منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

عليه وآله وسلم) فلان احبكم الى الله فلان أعلمكم فلان أقربكم إليّ فلان أشدكم جهادا أو اكثركم فلان لا يزال على الحق فلان خير امتي ، فهذه الألفاظ تدل على الامامة بضم اشتراط العصمة والأفضلية والأعلمية والأقربية الى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامام ولا يعرف في النص على الامامة أوضح من هذه المذكورات ، ومن طلب لذلك لفظا أوضح منها أو مثلها في هذا الباب لم يجده ، ومن شك فقد نازع مقتضى عقله وأخرج اللفظ عن معناه وصرفه في غير مؤداه ، وهذا لا يعجز عنه أحد من العارفين بفنون الكلام حتى في كلمتي الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لكنه بدون قرينة صارفة عن الحقيقة عين العناد ومنه يجيء الباطل والفساد ، والمعاند لا يلتفت إليه ، وكيف يستفاد نص ابي بكر على عمر بالخلافة من قوله اني عهدت الى عمر بن الخطاب ويعرف منه استخلافه ولا يعرف من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لرجل مخصوص هو وصيّي النص عليه بالاستخلاف وكلا اللفظين بمعنى واحد؟ فان عهدت الى فلان بمعنى أوصيت إليه كما نص عليه أهل اللغة فما ظنك بغيره من الألفاظ التي ذكرت مما هو أصرح منه وهل يجوز لعاقل أن يقول انا أفهم من قول ابي بكر اني عهدت الى عمر أنه استخلفه ولا افهم من قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (عليّ وصيي) انه استخلفه؟ فكيف بقوله : (علي إمامكم بعدي علي خليفتي على أمتي) (١) الى غير ذلك من الألفاظ الصريحة؟ وهل يرتاب عاقل في افادتها النص بالخلافة وهو قد قطع بنص أبي بكر على عمر باللفظ المذكور الا أن يسلك مسلك العناد الذي لا دواء له ، نعوذ بالله من طاعة الهوى ،

__________________

(١) الظاهر أن ما بين القوسين من حديثين ففي عدة من الأصول كمسند الامام احمد ٥ / ٣٤٠ : (وهو وليكم بعدي) وفي حديث بدأ الدعوى كما في تاريخ الطبري ٢ / ٣٢١ بتحقيق الأستاذ محمد ابو الفضل ابراهيم : (ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم).

١٨١

فاذا تقرر ذلك وانتقش معناه في صحيفة قلبك فاعلم انه قد ورد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النصّ على امير المؤمنين بالامامة بالفعل والقول بتلك الألفاظ وما أدّى معناها وغيرها مما يدركه المتتبع لكتب الأخبار وكتب الاستدلال في الامامة ، فالفعل الصريح في النص.

منه : أخذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سورة براءة من أبي بكر وعزله عنها بعد أن بعثة بها ليقرأها في الموسم وينفذ حكمها نيابة عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبعثه عليّا (عليه‌السلام) بها لذلك مع قوله لأبي بكر لما سأله انزل في شيء قال : (لا ، لكن لا يبلغ الا أنا أو رجل مني) (١) والقضية معلومة لا شك فيها عند الأمة وهي كما كانت دالة على إمامة علي (عليه‌السلام) لأنه المبلغ عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الأمة كذلك هي دالة على نفي صلاحية غيره للامامة لأنها ناصة على انه لا يصلح ان يبلغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعض آيات من سورة

__________________

(١) اجمال القصة براءة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعث أبا بكر (رضي الله عنه) ببراءة وأمره ان ينادي في الموسم ان لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد فهو الى مدته ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر والله بريء من المشركين ورسوله ، وكتب له بهذه الولاية كتابا فبينما أبو بكر (رضي الله عنه) ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله القصوى فخرج أبو بكر فزعا ـ كما في رواية الترمذي ـ فظن انه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فإذا هو علي (عليه‌السلام) فبلغه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعثه ليأخذ منه براءة ويقوم هو بتبليغها ، فوجد أبو بكر في نفسه فلما رجع الى المدينة بكى وقال : يا رسول الله ـ بأبي انت وامي ـ نزل فيّ شيء؟ قال : «لا ، ولكن جبرائيل جاءني فقال : (لا يؤدي عنك الا انت أو رجل منك) كذا في رواية الامام احمد ، وانظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٦ و ٤٧ ومستدرك الحاكم ٣ / ٥١ وسنن الترمذي ٢ / ١٨٣ ومسند أحمد ١ / ٣ و ١٥١ و ٣٣٠ وتفسير ابن كثير ٢ / ٣٣٣.

١٨٢

براءة الى أهل مكة ولم يرتضه الله لذلك ولم يجعله له أهلا ، فكيف يرتضيه الله للرئاسة العامة وهي التبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للأمة جميع احكام شريعته في الدماء والأموال والفروج وانفاذها فيهم؟ لأن الامام هو المبلغ عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احكام الشريعة الى امته والقائم بتنفيذها فيهم لا معنى للامامة غير هذا يقينا ، ومن لم يرتضه الله لتبليغ بعض الأحكام القليلة لاناس من الأمة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فبالأولى أن الله لا يرتضيه لتلك الرئاسة العامة والمنزلة الجليلة ، ولما كان علي (عليه‌السلام) هو المرتضى للتبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من دون تخصيص وان حاله في ذلك كحال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو القائم مقامه في التبليغ الى الأمة ، كان هو الامام المرتضى لتلك الرئاسة الكبرى والأمر في ذلك واضح لا يخفى على ذي حجي فكيف على خصومنا وهم من الفضلاء لو لا ما وقع على افهامهم من ظلمات الشبهات فحالت بينها وبين ابصار الأمور الظاهرة والحق الواضح.

ثم أن قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (او رجل مني) اما انه يريد انه منه في قرابة النسب فيكون ذلك حجة لنا على ما نقول من أن الامام يجب ان يكون من ذوي قربى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن لم يكن من ذوي قرابته لا يصلح لخلافته أو أنه بالاتباع كقوله تعالى حكاية عن ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (١) وقد قال الله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) ومحبة الله سبحانه وتعالى لعلي (عليه الصلاة والسلام) ومحبته لله تعالى ثابتة بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوم خيبر : (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)

__________________

(١) ابراهيم : ٣٦.

(٢) آل عمران : ٣١.

١٨٣

وقرابته لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثابتة بالنسب واتباعه له مما لا يختلف فيه اثنان ولذا كان المخصوص بتبعية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبمحبة الله تعالى فهو الامام المرتضى بنص الله ، القاطع ونص رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المثبت للحجة والمزيل للأعذار الواهية ، فانه على كلا التقديرين في معنى «منّى» يوجب خروج غيره عن صلاحيته للامامة كما سمعت ، فأي نص يريد ابن ابي الحديد على إمامة علي (عليه‌السلام) اصرح من هذا النص الصريح. ولعمري ان هذه القصة المتفق عليها (١) كافية في النص على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ونفي إمامة غيره عند اولى الألباب ، ولا يحتاجون في ذلك الى غيرها وان كان موجودا قد طبق الآفاق والاعتذار في هذا بأن عادة العرب اذا عقدوا بينهم عقدا وعهدا لا يقوم بتبليغه الى المعاهدين الا العاقد او من هو قريب منه في النسب كالأخ وابن العم فجرى الأمر في براءة على قاعدة العرب فلم يكن فيه دلالة على اثبات مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي مطلقا ونفي ابي بكر عن صلاحيته له مطلقا كما قاله المعتزلة والاشاعرة اعتذار واهن وتعلق بما لا ينفع كتعلق الغريق بالحشيش ودفع للنص بالشبهات الركيكة ، لأنا نقول لهم : أولا انكم علمتم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يعمل في امر الدين والدنيا وتقديم احد أو

__________________

(١) وذلك أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما بعث أبا بكر بآيات من اوّل سورة براءة ليتلوها نيابة عنه في الموسم فنزل جبرائيل بعد أن سار أبو بكر وأمره ان يرسل عليا ليأخذ الكتاب من أبي بكر وأخبره انه لن يؤدي عنك الا انت أو رجل من اهل بيتك فأخذ علي (عليه‌السلام) الكتاب منه وحج بالناس وأذن وبلغ روى ذلك ائمة التفسير وعلماء الحديث وارسلوه ارسال المسلمات كالطبري في تفسيره ١٠ / ٤٦ وابن كثير في تفسيره ٢ / ٣٣٣ والآلوسي في تفسيره ٣ / ٢٦٨ والترمذي ٢ / ١٣٥ والنسائي في الخصائص ص ٢٠ كما رواه في السنن أيضا ٥ / ٢٣٤ والدارمي في السنن ٢ / ٦٧ والطبري في تاريخه ٤ / ١٧٢٠ ليدن حوادث سنة ٩ وابن هشام في السيرة ٤ / ١٣٠. الخ.

١٨٤

تأخيره بعادات العرب أهل الجاهلية ولا يعتمد عليها ولم يأمره الله بذلك بل نهاه في كثير من الآيات عن ذلك مثل قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) (١) وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) وغير ذلك ، وانما اعتماده في كل الأشياء على قواعد دين الله دون قواعد الجاهلية وعاداتها كيف لا والله تعالى يقول في حقه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣) فابطلت هذه الآية وما قبلها ما ادعاه الخصوم من كون عزله عن براءة وبعث علي (عليه‌السلام) بها جاريا على عادات العرب واثبتت أنه لبيان استحقاق مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعدم استحقاقه على أبين وجه ، وأيضا لو كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ذلك مراعيا لعادات العرب لبعث ببراءة من اوّل الأمر رجلا من اقاربه كعلي (عليه‌السلام) أو عمه العباس أو عقيل أو غيرهم من بني هاشم فانهم كانوا معه في المدينة ، وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عالم بعادات العرب ولم يبعث أبا بكر بها ثم كيف يعقل ان الله يأمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بان يجري على عادات اهل الجاهلية وهو قد بعثه لازالتها وإماتتها بدين حنيفي وملة اسلامية لا يقبل الله سواها ، وقد قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (إن الله أذهب بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بانسابها) (٤) وهو معلوم من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا ريبة فيه وقال الله جل وعلا مخاطبا له (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٥) ولم يقل اتبع عادات العرب وبعد فاي نبي بعثه

__________________

(١) الكهف : ٢٨.

(٢) الجاثية : ١٨.

(٣) النجم : ٣.

(٤) في شرح نهج البلاغة ١٧ / ٢٨١ عن المغازي للواقدي (إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم) والكلمة من خطبة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما فتح مكة.

(٥) الأنعام : ١٠٦.

١٨٥

الله باتباع عادات الكفرة واهل الجاهلية حتى يكون سيد الرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذلك فنسبه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى العمل بعادات اهل الجاهلية ، ونسبة الله الى امره نبيه بذلك نسبة قبيحة مخالفة للعقل والنقل من الكتاب والسنة توجب الخروج من الدين والبعد من الملة الاسلامية لا يجوز لمسلم ان يدعيها ولا يجترئ مؤمن على اعتقادها لمخالفتها الكتاب والسنة وضرورة العقل لكن ذلك ليس بكثير على الخصوم ، وحيث بطل ما ادعوا صح ان القصة دالة على ما ذكرناه من بيان مستحق مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن لا يستحق دون ما ذكروه لبطلانه بالأدلة القطعية ونقول لهم ثانيا اذا كان بعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) ببراءة وعزله أبا بكر عنها كان جاريا على عادة العرب لأن عادتهم جرت بان ابلاغ العهود لا يكون الا للعاقد او احد من أقاربه كما قلتم وجب ان تجري الامامة ذلك المجرى فان العرب قد جرت عادتهم واستقرت بان مقام الرجل الشريف من بعد موته يكون لاقرب الناس إليه لا سيما من يقوم مقامه في حياته من ذوي قرابته ، ولم تجر عادتهم باعطاء مقامه الأباعد فوجب أن يكون الامام بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) دون غيره على عادة العرب لأنه اقامه مقامه في حياته وهو أقرب الناس إليه ويجب لذلك ان يكون تخصيص الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا بتبليغ براءة نصا منهما على ان عليّا (عليه‌السلام) هو القائم مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته دون باقي اقاربه لاقامته اياه مقامه في حياته فلا ينازعه احدا من اقارب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأما ابو بكر فانه خارج بعادة العرب عن خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على كل حال فما خرجت القصة على دعواكم عن كونها نصّا على استخلاف امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فصل ،

١٨٦

وعدم صلاحيته لذلك المنصب وليس في ذلك خفاء ، ودعوى القوشجي في شرح التجريد ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يدفع براءة الى أبي بكر ثم عزله عنها بعلي (عليه‌السلام) وانما بعثه اميرا على الموسم وأردفه بعلي (عليه‌السلام) ليقرأ براءة ، مخالف لما شاع وذاع وتواتر في القصة بين المفسرين واهل السيرة واستفاض في روايات محدثيهم ، ولسنا نشك انه كلام مختلق موضوع ويدل على ذلك مضافا الى شهرة القصة ما سيأتي من احتجاج عبد الله بن عباس على عمر بن الخطاب في تفضيل علي (عليه‌السلام) على أبي بكر بعزله عن براءة بعلي (عليه‌السلام) فلم ينكره عمر ولا ادعا خلافه ، على ان ذلك لا يدفع حجتنا لأنا نقول على هذه الدعوى أن غيره لا يصلح للتبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في شيء من الأحكام ولو صلح لذلك لأعطاه براءة وامره بتبليغها واذا لم يصلح لأن يبلغ عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته بعض الأحكام الى قوم خاصين من الأمة لم يصلح بالضرورة للقيام مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته في تبليغ جميع الأحكام لكل الأمة فلا فرق في ذلك بين عدم تأميره عليها من اوّل الأمر وبين عدم اقراره عليها بعد التأمير لافادة الأمرين معنى واحدا كما عرفت ، وما توهمه القوشجي من الفرق بين الحالين تجاهل وتغافل.

واما ابن ابي الحديد فعنده كغيره منهم إن عزل أبي بكر عن براءة ثابت كالشمس المنيرة صرح به في كتبه واشعاره (١) وعلى كل حال يكون اعطاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) براءة ان كان من اوّل الأمر وان كان بعد عزل ابي بكر عنها إعلاما للناس وإفهاما لهم انه لا

__________________

(١) أما في كتبه فانظر شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٠٠ وأما في اشعاره فقوله في احدى علوياته.

ولا كان معزولا غداة براءة

ولا عن صلاة أم فيها فاخرا

١٨٧

يصلح للتبليغ عنه أحكام الشريعة وعهود المعاهدين غيره فهو القائم مقامه في حياته فيجب أن يكون خليفته بعده والمؤدي عنه لأمته وهو المطلوب ، وهذا بحمد الله واضح لكن المتجاهل عن الحق والمقلد لاسلافه لا حيلة فيه.

ومن الفعل : الصريح الناص على إمامة امير المؤمنين وانه لا يجوز ان يتقدم عليه في الامامة احد بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر الأمراء من اصحابه على غير علي (عليه‌السلام) ولم يؤمر عليه احدا فما خرج امير المؤمنين (عليه‌السلام) في جيش ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليس في ذلك الجيش الا وعلي (عليه‌السلام) هو الأمير على الجيش ، ولا بعثه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى بلد الا وهو أمير على من بها من الصحابة وغيرهم ، ولا خلفه في المدينة الا وهو خليفته فيها ، وهذا امر معلوم لا يشك فيه عاقل ، وقد روى ابن ابي الحديد عن الواقدي قال سئل الحسن ـ يعني البصري ـ عن علي (عليه‌السلام) وكان يظن به الانحراف عنه ولم يكن كما يظن فقال : «ما اقول فيمن جمع الخصال الأربع ، ائتمانه على براءة ، وما قال له في غزاة تبوك فلو كان غير النبوة شيء لاستثناه ، وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الثقلان كتاب الله وعترتي ، وانه لم يؤمر عليه امير قط وامرت الأمراء على غيره» (١) انتهى ومن هذا يعلم أن دعوى القوشجي تأمير أبي بكر على علي (عليه‌السلام) يوم بعثه ببراءة باطلة كسائر دعاويه المزخرفة الفاسدة التي لا تحتاج في بطلانها الى إكثار القول ونقل الحجج ، ويعلم منه أيضا بطلان دعوى ابن ابي الحديد أنه لم يرو عزل ابي بكر عن إمارة الموسم الا الشيعة ، فان روايته المذكورة عن الواقدي عن الحسن مصرحة بأن عليّا (عليه‌السلام) لم يؤمر عليه احد قط فلو كان ابو بكر امير الموسم وعلي فيه لكان ابو بكر اميرا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٤ / ٩٦.

١٨٨

عليه وحصل التناقض في القول ، وابن ابي الحديد مصدق لقول الحسن غير طاعن فيه ، فاثباته لرواية محدثيهم زعم إمارة ابي بكر على الموسم وطعنه في رواية عزله عنه ونسبتها الى الشيعة خاصة مناقضة في قوليه اما لجهل أو تجاهل ، وعلى هذا فتكون رواية الشيعة أرجح لأن مثل الحسن والواقدي وامثالهما من العامة قد وافقهم ، والثانية باطلة مردودة لاختصاص جماعة منهم بها ، وصح من كل ذلك ان عليا (عليه‌السلام) لم يؤمر عليه احد من الصحابة في حال من الأحوال ، وتقرير النص من هذا الفعل : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث لم يؤمر على علي (عليه‌السلام) أحدا دل ذلك من فعله انه لا يجوز أن يتأمر على علي (عليه‌السلام) أحد من الصحابة وان يجوز له التأمر عليهم ، واذا لم يصح ان يتأمر عليه احد من الأمة في زمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يصح ذلك لأحد بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا فرق بين الحالين ، واذا لم يجز لأحد التأمر على علي (عليه‌السلام) في حال من الأحوال وجب ان يكون هو امير الأمة بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو الامام لا محالة بعده ولا يجوز لأحد التقدم عليه اذ ليس الا امير مطاع أو مأمور مطيع كما رووه عنه وما سواهما خارج من الملة ، ولما كان غيره كأبي بكر وعمر وعثمان وابي عبيدة واضرابهم ، ممن أمر عليهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غيرهم كان ذلك دالا على جواز تقدم الغير عليهم فلا يكونون ائمة ، وهذا الفعل كسابقة نص على إمامة علي (عليه‌السلام) كما هو نص على صلاحية غيره للامامة لدلالته على عدم جواز تقدم الغير عليه ففيه وفي سابقة الكفاية في النص لابن ابي الحديد لو كان ينصف ، اللهم الا ان يريد منا نصّا مثل النص الذي أراده اهل مكة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في قولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (١) فيقول لنا جيئونا بالنبي (صلى

__________________

(١) الاسراء : ٩٢.

١٨٩

الله عليه وآله وسلم) لنشاهده ويقول لنا أنا فعلت ذلك لأعلم الناس ان عليا (عليه‌السلام) هو الامام بعدي والقائم مقامي وان الامامة لا تجوز لغيره واني بذلك الفعل قد نصصت عليه فحينئذ نقر بالعجز عن هذا ونقول انما علينا ان نأتيكم من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بدليل وشاهد ونقيم عليكم حجة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويكون جوابنا هنا لهم شبيها بجواب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأولئك المقترحين عليه وهو قوله تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١) وليت شعري كيف يفهم عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي استخلاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي بكر من امره له بالصلاة كما ذكره عنه ابن ابي الحديد (٢) وغيره ويفهم عمر رضا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأبي بكر لديهم وتقديمه عليهم من ذلك كما هو مشهور من قوله ولا يفهم من ذينك الفعلين الواضحين إرادة الله ورسوله استخلاف علي (عليه‌السلام) وتقديمه ، ما هذا إلا تحير في المعلومات وشك في الواضحات وذلك من اعظم الغفلات نسأل الله العصمة عن طاعة الهوى ، على أن الصلاة لا يشترط عندهم في امامها العدالة فضلا عن الأفضلية فلو صح ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امره بالصلاة ولم يفد على قولهم عدالته فكيف يفيد أفضليته وخلافته ، وأنى ودون صحته خرط القتاد وكيف يصح وامير المؤمنين ينكره ويقول ان الأمر صدر من عائشة كما رواه ابن ابي الحديد (٣) وقد صح عنده (ان عليّا مع الحق والحق معه) (٤) فما ينكره علي لا يكون الا

__________________

(١) الاسراء : ٩٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٩.

(٣) المصدر السابق : ٦ / ٣٩.

(٤) نفس المصدر ١٩ / ٨٨ و ١٦ / ٧٧ قال ابن ابي الحديد : «ثبت عندي أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ان مع الحق وان الحق يدور معه حيثما دار).

١٩٠

حقا فأمر ابي بكر بالصلاة غير صادر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قطعا بخلاف الأمرين المذكورين الثابتين من فعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعلي (عليه‌السلام) لأنهما لا يحتملان إلا إرادة التقديم على الغير والاستخلاف كما بيناه ودفعنا به تعليلات القوم العليلة.

وأما القول : فالوارد منه بلفظ الامامة جملة من الأخبار عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (على امام البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله) رواه الحاكم بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري (١) وهو ممن لا يقدح الخصوم في روايته لأنه من اكابر محدثيهم.

ومنه ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي نعيم الحافظ الاصفهاني في حلية الأولياء عن انس بن مالك في حديث قال فيه له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (اوّل من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين وسيد المسلمين ويعسوب الدين وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين) قال انس فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمت دعوتي فجاء علي (عليه‌السلام) فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من جاء يا انس)؟ فقلت علي (عليه‌السلام) فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه فقال علي (عليه‌السلام) يا رسول الله لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته قبل قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (وما يمنعني وانت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي) (٢) وهذا الحديث دال على ان المؤدي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المبين للأمة ما اختلفوا فيه

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٢٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩ وحلية الأولياء ١ / ٦٣.

١٩١

من بعده هو صاحب الاوصاف المتقدمة في صدر الحديث من كونه امام المتقين الى آخرها وهو المستحق لها دون من سواه ممن لا يصلح للأداء عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تسع آيات من سورة براءة.

ومنه : ما رواه عنه في الكتاب المذكور عن ابي بردة الأسلمي ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ان الله عهد الي في علي عهدا فقلت : يا رب بينه لي قال : اسمع ان عليّا راية الهدى وامام اوليائي ونور من اطاعني وهو الكلمة التي الزمتها المتقين من احبه فقد أحبني ومن اطاعه فقد اطاعني فبشره بذلك فقلت بشرته يا رب فقال : أنا عبد الله وفي قبضته فان يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا ان يتم لي ما وعدني فهو أولى وقد دعوت له فقلت : اللهم اجل قلبه واجعل ربيعه الايمان بك قال : قد فعلت ذلك غير اني مختصّة بشيء من البلاء لم اختص به احدا من أوليائي فقلت رب أخي وصاحبي قال : انه سبق في علمي انه لمبتل ومبتلى به) (١).

وباسناد آخر بلفظ آخر في الكتاب المذكور عن انس بن مالك عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (إن رب العالمين عهد الي في علي عهدا انه راية الهدى ومنار الايمان وامام أوليائي ونور جميع من اطاعني ان عليا أميني غدا يوم القيامة فصاحب رايتي ، بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي).

وفي الكتاب المذكور قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (مرحبا بسيد المؤمنين وامام المتقين) فقيل لعلي (عليه‌السلام) كيف شكرك؟ فقال احمد الله على ما أتاني وأسأله الشكر على ما اولاني وان يزيدني مما

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٧ وحلية الأولياء ١ / ٦٦.

١٩٢

اعطاني) (١).

وقال ابن ابي الحديد : روى ابن ديزيل ، قال : حدثنا زكريا بن يحيى قال : حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن ارقم قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (الا ادلكم على ما ان تسالمتم عليه لم تهلكوا ان وليكم الله وإمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه وصدقوه فان جبرائيل اخبرني بذلك) فهذه الأحاديث الصحيحة عند الخصم كلها ناصة على علي (عليه‌السلام) بالامامة ومصرحة بأنه امام البررة وامام المتقين وامام الأولياء وامام الصحابة كما هو نص حديث زيد بن أرقم وصريحها ان من كان من المتقين البررة واولياء الله واصحاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فامامه علي (عليه‌السلام) ومن لم يكن امامه عليا (عليه‌السلام) فليس من المتقين البررة ولا من الأولياء ولا من الصحابة بل هو خارج عن هذه المراتب الشريفة وداخل في اضدادها فكيف تجوز لهم الامامة وقد جعلهم الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مأمومين فأيّ نص أوضح من هذه النصوص على ما ندعيه من إمامة امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) من بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأي صريح أصرح منها في ذلك؟ ويعجبني من ابن ابي الحديد قوله بعد نقله حديث زيد بن ارقم : «فان قلت : هذا نص صريح في الامامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك؟ قلت : يجوز أن يريد به انه امامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية لا في الخلافة» (٢) انتهى وهذا الجواب مع انه حرف اللفظ عن معناه وعدول به عن نصه من غير سبب داع الى ذلك كما هي عادة هؤلاء القوم فيكون فاسدا لا يدفع ما نقوله ولا يرد ما ندعيه لأن دعوانا انما هو وجود النص من الله ومن

__________________

(١) أيضا ٣ / ٩٨.

(٢) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٩٨.

١٩٣

الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بالامامة الذي كان ابن ابي الحديد واصحابه ينكره وكذلك اخوانهم من الأشاعرة ومضاهوهم ينكرون وها هو موجود كما ندعي فثبت مدعانا وبطل انكارهم ، ولسنا ندعي عليه وعلى اصحابه وأمثالهم انهم يقفون على النص ولا يتعدونه ولا يخرجونه عن معناه بآرائهم ولسنا ننكر منه تحريفهم الكلم عن مواضعه ، بل نقر لهم بان المعروف من سيرتهم والمعلوم من طريقتهم لكنه عين العصبية والعناد المنهى عنه في الدين.

ثم يقال لابن ابي الحديد : جميع اهل العلم لا يعرفون من معنى الامام الشرعي الا الرئيس العام على الأمة في انفاذ الأحكام الشرعية ، ولا يعرف الصحابة من لفظ الامام اذا اطلق الا هذا المعنى كما بيناه سابقا ، وهذا هو الخليفة البتة وليسوا يعرفون من معنى الامامة الشرعية الا الرئاسة العامة في أحكام الدين على سائر المكلفين وتلك هي الخلافة عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا محالة ، وتسمية المفتي إماما انما هو اصطلاح حدث بعد مضي أكثر من خمسمائة سنة من الهجرة بسبب ذكره بعض الشافعية في كلام طويل ولم يكن قبل ذلك معروفا فلا يصح حمل الامام في الأحاديث النبوية عليه يقينا ، وقد أوضحنا فيما سبق أن الامام العام هو العالم باحكام الدين وموضحها للمكلفين ومن سواه ليس بامام عام ، على ان لفظ الخبر وهو قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ما ان تسالمتم عليه لم تهلكوا) أي توافقتم ثم اتيانه بلفظ الامام بعد قوله : (إن وليكم الله) لا يحتمل الا إرادة الرئيس العام لا غيره ، ويزيده وضوحا قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (فناصحوه وصدقوه) إذ المناصحة لا محصل لها ولا موقع خصوصا اذا كانت مطلوبة من جميع الناس كما هو صريح اللفظ الا للامام العام الذي هو الخليفة ، ويؤكده زيادة أيضا قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (فان جبرائيل اخبرني بذلك) فانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قصد بهذا القول

١٩٤

اخبارهم بان نصه على علي (عليه‌السلام) بالامامة بوحي من الله إليه لا من قبل نفسه وليس يحتاج الى بيان هذا الا اذا كان المقصود من الامامة المعنى المطلق لا معنى خاصا وهذا ظاهر لكل ذي فهم ، وأما الامامة بمعنى الرئاسة في غير الأحكام الشرعية التي هي احكام الدين فغير معروفة عند احد من الصحابة ولا من الفقهاء والمتكلمين بانها إمامة شرعية وانها خلافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانما تعرف بانها ملك جبري وسلطان جوري ، فاذا اقررت بان عليا هو الامام في احكام الدين بنص الخبر لزمك الاقرار بانه خليفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا خلافة في الشرع غير الامامة في احكام الدين ، ولزمك اذا جعلت غيره خليفة في غير الأحكام الشرعية الاقرار بانه ليس بامام من ائمة الدين فهو غير واجب الطاعة على المكلفين ولا لازم المناصحة على المؤمنين فليس بامام شرعي فلا يكون خليفة الرسول ، لأن الخلافة هي الامامة العامة في الدين والأحكام الشرعية ، بل هو سلطان جائر دنيوي فما زدت بجوابك على ان أثبت إمامة صاحبنا واوضحت النص عليها واخرجت غيره من الامامة الشرعية وادخلته في الرئاسة الدنيوية لا الدينية وذلك هو مطلبنا الأهم وغرضنا المقدم ، والذي كنا نناضل الفرق المخالفة عليه ، اذ لسنا نزيد في القول على ان من عداه ليس بامام في احكام الدين تجب طاعته والاقتداء به فيها ، وان الامام في ذلك كله هو امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) وأنه ظلم واغتصب حقه وصريح قولك الاعتراف بدلالة الخبر على قولنا وذلك هو المراد ، فكأنك بما قلت قد قلدت جيد مذهبنا قلائد النور وخلعت على قولنا خلع السرور ، ثم يقال له أيضا : الست حكمت بما قلت : بان عليا (عليه‌السلام) امام ابي بكر في الأحكام الشرعية كما هو امام غيره من الصحابة فيها ، وان أبا بكر امام علي (عليه‌السلام) لأنه الخليفة فحينئذ يكون كل من علي وابي بكر إماما ومأموما في حال واحدة كل

١٩٥

منهما واجب الطاعة على الثاني ، وهل سمعت ورأيت رجلا إماما لغيره في حال وذلك الغير امام لذلك الرجل في تلك الحال؟ وهل وجد ذلك في شرائع النبيين؟ او عقل عند ذوي العقول المنصفين؟ كلا بل هذا تناقض لا تجوز العقول حصوله ، وتضاد لا تحتمل جميعه لأن اجتماع المتضادين واتلاف المتناقضين مما يمتنع في العقل ولا يعرفه اهل العلم والفضل ، فيكون القول المستلزم له باطلا فيجب ان يكون الامام في الأحكام الشرعية لجميع المسلمين وهو الخليفة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لئلا يلزم التناقض والتضاد اللذان لا يجوزان عقلا ولا شرعا ، ثم نقول له أيضا انك حيث قلت ان عليا امام الصحابة في الفتاوى والأحكام الشرعية والامام هو الذي يجب على المأمومين الاقتداء به ولا يجوز لهم مخالفته فاخبرنا عن إمامك ابي بكر هل اخذ في ابطال دعوى فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في فدك بفتوى امامه علي (عليه‌السلام) في الأحكام؟ أم بخلاف فتواه؟ وكذلك في رده شهادته لفاطمة (عليه‌السلام) وفي منعها ميراثها؟ وفي درئه الحد عن خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة وزنى بامرأته؟ واحراقه الفجاءة السلمي واسقاطه سهم اولى القربى من الخمس؟ وتخلفه عن جيش اسامة ، ورده عمر من الجيش؟ وغير ذلك من الأفعال (١) هل اخذ بفتوى امامه علي (عليه‌السلام) في جميعها أم بغير فتواه؟ فان قال اخذ في ذلك كله بفتوى علي (عليه‌السلام) فقد ابطل واحال وادعى ما لا يعرف وما يكذبه فيه كل احد ، وان قال اخذ في ذلك وغيره بغير فتوى علي (عليه‌السلام) بل بضدها كما هو المعلوم بين الأمة فيلزمه احد الأمرين : اما اثبات المعصية لأبي بكر لمخالفته فتوى امامه في الفتوى ، او اخراج علي (عليه‌السلام) من الامامة في الفتاوى والأحكام الشرعية التي اعترف بصراحة الخبر فيها فيكون

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٨.

١٩٦

قد كذب الخبر الصحيح عنده وابطل ما حكم به ، فليختر عز الدين عبد الحميد من هذين الوجهين ما يريد يكفه في مناقضته نفسه وابطال مذهبه وجراءته على ائمته ، فتبين لك من هذه الجملة الوافرة عصمة تلك الأخبار الصريحة عن التأويل ، وامتناعها عن القال فيها والقيل ، وبها يتحقق النص على إمامة امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) ، ويبطل ما قاله ابن ابي الحديد ، واعجب من قوله الأول قوله بعده : «وأيضا فانا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصوله ان الامامة كانت لعلي (عليه‌السلام) ان رغب فيها ونازع عليها ، وان اقرها في غيره وسكت عنها تولينا ذلك الغير وقلنا بصحة خلافته ، وامير المؤمنين لم ينازع الأئمة الثلاثة ولا جرد السيف ولا استنجد الناس عليهم» (١) الى آخر ما قال مما معناه إن امير المؤمنين (عليه‌السلام) فعل ذلك لحكم هو واصحابه على المتقدمين عليه بالهلاك» (٢) وفي هذا الكلام من الوهن ما لا يخفي وهو من وجوه :.

الأول : حكمه عليهم بالهلاك لو نازعهم علي (عليه‌السلام) وهذا يناقض القول بصحة إمامتهم بعد البيعة لهم كما يقوله هو واصحابه لأن امام الحق لا يجوز قتاله ولا منازعته ولا تجريد السيف في وجهه ، بل لا تجوز مخالفته في امره ونهيه ، واذا كانت إمامتهم صحتها موقوفة على رضاه لم يجز لهم عقدها قبل حضوره ومشاورته فان رغب فيها سلموها له وان رضي بغيره عقدوها لذلك الغير وشيء من ذلك لم يكن ، فانه (عليه‌السلام) لم يشاور في واحدة من بيعات الثلاثة البتة بالاتفاق ، وتصحيح هذا الخصم فان عمر قد عقدها لأبي بكر في السقيفة وعلي غير حاضر ولا مشاور ولازم قول المعتزلي ان بيعة ابي بكر في السقيفة غير صحيحة لعدم مشاورة امير المؤمنين

__________________

(١) استعرض السيد شرف الدين كل هذه الأحداث في كتابه النص والاجتهاد ص ١٤١ ـ ٢٨٤ وحريّ بالباحث ان يطلع على ذلك.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٨.

١٩٧

فالزامه الناس بمبايعته بعد خروجه من السقيفة ظلم وعدوان ، وعقدها ابو بكر لعمر ولم يشاور عليا (عليه‌السلام) وعقدها عبد الرحمن بن عوف لعثمان بوصية من عمر وعلي (عليه‌السلام) كاره ، وكل ذلك معلوم لا نزاع فيه فتقع إمامتهم على ما قال باطلة يصححها ، ولازم قوله فسادها.

الثاني : قوله ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) لم يستنجد الناس عليهم فانه دفع للمعلوم باللسان ، فقد روى ان عليا اركب فاطمة على حمار واخذ الحسن والحسين ، فما ترك أحدا من أهل السابقة الا مضى إليه وذكر له حقه ودعاه الى نصرته على ابي بكر واصحابه فعل ذلك ثلاث ليال في كلها لم يجبه الا أربعة او خمسة (١) فمن فعل ذلك كيف يقال فيه انه لم يستنجد الناس وانه سكت عن طلب الخلافة ورضي بخلافة غيره؟

الثالث : انه «قوله (عليه‌السلام) ما جرد السيف» وهذا باطل فانه قد روي ان الزبير جرد السيف بامره (عليه‌السلام) وخرج شاهرا سيفه حين أتى عمر وأصحابه بأمر ابي بكر واقتحموا على علي (عليه‌السلام) واصحابه البيت ليجالدهم بذلك السيف فاخذ من عنده ، ونادى ابو بكر باخذه اضرب به الحجر ففعل ، وساقوا عليا وأصحابه بالعنف الشديد ، ومن المعلوم ان هذا تجريد للسيف لكنه لم يجد على ذلك ناصرا ولا معينا فلا يجوز أن يقال فيه أنه ما جرد السيف.

الرابع : قوله «ولم ينازعهم» فان هذه دعوى كاذبة كذبا صراحا ، وأي منازعة اعظم مما جرى منه معهم وتخلفه عنهم معلوم واحتجاجه عليهم مشهور وطعنه فيهم مواجهة بتظاهرهم على أخذ حقه مذكور وفي كتاب خصمنا وغيره مسطور؟ وسيأتي بعضه في نقل حجته على ما يدعى من عدم النص ان شاء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٣.

١٩٨

الله تعالى ونذكر هنا قطعة صالحة من ذلك مما نبطل به دعواه فنقول قال في كتابه (١) قال ابو بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري ، واخبرنا ابو زيد عمر بن شبة قال حدثنا ابراهيم بن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن ابي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر وغضب علي والزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح فجاء عمر في عصابة منهم اسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش (٢) وهما من بني عبد الأشهل فصاحت فاطمة (عليها‌السلام) وناشدتهم فأخذوا سيفي علي والزبير فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ثم اخرجهما عمر ، يسوقهما حتى بايعا وقال خصمنا (٣) ابن ابي الحديد أيضا ، «قال ابو بكر وحدثنا ابو زيد عمر بن شبه وساق السند الى سلمة بن عبد الرحمن قال : لما اجلس ابو بكر على المنبر كان علي والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم وقال والذي نفسي بيده لتخرجن الى البيعة او لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار وزياد بن لبيد فدق به فندر (٤) السيف فصاح ابو بكر وهو على المنبر «اضرب به الحجر» (٥) قال ابو بكر الجوهري «وقد روى في رواية اخرى ان سعد بن ابي وقاص كان معهم في بيت فاطمة والمقداد بن الأسود أيضا وانهم اجتمعوا (عليه‌السلام) أن يبايعوا عليا (عليه‌السلام) فاتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة (عليها‌السلام) تبكي وتصيح» (٦)

__________________

(١) يعني شرح النهج.

(٢) في شرح النهج «قريش».

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٧.

(٤) ندر أي سقط.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٥٦.

(٦) أيضا ٦ / ٤٨ وتحريق باب فاطمة عليها‌السلام أو التهديد بالتحريق نقله جماعة من

١٩٩

قال المعتزلي ، وقال احمد بن عبد العزيز الجوهري أيضا : «وحدثنا ابن غفير قال : حدثنا ابو عون عبد الله بن عبد الرحمن عن ابي جعفر محمد بن علي أنّ عليّا (عليه‌السلام) حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلا الى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد مضت بيعتنا لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي (عليه‌السلام) : أكنت اترك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ميتا في بيته لا اجهزه واخرج الى الناس انازعهم في سلطانه» (١).

قال وقال ابو بكر : «حدثنا ابو سعيد عبد الرحمن بن محمد وساق السند عن الليث بن سعد قال : تخلف علي عن بيعة ابي بكر فاخرج ملببا (٢) يمضي به رقصا (٣) وهو يقول معاشر المسلمين علام يضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلف لخلاف» (٤)

__________________

المؤرخين نذكر منهم الطبري في التاريخ ٣ / ٢٠٢ حوادث سنة ١١ وابن قتيبة في الامامة والسياسة ١ / ١٣ وابن عبد ربه في العقد الفريد ٤ / ٢٥٩ وابن شحنة في تاريخه هامش كامل ابن الأثير ٧ / ١٦٤ واشار إليه حافظ ابراهي شاعر النيل في قصيدته العمرية المشهورة بقوله :

وقولة لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها اعظم بملقيها

حرّقت دارك لا ابقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها

واعتذر بذلك عروة بن الزبير عن اخيه عبد الله إذ هم بتحريق بني هاشم لما امتنعوا عن بيعه كما في شرح نهج البلاغة ٤ / ٤٩٥.

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٣.

(٢) يقال : لبب فلان فلانا أي جمع ثيابه عند صدره ونحره ثم جره.

(٣) في الشرح «ركضا».

(٤) شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٥.

٢٠٠