منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

ورجل مني) (١) لعموم اللفظ ولانه اذا لم يجز ان يؤدي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعض الامور من هو بعيد عنه في النسب فكيف يجوز ان يؤدي عنه الى جميع الامة جميع الاحكام الشريعة في الدين والدنيا فدل ذلك على اشتراط الاقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامام فان قيل : اذا حكمتم بان الامام يجب ان يكون اقرب الناس الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزمكم القول بان العباس بن عبد المطلب هو الامام بعد رسول الله كما قاله العباسية لانه العم والعم اقرب من ابن العم وانتم لا تقولون بذلك ، قلنا لهذا جوابان عندنا معروفان وآخران مذكوران.

الاول وان ابن العم للابوين اقرب عندنا من العم للاب فيجوز الميراث دونه ويحجبه ، وهذا مذهب امير المؤمنين (عليه‌السلام) ومن المحقق انه لا يقول الا الحق وقد قال به قوم من الفقهاء كنوح بن دراج (٢) وابي بكر بن عياش (٣) وغيرهما وعلي (عليه‌السلام) ابن عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبويه فان أمّ عبد الله وابي طالب جميعا فاطمة بنت عمرو المخزومية وأم العباس (٤) اخرى غيرها فهو عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لابيه خاصة فيكون علي (عليه‌السلام) اقرب منه الى النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك في قصة براءة كما سيأتي.

(٢) نوح بن دراج ولي القضاء للرشيد على الكوفة والبصرة وكان من الشيعة قيل : وكان يقضي بقضاء علي (صلوات الله وسلامه عليهم) وهو اخو جميل بن دراج المدفون قريبا من بلده الدجيل ويظهر أنه ولي القضاء ببغداد أيضا حيث يقول الأشهب الكوفي :

يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم

مذ صار قاضيكم نوح بن دراج

(٣) أبو بكر بن عياش اسمه سالم وقيل : شعبة : وقيل : اسمه كنيته كان من العلماء العباد الزهاد توفي بالكوفة سنة ١٩٣.

(٤) أم العباس نتيلة بنت جناب بن كلب (الاصابة ٢ / ٢٧١).

١٤١

وآله وسلم).

الثاني ان القرابة بمفردها غير كافية في استحقاق منزلة النبي (ص) بل تحتاج الى ان ينضم إليها باقي الشروط من العصمة والافضلية والعباس غير معصوم وعلي افضل منه بالاجماع فكان احق بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منه ، ومن هذا الوجه قدمنا عليا (عليه‌السلام) على اخيه عقيل مع تساوي نسبهما الصوري الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكون قرابتهما منه واحدة واما الوجهان الآخران.

فاحدهما ما ذكره علي (عليه‌السلام) وسيأتي ذكره مشروحا في ايراد النصوص عليه وهو مبايعته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين جمع بني عبد المطلب ودعاهم الى مبايعته على ان من بايعه يكون اخاه ووزيره ووارثه وخليفته فبايعه علي (عليه‌السلام) دونهم (١).

والثاني مروي عن ابي الحسن موسى بن جعفر إنه ذكره للرشيد (٢) واحتج به عليه مع اوّل الوجهين الأولين حين ناظره في استحقاق علي (عليه‌السلام) ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون العباس وهو ان عليا اسلم وهاجر فكانت له ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والعباس تأخرا إسلامه ولما اسلم لم يهاجر فلم يكن له من ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الميراث شيء لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) (٣) فلذلك لم يكن للعباس (رضي الله عنه)

__________________

(١) يعني في يوم الدار المشهور.

(٢) نقله السيد الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن ٩ / ١٤٣ عن كتاب «معاني الأخبار» للصدوق.

(٣) الأنفال : ٧٢.

١٤٢

مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولقد اخرجه عمر من الشورى لذلك وادخل عليا دونه ، وذلك حجة على المعترض فبطل اعتراضه كما بطل اعتراض هارون الرشيد على ابي الحسن لما ذكر له الوجه المذكور وبما ذكرنا من الوجوه بطل قول قوم رعف بهم الزمان يسمّون العباسية قالوا : بان الامامة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعمه العباس لأنه الاقرب فادعوا له ما لم يدعه لنفسه وما ذكره أيضا بعض جهلة العامة ردا على الشيعة من ان الامامة ان كانت بالقرابة وجب ان يكون العباس هو الامام بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لانه العم وهو اقرب من ابن العم وعلي (عليه‌السلام) ابن العم فلا يكون له مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع وجود عمه العباس لما علمت من ان الامامية لم يسلموا اقربية العباس للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من علي (عليه‌السلام) وقد ذكرنا دليل المنع ووافقهم عليه من وافقهم من غيرهم مثل نوح بن دراج وهو من قضاة هارون الرشيد وابي بكر بن عياش وهو من الاجلاء عند العامة ولم يجعلوا القرابة بمفردها مقتضية لاستحقاق الخلافة بدون حصول باقي الشروط فاندفع الاعتراض عنهم وزال من اصله وثبت المدعي من اشتراط الاقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامام واما الحسن والحسين فاستحقا الامامة لتساويهما في قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (عليه‌السلام) فلم يكن ولد الحسن يستحقونها مع الحسين (عليه‌السلام) وهو الاقرب الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي ، ثم هي بعد الحسين لمن كان اقرب الى الامام الذي قبله مع جمعه باقي الشروط ولذا صارت بعد الحسين في ولده خاصة ولم تصرفي ولد الحسن لتساوي الجميع في القرب من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (عليه‌السلام) ، لأن ولد الحسين (عليه‌السلام) (١)

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٢٠٧.

١٤٣

اختصوا بالقرابة من الحسين وهو الامام بعد الحسن دون ولد الحسن. فكان ولد الامام اولى به بمفاد الآيتين فلم يكن ميراث الحسين (عليه‌السلام) من جده وابيه يعود بعده الى ولد اخيه دون ولده ولا يشتركون فيه ، ومن هذا بطل قول من قال من الزيدية وغيرهم بان الامامة بعد الحسين جائزة لذريته وذرية اخيه الحسن لتساوي قرابة الكل منهم الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والى أمير المؤمنين ، ومنه أيضا يفسد قول الكيسانية بانتقال الامامة بعد الحسين الى اخيه محمد بن علي وهو ابن الحنفية ثم من بعده لولده وانه هو القائم المنتظر الى غير ذلك من خرافاتهم واختلافاتهم ، لأن علي بن الحسين اقرب الى ابيه والى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من عمه محمد (رض) ، وبطل قول الاسماعيلية لان موسى (عليه‌السلام) اقرب الى ابيه ابي عبد الله ، من ولد اخيه اسماعيل اذ لا خلاف في ان الولد اقرب من ولد الولد وليست لاسماعيل إمامة في حياة ابيه اذ لا إمامة للاحق الا بعد مضي السابق واسماعيل مات قبل ابي عبد الله (عليه‌السلام) ، وبطل قول الفطحية بامامة عبد الله بن جعفر (١) لعدم العدالة فيه دون العصمة والعلم وباقي الشروط وبهذا أيضا يبطل جميع ما ذكرناه من الاقوال وغيرها من خرافات فرق الشيعة غير الامامية وغيرهم من فرق الناس والله الموفق للصواب.

__________________

(١) عبد الله بن جعفر الصادق (عليه‌السلام) يعرف بالأفطح (لأنه افطح الرأس) اي ذو رأس عريض ادعى الإمامة أو ادعيت له بحجة أنه أكبر اولاد الصادق (عليه‌السلام) بعد موته لما ورد أن الإمامة تكون في الأكبر وقد منع من ذلك أن من شروط الإمام أن لا تكون به عاهة مضافا الى الشروط الأخرى من العصمة والعلم نحو ذلك وقد روي ان الإمام الصادق قال للكاظم (عليه‌السلام) (يا بني اني اخاف ان اخاك سيجلس مجلسي ويدعي الامامة بعدي فلا تنازعه بكلمة فانه أول أهل بيتي لحوقابي) فمات بعد أبيه بسبعين أو تسعين يوما وانظر سفينة البحار ٢ / ٣٧٣ مادة «فطح».

١٤٤

المسألة الرابعة (١) في طريق الامامة وقد اختلف الناس في ذلك فذهب اصحابنا الامامية الي ان الامام يجب ان يكون منصوصا عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او مدلولا عليه من الامام الذي قبله ، او يدعى الامامة فيقيم معجزا يدل على صدقه ، ولا خلاف بين الامة في ان النص والتعيين من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر مستقل تثبت به الامامة ، وإنما الخلاف في كون النص شرطا فلا تثبت الامامة بدونه ودون الوجه الثاني ، وهذا مذهب اصحابنا (رضي الله عنهم) وهو الحق المتبع ، وذهب العامة وغيرهم من الفرق الى ان الامامة تصح بالاختيار وتثبت ببيعة اهل الحل والعقد كما تثبت بالنص ، وذهب الزيدية الى ان كل فاطمي عالم زاهد خرج بالسيف وادعى الامامة فهو إمام ، وهذا المذهب مشارك لما قبله في الضعف والوهن ، وستسمع الحجة على ابطالهما وذهب العباسية الى ان تعيين الامام يكون بالنص والميراث ومرادهم الأقربية ، ولا نزاع بيننا وبينهم الا في تعيين الاقرب الوارث وقد مر بيان ذلك من قريب ، فإن قيل انكم قلتم : ان نصب الامام واجب على الله فيكون منصوبا من قبله ثم قلتم هنا : ان الامامة تحتاج في ثبوتها الى نص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا اعتراض فيه لانه يوحي إليه فيعرفه الله الامام من بعده ويأمره بنصبه فيكون منصوبا من الله على لسان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكن الامام من اين تحصل له معرفة من نصبه الله بعده في الامامة حتى يدل عليه والوحي قد انقطع وليس الامام عندكم يوحي إليه فلا محالة يكون المدلول عليه مختار الامام الذي قبله لا منصوبا من الله فرجع قولكم في الامامة الى الاختيار أيضا قلنا : ليس الامر كما ادعيت بل لنا في الجواب عن هذا الايراد وجوه.

الاول ان الوحي وان كان قد انقطع فما انقطعت الالهامات فجائزان

__________________

(١) أي من مسائل شروط الامام.

١٤٥

يلهم الامام ويفهم من الله معرفة الامام الذي اختاره للامامة من بعد كما يلهم غير ذلك من الامور فيدل الامة على الامام بعده وينص عليه بدلالة الله اياه عليه من طريق الالهام ، وليس القول بالالهام مما نختص به نحن بل جملة من خصومنا يثبتونه لكافة اهل العرفان المسمين عندهم باهل الله من امام غيره ، وقد صرح ابن عربي محيى الدين عند الخصوم بأن المهدي اذا خرج يلهم الشريعة ويحكم بما القي إليه ملك الالهام منها (١) وصرح الحافظ جلال الدين السيوطي في الكشف بان عيسى اذا نزل يفهم جميع احكام الشريعة المحمدية من القرآن من غير احتياج الى الحديث كما فهمها منه نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لانطوائه على جميعها وان قصرت افهام الامة عن فهم ما يفهمه صاحب النبوة (٢) وقال بعضهم اظنه أبا حامد الغزالي كلاما في هذا المعنى طويلا ومن جملته قوله «فالنبوة والرسالة من حيث عينها وحكمها ما انقطعت وما نسخت وانما انقطع الوحي الخاص بالرسول والنبي من نزول الملك على اذنه وقلبه» وكان قبل هذا الكلام قال «ان النبوة والرسالة انقطعت من الوجه الخاص ثم بقي منها المبشرات» ثم قال بعد ذلك : «واما الاولياء فلهم في هذه النبوة مشرب عظيم» إلى آخر كلامه في هذا الشأن ، وقد ذكر الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا في النمط العاشر في اسرار الآيات من كتاب الاشارات صحة الالهام والعلم بالغائبات للاولياء من جهة استكمال النفس الانسانية القوة التي هي مبدأ الافعال الغريبة ، قال في موضع «إذا قلت الشواغل الحسية وبقيت شواغل اقل لم يبعد ان يكون للنفس فلتات تخلص عن شغل التخيل الى جانب القدس فانتقش فيها نقش من الغيب فساح الى عالم التخيل وانتقش في الحس المشترك وهذا في حال النوم او

__________________

(١) نقله الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٤٩. عن الفتوحات المكية لابن عربي.

(٢) نقله الصبان أيضا في الاسعاف ص ١٤٩. عن السيوطي.

١٤٦

في حال مرض ما ، يشغل الحس ويوهن التخيل» (١) ثم ذكر علل ذلك وقال بعدها : «فإذا كانت النفس قوية الجوهر تسع للجوانب المتجاذبة لم يبعد ان يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة» (١) وقال في موضع آخر مشيرا الى هذه القوة : «هذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الاصلي لما يفيده من هيئة نفسانية تصير للنفس الشخصية تشخصها وقد تحصل المزاج وقد يحصل بضرب من الكسب يجعل النفس كالمجردة لشدة الذكاء كما يحصل لأولياء الله الأبرار» وقال في موضع «إذا بلغك ان عارفا حدث عن غيب فاصاب متقدما ببشرى او نذير فصدق ولا يتعسرن عليك الايمان به فان لذلك في مذاهب الطبيعية اسبابا معلومة (١)» الى غير ذلك من كلماته المصرحة بهذا المعنى ، واذا سلم الخصوم صحة الالهام للاولياء من جهة الشرع والحكمة ثبت جوازه وحصوله للامام لانه على ما نقول ولي الاولياء وعماد الاصفياء الذي لا يشوب عمله شائبة التغير ولا يخالط حكمه شيء من التبديل فوجب ان يكون ملهما مفهما.

الثاني ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بين للامام بعده جميع ما علمه الله من العلوم والاسرار كما ذكرنا فيما مرّ ومن المعلوم ان الله تعالى اخبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعدد اوصيائه واسمائهم وصفاتهم فكان من جملة ما بينه لخليفته ثم بينه الخليفة الى من يكون بعده وهكذا وبهذا صرحت جملة من الآثار.

الثالث انه لا يبعد ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يخبر كل إمام زمان بمن يكون الامام بعده مشافهة او في المنام وليس في ذلك مانع فقد ذكر مخالفونا ذلك وجوزوه في الاولياء بزعمهم ، قال ابن عربي «جزم بعض

__________________

(١) الاشارات لابن سينا ٤ / ١٣٧ و ١٣٨ و ١٥٥.

١٤٧

المحققين القياس على جميع اهل الله لكون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشهودا لهم فإذا شكوا في صحة حديث او حكم رجعوا إليه في ذلك فاخبرهم بالامر الحق يقظة ومشافهة» انتهى (١) وقال السيوطي : «ان عيسى اذا انزل يجتمع به يعني نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا مانع من ان يأخذ عنه ما يحتاج إليه من احكام شريعته وكم من ولي ثبت انه اجتمع به يقظة واخذ عنه فعيسى اولى» (٢) انتهى وامثال ذلك من كلامهم كثيرا مثلما ذكره الواقدي في فتوح الشام من اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي عبيدة بامور كثيرة مما يدور بين النصارى من الكلام والتدبير والمشورة في المنام (٣) فاذا صح مشاهدة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عندهم للأولياء واخذهم عنه واخباره اياهم في النوم بامور من الغيب فالامام اولى لأنه سيد الاولياء ، وهذا الوجه وارد في اخبارنا أيضا فاندفع الايراد وانزاح الاشكال ، واذا تحققت ما رسمناه فأعلم ان لنا على ما ذهبنا إليه وجوها من الادلة.

الاول إنا بينا ان الامام يجب ان يكون معصوما ، والعصمة امر خفي لا يطلع عليها في أي شخص هي إلا علام الغيوب الذي أيد ذلك الشخص بها فلا يعرف صاحبها الا من قبله اما بالنص عليه او اظهار المعجزة على يديه ، اما وجوب عصمة الامام فقد اثبتناه بالأدلّة القاطعة ، واما ان العصمة امر خفي فلما علمت من معناها ، ولانه ليس في خلق الانسان ما يدل على انه معصوم او غير معصوم ، وأما ما كان خفيا فلا يعرف الا من جهة الله تعالى

__________________

(١) نقله عن الفتوحات الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٤٥.

(٢) نقله الصبان أيضا في الاسعاف ص ١٤٧.

(٣) فتوح الشام ١ / ٥٠ : وفيه أنه قال لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد أن بشره بالفتح : «فقلت : يا رسول الله أراك على عجل؟ قال لأحضر جنازة أبي بكر الصديق».

١٤٨

بأحد الوجهين المذكورين فامر ظاهر لا يحتاج الى البيان فيثبت المطلوب.

الثاني ان سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تقتضي التنصيص على الامام وذلك انه اشفق على الامة من الوالدة على ولدها حريص على ارشادهم وهدايتهم ولهذا علمهم الامور الجزئية حتى ما يتعلق بقضاء الحاجة والاستنجاء وما شاكل ذلك ، وقد وصفه الله بالرأفة بالمؤمنين والحرص على ارشادهم في الكتاب المبين ، في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) فمن كان بهذه المثابة من الشفقة على الامة والرأفة بهم لا يجوز في العقل ان يتركهم من غير ان يبين لهم مفزعهم ومن يرجعون إليه في أمور دينهم ودنيا هم فتحصل لهم بترك بيانه في دينهم الحيرة وتعتريهم في امورهم الجهالة والشبهة ، كلا ان العقل يحيل ذلك عن النبي الرءوف الرحيم بالامة ، الذي اعتنى ببيان امور لا نسبة لها بالامامة ولا تعد شيئا بالنسبة الى الخلافة فكيف يهمل الأمر الأهم من لم يهمل الأمور الجزئية من المستحبات والمكروهات ، على ان أبا بكر ما جوز لنفسه ترك بيان خليفته ، وعمر بين ان الخلافة بعده جائزة لستة وجعل الرأي لواحد منهم ولم يجوز لنفسه ترك بيان من يصلح بعده للخلافة ، أفترى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقصر في اصلاح الامة عن الرجلين وهو على ما علم من حاله في الشفقة بالامة ومن منصبه في ابلاغ الفرائض التي اعظمها وأجلها الامامة إليهم؟ وحيث ان سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تقتضي التنصيص وجب ان يكون الامام منصوصا عليه.

الثالث ان الاختيار يؤدي الى التنازع ويفضي الى التجاذب لاحتمال ان يختار كل فرقة من الناس رجلا للامامة فتقوم الفتنة بين الأئمة واصحابهم على

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

١٤٩

ساق ، وكذلك في الفاطميين على ما قاله الزيدية ، اذ لا مانع من قيام فاطميين او اكثر بالسيف يدعون الى انفسهم كل منهم عالم زاهد فيحصل من ذلك النزاع الشديد والخصام اللديد ، فيجب ان يكون الامام منصوصا عليه لدفع هذه المحذورات المنافية للمطلوب من نصب الامام ، وانت خبير بأن الفساد الذي شاع في هذه الامة من الحروب وسفك الدماء وانتهاك المحارم في الصحابة وغيرهم على ما هو مذكور ومسطور كله ناش من الاختيار في الامامة (١) والعدول عن النص ومتفرع عليه ، ولا مدفع له الا بالتزام النص على الامام ، وقد تقدم في المقدمة تحقيق في هذا المطلب ما لا مزيد عليه.

الرابع فحوى بعض الآيات وصراحة بعضها في كون الامامة موقوفة على النص من الله تعالى.

فمنها قوله عز من قائل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢) والدلالة من وجهين.

الاول ان ابراهيم (عليه‌السلام) لما شرفه الله تعالى بجعله يعني نصبه إماما طلب من الله عزوجل اسمه ان يجعل في ذريته أيضا إماما وقد علمت فيما مر من الكلام ان الامامة تجامع الرسالة وتجامع النبوة وتخلو منهما والخليل (عليه‌السلام) سأل الاعم ولم يخصص المسألة بالامامة المجامعة لاحد الامرين ، فلو كانت الامامة بجميع مراتبها تصح بالاختيار لما سأل ابراهيم ربه ان يجعل من ذريته إماما ، بل كان يختار من يشاء من ذريته وينصبه إماما ، وحيث سأل الله ذلك وطلبه علمنا ان الخليل كان يعلم من اعلام الله

__________________

(١) تقدم كلام الشهرستاني انه ما سل في الاسلام سيف كما سل في الامامة.

(٢) البقرة : ١٢٤.

١٥٠

له ان الامامة موقوفة على اختيار الله لا اختيار البشر ، وإذا لم يكن للخليل اختيار في نصب الامام فكيف يكون ذلك لسائر الناس؟ وبما ذكرناه يبطل ما احتمله الرازي في تفسيره (١) من كون الامامة المطلوبة لابراهيم النبوة ولا ينالها من عبد صنما وقتا ما على انه قد ابطل قوله هذا بما ذكرناه عنه في مسألة العصمة من جعله الآية دالة على عصمة الامام ظاهرا وباطنا وان أصحابه تركوا دلالتها على ذلك واكتفوا بالعدالة في الامام وجعلوها دليلا على اشتراط العدالة في الإمام ولا يكون هذا المعني الا في الامامة المجردة عن النبوة فثبت انه مقر بأن الامام بالمعنى الأعم هو المطلوب ثم يقول في هذا المقام : «ان مطلوب ابراهيم الامامة بالنبوة والنبوة عنده لا تكفي فيها العدالة لقوله ولا ينالها من عبد صنما وقتا ما فكان بعض كلامه مناقضا لبعض وهذا دأب القوم وديدنهم في مذاهبهم واقوالهم لضيق مسلكهم.

الثاني ان الله تعالى اجاب ابراهيم بقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فسمى الإمامة عهده ، ومن المعلوم ان عهد الله لا ينال الا من قبله وليس للخلق في جعله لانسان معين صنع ، ولو كانت الامامة تجوز عند الله باختيار الخلق وترام بذلك لقال لابراهيم ان الامامة ليست موقوفة على نصبي ونصي بل جعلت الاختيار في تعيين الامام لخلقي فاختر أنت من ذريتك من تشاء أو من عرفته في نظرك صالحا لها فانصبه إماما ، ولما لم يجب الله ابراهيم (عليه‌السلام) بذلك بل أجابه بما سمعت علمنا ان الامامة لا تكون الا بنص من الله تعالى وهو المطلوب.

ومنها قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الى ان قال تعالى : (وَقالَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ / ٣٩ ـ ٤٤ وما ذكره هنا نقله ملخصا.

١٥١

لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) (١) الآية والملك في بني اسرائيل بمعنى الإمام في هذه الامة ، لأنه منصوب ، لإقامة الحدود وإمضاء الاحكام وأخذ القصاص وتجهيز الجيوش وقتال اهل الشرك ، ودلالة الآية على المطلوب من جهات.

الاولى : إن بني اسرائيل لما ارادوا ملكا يقيم فيهم الاحكام ويقاتل بهم العدو في سبيل الملك العلام طلبوا من نبيهم ان ينصب لهم ملكا لذلك المرام ، ولو كانت الامامة جائزة بالاختيار لما احتاجوا في نصب الامام الى تعيين النبي وقالوا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) يعني انصب بل كانوا يختارون لأنفسهم من شاءوا فيجعلونه عليهم ملكا ، ولما كانوا سألوا نبيهم نصب واحد من قبله فتوقفهم عن نصب الملك وطلبهم اياه من نبيهم دليل على ان ليس لهم في الامامة اختيار.

الثانية قول نبيهم : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ولم يقل اني بعثت لكم فدلّ ذلك على ان النبي ليس له اختيار في تعيين من شاء للإمامة وانما له ان يخبر الامة عن الله بأنّ فلانا المخصوص قد جعله الله لكم إماما فالامامة إذن بالنص لا بالاختيار.

الثالثة : انهم لما أبوا إمامة طالوت وارادوا نصب من يختارون بقولهم (أَنَّى

__________________

(١) البقرة : ٢٤٧.

١٥٢

يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) الخ رد الله قولهم وأبطل اختيارهم بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) فأبان بذلك بطلان الاختيار في الامامة وعدم ثبوتها به وجعلها موقوفة على اصطفائه وهو اختيار الله جل وعز من يختار لها من خلقه لا من يختاره الخلق لها ، وبالزيادة في العلم والجسم يعني الشجاعة ومن المعلوم ان من يختار الله لا يعلم الا من قبله فوجب من صريح الآية ان يكون الإمام منصوصا عليه من الله تعالى على لسان النبي او الوصي وأن يكون اعلم اهل زمانه واشجعهم ، ولو لم يكن ذلك شرطا لم يكن لذكره معنى وحمل هذه الآية على بطلان الاختيار بعد النصر لا قبله كما قاله بعضهم فاسد مردود بالجهتين الاوليين ، وبأنهم لم يطلبوا الاستقلال بالاختيار وانما طلبوا ان ينصب لهم من يكون لهم رضا بمعنى ان يكون من يختاره الله للملك يوافق اختيارهم ويطابق غرضهم فهم من اوّل امرهم على هذا ، وقد ابطل الله اختيارهم من اصله وردّ عليهم ما اقترحوه ولم يجعل لهم في الاختيار مطلقا نصيبا فيدل ذلك بصريحه على ان الامامة ليس للخلق فيها اختيار لا على جهة الاستقلال ولا على الاشتراك فيثبت المطلوب على انه لا فرق بين الحالين في الحقيقة ، بل اذا لم يجز الاختيار بعد النص لم يجز قبله اذ ليس لاحد ان يحكم بدون حكم الله قبل الحكم وبعده.

الرابعة : قوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) دل الكلام صريحا على ان الامامة ملك الله يؤتيها من يشاء إتيانه اياها لا من يشاء خلقه فدل ذلك باوضح دلالة على ان الخلق ليس لهم اختيار ولا مدخل في اختيار الامام اصلا وانها موقوفة على اختيار الخالق مطلقا قبل النص وبعده بمعنى انه ليس لأحد ان يرد النص على واحد بعينه من الله تعالى بنظر واجتهاد ولا ان ينصب إماما من دون نصب الله اياه فازال بذلك الفرقان بين الحالين الذي ادعاه ذلك الجهول ، وهو أيضا وجه رابع في رد قوله وفساد دعواه.

١٥٣

الخامسة : قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) (١) الخ فإنه نص في ان الامامة تحتاج في ثبوتها الى دليل وبرهان وهو المعجز وليست مما تثبت لمدعيها بدون حجة ودليل ولا بقول أحد من الناس وتسميته ذلك المدعى إماما وتصديقه في دعواه الامامة ، وهذا هو نص مذهب الامامية وهو اوضح دليل على بطلان الاختيار في الامامة كما ترى ، والآية محكمة ومضمونها جار في هذه الامة ولم يرد عن احد من المفسرين السابقين من العامة والخاصة انها منسوخة الحكم أو أن حكمها مخصوص ببني اسرائيل دون هذه الامة فلا يجوز لهم الاختيار في الامامة خاصة دوننا بل عامة لهذه الامة انزلها الله لبيان سنته في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا فتكون حجة على من قال بالاختيار في الامامة ، فما قاله جاهل من حشوية العامة (٢) بأن مضمون الآية مخصوص بالأمم السالفة دون هذه الأمة زور وبهتان وظلم وعدوان وذلك مبلغه من العلم ، وليس دعوى النسخ مما ثبت باللسان من دون حجة ولا بيان ولا حجة على النسخ الا العصبية والعناد والميل الى شهوة النفس وردها الحق لتصحيح ما فعله الاسلاف ، وهذا مما لا يعبأ به عند المناظرة والحجاج ولا تقوم به حجة ولا يصح به حكم ، على ان هذا الحكم مما لا تختلف فيه المصالح بحسب الأزمان والأشخاص حتى يعرض له النسخ والتخصيص بل حاله كحال النبوة التي لا تصح او المعجزة لانها خلافة عن النبوة فسبيلها في جميع الامم واحدة.

ومنها قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٣)

__________________

(١) البقرة : ٢٤٨.

(٢) الحشوية : طائفة تنفي التأويل وكأن الاسم مأخوذ من حشو الكلام وهو الفضول منه.

(٣) القصص ٦٨.

١٥٤

دلت الآية على نفي الخيرة للخلق مطلقا في الخلق والحكم فليس لهم ان يثبتوا حكما ولا ينفوا حكما من قبل انفسهم ولا ان يختاروا احدا فيقدموه في منزلة ويأخروا غيره عنها بل الحكم في ذلك كله لله تعالى ، فكانت الآية ناصة على أنه لا يجوز لأحد ان يختار إماما فينصبه في الإمامة؟؟؟ بعد نص الله وقبله كما هو مفادها اذ لو صح ذلك لكان مناقضا لمدلول الآية وحيث بطل الاختيار في كل شيء بطل الاختيار للناس في الامامة فوجب ان يكون الامام منصوصا عليه.

ومنها قوله تقدس وتعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الآية (١) وهي وإن كانت ظاهرة في نفي الاختيار بعد النص لا قبله الا انا قد بينا انه لا فرق بين الأمرين وانه ليس لأحد أن يوجب حكما او ينفي واجبا من دون ايجاب الله ونفيه ولا ان يعطى احدا منزلة ويثبت له مقاما لم يعطه الله إياه ولم يثبته له وقد كان ذلك فيما قضاه الله وانزله في كتابه حيث يقول (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٢) وغيرها من الآيات فلا يجوز لاحد أن يختار شيئا ويوجبه لم يختره الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يحكما به.

ومنها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣) ومن البين ان في آل ابراهيم أنبياء وأئمة بإمامة مجردة من النبوة كالملوك المنصوبين من قبل الله في بني اسرائيل والاصطفاء واقع على

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

(٢) الأنعام : ٥٧.

(٣) آل عمران : ٣٣.

١٥٥

الجميع فتكون الامامة باصطفاء الله كالنبوة ، اذ لا تخصيص في الآية بالنبوة وإذا كانت الإمامة باصطفاء الله بطل أن تكون ثابتة باختيار الناس.

ومنها قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (١) والملك العظيم هو الامامة ، وهو حاصل بإيتاء الله وإذا كانت الامامة لا تكون الا بإيتاء الله بطل ان تكون باختيار من الناس وثبت من مدلول هذه الآيات الظاهرات توقف الامامة على النص وعدم صحتها بالاختيار ، ولعمري ان الاحتجاج بها على المطلب كاف لاولى الانظار المجانبين لطريق الاستكبار والله الهادي.

الخامس ان الامامة خلافة الله في ارضه لا ينكر ذلك احد من اهل العلم والمعرفة وقد صرح بذلك الخلفاء حتى الّذين كانت خلافتهم بالاختيار فكانوا يسمون انفسهم خلفاء الله كما لا يخفى على من قرء السير والاخبار والتواريخ والآثار ، وما زال الناس من ذوي الفضل يقولون في الامامة انها خلافة الله في (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) وقال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (٣) وقال تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٤) ومن المعلوم الذي لا يشك فيه احد عاقل ان خلافة الله لا تنال الا من قبله ولا تثبت لاحد الا بنصبه ونصه ولا تعلم الا من قوله لا من قول الناس ، وانت خبير بان خلافة احد من البشر فيما له

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.

(٢) سورة البقرة : ٣٠.

(٣) سورة ص : ٢٦.

(٤) الأعراف : ١٤٢.

١٥٦

الولاية عليه لا تصح لأحد من الناس الا باستخلافه ونصه عليه ولا تعلم الّا من قبله ولا تصح بنصب غيره افترى ان خلافة الله تصح بدون اذنه وتثبت لأحد من الناس بنصب الخلق اياه فتقصر حرمة الخالق عن حرمة المخلوق ، واذا كان خلافة الله لا تحصل الا من قوله تعالى كما هو معلوم وجب ان يكون الامام منصوصا عليه لأنه خليفة الله.

السادس وهو مؤلف من مقدمتين الاولى انه لا يجوز لاحد من الناس ان يوجب شيئا او يحرم شيئا بهواه ورأيه من تلقاء نفسه من غير دليل من كتاب الله او سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان من اوجب شيئا او حرمه سئل من اين اخذه فان اقام عليه شاهدا من كتاب او دليلا ثابتا من سنة قبل منه والا رد عليه وابطل قوله وادخل في جملة القائلين على الله بغير علم والمفترين على الله الكذب ، وهذه المقدمة مما صح عليها اتفاق المسلمين قولا فإنّك لا تجد احدا من الناس يقول انه يجوز الحكم في ايجاب او تحريم بدون حكم الله ولا انه يجوز مخالفة الله في حكمه وقد ورد القرآن الكريم بالنهى عن القول على الله بغير علم ولعن الكذبة المفترين وورد مثله في سنة سيد المرسلين بما لا يحصى كثرة من الآيات والروايات مثل قوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١) وغير ذلك من الآيات وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما تواتر واستفاض عنه (كثرت على الكذابة فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (٢) فمن المتيقن ان الموجب والمحرم

__________________

(١) ابين القوسين ابعاض آيات من الاسراء ٣٥ والبقرة ١٦٩ والنحل ١١٦ ويونس ٥٩.

(٢) صحيح مسلم ١ / ١٨.

١٥٧

بغير حجة من الله كاذب على الله وعلى رسوله ومفتر عليهما الكذب فيكون مستحقا للعن ومستوجبا للبعد من رحمة الله لأن الله يقول (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (١) ويكون الحاكم بدون دليل من الشرع الشريف حاكما بخلاف ما انزل الله فيدخل في عموم قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٢) ثم كيف يجوز لأحد من الناس الايجاب والتحريم والتحليل بدون قول الله تعالى والنبي الذي هو سيد الرسل لم يكن له ذلك بل هو مأمور بأن يحكم بحكم الله ولا يتعداه ولا يعمل بسواه قال الله تعالى خطابا له (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٣) وقال (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤) وقال (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٥) ولم يقل له احكم بما تراه انت وما تشتهيه ، ومعنى أراك اعلمك وقال (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٦) وقال تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٧) وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى واذا كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منهيا عن الحكم برأيه مع أنه أسد البرية رأيا افترى يجوز الله الحكم بالرأي لسائر الناس؟ وإذا لم يجعل الله للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر التحليل والايجاب والتحريم ا فيجوز ان يجعل ذلك لغيره؟ فثبت من ذلك كله ان الموجب والمحرم بدون حجة من الله من كتاب او سنة متعمد للكذب على الله

__________________

(١) آل عمران : ٦١.

(٢) المائدة : ٤٤.

(٣) الأنعام : ١٠٦.

(٤) الشورى : ١٥.

(٥) لنساء : ١٠٥.

(٦) آل عمران : ١٢٨.

(٧) الحاقة : ٤٦.

١٥٨

ومفتر عليه ، ومتعمد الكذب على الله كافر مستحق اللعن والعذاب والطرد من رحمة الله والابعاد كما عرفت أو لا.

الثانية : ان الامام هو الرئيس الذي تجب على المسلمين طاعته وتحرم على المكلفين معصيته وتجب موالاته ومعاداة اعدائه ، والنصيحة له ولزوم جماعته وهذا امر متفق عليه لا يحتاج الى الاطالة فيه بنقل الادلة ، ويكفيك منه ما بين في المقدمة مما اوضحناه هناك فحينئذ نقول لاهل الاختيار اذا بدر جماعة من الناس قلوا او كثروا بعد موت النبي فبايعوا رجلا ونصبوه إماما فانهم لا محالة اوجبوا بذلك على المكلفين طاعته وحرموا عليهم معصيته فهل اوجبوا ما أوجبوه لذلك الرجل من الطاعة وحرموا ما حرموه له من المعصية وسموه إماما بنص من الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه بالخصوص ليكونوا قد اوجبوا وحرموا بحكم الله؟ أم بهوى انفسهم وميل شهوتهم؟ فإن كان الاول فذلك خارج عن معنى الاختيار ومطابق لقولنا ان الامامة لا تكون الا بنص من الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا اختيار على هذا ، وان كان الثاني كانوا بايجابهم ما لم يوجبه الله وتحريمهم ما لم يحرم داخلين في زمرة المفترين على الله الكذب والقائلين عليه بغير علم ، اذ قد علمت من صريح الآيات ان الله تعالى لم يفوض الى احد ان يحكم بما اراد في دينه من وجوب وتحريم عموما ولا خصوصا ، ومن ادعا ذلك فعليه البيان وإقامة البرهان واني له بذاك ، فبطل بذلك الاختيار في الامامة لاستلزامه كذب المختارين على الله ، ولو كلفهم الله باختيار الامام لاغتفر لهم القول عليه بغير علم لكنه تعالى لم يغتفر ذلك لأحد ، اللهم الا ان يقولوا ان الامام على وجه الاختيار لا تجب طاعته ، وإنما هو كالملوك الجائرين فحينئذ يخرج من معنى الامامة الشرعية ونستريح من كلفة تصحيح إمامته وابطالها ، ومن هذا يعلم انه لا تثبت الامامة الا بالنص وليس الاختيار بطريق لها.

١٥٩

السابع انه لا شك ان الامام يجب ان يكون مصلحا لامر الرعية مع صلاحه في نفسه في الدين والدنيا ويجب ان يكون عادلا في الاحكام الشرعية جميعها فلو تعدى حكم الله في شيء من الاحكام لكان مفسدا مبتدعا مفتريا للكذب على الله مستحقا لاسم الظلم والكفر لحكمه بخلاف حكم الله وليس مثل هذا بامام قطعا عند اهل الدين ، فنقول حينئذ لاصحاب الاختيار إذا قلتم بأنّ الامامة تثبت بالاختيار فاخبرونا عنكم تريدون إماما مصلحا أم مفسدا؟ لا سبيل لهم الى الثاني بل لا بد من ان يقولوا نريد إماما مصلحا ، فيقال لهم : فهل يجوز ان تقع خيرتكم على الافسد وانتم تظنون انه الاصلح أم تقولون ان خيرتكم لا بد ان تقع على الاصلح وتوافق خيرة الله في باطن الامر؟ فإن قالوا : بالاول قلنا : فقد بطل بهذا صحة الامامة بالاختيار لاحتمال كون المختار مفسدا وعدم القطع بكونه مصلحا فلا يكون مقطوعا بصلاحه للامامة لعدم الجزم بحصول ما هو شرط في الامام فيه وهو الصلاح ، لان المفروض هو كون الاختيار غير مقتض لصلاحه ولا موجب لإصلاحه فبطلت إمامته لبطلان شرطها ، وان قالوا بالثاني قلنا لهم فيلزم من ذلك دعواكم علم الغيب ومعرفة العواقب ويلزم ان تكونوا اسد رأيا من اعاظم الأنبياء المرسلين فانا وجدنا منهم من اختار في امور ليس لها خطر الامامة احد يظن انه صالح لما اختاره فبان انه غير صالح لذلك في باطن الغيب فلم توافق خيرته خيرة الله.

هذا موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما واصطفاه برسالاته وفرق له البحر وانزل عليه التوراة وظلله وقومه بالغمام الى غير ذلك مما اعطاه اختار من قومه وهم ألوف سبعين رجلا لميقات ربه ليكونوا شهودا له عند قومه على خطاب الله تعالى اياه وهو يظن انهم صالحون فكفروا كما حكى الله تعالى من خطابهم لنبيهم موسى بقوله عزوجل وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ

١٦٠