الحديد هذا الخبر في مواضع كثيرة من كتابه قال في موضع «وروى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله (١) قال لما بلغ عليا (عليه‌السلام) ان الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اياه وتفضيله على الناس ، قال : انشد الله من بقي ممن لقى رسول الله وسمع مقاله في يوم غدير خم الا قام فشهد بما سمع ، فقام ستة ممن عن يمينه من اصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وستة ممن عن شماله من الصحابة أيضا فشهدوا انهم سمعوا رسول الله يقول ذلك اليوم وهو رافع بيد علي : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله واحب من احبه وابغض من ابغضه) (٢) وذكر قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيث دار) في موضع آخر مفردا (٣)

والمولى هنا يراد به الأولى والأحق بالأمر مثله. في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٤) وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (٥) لأنه في الشرط مراد به ذلك لثبوته للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالكتاب في قوله عزوجل : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٦) الآية والجزاء على منوال الشرط وارد

__________________

(١) يعني القاضي المتوفي ١٧٧.

(٢) شرح النهج ٢ / ٢٢٨.

(٣) في ج / ٢ ص ٢٩٧ من الشرح المذكور.

(٤) الحديد / ١٥.

(٥) النساء / ٣٣.

(٦) الأحزاب / ٦.

٢٣٢

فيراد به ما يراد بشرطه فثبت ان عليا (عليه‌السلام) هو الأولى بالأمر والأحق به ، فيكون هو الامام بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لدخول من سواه في ولايته بواسطة دخولهم في ولاية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يصلح احد منهم للتقدم عليه في امر من الأمور ، كما لا يصلح لهم التقدم على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا يجوز حمل المولى في الخبر على غير الأولى بالأمر من معانيه لامتناع المعتق والمعتق للفاعل والمفعول وشبههما يقينا واتفاقا ، وخروج الناصر والمعين وما آل إليهما بالقرنية اللفظية والعقلية ، اما اللفظية فقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قبل ذلك : (انا اولى بكم من انفسكم) فانها تعين ان المراد من قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) من كنت اولى به من نفسه فعلي اولى به من نفسه ، والا فلا فائدة في هذا الكلام في المحل ولا حاجة الى اخذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اعتراف القوم به ثلاث مرات ، كما في حديث الزهري ، ومرة واحدة كما في غيره ، فتكون لغوا ولا يجوز ان يكون كذلك كلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فتكون لما ذكرناه من إرادة رفع الاشتراك عن لفظ المولى وتعيين معنى الأولى منه ، واما العقلية فلأن مقتضى المقام ذلك لأن جميع الناس واخبارهم في ذلك الوقت الشديد الحر لا ينصرف ذهنا ولا يحتمل عقلا لأن يكون اخبارا بما كان معلوما قبل ذلك للمخبرين ، بل ينصرف عقلا الى الاخبار بامر غير معلوم لهم سابقا ، ليكون تأسيسا لحكم وكون علي (عليه‌السلام) ناصرا ومعينا لمن كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وليه امر معلوم لكل الحاضرين ، فالاخبار به قليل الفائدة ، بل لا فائدة فيه وهل هو الا تحصيل حاصل يصان فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن مثله ، فلا بد ان يكون الاخبار عن ما ليس بمعلوم للمخاطبين ليعلموه وما هو الا اثبات ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على المؤمنين لعلي (عليه‌السلام) والمشترك يرتفع اشتراكه بالقرينة المعينة لإرادة احد معانيه

٢٣٣

منه ، وهي هنا موجودة على ما نقول كما ترى ، فتعين ان المراد بلفظ مولى في الخبر الأولى بالتصرف ، وبه يثبت المطلوب.

وبالجملة ان هذا الخبر نص صريح على امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالامامة يقينا لا ينبغي للخصوم الشك فيه ، ولا التشكيك ، لو لا ما ارتكبوه فيه من التأويلات البعيدة الباردة التي يحكم الذوق المستقيم باستحالتها للشبهة التي اتخذوها حقا والبدعة التي جعلوها سنة ، وكيف يصح ان يريد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هنا بالمولى الناصر والمعين وابن العم والحليف كما قالوه ، فيكون (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد قام في حر الظهيرة وجمع الناس في سعير الهاجرة يخبرهم عن شيء علموه أولا على لسانه من القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وغيرها (١) من الآيات الكثيرة وعرفوه من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مرات متعددة ، وتيقنوه من دون خبر اذ لا يجهل احد ان عليا ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان من كان ابن عم احدهما فهو ابن عم الآخر والحليف كذلك وينبئهم عن علي (عليه‌السلام) بشيء لا يختص دون المؤمنين كافة ، ولا دون سائر بني هاشم في ذلك المقام الوعر ، وهذا لو فعله سائر الناس أو صدر من بعض عامتهم لنسبه العقلاء الى ضعف العقل ، وطعن فيه اهل الروية بقلة الرأي ، فكيف يصدر مثله عمن لا ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى ، فيجب ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انما اخبرهم في ذلك المشهد بشيء من الولاية يختص به علي (عليه‌السلام) دون سائر المؤمنين ودون باقي بني هاشم ، وما هو الا انه ولي بولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على المؤمنين واولى بالتصرف فيهم من انفسهم باليقين ، فيكون هو الامام لا معنى للمولى هنا الا

__________________

(١) التوبة ٧١.

٢٣٤

هذا كما ذكرنا ، ولا يشك في هذا الا من خالطت العصبية لحمه ودمه ، واعرض عن التأمل في دلالات الكلام والنظر في مقتضيات الأحوال فحاد عن قبول الحق ، واعتمد على ما الفه من زخارف الاسلاف ، اهل العصبية والاعتساف ، واما من وقف عند النص وتأمل مقتضى الحال ، وترك التعلل بالشبهات الواهية ، فانه لا يرتاب في ان الخبر نص واضح على امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالامامة العامة ، ولذا قال ابو الهيثم فيما ذكرنا من شعره.

ان الوصي إمامنا وولينا … البيت.

يريد اولى بنا كما لا يخفى على المتأمل في كلامه.

وروي ابن ابي الحديد عن ابراهيم بن ديزيل (١) في كتاب صفين ، قال حدّثنا يحيى بن سليمان ، قال حدّثنا ابن فضيل ، قال حدّثنا الحسن بن الحكم النخعي ، عن رياح بن الحارث النخعي ، قال : كنت جالسا عند علي (عليه‌السلام) اذ قدم عليه قوم متلثمون فقالوا السلام عليك يا مولانا ، فقال لهم : (ا ولستم قوما عربا) قالوا بلى ولكنا سمعنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول يوم غدير خم (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فقال : لقد رأيت عليا ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال اشهدوا ثم ان القوم مضوا الى رحالهم فتبعتهم ، فقلت لرجل منهم ، من القوم؟ قال : نحن رهط من الأنصار وذاك يعنون ـ رجلا منهم ـ ابو أيوب صاحب منزل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصافحته (٢) وهذا الخبر ظاهر اي الظهور في ان القوم

__________________

(١) ابراهيم بن الحسين الكسائي الهمداني ابو اسحاق المعروف بابن ديزيل توفي ٢٨٠ ، أو ٢٨١. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ٢ / ٢٨١ ، قال الحاكم : ثقة مأمون ، له كتاب صفين ، قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية ١١ / ٧١ «انه بجلد كبير» ، وينقل عنه ابن ابي الحديد كثيرا.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٨ ويعرف هذا الحديث بحديث الركبان وقد رواه ابن الأثير في

٢٣٥

فهموا من لفظ المولى في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إرادة الأمير الذي هو الامام فسلموا على علي بالموالاة بدل الامارة لأنها عندهم بمعناها فمرادهم بمولانا اميرنا ولو كان مرادهم المعونة والنصرة لم يكونوا سلموا عليه بالإمرة لكنهم قصدوا من اللفظ المذكور التسليم عليه بها ، ولو لا ذلك لما كان لضحك علي (عليه‌السلام) واستبشاره باستدلالهم على ذلك بالحديث معنى ولا لقوله لأصحابه اشهدوا فائدة لأنهم لا يشكون قبل ذلك في انه من المؤمنين الذين صرح القرآن بان بعضهم معين بعض وناصره بل لا يشكون في انه سيد المؤمنين وامامهم في ذلك الوقت ، ثم ان راوي الحديث يفهم منه انه فهم من قصد الأنصار الولاية العامة لا المعونة والنصرة فتأمل.

قال ابن ابي الحديد وقال ابو بكر : وحدثني علي بن سليمان النوفلي قال سمعت ابي يقول : ذكر سعد بن عبادة يوما عليا (عليه‌السلام) بعد يوم السقيفة فذكر امرا من امره نسيه ابو الحسن يوجب ولايته فقال ابنه قيس بن سعد انت سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول هذا في علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) ثم تطلب الخلافة ويقول اصحابك : منا امير ومنكم امير؟ لا كلمتك والله من رأسي بعدها كلمة ابدا (١) انتهى.

فهذا كما ترى دال على ان من طلب الخلافة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من القوم ليس لعدم علمه بنص الغدير بولاية امير المؤمنين (عليه‌السلام) ولا لأن هذا اللفظ لا يوجب له الامامة ولكن كان ذلك منهم حبا للرئاسة وطلبا للإمرة وتعمدا لمخالفة نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك الغرض ولذا انكر قيس على ابيه طلب الخلافة بعد سماع

__________________

اسد الغابة ١ / ٣٦٨ عن الموالاة لابن عقدة كما نقله عن ابن عقدة أيضا ابن حجر في الاصابة ١ / ٣٠٥.

(١) شرح لنهج البلاغة ٦ / ٤٤.

٢٣٦

ذلك ، وقال : ما سمعت ولو لا علمه بان الولاية لعلي (عليه‌السلام) في قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يراد بها الامامة والامارة دون المعونة والنصرة ، وعلمه بان اباه يعلم ذلك لما كان يتوجه له الانكار على ابيه بوجه من الوجوه ولا صح له ان يتبرأ من مكالمته بحال من الأحوال ، ولو لا ان سعدا فهم من الولاية ما فهمه ابنه منها لاعتذر إليه عن فعله ودفع عنه انكاره بما يعتذر به خصومنا اليوم من حمل الولاية على المعونة والنصرة ، واقول : سقيا لربع قيس في صدعه بالحق وعدم التفاته في القول به الى القرابة وانكاره الباطل حتى على ابيه مع كونه سيد الانصار ، وهذه قاعدة طالب الحق المنصف وطريقته لا يعاند اذا ظهر له الحق ولا يعدل عنه ويتعلل فيه لرضى القرابة والعشيرة والشيوخ والأسلاف وحب الرئاسة والجاه ، وقد وضح من جملة ما حررناه ان الأنصار ومن سمع الخبر من منصفي التابعين قد عرفوا وحكموا ان مراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من كنت مولاه فعلي مولاه) الأولوية بالأمر وهي الامارة العامة والامامة الكبرى والخلافة العظمى لا معنى غيرها مما يذكره الخصوم ، افترى خفي على المهاجرين مثل ابي بكر وعمر وعثمان وابي عبيدة وعبد الرحمن واضرابهم مع شدة ملازمتهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقوة فهمهم وعلمهم على ما يدعى الخصم ما كان ظاهر للانصار ظهور الشمس في رابعة النهار؟ أم تعمدوا مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) طلبا للرئاسة وكتموا نص الرسول (عليه‌السلام) على علي (عليه‌السلام) طمعا في الامارة كما فعل سعد بن عبادة عند طلبه ذلك فلما فاته الأمر اظهر ما اخفاه وابرز ما كتمه؟ فانظر ما قلناه بعين التبصر والإنصاف فانك لا تشك بعده في صحة ما نذهب إليه ، ومما يعين ما قلناه مضافا الى ما ذكرناه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر الخبر (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فان المراد من موالاة الله موالي علي (عليه‌السلام) هدايته واثابته اياه ، ومن

٢٣٧

معاداته معادى علي (عليه‌السلام) اضلاله ومعاقبته ، والمراد من موالاة علي (عليه‌السلام) متابعته والاقتداء به ، ومن معاداته مخالفته والعدول عنه الى غيره لا النصرة والحلف في الموضعين ، ولا الخذلان والمحاربة في المقامين ، لأنه لو كان المراد ذلك لكان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده (وانصر من نصره واخذل من خذله) تكريرا عديم الفائدة ، ولا يجوز حمل كلام النبي المطهر على ذلك ، واذا استوضحت جهة استدلالنا بالخبر الشريف على قولنا وعرفت صراحته في مذهبنا فاعلم ان الذي حاوله المخالفون فيه وزعموا انه ناقص لدلالته على ما ندعيه ومخرج له عن الحجية على ما نبتغيه وجوه أربعة.

الأول : منع تواتره لأنه لم يروه البخاري ومسلم والواقدي كما قاله القوشجي وغيره منهم فلا يكون حجة في المقام يعارض به الاجماع ، وهذا الوجه وما بعده من الوجوه التي يتعللون بها في دفع الحق الواضح قد اشتمل بياننا على تزييفها وابطالها على اوضح وجه ، ولكنا هنا نذكرها مفصلة ونردف كل وجه بما يبين فساده ويوضح بطلانه.

فنقول في الجواب عن هذا ان الداعي لمن ذهب من الخصوم الى منع تواتر الخبر المذكور هو الشبهة الحاصلة من تقدم الثلاثة على علي (عليه‌السلام) وتركهم واصحابهم العمل به واستبعاد مخالفتهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما كان معلوما وكل ذلك مردود أمّا تقدم الثلاثة فلا يكون معارضا للخبر حتى يثبت انه واقع على وجه شرعي وهذا هو موضع النزاع والخبر لا نزاع في صحته وان نوزع في تواتره فيكون اقوى من صحة تقدمهم والاستبعاد ليس بدليل حتى يعارض به الأدلة لا سيما ومخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من القوم واقعة في حياته وبعد وفاته ، وسيأتيك توضيحه في موضعه ، فما هو بمقتض عدم تواتر الخبر في نفسه لأن شرط

٢٣٨

التواتر وهو كونه خبر جماعة يفيد بنفسه القطع موجود فيه لكثرة طرقه واقرار الصحابة به من موافقي علي ومخالفيه كما علمت ، وترك البخاري وصاحبيه روايته لا يدل على عدم تواتره مع رواية من سواهم من المحدثين واهل السيرة له ، وكم من حديث متواتر لم يذكره البخاري وصاحباه خصوصا اذا كان حجة عليهم ، ومتى قال مخالفونا ان تخلف علي ومن معه وسعد بن عبادة ومن اتبعه عن ابي بكر وانكارهم بيعة غير قادح في الاجماع على إمامته فلا ينبغي لهم ان يقدحوا في الاجماع على الخبر المذكور بترك البخاري وصاحبيه روايته مع عدم تصريحهم بانكاره ، فالاعتراض في الخبر من هذا الوجه مندفع.

الثاني (١) : عدم تعيين المولى فيه بمعنى الأولى واحتمال كونه لغيره من المعاني كالناصر والحليف ، وزاد الصبان الشافعي في كتابه اسعاف الراغبين (٢) على ذلك انه لم يعهد كون المولى بمعنى الأولى لا شرعا وهو واضح ، ولا لغة اذ لم يذكر احد من ائمة العربية ان مفعلا بمعنى افعل والجواب عنه ان نقول لهم : انكم حكمتم على لفظ مولى في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٣) وفي قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ايما امرأة نكحت بدون اذن مولاها) (٤) انه بمعنى الأولى ومالك الأمر للقرينة الحالية والمقالية ونفيتم عنه ما سوى ذلك من معانيه ولازم ذلك الحكم على مولى في الخبر بانه بمعنى الأولى بالمؤمنين لوجود القرينتين الحالية والمقالية على ارادته منه ونفى ما سواه من المعاني كما ذكرنا أولا وهما دليلان يجب العمل بهما في المقام كما

__________________

(١) من الوجوه على عدم دلالة حديث الولاية على الامامة كما يرى خصوم الشيعة.

(٢) ص ١٥٣.

(٣) الحديد من الآية (١٥).

(٤) استشهد في تاج العروس ١٠ / ٣٩٩ بالآية المتقدمة ، وهذا الحديث ، وحديث «من كنت مولاه» بأنّ الولي ، والمولى معناهما واحد.

٢٣٩

اوجبتم العمل بهما في غيره وترك العمل بالدليل للتشهي غير جائز شرعا.

واما الجواب عن زيادة الصبان وهذره فبان مولى قد عهد كونه بمعنى الأولى شرعا وعرفا ولغة فاما في الشرع فالرواية المتقدمة تشهد به فقد جمع اصحابه وغيرهم على لفظ مولى فيها بمعنى الأولى شرعا ، ومثله في الآيات كثير قال الله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (١) أي اولى بالميراث وقال تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) (٢) الى الأولى بميراثه من غيرهم ، وكل هذا مما لا نزاع فيه ، واما في اللغة فبوجوه.

الأول : ان أبا عبيدة معمر بن المثنى وهو امام نقلة اللغة العربية قد ذكر : ان مولى بمعنى الأولى ونص عليه وحمل عليه لفظ موالي في الآية المذكورة (٣).

وقال ابو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه المترجم بالعبارة في صفات الله : اصل تأويل الولي الذي هو اولى اي احق ومثله المولى ، وقال بعد تأويل ذلك بان الله هو مولى الذين آمنوا والولي والمولى معناهما سواء وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم ، وقال في كتاب معاني القرآن : «الولي والمولى في كلام العرب واحد» (٤) ، وقال : ابو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه المعروف بالمشكل «المولى الولي والمولى الأولى بالشيء» وذكره أيضا غيرهم

__________________

(١) النساء / ٣٣.

(٢) مريم / ٥.

(٣) المجاز لأبي عبيدة ٢ / ٢٥٤ ، واستشهد ببيت لبيد الآتي ، ونقله عنه الرازي في تفسيره ٢٩ / ٢٢٧ ، والعسقلاني في فتح الباري ٨ / ٤٨٢.

(٤) معاني القرآن والعبارة من كتب المبرد التي لم أطلع عليها ، ولكن ما ذكره المصنف عن المبرد منقول في الغدير لشيخنا الأميني ١ / ٣٦١ ، ومما تجدر الاشارة إليه ان الأميني رحمه‌الله اشبع القول في هذه المسألة في الجزء الأول من الغدير من ص ٣٤٤ ـ ٣٨٣ بما يكفي ويشفي ولم يدع مجالا لأحد الا ان يقرّ بأنّ لفظ (مولى) يراد به لغة الأولى او انه احد معانيه.

٢٤٠