القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع

شيخ الشريعة الإصبهاني

القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع

المؤلف:

شيخ الشريعة الإصبهاني


المحقق: الشيخ حسين الهرساوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٦

الصحيحين للبخاري ومسلم ، قال الله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» (١).

ولينظر العاقل جسارة هذا الخبيث حيث نسب إلى أمير المؤمنين والصديقة الطاهرة أنهما أسخطا الله وكرها رضوانه مع ما ملئوا به كتبهم وطواميرهم من مناقبهما وفضائلهما ويستدل على ذلك بأنهما سخطا حكم أبي بكر وهو ولي الامر.

ولا يعقل انه اذا ثبت انهما سخطاه ثبت انه ليس ولي الامر والشيعة يستدلون بأمثال هذا على أن أبا بكر غاصب للامر ، وكيف يجعل هذا الشقي كونه ولي الامر أمراً مفروغاً عنه ويفرّع عليه هذه الهذيانات ، ولذا ترى علماء السنة اعملوا كلّ حيلة في دفع هذا الطعن واثبات أنهما لم يسخطا على أبي بكر.

وذكر هذا الشقي في موضع آخر أن أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام أخطأ في سبعة عشر موضعاً وخالف نصّ القرآن الكريم.

ولهذا وأمثاله صار مطعوناً في عصره مخذولاً في زمانه عند علماء السنة أيضاً وأفتى جماعة من أهل نحلته بكفره وزندقته.

وفي تاريخ اليافعي أنه نودي بدمشق وغيره ، أن من كان على عقيدة ابن تيمية فدمه وماله حلال ، وقال ابن حجر المكي صاحب الصواعق في كتابه المسمّى باشرف الوسائل إلى فهم الشمائل ، ما هذا لفظه : قال ابن القيم عن شيخه ابن تيمية أنه ذكر شيئاً بديعاً ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى ربّه واضعاً يده بين كتفيه اكرم ذلك الموضع بالعذبة (٢) والشملة والستار.

__________________

(١). الأحزاب : ٥٧.

(٢). العذبة ـ كقصبة ـ : طرف كل شيء ، ومنه الحديث : «أرخى عَذَبَة العمامة بين كتفيه» أي أرسلَ طرفها. مجمع البحرين : ٣ / ١٤١.

١٤١

قال العراقي : لم نجد لذلك أصلاً ، أقول بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما ، اذ هو مبني على ما ذهبنا إليه واطالا في الاستدلال له والحط على أهل السنة في نفيهم له ، وهو اثبات الجهة والجسمية لله تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً ، ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما يصمّ منه الاذان ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان ، قبّحهما الله وقبح من قال بقولهما ، والامام أحمد وأجلاء مذهبه مبرّءون عن هذا الوصمة القبيحة كيف وهي كفر عند كثيرين.

وقال المحقق الدواني في شرح العقائد العضدية : ولابن تيمية ابي العباس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلى اثبات الجهة ومبالغة في القدح في نفيها ، ورأيت في بعض تصانيفه : انه لا فرق عند بديهية العقل بين ان يقال : هو معدوم او يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده ، ونسب النافين إلى التضليل ؛ هذا مع علوّ كعبه في العلوم النقلية والعقلية كما يشهد به من تتبع تصانيفه.

وقال أيضاً عند ذكر القدم الجنسي للعالم : وقد قال به بعض المحدّثين المتأخرين وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيمية القول به في العرش.

ابن حجر العسقلاني ومعرفته بابن تيمية

وقال ابن حجر في «الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة» : وكان يعني ، ابن تيمية يتكلّم على المنبر بطريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد في ساعة من الكتاب والسنة والنظر ما لا يقدر أحد ان يورده في عدّة مجالس ، كأن هذه العلوم بين عينيه فيأخذ منها ما يشاء ويذر.

١٤٢

ومن ثمّ نسب أصحابه إلى الغلوّ فيه واقتضى له ذلك العجيب بنفسه حتى رهل على ابناء جنسه واستشعر أنه مجتهد ، فصار يردّ على صغير العلماء وكبيرهم قديمهم وحديثهم حتى انتهى الى عمر فخطأه في شيء ، فبلغ الشيخ ابراهيم الرقي فأنكر عليه فذهب اليه واعتذر واستغفر.

وقال في حقّ علي خطأ في سبعة عشر أشياء ثمّ خالف فيها نص الكتاب منها : اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الاجلين.

وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الاشاعرة حتى أنه سبّ الغزالي فقام عليه قوم كادوا يقتلونه ولما قدم غازان بجيوش التتار إلى الشام خرج إليه وكلّمه بكلام قوي ، فهم بقتله ثمّ نجى واشتهر أمره من يومئذٍ ، ثمّ ساق الكلام إلى أن قال : ضبطوا عليه كلمات في العقائد وقعت منه في مواعظه وفتاويه فذكروا انه ذكر حديث النزول ، فنزل عن المنبر درجتين فقال : كنزولي هذا ، فنسب إلى التجسيم.

وردّه من توسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او استغاث ، فأشخص من دمشق ...

ثمّ قال : وافترق الناس فيه شيعاً فمنهم من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك كقوله : ان اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستوى على العرش بذاته ، فقيل له : يلزم من ذلك التحيّز والانقسام ، فقال : أنا لا أسلّم أن التحيّز والانقسام من خواص الاجسام ، فالزم بانه يقول بالتحيّز في ذات الله تعالى.

ومنهم من ينسبه إلى الزندقة ، لقوله : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستغاث به وان في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان أشد الناس عليه في

١٤٣

ذلك النور البكري فانه لما عقد له المجلس بسبب ذلك ، قال بعض الحاضرين يعزّر ، فقال البكري لا معنى لهذا القول فانه ان كان تنقيصاً يقتل وان لم يكن تنقيصاً لا يعزّر.

ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علي ما تقدّم (١) ، ولقوله : انه كان مخذولاً حيث ما توجه وانه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها.

وانه قاتل للرياسة لا للديانة ، ولقوله : انه يحبّ الرئاسة ، وان عثمان يحب المال.

ولقوله : أبو بكر أسلم شيخاً يدري ما يقول ؛ وعلي أسلم صبياً والصبي لا يصح اسلامه ، على قول.

وكلامه في قصة خطبة بنت أبي جهل وما نسبه من الثناء على (٢) قصة أبي العاص ابن الربيع وما يؤخذ من مفهومها فانه شنّع في ذلك فالزموه بالنفاق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يبغضك الّا منافق (٣).

ونسبة قوم إلى أنه يسعى في الامامة الكبرى فانه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه ، فكان ذلك مولداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة ، وكان اذا حوقق والزم يقول : لم أرد هذا انما اردت كذا فيذكر احتمالاً بعيداً (٤).

__________________

(١). سمي خطائه في سبعة عشر موضعاً.

(٢). وفي الدرر الكامنة ، بياض ، وهكذا ورد فيه : وما نسبها ن خ (نسيها) من الثناء على .... وقصة أبي العاص ... الخ.

(٣). سنن الترمذي ٥ : ٦٣٥.

(٤). الدرر الكامنة ١ : ١٥٣ ـ ١٥٦.

١٤٤

ابن حجر المكي ومعرفته بابن تيمية

وقال ابن حجر (١) في رسالته المسماة ب «الجوهر المنظم في زيارة المقبر المكرم» : فان قلت : كيف تحكى الاجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر اليها وطلبها ، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كلّه كما رواه السبكي في حطّه واطال أعني ابن تيمية في الاستدلال لذلك بما تمجه الاسماع وتنفر عنه الطباع بل زعم حرمة السفر اليها اجماعاً وانه لا يقصّر فيه الصلاة ، وان جميع الاحاديث الواردة فيها موضوعة وتبعه بعض من تأخر عنه من أهل مذهبه؟

قلت : مَن ابن تيمية حتى ينظر اليه او يعوّل في شيء من امور الدين عليه؟ وهل هو الّا كما قال جماعة من الائمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا أعوار سقطاته وقبائح اوهامه وغلطاته ، كالعز بن جماعة عبد أضلّه الله وأغواه والبسه رداء الخزي وأرواه وبوّأه من قوّة الافتراء والكذب ما اعقبه الهوان واوجب له الحرمان.

ولقد تصدّى شيخ الاسلام وعالم الامام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وامانته النقي السبكي للردّ عليه في تصنيف مستقل ، أفاد فيه وأجاد فاصاب وأوضح بيان حججه طريق الصواب.

ومن عجائب الوجوه ما تجاسر عليه بعض السذجاء ، من الحنابلة فغير في وجوه مخدراته الحسان التي لم يطمثهن انس قبله ولا جان ، وأتى بما دلّ على جهله ، وأظهر به عوار غباوته وعدم فضله.

__________________

(١)

. وهو ابن حجر المكي الهيتمي صاحب «الصواعق».

١٤٥

فليته اذا جهل استحيى من ربه وعساه ، اذا فرط وافرط رجع إلى الله ، لكن إذا غلبت الشقاوة واستحكمت الغباوة ، فعياذاً بك اللهم من ذلك وضراعة إليك في ان نديم لنا سلوك أعظم المسالك.

هذا وما وقع من ابن تيمية مما ذكر ، وان كان عثرة لا تقال أبداً ومصيبة لتستمر عليه شومها دواماً وسرمداً.

ليس بعجيب فانه سولت له نفسه وهواه وشيطانه ، انه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب وما درى المحروم ، انه أتى باقبح المعايب اذ خالف اجماعهم في مسائل كثيرة وتدارك على أئمتهم سيما على الخلفاء الراشدين باعترافات سخيفة شهيرة وأتى من نحو هذه الخرافات بما تمجه الاسماع وتنفر عنه الطباع حتى تجاوز إلى الجانب الأقدس المنزه عن كل نقص والمستحق لكلّ كمال أنفس ، فنسب اليه العظائم والكبائر وخرق سباج عظمته وكبرياء جلالته بما أظهره للعلامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم والتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدمين والمتأخرين حتى قام عليه علماء عصره والزموا السلطان بقتله أو حبسه فقهره وحبسه إلى أن مات وخمدت تلك البدع ، فزالت تلك الظلمات ، ثمّ انتصر له اتباع لم يرفع الله لهم رأساً ولم يظهر لهم جاهاً ولا بأساً بل ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بما عصوا وما كانوا يعتدون.

وقال المولوي عبد الحليم في كتابه المسمى ب «حلّ المعاقد» في شرح العقائد : كان تقي الدين ابن تيمية حنبلياً لكنه تجاوز عن الحدّ وحاول اثبات ما ينافي عظمة الحق تعالى وجلاله ، فاثبت له الجهة والجسم وله هفوات أُخر كما يقول : وأن أمير المؤمنين سيدنا عثمان رضي الله عنه كان يحب المال ، وأن

١٤٦

أمير المؤمنين سيدنا علي رضي الله عنه ما صلح ايمانه فانه آمن في حال صباه ، وتفوّه في حقّ أهل بيت النبي ما لا يتفوّه به المؤمن المحقق.

وقد وردت الاحاديث الصحاح في مناقبهم في الصحاح ، وانعقد مجلس في قلعة جبل ، وحضر العلماء الاعلام والفقهاء العظام ، ورئيسهم كان قاضي القضاة زين الدين المالكي ، وحضر ابن تيمية ، فبعد القيل والقال بهت ابن تيمية.

وحكم قاضي القضاة بحبسه وكان ذلك سنة سبع مائة وخمس من الهجرة ، ثمّ نودي بدمشق وغيره : من كان على عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه ، كذا في مرآة الجنان للامام أبي محمد عبد الله اليافعي ، ثمّ تاب وتخلّص من السجن سنة سبعمائة وسبع من الهجرة.

وقال : أبا أن يكون اشعرياً : ثمّ نكث عهده وأظهر مكنونه ومرموزه فحبس حبساً شديداً مرّة ثانية ، ثمّ تاب وتخلّص من السجن وأقام بالشام ، وله هناك واقعات ، كتبت في كتب التواريخ وردّ أقاويله وبين أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الاول من الدرر الكامنة والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين.

هذا الكلام وقع في البين والمرام ان ابن تيمية لما كان قائلاً بكونه تعالى جسماً ، قال بأنه ذو مكان فان كل جسم لا بد له من مكان على ما ثبت ولما ورد في الفرقان الحميد «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» (١) ، قال ان العرش مكانه ولما كان الواجب أزلياً عنده ، وأجزاء العالم حوادث عنده فاضطر إلى القول بازلية جنس العرش وقدمه ، وتعاقب أشخاصه الغير المتناهية ، فمطلق التمكن له تعالى ازلي والتمكنات المخصوصة حوادث عنده كما ذهب المتكلمون إلى حدوث التعلقات.

__________________

(١). طه : ٥.

١٤٧

وصنّف بعض الاواخر كتاباً سمّاه منتهى المقال في شرح حديث لا تشدّ الرحال ، وأوضح فيه فساد ابن تيمية وجمع فيه شطراً من مساويه ومعايبه وأغلاطه وكفرياته ، وحكى فيه منشوراً طويلاً أمر به السلطان ، ودقته تنقل منه بعض ما يتضمن بيان اعتقاده بالجهة والتجسيم ، وهي هذه.

وكان الشقي ابن تيمية في هذه المدة ، قد بسط لسان قلمه ، ومدّ عنان كلمه ، وتحدّث في مسائل القرآن ، والصفات ، ونصّ في كلامه على أمور منكرات ، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون ، وفاه بما يمجه السلف الصالحون ، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الاسلام ، وانعقد على خلافه اجماع العلماء الاعلام ، واشتهر من فتاواه في البلاد ما استخف به عقول العوام ، وخالف فيه علماء عصره وفقهاء شامه ومصره ، وبعث رسائله إلى كل مكان ، وسمى كتبه أسماء ما أنزل الله بها من سلطان ، ولما اتّصل بنا ذلك ومن سلكه من هذه المسالك ، وما أظهروا من هذه الأحوال ، وأشاعوه وعلى أنه استخف قومه فاطاعوه حتى اتّصل بنا أنهم صرّحوا في حقّ الله بالحرف والأصوات والتجسيم فقمنا في حق الله تعالى ، مشفقين من هذا النبأ العظيم ، إلى آخر النشور الطويل.

وستعرف شطراً من تعصباته فيما سيأتي انشاء الله تعالى ، وهذه الكلمات وان كانت خارجة عن المقصود إلّا انّا اتينا به لفوائد :

منها : اظهار كون هذا الشقي من النواصب الطغام ، والكفرة اللئام ، واظهار ان من يلقبه بشيخ الاسلام ويذكره في كتابه بتعظيم تام من متأخريهم الاعلام مثله في الضلالة والخروج عن الاسلام.

ومنها : تشفّي قلوب المؤمنين اذا اطّلعوا على شرحه على منهاج الكرامة للعلامة الحلي قدس الله روحه وكثرة تشنيعه عليه فأحببت أن يطّلعوا على شطر من أحواله ونبذ من محنه وابتذاله.

١٤٨

ومنها : ان يعلم صحة ما نسبه علماء الشيعة إلى الحنابلة من القول بالتجسيم وان انكار وجود هذا القول بينهم كانكار ذو وجود ابي بكر وعمر ومن المجسمة امامهم المعول عليه في الحديث والرجال الذهبي كما يعرف من طبقات السبكي ، ومنهم : الحافظ ابن مندة كما يعرف من تاريخ اليافعي ، ومنهم : كهمس شيخ البخاري ، ومضر وأحمد الجهمي كما يعرف من الشهرستاني في الملل والنحل ، وجماعة أخرى ، ومع هذا كله يطعنون على الشيعة بأن هشام بن الحكم من المجسمة لقوله : أنه تعالى جسم لا كالاجسام ، مع براءته من هذا القول ، وأنه انما أورده الزاماً يعلم من كتب العامة كالملل والنحل فضلاً عن كتب الشيعة.

حديث : خِطبة بنت أبي جهل

ومنها : أعني من رواياته الموضوعة ما يتضمن قصة خطبة بنت أبي جهل قال في كتاب الفضائل في باب ذكر أصهار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حدّثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزُّهري قال : حدّثني علي بن الحسين أن المسور بن مخرمة ، قال : ان علياً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يزعم قومك انك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته حين تشهد ، يقول : أما بعد فاني انكحت أبا العاص ابن الربيع فحدّثني وصدّقني ، وأن فاطمة بضعة مني وأني أكره أن يسوأها ، والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنت عدوّ الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة (١).

__________________

(١). صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة ، باب ذكر أصهار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رقم ٣٧٢٩ وأطراف الحديث كتاب الخمس رقم ٣١١٠ ، كتاب النكاح رقم ٥٢٣٠ ، وكتاب الطلاق رقم ٥٢٧٨.

١٤٩

وهذا الخبر من موضوعات عهد بني أمية أيضاً ، وهو الذي أشير إليه في تعصبات ابن تيمية أنه أخذ بمفهومه وذكر ما يستحيا من ذكره وقال : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدح صهره أبا العاص المشرك في هذا الخبر ، ثمّ تفوّه بما (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (١).

ويدل على هذا ما حكاه ابن ابي الحديد في الجزء الثالث من شرحه عن الشيخ أبي جعفر الاسكافي : أن معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله.

فاختلفوا ، ما أرضاه منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير ، روى الزهري عن عروة بن الزبير ، قال : حدّثتني عائشة قالت كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذ أقبل العباس وعلي فقال : يا عائشة ان هذين يموتان على غير ملّتي ، أو قال : ديني ، إلى أن قال.

وأما عمرو بن العاص فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما مسنداً متّصلاً بعمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ان آل أبي طالب ليسوا بأوليائي وانما وليّي الله وصالح المؤمنين (٢).

__________________

(١). مريم : ٩٠.

(٢). صحيح البخاري كتاب الأدب باب ، يبُلُّ الرحِمَ ببلالها ، رقم ٥٩٩٠ ، مسلم كتاب الإيمان ١ : ١٩٧ رقم ٢١٥ ، وقد وقع الخلاف في بيان هذه الرواية ، وتعددت النسخ فيها أيضاً ، تعرض ابن حجر في شرحه على البخاري على هذه الأقوال فنذكر جملة من كلماتهم حتى يتبيّن كيف تبتلى السنة بالمعاريض ، وتتلاعب بها أئمة الحديث في هذا الشأن :

أولاً : أن الرواية على ما في أكثر النسخ الموجودة هكذا :

١٥٠

وأما أبو هريرة فروى قصة خطبة بنت أبي جهل ، وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب على المنبر وذكر ما ذكر.

أقول : ثمّ ان جماعة من العامة ذكروا ، أن رعاية الأدب يقتضي ترك رواية هذا الحديث.

وذكروا : ان نقله تنقيص لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفي كثير من كتبهم أن ابا حنيفة عاتب الأعمش ولامه على رواية هذا الحديث ، وقال : أنه وان كان صحيحاً لكن لا يسوغ لك نقله ، مع عدم ابتناء مسألة دينيّة عليه.

وذكروا أن ابا حنيفة وشريك بن عبد الله وابن ابي شبرمة ، وابن ابي ليلى ، اتّفقوا وذهبوا إلى دار الأعمش ولاموه على روايته هذا الحديث.

__________________

أن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهاراً غير سرٍّ يقول : «ان آل أبي فلان» قال عمرو : في كتاب محمد بن جعفر : «بياض ليسوا بأوليائي ، إنّما وليِّي الله وصالح المؤمنين».

وليست في نسخة ابن حجر والحميدي لفظة «فلان» قال ابن حجر : قال أبو بكر ابن العربي في سراج المريدين : كان في أصل حديث عمرو بن العاص : ان آل أبي طالب ، فغير آل أبي فلان ، كذا جزم به وتعقبه بعض الناس.

وقال أيضاً : وقد استشكل بعض الناس صحة هذا الحديث لما نسب إلى بعض رواته من النصب وهو الانحراف عن علي وآل بيته ، ومما يضحك الثكلى قولهم : «آل أبي بياض» مع أنه لا يعرف في العرب قبيلة يقال لها : آل أبي بياض.

وقال النووي : هذه الكناية من بعض الرواة خشي أن يصرح بالاسم فيترتب عليه مفسدة ، اما في حق نفسه أو في حقّ غيره ، وإمّا معاً.

وقال عياض : ان المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص ، وقال ابن دقيق العيد : كذا وقع مبهماً في السياق.

وحمله بعضهم على بني أمية ، ولا يستقيم مع قوله : آل أبي ، فلو كان آل بني لأمكن ، ولا يصح تقدير آل أبي العاص لأنهم أخص من بني أمية والعام لا يفسر الخاص ... الخ فتح الباري ١٠ : ٣٤٤ ـ ٣٤٦.

١٥١

وبعد هذا كله ، فكيف يمكن التزام أن السيد السجاد زين العابدين عليه‌السلام روى هذا الحديث واشاعه ، فروى عنه الزهري أليس هو أولى برعاية أدب جدّه؟ أم لم يكن أعرف من أبي حنيفة وعسره بمقام جدّه؟

وان نقل هذا الحديث تنقيص له بل استغرب ابن حجر من المسور انه كيف روى هذا الحديث لزين العابدين عليه‌السلام؟ قال في فتح الباري :

ولا أزال أتعجب من المسور كيف بالغ في تعصّبه لعلي بن الحسين حتى قال : انه لو أودع عنده السيف لا يُمَكِّن أحداً منه حتى تزهق روحه رعاية لكونه ابن ابن فاطمة محتجاً بحديث الباب ، ولم يراع خاطره في أن ظاهر سياق الحديث المذكور غضاضة على علي بن الحسين لما فيه من إيهام غض جدّه علي بن أبي طالب حيث أقدم على خطبة بنت أبي جهل على فاطمة حتى اقتضى أن يقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك من الإنكار ما وقع (١).

حديث : الاستسقاء للكفار

ومنها : رواية ابن مسعود في استسقاء الكفار ، وحكاه عن أسباط وهو غلط واختلاط ، كما نبّه عليه جماعة منهم ، وقالوا : ان ما رواه اسباط ، وهم وتفصيله :

انه قال : عن مسروق ، قال : أتيت ابن مسعود فقال : إنَّ قريشاً أَبطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها ، وأكلوا الميتة والعظام ، فجاءَه أبو سفيان فقال : يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! جئت تأمر بصلة الرحم ؛ وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى فقرأ : «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ

__________________

(١). فتح الباري كتاب النكاح باب ، ذب الرجل عن ابنته ... ٩ : ٢٦٨.

١٥٢

مُبِينٍ) (١) ، ثمّ عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى : «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى» (٢) يوم بدر ، قال : وزاد أسباط عن منصور فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسُقُوا الغيث فاطبقت عليهم سبعاً وشكى الناس كثرة المطر ، فقال : «اللهم حوالينا لا علينا» ، فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم (٣).

وقد اعترض العيني في عمدة القاري على البخاري : بزيادته اسباط هذا!.

فقال الداودي : أدْخَل قصة المدينة في قصة قريش وهو غلط ، وقال أبو عبد الملك : الذي زاده أسباط ، وهم أخلاط ، لانه ركّب سند عبد الله بن مسعود على متن حديث أنس بن مالك وهو قوله : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقوا الغيث إلى آخره.

وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي وقال : حديث عبد الله بن مسعود كان بمكة وليس فيه هذا ، والعجب من البخاري كيف أورد هذا ، وكان مخالفاً لما رواه الثقات ، وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله : لا مانع أن يقع ذلك مرّتين.

وفيه نظر لا يخفى ، وقال الكرماني : فان قلت : قصة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكة لا في المدينة قلت : القصة مكية الّا القدر الذي زاد أسباط فانه وقع في المدينة (٤).

__________________

(١). الدخان : ١٠.

(٢). الدخان : ١٦.

(٣). صحيح البخاري كتاب الاستسقاء باب اذا استشفع المشركون ، رقم ١٠٢٠ وأطرافه : رقم ١٠٠٧ ، ٤٦٩٣ ، ٤٧٦٧ ، ٤٧٧٤ ، ٤٨٠٩ ، ٤٨٢٠ ، ٤٨٢١ ، ٤٨٢٢ ، ٤٨٢٣ ، ٤٨٢٤ ، ٤٨٢٥.

(٤). عمدة القاري ٧ : ٤٦.

١٥٣

حديث : أخذ الأجرة على القرآن

ومنها : ما رواه عن ابن عباس في كتاب الطب :

أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّوا بماء فيهم لديغ ـ أو : سليم ـ فعرض لهم رجل من أهل الماء ، فقال : هل فيكم من راق؟ ان في الماء رجلاً لديغاً ـ او : سليماً ـ فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه ، فكرهوا ذلك ، وقالوا : أخذت على كتاب الله أجراً؟ حتى قدموا المدينة ، فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! أخذ على كتاب الله أجراً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله (١).

وهذا الخبر مروي عن عائشة أيضاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عدّه ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وأدرجها في الاحاديث الموضوعة والروايات المكذوبة قال : روى عمرو بن المخرم البصري عن ثابت الحفار عن ابن مليكة عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسب المعلمين؟ فقال : ان أحق ما أخذ عليه الأجر كتاب الله (٢).

قال ابن عدي : لعمرو أحاديث مناكير ، وثابت لا يعرف والحديث منكر (٣).

وفي الميزان : ثابت الحفار عن أبي مليكة بخبر منكر ، قال ابن عدي لا يعرف (٤).

__________________

(١). صحيح البخاري كتاب الطب باب ، شروط في الرقية بفاتحة الكتاب رقم ٥٧٣٧.

(٢). الموضوعات ١ : ١٦٦.

(٣). الكامل في ضعفاء الرجال ٥ : ١٨٠١ ، الموضوعات ١ : ١٦٦ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٢٨٧ رقم ٦٤٤٤ ، المغني في الضعفاء ٢ : ١٥٢ رقم ٤٧٠٨ ، ديوان الضعفاء رقم ٣٢١٣ ، لسان الميزان ٤ : ٣٧٦.

(٤). المغني في الضعفاء ١ : ١٩٠ رقم ١٠٥٠ ، ميزان الاعتدال ١ : ٣٦٩ ، اللآلي المصنوعة ١ : ٢٠٦ ، الموضوعات ١ : ٢٢٩ ، لسان الميزان ٢ : ٨٠.

١٥٤

حديث : فيه تكذيب (وَإِنْ طائِفَتانِ ...)

ومنها : ما رواه في كتاب الصلح : ان أنساً قال قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركب حماراً ، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة فلمّا أتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال إليك عني! والله لقد آذاني نتنُ حمارك ، فقال رجل من الانصار منهم : والله لحمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه فغضب لكل منهما أصحابه ، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنها نزلت : «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» (١) (٢).

قال الزركشي في التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح : فبلغنا أنها نزلت : وان طائفتان ، قال ابن بطال : يستحيل نزولها في قصة عبد الله بن أبي وأصحابه ، لأن أصحاب عبد الله ليسوا بمؤمنين وقد تعصبوا له في الإسلام في قصة الإفك.

وقد رواه البخاري في كتاب الاستيذان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ في مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين وعبدة الاوثان واليهود وفيهم عبد الله بن أبي فذكر الحديث ، فدلّ على أن الآية لم تنزل فيه وانّما نزلت في قوم من الاوس والخزرج اختلفوا فاقتتلوا بالعصا والنعال.

وقال ابن حجر : وقد استشكل ابن بطال نزول الآية المذكورة ، وهي قوله تعالى : «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» (٣) في هذه القصة لأن المخاصمة

__________________

(١). الحجرات : ٩.

(٢). صحيح البخاري كتاب الصلح باب ما جاء في الإصلاح بين الناس رقم. ٢٦٩ وأطراف الحديث كتاب الجهاد والسير رقم ٢٩٨٧ ، كتاب تفسير القرآن رقم ٤٥٦٦ ، كتاب اللباس رقم ٥٩٦٤ ، كتاب الأدب ، رقم ٦٢٠٧ ، كتاب الاستيذان ، رقم ٦٢٥٤.

(٣). الحجرات : ٩.

١٥٥

وقعت بين من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصحابة وبين الصحابة وبين عبد الله بن أبي وكانوا اذ ذاك كفّاراً فكيف ينزل فيهم طائفتان من المؤمنين؟

ولا سيما ان كانت قصة أنس وأسامة متحدة ، فان في رواية أسامة فاستبّ المسلمون والمشركون ، قلت : يمكن ان يحمل على التغليب ، مع ان فيها اشكالاً من جهة اخرى ، وهي أن حديث أسامة صريح في ان ذلك كان قبل وقعة بدر وقبل أن يسلم عبد الله بن أبي وأصحابه ، والآية المذكورة في الحجرات ونزولها متأخر جدّاً وقت مجيء الوفود لكنه يحتمل ان يكون آية الاصلاح نزلت قديماً فيندفع الاشكال (١).

أقول : أما احتمال التغليب فممّا لا يرضى به اللبيب الأديب ، اذ لم يقع توصيف الكفار العابدين للاصنام بالايمان ولو على سبيل التغليب في نظم ولا أثر ولا حديث ولا آية تحققت هذه الكلمة فيها ، ولم يجوزه أحد من العلماء ، ولا شاهد على جوازه ، ولو رفعنا اليد عن ظواهر الآيات والاخبار بمجرد الاحتمالات البعيدة التي لا شاهد عليها ولا داعي إليها ، لاندفع الامان من جميع النصوص وانقلبت الشريعة ظهراً لبطن.

وتصديق البخاري ليس بداع عقلي ولا ديني مع ما علم من حاله وسائر رواياته.

وأما احتمال تعدد النزول فهو مما لا يرضى به أكابرهم ولا يزالون يشنعون على علماء الامامية في قولهم في بعض الآيات أنها وردت في كذا بأنها

__________________

(١). فتح الباري كتاب الصلح ٥ : ٢٢٨.

١٥٦

وردت في قصة اخرى ولا يحتملون تعدد النزول كما أورده في شأن نزول آية : «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» (١).

وكما أورده ابن تيمية في قوله تعالى : «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» (٢) ، من ابطال نزولها في قصة الحارث ابن النعمان الفهري بان السورة مكية وقد نزلت قبل ذلك بسنين.

أبو حنيفة يكذّب حديث أبي هريرة

ومنها : ما أورده في كتاب الاشربة عن أبي هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يزني حين يزني وهو مؤمن (٣) الحديث.

وبالغ امامهم الأعظم أبو حنيفة في ردّ هذا الخبر وتكذيبه والطعن عليه ، قال في كتاب العالم والمتعلم من تصانيفه على ما نصّ عليه الكفوي في كتاب الاعلام الاخبار ، ما لفظه : قال المتعلم أي أبو مطيع البلخي : ما قولك في أناس رووا أن المؤمن اذا زنى خلع الايمان من رأسه كما يخلع القميص ، ثمّ اذا تاب أعاد إليه إيمانه؟ أتشك في قولهم أو تصدّقهم؟ فان صدّقت قولهم دخلت في قول الخوارج ، وان شككت في قول الخوارج ورجعت عن العدل الذي وضعت ، وان كذّبت قولهم الذي قالوا كذّبت قول النبي عليه‌السلام فانهم رووا عن رجال شتى حتى ينتهى به رسول الله عليه‌السلام.

قال العالم اي أبو حنيفة : أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء وردّي

__________________

(١). الاسراء : ٢٦.

(٢). المعارج : ١.

(٣). صحيح البخاري كتاب الأشربة رقم ٥٥٧٨ ، وأطرافه : كتاب المظالم رقم ٢٤٧٥ ، كتاب الحدود رقم ٦٧٧٢ ، كتاب الحدود أيضاً رقم ٦٨١٠.

١٥٧

عليهم تكذيباً للنبي عليه‌السلام ، إنّما يكون التكذيب لقول النبي عليه‌السلام أن يقول الرجل أنا مكذب للنبي عليه‌السلام.

وأما إذا قال : أنا مؤمن بكل شيء تكلّم به النبي عليه‌السلام غير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتكلّم بالجور ولم يخالف القرآن فهذا من التصديق بالنبي والقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن ولو خالف النبي عليه‌السلام القرآن وتقول على الله لم يدعه تبارك وتعالى حتى يأخذه باليمين ويقطع منه الوتين كما قال الله تعالى في القرآن (١).

والنبي عليه‌السلام لا يخالف كتاب الله ، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله وهذا الذي رووه خلاف القرآن ، ألا ترى إلى قوله : الزانية والزاني؟ ثمّ قال : واللذان يأتيانها منكم ولم يعن به من اليهود والنصارى ولكن عنى به المسلمين فردّ على كل رجل يحدّث عن النبي عليه‌السلام بخلاف القرآن وليس ردّاً على النبي ولا تكذيباً له ولكن ردّاً على من يحدّث عن النبي عليه‌السلام بالباطل والتهمة دخلت عليه لا على نبي الله.

كلّ شيء تكلّم به النبي عليه‌السلام سمعنا به أو لم نسمعه فعلى الرأس والعين ، وقد آمنا به ونشهد أنه كما قال النبي عليه‌السلام ، ونشهد أيضاً على النبي عليه‌السلام ، أنه لم يأمر بشيء نهى عنه يخالف أمر الله تعالى ولم يقطع شيئاً وصله الله تعالى ، ولا وصف أمراً وصف الله تعالى ، ذلك الأمر بخلاف ما وصفه النبي عليه‌السلام ، ونشهد أنه كان موافقاً لله عزوجل في جميع الأمور فلم يبتدع

__________________

(١). (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

١٥٨

ولم يتقوّل غير ما قال الله ولا كان من المتكلّفين ولذلك قال الله تعالى : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ» (١).

ونحن أوردنا هذا الكلام الزاماً على العامة لا تصديقاً لهذا الاحتجاج واعترافاً بمتانة هذا الاستدلال من مخالفة هذا الخبر لكتاب الله اذ فيه من وجوه النظر ما لا يخفى على من له أدنى تأمل.

ومن عجيب الامر أن العلامة التفتازاني حكم بان بعض روايات البخاري من موضوعات الزنادقة حاكياً ذلك عن يحيى بن معين وهو المعوّل عليه في معرفة الصحيح من السقيم ، قال في «التلويح شرح التوضيح» قوله : وانما هذا خبر الواحد في معارضة الكتاب لانه مقدّم لكونه قطعياً متواتر النظم لا شبهة في متنه ولا في سنده لكن الخلاف انما هو في عمومات الكتاب وظواهره ، فمن يجعلها ظنية يعتبر بخبر الواحد اذا كان على شرائطه عملاً بالدليلين

ومن يجعل العام قطعياً فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته ، ضرورة أن الظني يضمحل بالقطعي فلا ينسخ الكتاب به ، ولا يزاد عليه أيضاً لانه بمنزلة النسخ واستدل على ذلك بقوله عليه‌السلام : تكثر لكم الأحاديث من بعدي فاذا أروى لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق كتاب الله فاقبلوه وما خالفه فردّوه (٢).

وأجيب بانه خبر واحد قد خصّ منه البعض اعني المتواتر والمشهور فلا يكون قطعياً فكيف يثبت به مسألة الأصول على أنه مما يخالف عموم قوله

__________________

(١). النساء : ٨٠.

(٢). التلويح في شرح التوضيح ٢ : ٣٩٧.

١٥٩

تعالى : «ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» (١) وقد طعن فيه المحدّثون ، بان في رواته يزيد بن ربيعة ، وهو مجهول وترك في اسناده واسطة بين الأشعث وثوبان ، فيكون منقطعاً.

وذكر يحيى بن معين أنه حديث وضعه الزنادقة ، وايراد البخاري إياه في صحيحه (٢) لا ينافي الانقطاع وكون أحد رواته غير معروف بالرواية.

ابن حزم وتكذيب حديث المعازف

وكذا ابن حزم الاندلسي وهو من أعيان علماء العامة ويحتج بافاداته صاحب الامتاع ، وذكر محي الدين ابن العربي في «الباب الثالث والعشرين والمائتين» من الفتوحات : «رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عانق أبا محمد بن حزم المحدّث فغاب الواحد في الآخر فلم يزالا واحداً وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهذه غاية الوصلة وهو المعبر عنه بالاتحاد» (٣).

وابن حزم هذا حكم بموضوعية بعض روايات البخاري أيضاً.

قال في كتاب المحلى : ومن طريق البخاري «قال هشام بن عمّار : أنا صدقة بن خالد أنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، أنا عطية بن قيس الكلابي ، أنا عبد الرحمن غنم الأشعري ، حدّثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري ، والله ما كذبني أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ليكوننّ من أمّتي أقوام يستحلّون الحرير

__________________

(١). الحشر : ٧.

(٢). والظاهر أن البخاري ذكره في تاريخه.

(٣). الفتوحات المكية ٢ : ٥١٩ ط ، دار صادر ، بيروت.

١٦٠