منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

الشيخ علي البحراني

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف:

الشيخ علي البحراني


المحقق: السيد عبدالزهراء الخطيب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المنتظر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٠

المسألة الأولى :

في عصمة الامام وينبغي أوّلا بيان معنى العصمة ، فقد اختلف فيها المتكلمون بعد الاتّفاق على انها في اللغة المنع ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) وقوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (٢) فذكر اصحابنا انّ العصمة لطف خفي يفعله الله تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داع الى ترك الطّاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك ، وفسّرها بانها الأمر الّذي يفعله الله من الالطاف المقربة الى الطّاعات الّتي يعلم معها انّه لا يقدم على المعصية بشرط لا ينتهي ذلك الأمر الى الإلجاء ، وفسّرها بعض آخر بانّها ملكة نفسانية لا تصدر عن صاحبها المعاصي ، وكلّ هؤلاء متّفقون على ان العصمة لا يشترط فيها سلب القدرة على المعصية ، وذهب قوم الى اشتراط سلب القدرة على المعصية في العصمة ، ثم اختلفوا في معناها فقال قوم : انّ المعصوم مختصّ في بدنه وفي نفسه بامر يقتضي امتناع اقدامه على المعصية فالعصمة على هذا هي ذلك الأمر المذكور ، وقال بعض : انّ العصمة هي القدرة على الطّاعة وعدم القدرة على المعصية ، وهو قول ابي

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) هود : ٤٣.

١٠١

الحسين البصري ، (١) واصحابنا رضوان الله عليهم لا يختلفون في قدرة المعصوم على المعصية لكنه لا يفعلها ، ولا يصح نسبتها إليه ، بل ينبغي ان يقال : انّه لا يشترط في العصمة الا تخطر المعصية بباله اذ لو لا ذلك لكان مسلوب القدرة ، والاصح ما قاله اصحابنا : انّ المعصوم لو لم يكن قادرا على فعل المعصية لما كان مكلّفا بتركها اذ شرط التكليف بالشيء القدرة على فعله وتركه اذ لا يصحّ ان يقال انّ الانسان مكلّف بترك الطيران الى السّماء كما انّه لا يجوز ان يكلف بالطّيران إليها لعدم الاستطاعة الى ذلك والتّالي باطل فقد علمنا بتوجّه الأمر والنّية الى المعصومين من الأنبياء والأوصياء واذا بطل التالي بطل المقدم ، وأيضا لو كان المعصوم غير قادر على فعل المعصية لما استحق على تركها ثوابا ولا مدحا لأنه في تركها مجبور على الترك وملجأ الى الاجتناب ، ولا مدح لمجبور ولا ثواب لملجإ كما لا يخفى والكلّ باطل بالاتّفاق اذ لا نزاع في استحقاق المعصوم على ترك المعصية المدح والثواب والكتاب دال عليه فالمقدم باطل أيضا ، اذا عرفت هذا فاعلم انّ النّاس قد اختلفوا في ان الامام يجب ان يكون معصوما أم لا؟ فذهب اصحابنا الامامية ووافقهم الاسماعيليّة الى انّ الامام يجب ان يكون معصوما من اوّل عمره الى آخره عن ارتكاب المعاصي كبائرها وصغائرها وعن الخطأ في الأحكام ، وقال باقي الفرق لا يجب في الامام العصمة بل تكفي العدالة ، والأصح هو مذهب اصحابنا ولنا على ذلك وجوه من الادلّة عقلا وسمعا.

الاوّل : ان المحوج الى الامام هو جواز الخطأ على الامّة في العلم والعمل فلو جاز الخطأ على الامام فيهما لوجب له امام آخر وذلك الامام أيضا ان كان معصوما ثبت المطلوب والا احتاج الى امام آخر فيتسلسل الى غير النّهاية

__________________

(١) ابو الحسين البصري : محمد بن علي الطيب من اعلام المعتزلة ومتكلميهم توفي سنة ٤٤٦ ومن كتبه غرر الأدلة أشار إليه ابن ابي الحديد في شرح النهج في اكثر من موضع.

١٠٢

والتّسلسل باطل فوجب ان يكون الامام معصوما دفعا للزوم التسلسل لولاه ، واجاب القوشجي عن هذا الدّليل بانّ للاشاعرة ان يقولوا لا نسلم ان الحاجة الى الإمام لما ذكرتم ، بل لما ذكرنا في وجوب نصب الإمام ولا يلزم ان يكون معصوما.

اقول : وجوابه قد عرفته فيما سبق عند ايراد ما احتج به على وجوب نصب الامام سمعا فانا بيّنا هناك بطلان ما قال وبيّنا انّ الحاجة الى الامام هو ما ذكرناه لا ما ذكره خاصّة بما لا مزيد عليه.

الثاني : انّ الامام حافظ للشرع فلو جاز عليه الخطأ لم يكن حافظا له هذا خلف اما انّه حافظ للشرع فلما نبيّنه وما بيّناه في المقدمة ، وامّا ان المخطئ غير حافظ للشرع فظاهر لا يحتاج الى بيان فوجب ان يكون الامام معصوما.

واجاب القوشجي عنه بانّ الامام ليس بحافظ للشرع بذاته بل بالكتاب والسّنة واجتهاده الصّحيح فان اخطأ في اجتهاده فالمجتهدون يردّون والآمرون بالمعروف يصدون وان لم يفعلوا أيضا فلا نقص للشريعة القويمة.

اقول : هذا الجواب فاسد اما قوله : ليس حافظا للشرع بذاته ، فما ادرى ما عنى به؟ فان كان يعني ان الامام علمه ذاتي كعلم البارئ تعالى لا يحتاج الى التعلم فذلك ما لا يدعيه احد من النّاس ، وانما المدّعي كونه معلما من الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جميع ما يحتاج إليه النّاس في امور دينهم ودنياهم ومفهما من الله علم التأويل بحيث لا يشذ عنه حكم واقعة من الوقائع ولا يسأل عن شيء الا وهو يعلمه من كتاب الله علما لا تغير فيه ولا تبديل ولا اختلاف وليس علما اجتهاديا وحكما نظريا يختلف باختلاف النظر ويتغيّر بتغيّر الاجتهاد ، وان عنى بقوله بذاته هذا المعنى المدعى فليس هذا علما ذاتيا وانّما هو علم من الكتاب والسنة وليس بخارج عنهما لكنه علم يقيني لا يتطرق

١٠٣

عليه التبدل والاختلاف بتبدل الانظار واختلاف الاعتبار فيخطئ تارة وطورا يصيب كحال ائمة المجيب ، وامّا قوله واجتهاده الصّحيح فهو مناقض لقوله فان اخطأ في اجتهاده فاين الصّحة مع الخطأ ، وقد تقدم منا تحقيق بطلان الاجتهاد الّذي عناه الّذي هو ملازم لمخالفة الحق دائما وانّه ليس طريقا لبيان احكام الله ولم يتعبد الله عباده به في المقدّمات الخمس واوضحناه اتم الايضاح وسيأتي له مزيد بيان.

وبالجملة انا اثبتنا ان الامام حجة الله على خلقه والحجّة لا تقوم بالمجتهد لجواز الخطأ عليه كما اعترف به المجيب في كلامه ، وقوله : فالمجتهدون يردّون فيه الحكم بانقلاب المحجوج حجّة والمأمور الّذي تجب عليه الطّاعة اميرا واجب الطاعة وهذا اخراج للامام عن الامامة لما علمت انّها رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا والمردود عن اجتهاده مرءوس لا رئيس ومحكوم عليه لا حاكم ، وقوله : والآمرون بالمعروف يصدون ، اظهر قبحا فان المصدود الممنوع من إمضاء الحكم من سائر الرّعيّة واداني النّاس ليس له رئاسة على احد ، وليت شعري أيّ إمامة ورئاسة تبقى لذلك الامام الذي لا يؤمن عليه الخطأ في الأحكام مع ردّ الرّعية اجتهاده وابطالهم قوله ومنعهم اياه من امضاء الحكم الّذي اجتهد فيه؟ وهل هذا على ما ذكر الّا مأمور منهي يساس ويؤدب من رعيته الّذي نصب لسياستهم وتأديبهم فلا يكون على هذه الحالة إماما البتة مع ما يلزم من وجوب طاعة مجتهد ومخالفة آخر وذلك ان الامام اذا اجتهد في حكم فخالف فيه اجتهاد قوم مجتهدين قد اختلفوا؟ أيضا على قولين او ثلاثة ، لما علمت من انّ الاجتهاد غير منضبط فحينئذ كلّ فريق يخطئون الامام ويأمرونه بالرّجوع الى قولهم فليخبرنا القوشجي عن امامه ذلك عن رأي اي الفرق يصدر وبقول ايّهم يأخذ ولأمر ايّهم يطيع مع لزوم الترجيح من دون مرجّح في تقديم تقليده لكل واحدة من الفرق على الأخرى والاقتداء بها دون اختها ، فهو مرتهن دائما بعصيان فرقة لطاعته الأخرى

١٠٤

ومصدود عن الأمر دائما لدوام اختلاف المجتهدين؟ افترى هذا إماما أم هو اذلّ المأمومين؟ وبعد فمن اين توجه عليه الخطأ في الاجتهاد عند القوشجي واصحابه واحتيج الى الانكار عليه من المجتهدين مع حكمهم بان كل مجتهد مصيب؟ وهل يبقى على هذا القول فضل لمجتهد على مجتهد آخر حتّى يكون احدهما يرد الآخر عن اجتهاده ويصدّه عن حكمه؟ ثمّ لو قلنا بعدم الاصابة في الاجتهاد الّذي هو مخالف لقول المجيب فمن اين علم ان المخطئ هو الامام وانّ المصيب غيره؟ وهل يعلم ذلك إلّا من هو مطلع على باطن حكم الله في الواقع؟ واذا وجد هذا فهو الامام لا محالة ، لا ذلك المجتهد المخطئ والمجيب ينفيه فيلزم حينئذ عدم جواز ردّ مجتهد من النّاس اجتهاد غيره الامام ومن سواه لتساويهم في عدم العلم بالاصابة او الخطأ على القول بالتخطئة وفي الإصابة معا على القول بالتصويب ، فلا يكون لواحد رئاسة على الآخر فلا امام ولا مأموم الّا الرّعاع والاوباش فانّ امامهم من يقلدونه ، فما اكثر الأئمة على هذا القول لو كان قائلوه يشعرون ولما قالوه يفهمون ، وقوله : فان لم يفعلوه الخ فهو افحش من الجميع لأنّه اخراج للأمر بالمعروف الواجب عن الوجوب ولا يخفى ما فيه من المناقضة ، وقوله فلا نقص للشّريعة القويمة ، ان اراد انّ عصيان المجتهدين بترك ردّ امامهم المخطئ وترك الانكار عليه لا يغيّر حكم الله ولا يبدّل فرضه فلا ينقلب به الحرام حلالا ولا الحلال حراما بل يلزم العاصي الأثمّ على المعصية فذلك صحيح عندنا لكنّه لا يرضى به لاستلزامه اتّفاق الامّة على الخطأ وهو خلاف مذهبه ، وان اراد انّ عصيان المجتهدين في تركهم النكير على امامهم الخاطئ لا يوجب الاثم لهم ولا يخرجهم من حيّز العدالة وعصيان الامام وخطؤه لا يبطل إمامته فذلك باطل باتّفاق الامّة والنّص من الكتاب والسّنة ، ومن المحال ان يكون كفّ النّاس عن انكار المنكر مسقطا عنهم الاثم ومجوّزا لفاعل المنكر فعله ، والحاصل ان هذا الكلام تدليس وتلبيس لا معنى له ولا فائدة فيه وانت بعد الاحاطة بما

١٠٥

قررناه لا ترتاب في بطلانه وبذلك يسلّم دليلنا من الإيراد ويتمّ به المراد.

الثالث (١) : انّ الامام لو اقدم على المعصية لوجب الانكار عليه وهو مضادّ لوجوب اطاعته الثابت بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) ومفوت للغرض من نصبه وهو امتثال اوامره واجتناب مناهيه واتباعه فيما يفعله فيكون من تجب طاعته والاقتداء به في القول والفعل يجب الانكار عليه والبراءة من فعله ، او يلزم الاثم بترك النكير عليه ، او يخرج الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عن كونهما واجبين ، وكله باطل فوجب ان يكون الامام معصوما لدفع هذه المحذورات ، واجاب عنه القوشجي بان وجوب الاطاعة انّما هو فيما لا يخالف الشرع ، واما فيما يخالفه فالردّ والانكار فان لم يتيسر فسكوت عن اضطرار أقول : وهذا ليس بجواب عن الدّليل بالمرّة ، وانّما هو تدليس وتشبيه على غير ذي الرويّة ، لأنّ قوله : ان وجوب الاطاعة انّما هو فيما لا يخالف الشّرع مسلم لا ينكره احد ولا ندّعي خلافه وكذلك قوله وامّا فيما يخالفه فالردّ والانكار صحيح مسلم وهو خلاف المدعي ، فانّ المدّعى انّ الامام لا يجوز عليه الخطأ وارتكاب المعصية ، ولو جاز عليه ذلك فحين يواقع الخطيئة ان وجب الانكار عليه خرج عن كونه واجب الطّاعة وهو واجب الطّاعة بالنّص والاجماع ، وان لم يجب الانكار عليه خرج الواجب عن كونه واجبا وهو كذلك باطل فحينئذ وجب كونه معصوما لا يواقع معصية ولا يحتاج الى الانكار عليه ويكون الرّاد عليه قوله رادّا على الله ورسوله ، وليس المدّعي انّ الامام يخالف الشرع فتجب اطاعته في مخالفة الشّرع ولا يجوز الانكار عليه وجوابه انّما يتوجّه علينا لو كان هذا مدّعانا وليس هذا هو فسقط الجواب من اصله ولا يتوجّه له الجواب الّا باقامة حجّة على منع اللّوازم الباطلة مثل ان يمنع وجوب الإنكار على الامام اذا عصى

__________________

(١) أي من الأدلة على وجوب عصمة الامام.

(٢) النساء : ٥٩.

١٠٦

ويقيم عليه دليلا وغير ذلك من اللّوازم المذكورة في الدّليل مع مباشرة الامام المعصية وهو لم يقم على منع شيء منها حجّة بالمرّة ، فليس ايراده بوارد علينا بل هو ممّا نقول به ونجعله جزءا من الدليل كما ترى ، وقوله : فان لم يتيسّر فسكوت عن اضطرار واه جدّا ، لأنه يستلزم امرين قبيحين : اما كون ذلك الامام العاصي متظاهرا بالمعصية ومتغلبا على الامّة بمن يوافقه من العاصين بحيث يبلغ تغلّبه الى خوف اهل العلم والفضل من الانكار عليه اذا عصى ولا يقدرون على اظهار النكير عليه لتجبّره وتكبّره عن قبول الحق والعمل به ومعلوم انّ هذا ليس بامام مرشد ولا رئيس عادل ، بل هو ظالم جائر وجبّار فاسق ولا يصلح ان يكون إماما الّا للقوشجي وامثاله وليس كلامنا في مثل هذا العنيد المريد ، ولا يجوز للقوشجي ان يناضل ويخاصم عن مثل هذا الامام الفاجر الّذي يدعو الى النار ويتكلف لنصرته كلاما مسجّعا لا حقيقة له يشبه سجع الكهّان ، وليس هذا بامام اصلا حتّى نحتاج الى البحث عنه ، وهذا المعنى هو الاقرب والانسب بعدم تيسر الانكار والسكوت عن اضطرار في كلامه ، أي انّ النّاس يضطرون الى السّكوت عن ذلك الامام فلا ينكرون عليه لخوفهم من شرّه وطغيانه ، وامّا كون الامّة موافقين له على المعصية فاضطروا الى السّكوت لاتفاق الجميع على العصيان وهذا كما ترى مستلزم لاجماع الامّة على الخطأ واتفاقهم على الباطل والا كيف يتصوّر عجز كافتهم وعدم قدرة جميعهم عن الانكار على ذلك الفاسق لو لا مواطاتهم معه على الخطيئة وهو باطل عنده فبطل جوابه من جميع وجوهه وصحّ دليلنا ، اللهم الا ان يقول انّ الامام لا يشترط فيه العدالة أيضا كما يفهم من كلام جماعة من قدماء العامة وحينئذ يلزمه الائتمام بمن وجبت منه البراءة بقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) فيستحق ما وعد الله من العذاب والخزي على ولاية الظّالمين ومعونتهم وبئس هذا المذهب مذهبا.

__________________

(١) هود : ١١٣.

١٠٧

الرّابع (١) : ان الامام لو اقدم على المعصية للزم من ذلك انحطاط درجته عن اقل العوام لانّه اعرف بمثالب المعاصي ومناقب الطّاعات فصدور المعصية منه اقبح من صدورها من العوام وذلك ينافي علوّه وابّهة رئاسته ويكون انزل درجة من العوام ورعاع النّاس فوجب ان يكون معصوما ، ولا قدح للقوشجي فيه وكانه لا يمنع كون الامام ناقص الدّرجة عن عوام النّاس كما يظهر من كلاميه المتقدمين.

الخامس (٢) : انّ الامام امين المسلمين على دينهم وخازنهم على اموالهم فلو لم يكن معصوما لم يؤمن عليه من تغيير الاحكام والمحاباة في القضاء بين المسلمين والايثار بالمال لرغبة او رهبة كما وقع لائمة القوم فيجيء الفساد من حيث طلب الصّلاح ، والعدالة لا تكفي لجواز ارتفاعها عند عروض الاسباب الداعية الى ما ذكرنا اذ ليست من الصّفات اللازمة فلا يحصل بها الأمن اليقيني من تغيير الاحكام والايثار بالمال فلا تنحسم بها مادّة التّهمة المثيرة للخلاف والفتنة فوجب كون الامام معصوما لحسم تلك المواد المنافية للغرض من نصب الامام الّذي من جملته حصول الالفة به.

السادس (٣) : انّه لو لم يكن في الامّة معصوم يجوز عليه الخطأ في الاحكام لم يكن اجماعهم حجّة لجواز الخطأ على كلّ الافراد فيجوز على الجملة كما بينّاه أوّلا ويشير إليه قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٤) وقول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (الا لا ترجعنّ بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسّيف) (٥) فانّ هذا الخطاب لا

__________________

(١) اي من الأدلة على وجوب عصمة الامام.

(٢) كذلك.

(٣) كذلك.

(٤) آل عمران : ١٤٤.

(٥) أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه في كتاب العلم باب الانصات للعلماء

١٠٨

يوجّه الا لمن يجوز عليه الخطأ وهو كما ترى موجّه الى الجملة فيخرج الاجماع عن الحجّيّة لكنّه حجّة عند الخصوم فيجب ان يكون في المجمعين من لا يخطئ في الحكم لتثبت بوجوده في المجمعين حجّيّة الاجماع ويجب ان يكون ذلك هو الامام لانّه اولى النّاس بهذه المنزلة فالامام معصوم.

السّابع : انّه قد حصل الاتفاق في النّقل عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (لا تزال طائفة من امتي على الحق حتى تقوم الساعة) (١) وحينئذ ان كانت تلك الطائفة فيهم معصوم من الخطأ يرجعون الى قوله ويأخذون بحكمه ويعتمدون في الدّين على بيانه فذلك المراد ويكون ذلك هو الامام لما ذكرنا من قريب ، وان لم يكن فيهم معصوم بتلك المثابة وجب ان يكونوا كغيرهم من الطوائف يخطئون ويصيبون فلم يكونوا على الحق أبدا اذ لا خصوصيّة لهم على غيرهم من الفرق وعلى هذا توجب لهم دوام الاصابة ولا مانع لهم عليه من الخطأ ، فمن أيّ وجه كانوا ملازمين للصّواب مستمرّين على الحقّ على أن لازم ذلك كون الطائفة بأسرهم معصومين ولا قائل به بل هو خلاف ما قاله خصومنا من انتفاء معصوم في الامّة فيجب أن يكون الاوّل هو المقصود ، وهو ان تلك الطائفة فيهم من لا يجوز عليه الخطأ في الاحكام وهم تابعوه في أقواله وافعاله فكانوا بتبعية المعصوم معصومين من الخطأ وذلك المعصوم هو الامام وهو المطلوب ولو قلنا بانّ الطائفة التي لا تزال على الحق

__________________

١ / ٣٨. وفي كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل ويلك ١ / ١١٢ وليس فيهما لفظة «بالسيف».

(١) اخرجه البخاري في صحيحه ٤ / ١٨٧ كتاب المناقب (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) وأخرجه البخاري أيضا ٨ / ١٤٩ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق) وفي نور الأبصار للشبلنجي ص ١٧٠ (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق الى يوم القيامة).

١٠٩

هم الائمة امام بعد امام لكان ذلك ادلّ على المراد من اثبات عصمة الامام من الاوّل فتأمّل.

الثامن : قوله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) وجه الدلالة أنّ الآية تضمّنت سؤال ابراهيم الخليل ربّه القاهر الجليل ان يجعل من ذرّيته إماما فاجابه الله تعالى بانّ الامامة وهو قوله (عَهْدِي) لا تنال الظالمين فلا يكون من جرى عليه اسم الظلم لها اهلا ولا لمقامها مستحقا إذ من المعلوم ضرورة أن الخليل (عليه‌السلام) لم يسأل الامامة لظالم في حال ظلمه ولا لعاص في وقت عصيانه ، وانّما سألها لمن كان من ذريته في حال استقامته وصلاحه ، فأخرج الله منها الظّالم فيلزم أن يكون المراد بالظالم من جرى عليه اسم الظّلم وقتا ما فيجب من ذلك ان يكون مستحق الامامة من لم يجر عليه اسم الظلم من أوّل عمره الى آخره وذلك معنى العصمة ، ثمّ انّ الظلم يطلق على الشّرك والكفر وسائر المعاصي فمن اطلاقه على الشرك قوله تقدّس وتعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) ومن اطلاقه على الكفر قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ومن اطلاقه على سائر المعاصي قوله تعالى : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٤) فسمى اخذ الربا ظلما ونقص الغريم رأس مال معامله ظلما وليس واحد منهما بكفر اتفاقا وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (٥) معلوم انّ المراد من عدم محبّة الله الجهر بالسوء من القول في المسلمين لا في الكفار اذ لا

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) لقمان : ١٣.

(٣) البقرة : ٢٥٤.

(٤) البقرة : ٢٧٩.

(٥) النساء : ١٤٨.

١١٠

حرمة لهم في الاسلام بالاجماع فكان معنى الآية أنّ من ظلم مسلما في ماله أو عرضه أو بدنه من المسلمين جاز للمظلوم ان يذكره بسوء ما صنعه ، وليس غصب مال مسلم أو شتمه مثلا أو ضربه بغير حق كفرا وقد سمّاه الله ظلما ، وقوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) الآية. (١) واذا كان المقتول مظلوما فالقاتل ظالم البتّة وليس القتل بكفر وقد سمّاه الله ظلما وقوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ـ الى قوله ـ (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (٢) فسمى القتال في الاشهر الحرم ظلما وهو ليس بكفر وقوله عزوجل : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٣) فجعل حرمان الفقراء والمساكين من حصتهم وهو حقهم عند صرام اصحاب الجنّة جنّتهم ظلما وهو ليس بكفر الى غير ذلك من الآيات الّتي يطول تعدّدها ، فحينئذ وجب في الامام العصمة من جميع الذّنوب الّتي يصدق عليها اسم الظلم والكفر وغيره من المعاصي من أوّل عمره الى آخره لئلا يكون اسم الظّلم جاريا عليه في بعض احواله واطواره فيخرج عن استحقاق الامامة الّتي هي عهد الله ويسقط حظه عن نيلها لاشتراط كون الامام غير ظالم في صريح الآية ، فالآية المذكورة ـ ولله الحمد ـ صريحة في وجوب عصمة الامام غاية الصراحة لا تقبل التأويل وقد اعترف الفخر الرّازي وهو من اعاظم المخالفين بدلالتها على ذلك في تفسيره وصرح بانّهم تركوا العمل بمضمونها على عمد قال : «امّا الشيعة فانّهم يستدلون بها على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهرا وباطنا ، وامّا نحن فنقول مقتضى الآية ذلك الّا انا تركنا الباطن فتبقى العدالة معتبرة» (٤) انتهى فانظر لكلامه وتصريحه بمخالفتهم مقتضى الآية من

__________________

(١) الاسراء : ٣٣.

(٢) التوبة : ٣٦.

(٣) القلم : ٢٩.

(٤) انظر تفسير الرازي ٤ / ٤٢.

١١١

غير حجّة لتتضح لك حالهم في تعمدهم مخالفة الحق وارتكاب الباطل على علم ويقين ، ومنها علم ان من اسلم عن كفر لا يصلح للامامة لفوات العصمة وما اجاب به القوشجي عن الآية بان غاية الامر ثبوت التنافي بين الظلم والامامة ولا محذور إذا لم يجتمعا باطل بما سبق من البيان من انّ المسئول له الامامة ليس الظّالم في حال ظلمه ولا ذلك بمقام خليل الرّحمن ولا يجوّز عاقل يخاف الله نسبة ذلك إليه بل لمن كان في حال الصّلاح اعم من ان يكون ممن يجري منه الظّلم أو غيره ، وحيث كان الجواب واردا باخراج الظّالم من استحقاق الامامة التي هي عهد الله تعين ان يكون المراد به من جاز صدور الظّلم منه او صدر منه الظلم آنا ما لا الظالم وقت ظلمه اذ ليس مسئولا له الامامة فلو كان هو المراد من الجواب لم ينطبق على السؤال ولكان السؤال باقيا بغير جواب وهو خلاف المعلوم المتّفق عليه من كون هذا الجواب لذلك السؤال ، وأيضا انّ الظالمين اسم فاعل وال موصولة واسم الفاعل اذا كان صلة الأل تعين كونه للماضي فاذا قيل جاء القائم كان المراد به الّذي قام فمعنى الظّالمين بحسب اللغة العربية الّذين ظلموا قبل لا ينالهم عهد الامامة وان صلحوا لا الظالمين في الحال لانّه خلاف العربية فكانت الآية صريحة في وجوب عصمة الامام قبل الامامة وفي ان نيل الامامة مشروط بسبق العصمة فيجب حصولها أيضا في الحال وفي المئال في الامام لانها شرط لنيل الامامة واذا زال الشّرط زال المشروط فزال اعتراض المعترض وذهب ايراده فليتأمل المقام فانّه حقيق بالتأمّل ، وممّا يضحك الحزين غفلته (١) عن معنى قوله انّ غاية الامر ثبوت التّنافي بين الظلم والامامة ، فانّه يتضمن انّ الامام كلما ظلم زالت إمامته ، وعلى هذا لو نصب امام فظلم بعد نصبه بلا فصل وجب عزله لتنافي الامامة والظلم باعترافه فيظلم كذلك فتكون حاله حال الاوّل وهكذا فجاز ان ينصب في يوم واحد عشرة ائمة واكثر ويعزلوا لانّ الفرض

__________________

(١) أي القوشجي الذي لا يزال المؤلف في معرض الرد عليه.

١١٢

انّ الامام ليس بمعصوم وصدور الظّلم منه جائز فأي شيء على هذا اضيع من هذه الامامة؟ وأي ذليل وناقص أذل وانقص من هذا الامام الذي ينصب ويعزل في ساعة واحدة؟ وهل بمثله يعزّ الدّين وتقوى شوكة المسلمين ، أو ليس أنّه لا مخرج من هذا المحذور الذي يتضمّنه كلام المجيب إلا باشتراط العصمة في الامام او لا يدري انا لم نشترط العصمة في الامام الّا من جهة ما ذكره من تنافي الظّلم والامامة فما جعله ردّا علينا هو الدّليل لنا وهل زادنا به الا تقوية لو كان يشعر ، ولو انّ اعترافه بما اعترف به شيخه الرّازي من تركهم العمل بمقتضى الآية كما مر عليك من كلامه لكان اولى به وأليق بمذهبه ، والحمد لله على اظهار الحق لاهله.

التّاسع : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) وجه الدّلالة انّه تعالى امر باطاعته على الاطلاق لانّه المالك للعباد والامر والنّهي ولا يأمر ولا ينهى الا بمقتضى حكمته ولا يسأل عما يفعل وعباده يسألون وامر بطاعة الرّسول على الاطلاق أيضا فعرفنا من ذلك انّ الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يأمر الّا بحقّ ولا ينهى الّا عن باطل فهو معصوم من الخطأ والزّلل بعصمة الله له وتثبيته ايّاه على نهج الصواب ، ولو لا ذلك لما اطلق وجوب اطاعته ثم اطلق الامر بطاعة اولي الأمر كما اطلقه في طاعة نفسه وطاعة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يقيده بقيد ولم يشترط فيه شرطا فعلمنا من ذلك أيضا انّ اولي الأمر معصومون من الخطأ مطهّرون من العصيان ملازمون للصواب ، لا يأمرون الّا بمعروف ولا ينهون الّا عن منكر ، اذ لا يجوز ان يأمر الله على الاطلاق بطاعة من يجوز منه الخطأ في الأحكام ومقارفة الذنوب العظام بل يجب في الحكمة ان يكون الأمر بالطاعة له مشروطا بموافقة طاعة الله وموافقة الحق لا مطلقا كما انا رأينا

__________________

(١) النساء : ٥٩.

١١٣

البارئ تعالى اشترط في مواضع كثيرة وقيد الوعد والمدح بلزوم التّقوى والاستمرار على الوفاء حيث كان الممدوح والموعود ممن يجوز عليه الخطأ والمخالفة مثل قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) (١) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٢) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (٣) وغير ذلك من الآيات الكثيرة ، وحيث لم يشترط في طاعة أولي الأمر شيئا لزم أن يكونوا ملازمين لطاعته لا يخرجون منها إلى معصية وأولو الأمر هم الأئمة ، فالامام معصوم ، فمن كان من أولي الأمر فهو معصوم ومن ليس بمعصوم فليس من أولي الأمر ، ولا يعارض ما ذكرناه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية (٤) وما جرى مجراها من الآيات لأنّها أدب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتهديد لغيره لأن الله قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفّار فلم يكن الشرط في الحقيقة متوجّها إليه بل الى الامّة وكان الله تعالى كثيرا ما يخاطب النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في القرآن وهو يريد الامّة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٥) وغير ذلك ، حتى قيل نزل القرآن بايّاك اعني واسمعي يا جارة ، والفائدة في توجيه الخطاب ظاهرا الى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الآية المذكورة ومشابهاتها تهويل أمر الشّرك وتعظيمه وقطع أطماع الطامعين من الناس في المغفرة مع الاشراك بعد الايمان

__________________

(١) الأحزاب : ٣٢.

(٢) الفتح : ١٠.

(٣) الأنفال : ٢٩.

(٤) الزمر : ٦٥.

(٥) الطلاق الآية التي تلي البسملة.

١١٤

لانّهم إذا سمعوا أنّ الله توعّد نبيّه الكريم مع ما نوّه باسمه في القرآن الحكيم باحباط عمله إن أشرك علموا أنّه لا رجاء لغيره في عفو الله عنه اذ أشرك فيحذرون غاية الحذر من الشّرك ، وليس حال من علمت عصمته بالأدلّة القاطعة مثل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كحال غيره ممّن علمت عدم عصمته حتّى يرتكب في أمره من التأويل ما يرتكب في معلوم العصمة للزوم الجمع بين الأدلّة القطعيّة فتبصر فاندفع ايراد الخصوم بعون الحي القيّوم وثبت من الآية ما ندعيه من عصمة الامام.

العاشر (١) : ان الامام منصوب لردع العصاة وتأديب الجناة وإقامة الحدود واذا لم يكن معصوما من مباشرة القبائح كان في نهيه عن المنكر داخلا في زمرة المذمومين وحاصلا في حيز الملامين الّذين قال الله في أمثالهم (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (٢) فأيّ إمامة لمن كان مذموما معاتبا يأمر بالمعروف ويتركه وينهى عن المنكر ويرتكبه وكيف يكون مثل هذا القيم لله على عباده والصّادع بدينه والذّابّ عن حريم الحق وهو يهتكه ويوهنه بعصيانه ، حاشى لله ان يكون مثل هذا خليفة الله في أرضه وحجته على خلقه ودليله في عباده وأمينه في بلاده على حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهو من جملة العاصين ومن القوم المذنبين ، وأي عاقل يتصور ان يكون العاصي أهلا لخلافة الله ومستوجبا لنيل عهد الله ومستحقا للنّيابة عن انبياء الله؟ فان هذه الاوصاف الثّابتة للامام لا يجوزها العقل السّليم إلّا لمن كان معصوما ولم يكن بشيء من الذنوب موصوما ، على انا لم نر خليفة لنبيّ فيما مضى الا مطهرا من الذّنوب مبرئا من العيوب ونبيّنا سيد الأنبياء أفيجوز ان يكون خليفته من العصاة والخائضين في الجهالات؟ ان في هذا لافتراء عظيما على رب الارضين والسّماوات ، فيجب ان يكون الامام معصوما من مواقعة الخطيئات ، وانت ما

__________________

(١) أي من الأدلة على وجوب عصمة الامام.

(٢) البقرة : ٤٤.

١١٥

اظنك تشك في ذلك بعد الاحاطة بما بيناه والتّأمل فيما قررناه.

احتج ابن ابي الحديد على عدم اشتراط العصمة في الامام بقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن (عليهما‌السلام) أو محمّد بن الحنفية (١) (أي بنيّ انّه لما رأيتني بلغت سنا ورأيتي أزداد وهنا بادرت بوصيتي أليك وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي أليك بما في نفسي وأن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني أليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا فتكون كالصعب النفور ، وانّما قلب الحدث كالارض الخالية ما ألقى فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالادب قبل ان يقسو قلبك ويشتغل لبّك) هذا آخر ما يمكن تعلقه به من الكلام قال : قوله (عليه‌السلام) : «او ان انقض في رأيي» هذا يدلّ على بطلان قول من قال : انّه لا يجوز ان ينقص في رأيه وانّ الامام معصوم عن امثال ذلك وكذلك قوله للحسن «أو يسبقني أليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا» يدل على انّ الامام لا يجب ان يعصم من غلبات الهوى وفتن الدّنيا (٢) اقول ليس في هذا حجّة ولا تحصل به معارضة بل ينبغي ان يحمل في امير المؤمنين وفي ابنه ان كان هو الحسن على

__________________

(١) روى ابن عبد ربه المالكي طرفا من هذه الوصية في موضعين تحت عنوانين في باب مواعظ الآباء للأبناء من العقد الفريد في الثالث ص ١٥٥ وص ١٥٦ بتقديم وتأخير وحذف واختصار كما هي عادته في نقل كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) ففي العنوان الأول قال : «كتب علي بن ابي طالب الى ولده الحسن» وذكر أول الوصية ، وفي العنوان الثاني قال : «وكتب الى ولده محمد بن الحنفية : تفقه في الدين ـ الى قوله ـ فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة» ولذا ان المؤلف جاء بكلمة «أو» ولكن المشهور ان الوصية كانت للحسن (عليه‌السلام) كتبها امير المؤمنين بحاضرين عند انصرافه من صفين وقد استعرضت مداركها في «مصادر نهج البلاغة واسانيده» ٣ / ٣٠٧ ـ ٣١٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٦٦.

١١٦

انّه خرج مخرج ما جرت به العادة في البشر من حيث الجملة من تقلب أحوالهم وتصرّف الأمور بهم وحصول التغيير لهم في الأجسام والآراء وغلبة النّفس والهوى على عقولهم لا خصوص الموصي والموصى لانّه (عليه‌السلام) هنا في مقام التأديب والموعظة وإرادة المبادرة بها وقصد تعجيلها الى ابنه ومقتضى الحال ان يذكر الدّاعي الى ذلك والمسبب إليه في الواعظ والموعوظ ولا شيء انسب في ذلك مما ذكره ولا ادخل في المقام ممّا زبره ، ولو أنّه قال انا لا اخاف على رأيي نقصا ولا على جسمي وهنا ولا اتخوّف عليك من حدوث أمر يصدك عن الإقبال على حمل الموعظة ولا احاذر عليك من عروض عارض يمنعك من العمل بموجبها لم يكن لموعظته موقع ولم يبق لتعجيلها والمبادرة بها سبب ولا داع فذكر ما ذكر ليحسن منه المسارعة الى الوعظ ويحمد منه التعجيل فيه الى ابنه وليس الغرض بيان انّه يجوز حصول ما خافه على نفسه وعلى ابنه لهما ، واذا كان للكلام فائدة اخرى لم يتعين حمله على احد الفائدتين الّا بقرينة ولا قرينة تعين حمله على ما قاله ابن ابي الحديد بل القرنية تعين حمله على ما قلناه لقيام الادلّة التي سلفت على وجوب عصمة الامام وما قاله امير المؤمنين (عليه‌السلام) في تلك الوصية قبيل هذا الكلام وهو قوله (عليه‌السلام) : (غير انّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي فصدقني رأيي وصرفني عن هواي وصرّح لي محض امري فافضى الى جد لا يكون فيه لعب وصدق لا يشوبه كذب) (١) فانه يدل على عصمته من تغيير ما هو عليه من الرأي لقوله فافضى الى جدّ لا يكون فيه لعب الخ. فلما حصلت المعارضة في كلامه وجب حمل احدهما على ما لا يخالف الادلة الخارجيّة للتوفيق بين الكلامين ولا يكون ذلك الا بما قلناه ، على انا نعلم يقينا انّه ليس كلما يفرض الواعظ وقوعه من الموعوظ حتّى يتوجّه له النّهي عنه ممّا يجب أن يكون صدوره من الموعوظ جائزا عند الواعظ ، ولا كلما يفرض

__________________

(١) نهج البلاغة برقم ٣١ كتب.

١١٧

الواعظ صدوره من نفسه يعتقد جواز صدوره منه ، فانا سمعنا الله يقول لنبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) (١) وقال تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٢) وقال تعالى : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣) من المعلوم انّ الله عزوجل يعلم ان نبيّه محمّدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يطيع الكافرين والمنافقين ولا يجعل معه إلها آخر ولا يعصيه فيعذّبه لانّه قد عصمه وسدّده في القرآن من هذا كثير ، وقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انا سيّد الأنبياء ولا فخر ولو عصيت لهويت) (٤) وهو يعلم انّه لا يعصي لعلمه بانّ الله قد ايده وعصمه وهداه واجتباه ، واخبر عنه انّه لا ينطق عن الهوى لكنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذكر ذلك في مقام الوعظ والتحذير من العصيان كما وردت به الرّواية فليكن كلام امير المؤمنين جاريا هذا المجرى بل الواجب حمله عليه ، وكيف لا وأمير المؤمنين (عليه‌السلام) قد علم من اخبار الله في آية التطهير واخبار النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كثير من اقواله الصّريحة الآتية ان شاء الله تعالى انّه لا يصيبه تغير في رأي ولا زلل في قول ، وقد اخبر (عليه‌السلام) بذلك عن نفسه بما ذكرناه مرارا فقال (والله ما ضللت ولا ضل بي ولا زللت ولا زلّ بي وما زلت على السّبيل الواضح الفظه لفظا) (٥) الى غير ذلك من اقواله المصرّحة بانّه ليس

__________________

(١) الأحزاب الآية التي تلي البسملة.

(٢) الاسراء : ٣٩.

(٣) الانعام : ١٥.

(٤) روى صدر الحديث المناوي في كنوز الحقائق ص ٨٠.

(٥) قال ابو مخنف : «قام رجل الى علي (عليه‌السلام) ـ يوم الجمل ـ فقال : يا امير المؤمنين أي فتنة اعظم من هذه ان البدريين ليمشي بعضهم الى بعض بالسيف؟! فقال علي (عليه‌السلام) : «ويحك ا تكون فتنة أنا أميرها وقائدها! والذي بعث محمدا بالحق وكرم وجهه ما كذبت الخ» وانظر شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦٥ ، وأما قوله

١١٨

بشاكّ في نفسه ولا متخوّف عروض نقص في رأيه وقد ملئ بها نهج البلاغة وغيره مما لا مجال الى انكاره ولا سبيل الى دفعه.

والحاصل ان ما استدل به المعتزلي على مطلبه ليس بدليل بعد ما سمعت فيه من الكلام ولا يعارض على ما فيه من الاجمال والاشتباه الادلّة الصّريحة الدّالة على وجوب عصمة الامام كما لا يخفى على ذي حجى ، وان الاستناد الى مثل هذه الأقوال المجملة القابلة للتأويل والمعارضة الادلة الصّراح بها تشبث بما لا يجدي نفعا ولا يغني من الحق شيئا.

واعلم انّه كما يجب عصمة الامام عن ارتكاب الآثام والخطأ في الاحكام كذلك يجب عصمته عن الغلط والسهو والنّسيان لانّه قدوة الانام ومعتمد اهل الاسلام ، فلو جاز عليه ذلك لم يحصل الوثوق التّام بقوله ولا تطمئن النّفوس في الاقتداء بفعله لتجويزها صدور الفعل منه اذ ذاك على جهة الغلط أو السّهو أو النسيان وذلك كما علمت مناف لمنصب الامام ومناقض للغرض من نصبه فوجب أن يكون معصوما ممّا ينافيه.

وأجاز الصّدوق محمّد بن عليّ بن بابويه وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد (١) وقوع السّهو والنّسيان من الامام في غير تبليغ الاحكام لكنه من فعل الله به لا من فعل الشيطان ولا من ضعف قوته الحافظة بناء على جواز صدور

__________________

(عليه‌السلام) : (ما زلت على الطريق الواضح) الخ فقد ورد مثله في زيارته (عليه‌السلام) يوم الغدير : (واني على الطريق الواضح الفظه لفظا) نقل ذلك الشهيد في مزاره كما ورد في مفاتيح الجنان للمحدث القمي ص ٣٦٧ كما رواها ابن ابي الحديد عنه أيضا في شرح نهج البلاغة ٥ / ٢٤٩ وانه قالها يوم صفين.

(١) محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد نزيل قم من شيوخ القميين وثقاتهم قال فيه تلميذه الصدوق رحمه‌الله : «كل ما لم يصححه ولم يحكم بصحته من الأخبار متروك» وفي ج ١٧ من بحار الأنوار رسالة في استحالة السهو على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ردد نسبتها بين المفيد وتلميذه الشريف المرتضى.

١١٩

السّهو من الأنبياء على الوجه المذكور ، حتى قال محمّد بن الحسن انّ أول درجة في الغلو نفي السّهو عن الأنبياء واستندا في اجازتهما ذلك الى اخبار وردت بنسيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الصلاة وانّه سلم على نقص ساهيا ، وانّ الله سبحانه وتعالى أنساه كخبر ذي اليدين (١) وما شابهه وهو مستند ضعيف اذ مثل هذه الأخبار الآحاد لا يعارض بها الادلة القطعيّة من العقل والنّقل ، بل السّبيل فيها الردّ أو الحمل على أنّها خرجت مخرج التقية لأن ذلك مذهب جميع مخالفينا فيجب ارجاعها الى قولهم ، لا سيّما وقد وردت أخبار أخر بإزائها تنفي ما اشتملت عليه وتنقض ما تضمنته ، ومنها الخبر الذي ورد عن الرّضا (عليه‌السلام) في صفات الامام (٢) فيتعيّن فيها ما ذكرناه» وأقل الامور تساقط الاخبار من الطرفين والرّجوع الى الادلّة الثابتة والأخذ بها وهي تثبت عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم‌السلام) من جميع ما ينفر منه الطبع ويحصل منه عدم الوثوق والاطمئنان بهم في القول والفعل فيثبت المطلوب على انّ اتّفاق الاماميّة على ذلك حاصل او هو الحجّة ، وخلاف الشيخين المذكورين غير قادح فيه لمعلومية نسبهما ومن ذلك يعلم ان نسبة السّهو الى الأنبياء تقصير ونفيه عنهم حقّ وصواب والله الهادي.

وقد تبيّن ممّا حررناه وجوب كون الامام منزّها عن الخصال الدنيّة

__________________

(١) ذو اليدين ويقال له ذو الشمالين أيضا هو عمير أو عمرو بن عبد عمرو صحابي استشهد يوم بدر والرواية عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الظهر أو العصر فسلم في ركعتين فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو وكان حليفا لبني زهرة : أنسيت أم قصرت الصلاة! فقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لم أنس ولم تقصر أكما يقول ذو اليدين!) فقالوا : نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم .. الخ روى ذلك جماعة من المحدثين منهم البخاري في كتاب الصلاة ١ / ١٢٣.

(٢) ستأتي صفة الرضا (عليه‌السلام) للإمام في آخر الكتاب.

١٢٠