القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع

شيخ الشريعة الإصبهاني

القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع

المؤلف:

شيخ الشريعة الإصبهاني


المحقق: الشيخ حسين الهرساوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٦

إلى أنّ البخاري عاش في عصر المتوكل العباسي الّذي استخدم طبقة من المحدّثين ومنحهم الجوائز في نقل الأحاديث الّتي تؤيد موقف المحدّثين أمام أهل التنزيه من العدلية والمعتزلة.

يقول الذهبي : إنّ المتوكّل أشخص الفقهاء والمحدّثين ؛ وكان فيهم : مصعب الزبيري ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابني محمد بن أبي شيبة ؛ فقسّمت بينهم الجوائز ، وأُجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس ويُحدِّثوا بالأحاديث الّتي فيها الرد على المعتزلة والجهمية ، وأن يحدّثوا بالأحاديث في الرؤية.

فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور ، ووُضِع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف من الناس ؛ وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة ، وكان أشدّ تقدّماً من أخيه عثمان ، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألف. (١)

ولذلك فلا تعجب من كثرة روايات التجسيم والتشبيه في الصحيح ، لأنّ بعض هؤلاء من رجال صحيح البخاري.

الثاني : انّ البخاري وإن ذكر شيئاً من فضائل علي وأهل بيته إلّا أنّ قلمه يرتعش عند ما يصل إلى فضائلهم فيعبث بالحديث مهما أمكن ، وإليك نموذجاً.

إنّ حديث الولاية يعني قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ علي عليه‌السلام : «علي منّي وأنا من علي ، وهو وليّكم من بعدي» من الأحاديث المتضافرة الّذي أخرجه غير واحد من أئمّة الصحاح والسنن وحفّاظ الحديث ، وقد نقله جمّ غفير من كبار

__________________

(١). تاريخ الإسلام ، وفيات عام ٢٣٠ ـ ٢٤٠ ؛ تاريخ بغداد : ١٠ / ٦٦.

١

أئمّة الحديث في كتبهم ، ربما يبلغ عددهم حسب ما استخرجه المحقّق المتتبع السيد حامد حسين اللكهنوي (المتوفّى ١٣٠٦ ه‍) في كتابه «عبقات الأنوار» إلى ٦٥ ، وعلى رأسهم :

١. سليمان بن داود الطيالسي (المتوفّى ٢٠٤ ه‍).

٢. أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (المتوفّى ٢٣٩ ه‍).

٣. أحمد بن حنبل (المتوفّى ٢٤١ ه‍).

٤. محمد بن عيسى الترمذي (المتوفّى ٢٧٩ ه‍).

٥. أحمد بن شعيب النسائي (المتوفّى ٣٠٣ ه‍).

إلى غير ذلك من أئمّة الحفّاظ والمحدّثين (١) ، وإليك نصّ الحديث :

١. أخرج النسائي في سننه قائلاً : حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، عن ابن فضيل ، عن الأعرج ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن مع خالد بن الوليد وبعث علياً على آخر ، وقال : إن التقيتما فعليٌّ على الناس ، وإن تفرّقتما فكلّ واحدٍ منكما على جنده ، فلقينا بني زبيد من أهل اليمن ، وظفر المسلمون على المشركين ، فقاتلنا المقاتلة وسبينا الذرية ، فاصطفى علي جاريةً لنفسه من السبي ، فكتب بذلك خالد بن الوليد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمرني أن أنال منه. قال : فدفعت الكتاب إليه ونلت من عليّ ، فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : هذا مكان العائذ ، بعثتني مع رجلٍ وألزمتني بطاعته فبلّغت ما أُرسلت به. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي : «لا تقعنَّ يا بريدة في عليّ ، فإنّ عليّاً منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي». (٢)

__________________

(١). لاحظ نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار : ١٥ / ٥١ ـ ٥٤.

(٢). خصائص علي بن أبي طالب : ٧٥.

٢

٢. وأخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس ، عن بريدة ، قال : غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة ، فلمّا قدمتُ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت عليّاً فتنقصته فرأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتغيّر ، فقال : «يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ، قلت : بلى يا رسول الله ، قال : «من كنت مولاه فعليّ مولاه». (١)

وما جاء في الحديث الّذي أخرجه النسائي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي وأنا من علي وهو وليكم بعدي» لا ينافي المنقول في مسند أحمد ولعلّ الرسول جمع بين الكلمتين ، أو انّ الراوي نقل بالمعنى فقال : من كنت مولاه فهذا علي مولاه.

وعلى كلّ حال فالحديث كان مذيّلاً بما يدلّ على ولايته بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويؤيد ذلك انّ الإمام أحمد أخرج الحديث عن عمران بن حصين بالشكل التالي :

٣. قال : بعث رسول الله سرية وأمّر عليهم علي بن أبي طالب رضى الله عنه فتعاقد أربعة من أصحاب محمد أن يذكروا أمره لرسول الله ، قال عمران : وكنّا إذا قدمنا من سفرنا بدأنا برسول الله ، فسلّمنا عليه ، قال : فدخلوا عليه ، فقام رجل منهم ، فقال يا رسول الله : إنّ عليّاً فعل كذا وكذا فأعرض عنه.

ثمّ نقل قيام الثلاثة الباقين وتكرارهم ذلك القول وإعراض الرسول عنهم ، حتّى انتهى إلى قوله : فأقبل رسول الله على الرابع وقد تغيّر وجهه ، فقال : «دعوا

__________________

(١). مسند أحمد بن حنبل : ٥ / ٣٤٧.

٣

عليّاً ، إنّ عليّاً مني وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي». (١)

٤. وأخرج الترمذي عن عمران بن حصين ونقل الحديث مثل ما نقل أحمد ابن حنبل إلى أن قال : فقام الرابع ، فقال مثل ما قالوا ، فأقبل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والغضب يُعرف في وجهه ـ فقال : «ما تريدون من عليّ! ما تريدون من عليّ! ما تريدون من عليّ! إنّ عليّاً مني وأنا منه وهو ولي كلّ مؤمن بعدي». (٢)

ترى أنّ الرواية تنص على الولاية الدالّة على أنّه الإمام بعد رحيل الرسول لكن البخاري كعادته أخرج الحديث عن بريدة ، فذكر شيئاً من الحديث وحذف بيت القصيد منه ، فأخرج الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بالنحو التالي :

قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً إلى خالد ليقبض الخمس وكنت أبغض علياً ، وقد اغتسل ، فقلت لخالد : ألا ترى إلى هذا ، فلما قدمنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرت ذلك له.

فقال : يا بريدة أتبغض عليّاً ، فقلت : نعم ، قال : «لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك». (٣)

ترى أنّه حذف الفقرة الأخيرة من الحديث الّتي هي بمنزلة بيت القصيد منه وهي : «انّ علياً منّي وأنا منه ، وهو وليّكم بعدي».

هذان الأمران اللّذين نوّهنا إليهما يعربان عن موقف البخاري حيال

__________________

(١). مسند أحمد : ٤ / ٤٣٨.

(٢). سنن الترمذي : ٥ / ٦٣٢.

(٣). صحيح البخاري : ٥ / ١٦٣ ، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع.

٤

روايات التجسيم والتشبيه ، كما يعربان عن مدى بخسه لأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام وفضائلهم. كيف لا وهو لم يرو حديث الغدير بتاتاً ، كما لم يرو عن الإمام الصادق عليه‌السلام حديثاً واحداً مع أنّه نقل عن الخوارج والمجبّرة والمشبّهة؟!!

فهذا الكتاب الّذي يعد أصحّ الكتب عند أهل السنّة بعد كتاب الله بحاجة إلى تنقيب وبحث ودراسة رجاله ودراسة مضمون الأحاديث الواردة فيه. وقد قام بهذا الأمر المهم غير واحد من أعلام الفريقين.

فمن أهل السنّة الحافظ ابن الجوزي (٥١٠ ـ ٥٩٧ ه‍) حيث ألّف كتاباً باسم «مشكل الحديثين أو مشكل الصحاح» ولم يزل مخطوطاً في أربعة أجزاء.

وأمّا من الشيعة ، فقد قام فقيه الطائفة والمتتبع المتضلّع الشيخ فتح الله النمازي الاصفهاني المشهور ب «شيخ الشريعة» (١٢٦٦ ـ ١٣٣٩ ه‍) بدراسة صحيح البخاري في كتاب هو ماثل بين يديك وقد ألفه قدس‌سره ولم يسمّه باسم ، غير انّ تلميذه المتتبّع الشيخ آقا بزرك الطهراني (١٢٩٣ ـ ١٣٨٩ ه‍) استكتبه لنفسه وأسماه ب «القول الصراح في نقد الصحاح» ، وقد كانت النسخة منحصرة بما استكتب ، فاستدعيت من صديقنا العزيز المجاهد في سبيل الله آية الله الشهيد ميرزا علي الغروي قدس‌سره مؤلف الموسوعة الفقهية باسم «التنقيح في شرح العروة الوثقى» أن يرسل لي صورة من نسخة الشيخ آقا بزرك الطهراني المتوفرة في مكتبته ، وقد لبّى قدس‌سره طلبي هذا.

وقد قام بتحقيق الكتاب والتعليق عليه وإخراج مصادره الباحث المحقّق الشيخ حسين غيب غلامي الهرساوي ، فعلّق عليه تعاليق ثمينة ، شكر الله مساعيه الجميلة ، وهو ممّن قد خاض في عبارات هذه المباحث في غير واحد من تآليفه.

٥

ولعلّ هناك من يعيب على هذا النوع من التأليف بأنّه يثير حفيظة البعض ، لأنّ كثيراً من أهل السنّة تلقّوا صحيح البخاري كتاباً صحيحاً برمّته يسمو عن البحث والنقد ، ولكن الحقّ انّ كل كتاب غير كتاب الله خاضع للبحث والنقاش.

إنّ السنّة النبوية تراث خالد للأُمّة الإسلامية تعد المصدر الثاني للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم في مجالي العقيدة والشريعة.

فالسنّة المحكية ـ أي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفعله وتقريره ـ من الحجج القطعية الّتي لا تخضع للتمحيص ، كيف لا وهو كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

وإنّما الخاضع للتحقيق والتنقيب هو السنّة الحاكية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا عتب على باحث أن يقوم بدراسة الحديث دراسة موضوعية قائمة على أُسس علمية وبلغة هادئة.

فهذا النمط من البحث لجدير بالاهتمام والعناية من قبل الباحثين والمحقّقين لما فيه من تقرير للسنّة النبوية ، وتمحيصها عمّا ليس منها.

وها نحن بحمد الله لم نختلف فيما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما هو في ما روي عنه ، وهذا هو الّذي أرشدنا إليه الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، عند ما قال له بعض اليهود :

ما دفنتم نبيكم حتّى اختلفتم فيه!!

فقال عليه‌السلام له : «إنّما اختلفنا عنه ، لا فيه ، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتّى قلتم لنبيّكم : «اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، فقال : إنّكم قوم تجهلون». (١)

__________________

(١). نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، برقم ٣١٧.

٦

ترجمة المؤلّف (١)

شيخ الشريعة الأصبهاني : من كبار المجتهدين والزعماء ، الفقيه الأُصولي الماهر ، الميرزا فتح الله بن محمد جواد الأصبهاني ، ولد بأصبهان في الثاني عشر من ربيع الأوّل سنة ١٢٦٦ ه‍ وتوفي عام ١٣٣٩ ه‍.

قال السيد الأمين : كان أحد أعلام علماء هذا العصر ، أصله من مدينة شيراز ، من أُسرة كريمة تعرف بالنمازية نسبة إلى جدهم المعروف باسم الحاج محمد علي النمازي الذي كان معروفاً بالورع والصلاح ، ولكثرة مداومته على النوافل والصلوات عرف بالنمازي (٢).

تلقى الشيخ مبادي العلوم باصبهان فحضر دروس المولى حيدر الأصبهاني ، والمولى عبد الجواد الخراساني ، من أعلام تلامذة الشيخ

__________________

(١). أُنظر ترجمته : الأعلام للزركلي ٥ : ١٣٥ ، معجم المؤلفين ٨ : ٥٢ ـ ٥٣ ، أعيان الشيعة ٨ : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، أحسن الوديعة ١ : ١٧١ ، مصفى المقال : ١٩٣ ، علماء معاصر : ١٢٢ ، مكارم الآثار ٥ : ١٨١٦ ، الذريعة ٢٢ : ٢٨٣ رقم ٧١١٢ ، ريحانة الأدب ٣ : ٢٠٦ ، معجم ما كتب عن الرسول وأهل بيته ٩ : ٢٦٦ رقم ٢٣١٨٠ ، معجم رجال الفكر في النجف خلال ألف عام ٢ : ٧٦٧ ، مقدمة نخبة الأزهار في أحكام الخيار : ٦ ـ ١٢ ، والكتب التاريخية التي ألّفت في تاريخ العراق وثورة العشرين.

(٢). أعيان الشيعة ٨ : ٣٩١.

٧

محمد تقي الأصبهاني صاحب الحاشية ، ودروس المولى أحمد السبزواري ، والمولى محمد صادق التنكابني ، والمولى محمد تقي الهروي ، وعند الشيخ محمد باقر بن الشيخ محمد تقي الأصبهاني في كثير من المباحث الفكرية والأُصولية ، وسمع عليه افاداته في حجية الظنون.

سافر إلى مشهد الرضا عليه‌السلام زائراً وأقام بها مدة قليلة ، جرت بينه وبين علمائها مباحث ، فظهر فضله في العلوم المتداولة ، ثمّ عاد إلى أصبهان واشتغل بالتدريس.

ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف في سنة ١٢٩٥ ه‍ فاجتمع حوله طلاب العلم وتصدى للتدريس والبحث ، وفي أثناء ذلك حضر على الميرزا الرشتي وعلى الشيخ محمد حسين الكاظمي ، وكان يمتاز بمشاركته في فنون الفلسفة القديمة والحكمة الإلهية فضلاً عن العلوم الدينية والكلام ، والحديث ، والرجال ، وخلافيات الفرق والمقالات ، وما لها وما عليها من الحجج والأدلّة ، وكان يحضر مجالس محاضراته وإفاداته العلماء وتلمذ عليه المئات من فضلاء العرب والفرس ، وقد كان جمع كثير من الناس يرجعون إلى فتاواه ويقلدونه في أحكام مسائلهم ، وبعد السيد اليزدي أقبل إليه الجمهور ، وبعد وفاة الميرزا الشيرازي أصبح المرجع الوحيد للشيعة في أغلب الأقطار وهذا قلّما يصادف مثله (١).

وقد تصدّى بجدّ لمواجهة الصراع الفكري فعقد المناظرات العميقة مع محمود شكري الآلوسي ببغداد في إثبات الحجة ووجود المهدي عليه‌السلام وإمامته في

__________________

(١). أعيان الشيعة ٨ : ٣٩١ ـ ٣٩٢.

٨

ثلاث رسائل : صغير ، ووسيط ، وكبير (١) ، وأخرى عند ما نظر إلى الكتب المشتهرة بالصحاح والسنن لأهل السنة ولا سيّما الصحيح لمحمد بن اسماعيل البخاري ، الذي يعتمد في كثير من رواياته على النواصب وأهل البدع وعلى الضعفاء ، مع أنّه لم يروي عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ابن الإمام محمد بن علي الملقب على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بباقر العلوم عليه‌السلام! وأهمل الرواية عن أهل البيت ، لتأثره بأمثال يحيى بن سعيد الناصبي.

ذكر في مقدمة نخبة الأزهار : يمتاز الشيخ على كثير من الفقهاء المعاصرين له بالموسوعية والمطالعة الطويلة في العلوم التي لا تدخل في نطاق الفقه من قريب ، فقد كان كما ينقل قوي الحافظة ، مرهف الشعور ، سريع الانتقال ، كثير القراءة ، ومداوم النظر في الكتب المتفرقة ، وتجمع هذه الصفات فيه خلقت منه عالماً يلم بفروع العلوم المتداولة في بيئته وغير المتداولة.

ففي الفقه وأُصوله كان بارعاً لم يشق له غبار ، وأذعن بتفوّقه فيهما من أتى بعده من شيوخ العلم في حوزة النجف وغيرها (٢).

وقال أيضاً : كان الشيخ أيام دراسته باصبهان يمارس التدريس لحلقة من الطلاب ، ولما عاد من مشهد انقطع إلى التدريس كما ذكرنا ، وعند ما هاجر إلى

__________________

(١). قال الشيخ آغا بزرك الطهراني في الذريعة : المناظرات مع ابن الآلوسي ، في اثبات وجود الحجة وامامته لشيخنا الحاج ميرزا فتح الله المشتهر بشيخ الشريعة بن الحاج ميرزا محمد جواد ، وهي ثلاث رسائل ، صغير ، ووسيط ، وكبير ، ومجموعها ٣٧٠٠ بيت في تحقيقات وتدقيقات رشيقة وجوابات كافية وافية ، استنسخه صدر الإسلام الخوئي. الذريعة إلى تصانيف الشيعة ٢٢ : ٣٨٣ رقم ٧١١٢.

(٢). نخبة الأزهار في أحكام الخيار : ٨ ، تقرير لأبحاث الشيخ صاحب الترجمة رحمه‌الله ألّفها العالم الرباني آية الله الشيخ محمد حسين السبحاني قدس‌سره.

٩

النجف زاول التدريس أيضاً ضمن تتلمذه على أساتذتها حتى سنة ١٣١٣ ه‍ ، حيث رجع من الحج ، وفيها استقل بإلقاء محاضراته العالية في الفقه والأُصول وغيرهما ، معنياً بتربية رجال العلم ومنصرفاً إلى تنشئة العلماء والأفاضل ، ويتفق مترجموه على أنه ربّى مئات من أهل العلم في حوزة اصبهان والنجف ، وكانت حلقة درسه مرغوباً فيها ، يتوافد عليها الطلاب والراغبون في الدارسات العالية (١).

قال الزركلي في الأعلام : شيخ الشريعة فقيه إمامي من كبار المشاركين في ثورة العراق الأول على الإنكليز أصله من شيراز من أسرة تعرف بالنمازية ، ومنشؤه باصبهان ، تفقه وقرأ علوم العربية وانتقل إلى النجف فانتهت إليه رئاسة علمائها (٢).

وفي معجم المؤلفين : فتح الله بن محمد جواد النمازي الشيرازي الأصبهاني الغروي الملقب بشريعة مدار ، فقيه أصولي شارك في بعض العلوم ، أصله من مدينة شيراز ، وولد باصبهان في ١٢ ربيع الأول ، وساهم في ثورة العراق أيام الاحتلال البريطاني سنة ١٣٣٩ ه‍ ، ودعاه الحاكم المدني البريطاني للتفاوض لوقف الثورة ، فكتب المترجم إليه مشترطاً : «منح العراق استقلاله التام» (٣).

وقد استمر الجهاد حتى دخل الجيش البريطاني النجف فعند ذلك تفرق الناس ، ولبث الشيخ في بيته (٤) ، وحاولوا بينه وبين من يريد اصلاح مجتمعه

__________________

(١). نفس المصدر السابق. ٢. الأعلام : ٥ / ١٣٥.

(٢). معجم المؤلفين : ٨ / ٥٢ ـ ٥٣. ٤. معجم رجال الفكر : ٢ / ٧٦٧.

١٠

وأمته ، وقد نصبوا عليه العيون والمراصد على الداخل والخارج من بيته حتى خادمه وبعض حفدته (١).

فأصيب الشيخ على أثر جهاده بمرض عضال في صدره ، فكان طريح الفراش ، واشتدّت عليه الآلام إلى أن اختار الله تعالى له الدار الآخرة ، فتوفي في النجف الأشرف ليلة الأحد من شهر ربيع الثاني سنة ١٣٣٩ ه‍ ودفن في الصحن الغروي الشريف في أحد الغرف الشرقية.

شيخ الشريعة وثورة العشرين

عند ما يذكر تاريخ العراق المعاصر والحوادث الّتي جرت فيه منذ احتلال الانكليز للعراق ، وحتى اندلاع ثورة العشرين يبرز هذا الاسم الكريم في حركة الجهاد الإسلامي وقيادة الثورة بعد غياب الإمام محمد تقي الشيرازي.

تولّى شيخ الشريعة في غمرة تلك الظروف العاصفة المرجعية الدينية وقيادة الثورة العراقية الكبرى وقد تمّ تشكيل قيادة عليا للثورة تضم رموزاً من زعماء العشائر العراقية.

وعند ما عرض الانكليز فكرة التفاوض وحدث الانقسام بين قادة الثورة كان شيخ الشريعة زعيماً للخط الذي رفض الفكرة وأصدر بيانه الشهير :

«لا مفاوضة قبل الجلاء» وانه سيستخدم المگوار (٢) إذا أعوزهم السلاح (٣).

__________________

(١). معارف الرجال : ٢ / ١٥٤ رقم ٢٨١.

(٢). المگوار : عصا غليظة ينتهي أحد طرفيها بكتلة من القار الصلد ، وهو معروف جداً في جنوب العراق.

(٣). أنظر : تاريخ الحركة الإسلامية في العراق الجذور الفكرية والواقع التاريخي ، لعبد الحليم الرهيمي.

١١

قال الزركلي في الأعلام : برز اسمه في ثورة العراق أيام الاحتلال البريطاني سنة ١٩٢٠ م ، وتناقل الناس ما أصدره من الفتاوى فيها ، وكان في بدئها عوناً لآية الله محمد تقي الشيرازي سنة ١٣٣٨ ه‍ انتقلت إليه الزعامة وانتقل مركز القيادة من كربلاء إلى النجف (١).

شيخ الشريعة وكتبه العلمية

ومن بين نشاطات الشيخ العلمية يبرز عدد من الكتب القيمة التي تتسم بالعمق في الموضوع وأحياناً الابتكار ، وإليك أسماء ما وقفنا عليه من تلكم الدرر الغالية :

١ ـ ابانة المختار في ارث الزوجة من ثمن العقار ، (مطبوع).

٢ ـ ابرام القضاء في وسع القضاء.

٣ ـ افاضة القدير في أحكام العصير ، (مطبوع).

٤ ـ انارة الحالك في قراءة «مَلِك» و (مالِكِ).

٥ ـ رسالة في علم الباري.

٦ ـ رسالة في التفصيل بين جلود السباع وغيرها.

٧ ـ رسالة في المتمم كرّاً.

٨ ـ رسالة في العصير العنبي.

٩ ـ تعاليق على الفصول في الأصول.

١٠ ـ صيانة الإبانة عن وصمة الرطانة.

__________________

(١). الأعلام ٥ : ١٣٥.

١٢

١١ ـ قاعدة لا ضرر ، (مطبوع).

١٢ ـ قاعدة الواحد البسيط.

١٣ ـ قاعدة الطهارة.

١٤ ـ القول الصراح في نقد الصحاح ، (وهي هذه الرسالة القيّمة بين يديك).

١٥ ـ المناظرات مع الآلوسي ، وهي ثلاث رسائل ، الصغير ، والوسيط ، والكبير.

هذا ما عدا حواشيه على كثير من الكتب الدراسية ورسائله العملية الفتوائية لعمل مقلديه ، وغيرها (١).

وقد ذكر المحقق منهجه في التحقيق وهو كما يلي :

كلمة المحقق

اعتمدنا في تحقيق هذا الأثر النفيس على النسخة التي كانت في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق المعمورة بإشراف صاحب السماحة العلامة آية الله الأُستاذ الشيخ جعفر السبحاني دام ظله ، فإنه منّ عليّ بمخطوطها.

والنسخة كانت بخط نستعليق جيد ولكن فيها أخطاء كثيرة.

ويظهر منها أيضاً ؛ كما أشار إليها الشيخ صاحب الذريعة ، أنّها كانت سقيمة ، فقد كتب على ظهر النسخة بخطه : «استكتبته عن نسخة بخط المؤلف وهي ناقصة الآخر ولم يسمّها طاب ثراه باسم ولكن اخترت له هذا الاسم

١٣

الكاشف عن معناه ، وكانت النسخة كراريس ، ضاعت منها صفحات أردت إحياءها ولم تحصل لي فرصة المقابلة والتصحيح الكامل وعملت له فهرس مطالبه تسهيلاً للتناول».

ونحن بحمد الله وجدنا في أثناء التحقيق أكثر الموارد المفقودة التي أشار إليها الشيخ صاحب الذريعة من المصادر المأخوذة المشار إليها في المتن ، وأدرجناها بين [].

وأما الصفحات الضائعة المتعلقة بآخر الكتاب فإنه قد ألحقنا تتمة ما في ترجمة سبط ابن الجوزي ، وأضفنا عليه ما بعدها تحت عنوان «التكملة» في تراجم بعض رجال الحديث لكي يكمل المقصود ويحصل المطلوب.

وأما المصادر والمآخذ المذكورة في الكتاب فكثيرة جداً ، فما وصلنا إليها أدرجناه في التخريجات ، وما لم نصل ، وكذا ما لم يكن له أهمية في التخريج سكتنا عنه».

* * *

هذا نص شيخنا المحقق ونحن بدورنا نتقدم بالشكر والثناء له ونرجو منه سبحانه أن يوفّقه لإخراج ما لعلمائنا من التراث الثمين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

جعفر السبحاني

مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٢٢ رجب المرجب ١٤٢١ ه

__________________

(١). مقدمة نخبة الأزهار : ١٠ و ١١.

١٤

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحيم الرحيم

الحمد لله تعالى والصلاة على رسوله وآله تتوالى.

قد بالغ علماء العامة في الثناء على الصحيحين أعني صحيح محمد بن إسماعيل البخاري ، وصحيح مسلم بن الحجاج القشيري ، وذكروا أنهما أصح الكتب بعد القرآن الكريم والفرقان العظيم ، وحكى جماعة منهم اجماع الأمة على صحة الأحاديث المودعة فيهما ، وتلقّيهم إياهما بالقبول (١) ، بل تعدى جماعة من محققيهم لاثبات كون أخبارهما مقطوعة الصدور عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ذكروا تصحيح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كتاب البخاري ، وإذنه في روايته عنه ، بل كتاب مسلم أيضاً كما ستعرف تفصيل ذلك كلّه ، وشنع جماعة منهم على الشيعة في تركهم العمل بأخبارهما ، وعدم اعتمادهم عليهما ، قال صاحب النواقض وهو الشهير : بالميرزا مخدوم الشريفي حفيد السيد الشريف في كتابه : من هفواتهم يعني الشيعة إنكارهم كتب الأحاديث الصحاح التي تلقّت الأمة بقبولها منها : صحيحا البخاري ، ومسلم الذَين مرّ ذكرهما.

قال أكثر علماء المغرب : أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى صحيح مسلم بن الحجاج القشيري (٢).

__________________

(١). مقدمة ابن الصلاح : ٢٢ ـ ٢٤ ، صيانة صحيح مسلم له أيضاً : ٨٥.

(٢). تاريخ بغداد ١٣ : ١٠١ ، صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح : ٦٧ ـ ٧١ ، مقدمة ابن الصلاح : ١٤ ـ ١٥ ، مقدمة النووي على صحيح مسلم ١ : ١٥ ، مقدمة فتح الباري : ٨ ، تدريب الراوي ١ : ٩٣.

١٥

وقال الأكثرون من غيرهم : صحيح محمد بن اسماعيل البخاري هو الأصح ، وما اتّفقا عليه ، هو ما اتّفق عليه الأمة ، وهو الذى يقول فيه المحدِّثون كثيراً : صحيح متّفق عليه ، ويعنون به اتّفاقهما ، لا اتفاق الأمة ، وان لزمه ذلك (١) ، واستدل (السيوطي) في الأزهار [المتناثرة في الأحاديث المتواترة ، في كثير من مواردها على الصحيحين ، ثمّ قال في تدريبه بعد كلام النووي : «اتّفاق الشيخين» وذكر الشيخ : يعني ابن الصلاح (أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه) قال : خلافاً لمن نفى ذلك ، محتجاً بأنه لا يفيد إلا الظن ، وإنّما تلقته الأمة بالقبول (٢) لأنه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يخطئ.

وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قويماً ، ثمّ بان لي أن الذي اخترناه أولاً هو الصحيح ، لأن الظن من هو معصوم من الخطاء لا يخطئ ، والأُمة في] (٣)

__________________

(١). انظر «النكت على ابن الصلاح» لابن حجر ١ : ٣٧١ ، التقييد والإِيضاح : ٤١ ـ ٤٢ ، ومقدمة شرح مسلم للنووي : ٢٠ ، ثمرات النظر في علم الأَثر : ١٣١.

(٢). أَمّا نسبة القول إِلى الأُمة بتلقيهم بالقبول في الصحيحين فإنَّه يتعيّن على المدعي إِقامة البرهان ، ولا يخفى إِنَّ اقامته على هذه الدعوى يعدّ أَمراً مستحيلاً ، لأن الأُمّة تتألف من قسمين :

الأَول : العامة من الناس وهم السواد الأَعظم.

الثاني : الخواص من الناس ، وهم العلماء والمجتهدون.

ومن البديهي أَنَّ القسم الأَول خارج عن دائرة البحث ، لأنَّ فيهم من لا يعرف الصحيحين أَصلاً ، وخروج هذا العدد الكبير قد يضر بالاتّفاق كما لا يخفى.

وأَما القسم الثاني : فمن العلماء والمجتهدين طائفة انتقدوا الصحيحين لا سيما صحيح البخاري وبيَّنوا موارد ضعفهما ، تارة في الاسناد وأُخرى في المتون ، وقد ذكرنا أَسماء جملة من الناقدين في الفصل الرابع من التكملة فراجع.

ولا شبهة أَيضاً لدى الفقيه أَنَّ خروج هذه الطائفة من العلماء تضر بالاتّفاق المزعوم حقيقة.

(٣). ما بين المعقوفتين بياض في نسخة الأصل وقد وصلناها بقرينة سياق الكلام من كتاب «الأزهار المتناثرة» و «تدريب الراوي» للسيوطي.

١٦

إجماعها معصومة عن الخطاء ، ولهذا كان الإجماع المبنى على الاجتهاد حجة مقطوعة بها ، وقد قال إمام الحرمين : لو حلف انسان بطلاق امرأة أن ما في الصحيحين مما حكما بصحته من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزمه الطلاق لإجماع المسلمين على صحته (١) ، ثمّ حكى السيوطي عن النووي انه قال : خالفه (أي ابن الصلاح) المحققون والأكثرون فقالوا : يفيد الظن ما لم يتواتر (٢). وقال : تلقى الأمة بالقبول إنما أفاد وجوب العمل بما فيها من غير توقف على النظر فيه بخلاف غير هما فلا يعمل به حتى ينظر فيه ويوجد فيه شروط الصحيح ولا يلزم من اجماع الأمة على العمل بما فيهما اجماعهم على القطع بأنه كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد اشتدّ انكار ابن برهان على من قال بقول الشيخ ، وبالغ في تغليطه (٣).

قال السيوطي : وكذا عاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا القول ، ثمّ قال : قال البلقيني : ما قاله النووي وابن عبد السلام ومن تبعهما ممنوع ، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصلاح ، عن جماعة من الشافعية كأبي إسحاق ، وأبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي الطيب ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعن السرخسي من الحنفية ، والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، وأبي يعلى وابن الزعواني من الحنابلة ، وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعرية ، وأهل الحديث قاطبة ، ومذهب السلف عامة بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صحة التصوف : فالحق به ما كان على شرطهما وإن لم يخرجاه ، وقال شيخ الإسلام : ما ذكره النووي في شرح مسلم من جهة الأكثرين ، أما

__________________

(١). تدريب الراوي ١ : ١٠٤.

(٢). المصدر السابق ١ : ١٠٥.

(٣). متن تدريب الراوي : ١٠٥ ، ومزيد القول في التكملة فليراجع.

١٧

المحققون فلا ، وقد وافق ابن الصلاح أيضاً المحققون (١).

ثمّ قال السيوطي بعد حكايته عن ابن كثير أيضاً موافقة ابن الصلاح قلت : وهو الذي اختاره ولا أعتقد سواه. انتهى كلام السيوطي (٢).

وقد ذهب ابن تيمية الذي يستندون بافاداته ويبتهجون بهفواته إلى قول ابن الصلاح أيضاً على ما في إمعان النظر.

وقال شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني في «شرح نخبة الفكر» : الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم خلافاً لمن أبى ذلك ، قال : هو أنواع :

منها : المشهور اذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل.

منها : ما أخرجه الشيخان في صحيحهما ما لم يبلغ حدّ التواتر ، فإنه احتف به قرائن.

منها : جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح عن غيرهما ، وتلقّي العلماء لكتابهما بالقبول ، وهذا التلقّي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر. قال : وليس الاتفاق على وجوب العمل فقط ، فإن الاتفاق حاصل على وجوب العمل بكل ما صحّ ولو لم يخرجه الشيخان ، فلم يبق للصحيحين في هذا مزية ، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة ، وممن صرّح من أئمة الأصول بافادة ما خرّجه الشيخان العلم اليقيني النظري ، الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، ومن

__________________

(١). تدريب الراوي ١ : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢). المصدر السابق ١ : ١٠٦.

١٨

أئمة الحديث أبو عبد الله الحميدي ، وأبو الفضل بن الطاهر انتهى (١).

وبالغ بعض أواخرهم في اثبات قطعية صدور أحاديثهما حتى ألّف في ذلك رسالة مستقلّة سمّاها «غاية الإيضاح في المحاكمة بين النووي وابن الصلاح» ، وأدرج هذه الرسالة في كتابه المسمّى ب «الدراسات» ، وأطال فيه لكنه لم يأت في الاستدلال للطرفين بغير ما عرفت في عبارة السيوطي ، وحاصل تحريره لدليل ابن الصلاح : «أن تصحيح الحديث ملازم للظن بصدوره ، فالإجماع على الصحة معناه حصول الظن من جميع الأُمة بالصدور ، وظن الأُمة بأجمعهم مقطوع العصمة عن الخطاء بدليل قطعية الإجماعات الاجتهادية ، ثمّ إنه أربى على من تقدم عليه فلم يرض بما استثناه غيره مما انتقد أحد من الحفاظ ، أو وقع التجانب بين مدلوليه ، فذهب إلى أن الخبرين المتناقضين كلاهما مقطوع الصدور ، وعدم ظهور وجه الجمع بينهما لا يدل على عدمه في الواقع ، وأما ما انتقد عليهما ، فهو أيضاً لم ينزل عن أعلى درجات الصحة ، وهي درجة ما أخرجه الشيخان ، ونفي الريب عن وجوب العمل بالمنتقد منهما من غير نظر ووقفة إلى ما يندفع به ذلك الانتقاد بمجرد إخراجهما [له وجوباً مؤكداً لا يوجد في صحيح غيره فان حكم كلّ حديث صحيح ولو في أدنى مراتب الصحة وجوب العمل لحصول الظن الغالب ، ولكنّ بين ظن وظن ما يكاد يشبه ما بين اليقين والشك ، فوجوب العمل هذا بمجرد اخراجهما] (٢) ، فكيف اذا نظر فيما أجابوا عن ذلك ، وبما جعلوه هباءً منثوراً ، وتصدّى جماعة للجواب عما

__________________

(١). شرح نخبة الفكر : ٢٦ ـ ٢٧ ، ولكنّ ترتيب الوجوه المذكورة في شرح نخبة الفكر في نسخة المطبوعة يختلف مع ما ذكر في المتن بالتقدم والتأخير.

(٢). ما بين [] على ما في دراسات اللبيب.

١٩

تكلّم فيه من أحاديث الصحيحين أو أحدهما بل أفرد بعضهم كتاباً في ذلك وهو العراقي ، وأجاب شيخ الإسلام في مقدمة شرحه عن جميع ما انتقد على البخاري» انتهى بمحصله (١).

وعثرت على كلام جماعة غير من تقدم يطول ذكرهم ذهبوا إلى ما ذهب إليه هؤلاء لا فائدة مهمة في نقل خرافاتهم ، وأطرف من هذا كله ما ذكره الشيخ أحمد النخلي مفتي الحنفية ، المترجم في كتاب «سلك الدرر في أعيان القرن الثانى عشر» (٢) ، والكتاب موجود في خزانة كتب حرم المدينة المنورة ، حيث قال في رسالته التي ذكر فيها مشايخه ومروياته ، والرسالة موجودة في خزانة كتب حرم مكة ، ما هذا لفظه :

أخبرنا شيخنا السيد السند أحمد بن عبد القادر ، نفع الله تعالى به قال : أخبرنا جمال الدين القيرواني ، عن شيخه الشيخ يحيى الخطاب المالكي المكي ، قال : أخبرنا عمّي الشيخ بركات الخطابي ، عن والده ، عن جده الشيخ محمد بن عبد الرحمن الخطاب شارح مختصر خليل ، قال : مشينا مع شيخنا العارف بالله الشيخ عبد المعطي التنوسي ، لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا قربنا من الروضة الشريفة ، ترجّلنا فجعل الشيخ عبد المعطي يمشي خطوات ويقف ، حتى وقف تجاه القبر الشريف فتكلّم بكلام لم نفهمه ، فلما انصرفنا سألناه عن وقفاته؟ فقال : كنت أطلب الإذن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القدوم عليه ، فإذا قال

__________________

(١). دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب : ٣٠٨ ـ ٣٢٥ ، وهذه الاسطر القلائل حصيلة ما يقرب عشرين صفحة كما تلاحظ وفيها مباحث دقيقة حول أخبار الصحيحين وما يترتب عليهما بعد فرض التناقض والتضاد بين مدلوليهما.

(٢). سلك الدرر ١ : ١٧١ والكتاب قد طبع في مجلدين.

٢٠