القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع

شيخ الشريعة الإصبهاني

القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع

المؤلف:

شيخ الشريعة الإصبهاني


المحقق: الشيخ حسين الهرساوي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٦

وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ، فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولّاه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين نحره إلى لبَّته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده ، حتى أنقى جوفه ، ثمّ أتى بطست من ذهب فيه تورٌ من ذهب محشوّاً إيماناً وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني : عروق حلقه ـ ثمّ أطبقه ثمّ عرج به الى السماء الدنيا ، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء : من هذا؟ فقال : جبرئيل ، فقالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد ، قال : وقد بعث إليه؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحباً به وأهلاً الى آخر ما ذكره (١).

وأورده مسلم أيضاً في صحيحه ، وقال النووي في شرح مسلم ، قوله ذلك : قبل أن يوحي إليه : وهو غلط لم يوافق عليه ، فإن الاسراء أقل ما قيل فيه ، أنه كان بعد مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمسة عشر شهراً.

وقال الحربي : كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة.

وقال الزهري : كان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين ، وقال ابن اسحاق : أسري به وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل ، وأشبه هذه الاقوال قول الزهري ، وابن اسحاق ، اذ لم يختلفوا أن خديجة رضي الله عنها صلّت معه بعد فرض الصلاة عليه ، ولا خلاف في أنها توفيت قبل الهجرة بمدّة ثلاث سنين وقيل بخمس.

__________________

(١). صحيح البخاري كتاب التوحيد باب قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) ـ النساء : ١٦٤ ـ رقم ٧٥١٧ ، وكتاب المناقب باب كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه ، رقم ٣٥٧٠.

١٢١

ومنها : أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟!

وأما قوله : في رواية شريك ، وهو نائم ، وفي الرواية الأُخرى : بينا أنا عند البيت ، بين النائم واليقظان ، فقد يحتج به من يجعلها رؤية نوم ، ولا حجة فيه ، اذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه ، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلّها.

هذا الكلام للقاضي رحمه‌الله ، وهذا الذي قاله في رواية شريك ، وان أهل العلم أنكروها ، قد قاله غيره ، وذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد في صحيحه وأتى بالحديث مطولاً.

قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر هذه الرواية : هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر ، عن أنس وقد زاد فيه زيادة مجهولة ، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة ، وقد روى حديث الاسراء جماعة من الحفاظ المتقنين عن الائمة المشهورين ، كابن شهاب ، وثابت البناني ، وقتادة ، يعني عن أنس : فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث ، قال : والأحاديث التي تقدّمت قبل هذا هي المعول عليها (١).

وقال الكرماني في الكواكب الدراري : قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، في جملتها أنه قال : «ذلك قبل أن يوحي اليه» ، وهو غلط لم يوافق عليه.

__________________

(١). صحيح مسلم بشرح النووي ٢ : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

١٢٢

وأيضاً العلماء أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي.

أقول : وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء ، اذ قال : أبَعَثَ؟ قال : نعم ، صريح في أنه كان بعده (١).

وقال ابن القيم في زاد المعاد : فصل قال الزهري : عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة.

وقال ابن عبد البر وغيره : كان بين الاسراء والهجرة سنة وشهران ، وكان الاسراء مرة واحدة وقيل مرّتين ، مرّة يقظة ومرّة مناماً ، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله : ثمّ استيقظت ، وبين سائر الروايات.

ومنهم من قال : بل كان هذا مرّتين ، مرّة قبل الوحي بقوله : في حديث شريك : «وذلك قبل أن يوحى اليه» ومرّة بعد الوحي ، كما دلّت عليه سائر الاحاديث.

ومنهم من قال : بل ثلاث مرّات ، مرّة قبل الوحي ، ومرّتين بعده.

وكلّ هذا خبط ، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين اذا رأوا في قصة لفظ تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرّة أخرى ، فكلّما اختلف عليهم الروايات عدّدوا الوقائع.

والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الاسراء كان مرّة واحدة بمكة بعد البعثة ، ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه مراراً ، كيف ساغ لهم أن يظنّوا أنه في

__________________

(١). الكواكب الدراري ٢٥ : ٢٠٤.

١٢٣

كلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين ، ثمّ يتردّد بين ربه وبين موسى ، حتى تسير خمساً ، ثمّ يقول : «امضيت فريضتي وخفّفت عن عبادي ، ثمّ يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين ، ثمّ يحطها عشراً عشراً ، وقد غلّط الحفاظ شريكاً في الفاظ من حديث الاسراء (١).

حديث : تفضيل زيد بن عمرو بن نفيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ومنها : ما أورده في كتاب الذبائح : «حَدَّثَنا مُعَلى بنُ أَسَدٍ ، حَدَّثَنا عَبدُ العَزيزِ ـ يَعني ابنَ المُختارِ : أَخبَرَنا مُوسى بنُ عُقبَةَ قالَ : أَخبَرَني سالِمُ أَنَّهُ سَمِعَ عَبدَ اللهِ يُحَدِّثُ عَن رَسُولِ الله : أَنَّهُ لَقِيَ زَيدَ بنَ عَمرو بنَ نُفَيلٍ بِأسفَل بَلْدَحٍ ـ وَذاكَ قَبلَ أَنْ يُنزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوَحيُ ـ فَقَدَّمَ إِلَيهِ رَسُولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُفرَةً فِيها لَحْمٌ ، فَأبى أَنْ يَأكُلَ مِنْها ، ثُمَّ قالَ : إِنِّي لا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحونَ عَلَى أَنْصابِكُمْ ، وَلا آكُلُ إِلّا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيهِ»!!. (٢)

وأورد هذا الحديث الامام أحمد بن حنبل وأبو يعلى والبزار وغيرهم من أكابر القوم مع التصريح بأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما ذبح على النصب ، قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح البخاري :

وقد وقع في حديث سعيد بن زيد الذي قهر منه وهو عند أحمد ، فكان زيد يقول : عذت بما عاذ به ابراهيم ثمّ يخرُّ ساجداً للكعبة ، قال : فمرّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما فدعياه.

__________________

(١). زاد المعاد ٣ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢). صحيح البخاري ٦ : ٢٢٥ ، كتاب الذبائح ، باب : ما ذبح على النصب والأَصنام ط باموق ، فتح الباري ٩ : ٥١٨.

١٢٤

قال : يا ابن أخي لا آكل مما ذبح على النصب ، قال : فما رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل مما ذبح على النصب من يومه وذلك.

وفي حديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما ، قال : خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من مكة وهو مرد في مذبحنا شاة على بعض الأصنام فاذبحناها فلقينا زيد بن عمرو ، فذكر الحديث مطولاً ، فقال زيد : اني لا أكل مما لم يذكر اسم الله عليه (١).

وأورده البخاري أيضاً في موضع آخر من صحيحه ، لكن بتعبير وتبديل ، قال في كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو ابن نفيل : حدّثني محمد بن أبي بكر ، قال : حدّثنا فضيل بن سليمان ، حدّثنا موسى ، حدثنا سالم بن عبد الله بن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقى زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها.

ثمّ قال زيد : إني لست آكل مما تذبحون على انصابكم ، ولا آكل الّا ما ذكر اسم الله عليه ، وان زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ، ويقول : الشاة خلقها الله تعالى وانزل لها من السماء الماء وانبت لها من الارض ثمّ تذبحونها على غير اسم الله؟ انكاراً لذلك واعظاماً له (٢).

وأيّاً من هذه الروايات قلنا به يوجب اثبات طعن عظيم على سيد النبيين وأفضل المرسلين واثبات أعرفية زيد بالله وتعظيمه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويدل على أن مثل هذا الامر الذي ارتكز قبحه في عقل زيد الغير المتدين

__________________

(١). فتح الباري ٩ : ٥١٨.

(٢). صحيح البخاري كتاب المناقب ، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل رقم ٣٨٢٦.

١٢٥

بدين وفي عقول المتقطنين وان لم يكونوا بالشرائع ملتزمين ، قد خفي على سيد البشر نعوذ بالله من هذه الهذيانات.

اذ لو قيل بموجب رواية أحمد وأبي يعلى والبزار من أكله مما ذبح على النصب بل مباشرته لهذا الذبح مع زيد بن حارثة فالامر واضح ، ولو قيل بموجب ما رواه البخاري في كتاب الذبائح فهو أيضاً لا يخلو من رضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الامر الشنيع وحفظ هذا اللحم في السفرة وعدم آبائه عن أكله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته لزيد في الاكل منه واباء زيد وأعرفيته بالله منه وأورعيته وأعقليّته.

ولو قيل بموجب ما رواه في كتاب المناقب فكذلك اتحاد الحديثين ، فلا بد من ارجاع الضمير في قوله : فأبى ، إلى زيد كما هو سياق الكلام والمقام والحديث يفسّر بعضه بعضاً ، كما صرّح به أعيان العامة فيلزم جميع ما ذكرنا.

ولو تعسّف متعسّف فارجع الضمير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا أقل دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيداً إلى هذا الامر القبيح الذي تقرّرت حرمته في الشرائع السابقة بل في شريعة ابراهيم على ما اعترف بعض أعيانهم وارتكز قبحه في العقول ولننقل بعض كلمات القوم مما يتعلق بالمقام.

فنقول من عجيب الأمر أن ابن روزبهان لابتلائه بضيق خناق الالزام والافحام من علامة العلماء الاعلام حيث ذكر هذا الحديث بعين الالفاظ التي أوردها البخاري في كتاب الذبائح ، من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقى زيد بن عمرو فقدم اليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثمّ قال : اني لا آكل مما تذبحون على انصابكم! اضطرب واختلّ عقله وضاق عليه الامر فاختلق تتمة لهذا الحديث غير مرتبطة به لفظاً ولا معنى.

١٢٦

فقال : من غرائب ما يستدل به على ترك امانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق على نقله رواية هذا الحديث ، فقد روى بعض هذا الحديث ليستدل به على مطلوبه وهو الطعن في رواية الصحاح ، وما ذكر تمامه وتمام الحديث : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قال لزيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام ، قال : وأنا أيضاً لا آكل من ذبيحتهم ومما لم يذكر عليه اسم الله تعالى فاكلا معاً».

وهذا الرجل لم يذكره التتمة ليتمكن من الطعن في الرواية ، نسأل الله العصمة من التعصب فانه بئس الضجيع.

أقول : فيه أولاً : ان هذه التتمة موضوعة مختلقة افتراها واخترعها هذا الناصب ، ونسخ صحيح البخاري موجودة منتشرة في شرق العالم وغربها ليس فيها من هذه التتمة عين ولا أثر فليراجع من أراده.

وثانياً : انه إمّا أن يكون الضمير في الحديث في قوله : «فأبى» و «ثمّ قال» راجعاً إلى الرسول أو إلى زيد ، فان كان راجعاً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنفس العبارة المنقولة كافية في دفع الطعن ، ولا يتمكن من الطعن فيه وان لم تكن هذه التتمة موجودة مع أن صريح كلامه ابتناء عدم التمكن من الطعن ودفعه على هذه التتمة وأيضاً على التقدير فالضمير في هذه التتمة في قوله : «قال وأنا أيضاً» ان كان راجعاً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا معنى له أصلاً بل يصير من قبيل الهذيان ، اذ بعد قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث : أنا لا آكل ، فأي معنى لقوله ثانياً : وأنا أيضاً لا آكل؟

وان كان إلى زيد فلهذه التتمة مدخلية في دفع الطعن عن زيد؟ والكلام لم يكن فيه ، ولم يرده العلامة قدّس الله روحه حتى يحذف التتمة لاجله ،

١٢٧

وان كان الضمير في الحديث في قوله : «فأبى ثمّ قال» راجعاً إلى زيد فلا معنى لقوله : لما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزيد هذا الكلام.

فان هذا الكلام على هذا التقدير لم يقله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل قاله زيد ولا شبهة في أن هذا الكلام إشارة إلى الكلام المنقول في عبارة العلامة رحمه‌الله.

وبهذا التقرير يعلم خيانة ابن روزبهان في النقل وافترائه كما يعلم من سخافة عقله وقلّة ادراكه ، حيث أنه اختلق عبارة لا يمكن ارتباطها بالحديث وقد اقتصر العلامة التستري نوّر الله مرقده لتوضيح الفقرة الاولى أعني خيانته في النقل ، دون الثانية قبالاً لما تفوّه به في حقّ العلامة ، لا من جهة أنه خفي عليه ما قرّرناه.

فقال رحمة الله عليه : من بدائع حيل هذا الناصب العاجز الكاذب الخائن أنه لما أراد التفصي عن التشنيع المتوجه على أصحابه في هذه الرواية بضمّ بعض ما اخترعه من العبارات أرعد وأبرق أولاً تشدّد في اظهار التعجب والغرابة ونسبة المصنّف قدس الله روحه إلى الخيانة والتقصير ، وختم ذلك بسؤال العصمة عن التعصب ليسدّ بذلك باب رجوع الناظرين إلى مأخذ الرواية فلا يظهر خيانته فيها بالزيادة عليها.

والحاصل إنّا قد راجعنا صحيح البخاري فكان الحديث كما نقله المصنّف تغمده الله بغفرانه ، ولم يكن من الاضافة التي ذكرها هذا الناصب الخائن الشقي عين ولا أثر ، فمن أبى لحسن ظنه في هذا الشقي السقيم فليراجع ذلك الصحيح ، ليتّضح له ما أتى به من الكذب الصريح.

ومن هاهنا أيضاً يظهر صدق ما أشرنا إليه في بعض المباحث ، من أن

١٢٨

أصحاب الناصب يعدّ ما نبّههم الشيعة على شناعة بعض أحاديثهم ، يزيدون على ذلك أو ينقصون عنه على حسبما عرض لهم من ضيق الخناق فلا يعتد بما يرويه أهل الشقاق انتهى كلامه رفع مقامه.

وليعلم أن جماعة من أعيانهم كالجرجاني والاسماعيلي وغيرهما نقلوا الفاظ الحديث المروي في كتاب المناقب أيضاً مطابقة لما في باب الذبائح.

قال في فتح الباري في شرح البخاري قوله : فَقُدِّمَت بضم القاف ، قوله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا الأكثر ، وفي رواية الجرجاني ، وكذا أخرجه الزبير بن بكار والفاكهي وغيرهما (١).

ولننقل بعض كلماتهم الأُخر مما يتعلق بالمقام.

قال ابن حجر العسقلاني : قال الداودي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعث يجانب المشركين في عباداتهم ولكن لم يكن يعلم ما يتعلق بأمر الذبائح ، وكان زيد قد علم ذلك من أهل الكتاب الذين لقيهم (٢) ، وسخافته ظاهرة.

وقال السهيلي في روض الانف بعد نقل الحديث : وفيه سؤال يقال : كيف وفّق الله زيد إلى ترك أكل ما ذبح على النصب وما لم يذكر اسم الله عليه! ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت الله له من عصمته!؟

فالجواب من وجهين :

الاول : انه ليس في الحديث حين لقيه ببلدح ، فقدمت إليه السفرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل منها ، وانما في الحديث أن زيداً قال حين قدمت السفرة لا اكل مما لم يذكر اسم الله عليه.

__________________

(١). فتح الباري ٧ : ١١٢.

(٢). فتح الباري ٧ : ١١٣ كتاب المناقب باب ، حديث زيد بن عمرو بن نفيل.

١٢٩

الجواب الثاني : ان زيداً انما فعل ذلك برأي رآه لا بشرع متقدّم ، وإنّما تقدم شرع ابراهيم بتحريم الميتة لا بتحريم ما ذبح لغير الله ، وانّما نزل تحريم ذلك في الاسلام.

وبعض الأُصوليين يقولون : الأشياء قبل ورود الشرع على الاباحة ، فان قلنا بهذا وقلنا ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأكل مما ذبح على النصب ، فإنّما فعل مباحاً ، وان كان لا يأكل منها فلا اشكال ، وان قلنا أيضاً ، أنها ليست على الاباحة ولا على التحريم وهو الصحيح.

فالذبائح خاصة لها أصل في تحليل الشرع المتقدم ، فالشاة والبعير ونحو ذلك ممّا أحلّه الله تعالى في دين من قد كان قبلنا ، ولم يقدح في ذلك التحليل المتقدم ما ابتدعوه حتى جاء الاسلام وأنزل الله سبحانه : «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ» (١).

ألا ترى كيف بقيت ذبائح أهل الكتاب عندنا على أصل التحليل بالشرع المتقدم ولم يقدح في التحليل ما أحدثوه من الكفر وعبادة الصلبان ، فكذلك كان ما ذبحه أهل الاوثان محلّلاً بالشرع المتقدم حتى خصّه القرآن بالتحريم (٢).

وقال الزركشى ، وهو من أكابر القوم ، في كتاب التنقيح بعد نقل الحديث : ان قيل كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بهذه الفضيلة ، قلنا : ليس في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكل من السفرة.

وأجاب السهيلي : بأن زيداً انما قال ذلك برأي منه لا شرع متقدم ، وفي

__________________

(١). الانعام : ١٢١.

(٢). روض الأنف ٢ : ٣٦١ ـ ٣٦٣.

١٣٠

شرع ابراهيم تحريم الميتة لا تحريم ما ذبح لغير الله وانّما نزل تحريم ذلك في الاسلام ، وهذا الذي قاله ضعيف ، بل كان في شريعة الخليل تحريم ما ذبح لغير الله ، وقد كان عدوّ الاصنام ، والله تعالى يقول : «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» (١).

وبالجملة فرواية نسبة أكل مما ذبح على النصب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما صرّح في رواية أحمد وأبو يعلى والبزار وغيرهم أو دعوته غيره إلى أكله مع أنه ممّا يجتنب عنه اليهود والنصارى ويختصّ بعابدي الأصنام مما لا تخفى.

حديث : «كَذب ابراهيم ثلاث كذبات»

ومنها : ما يدل على صدور الكذب عن ابراهيم وهو مروي في الصحيحين والفاظه على ما في الجمع بين الصحيحين هكذا :

ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في صفة حال الخلق يوم القيامة : وانهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر اليهم ، فيأتون نوحاً فيعتذر اليهم ، فيأتون ابراهيم فيقولون : يا ابراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الارض ، اشفع لنا إلى ربك ، أما ترى ما نحن فيه ، فيقول لهم ان ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله ، واني قد كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري (٢).

__________________

(١). النحل : ١٢٣.

(٢). صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن ، سورة بني اسرائيل رقم ٤٧١٢ ، وفي كتاب أحاديث الأنبياء باب ، «يزفون» النسلان في المشي ، رقم ٣٣٦١ ، وفي النسخة التي كانت بأيدينا : فقال ابراهيم : نفسي نفسي ، اذهبوا إلى موسى.

١٣١

وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لم يكذب ابراهيم النبي قط الّا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله وواحدة في شأن سارة (١).

وما ذكروا في توجيهه ، من أن المراد «صورة الكذب» ينافي امتناعه من الشفاعة لأجلها وينافي غضب الربّ لأجلها.

قال الفخر الرازي : واعلم ان بعض الحشوية روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ما كذب ابراهيم إلّا ثلاث كذبات ، فقلت : الاولى أن لا يقبل مثل هذه الاخبار ، فقال على طريق الاستنكار : ان لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة ، فقلت له : يا مسكين ان قلناه لزمنا الحكم بتكذيب ابراهيم عليه‌السلام ، وان أردناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون ابراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب (٢).

حديث امتناع علي بن أبي طالب عن صلاة الليل

ومنها : ما أورده في غير موضع منه مما يدل على امتناع أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عن صلاة الليل ، أعني التهجد ، واحتجاجه على تركها بشبهة الجبرية التي لا يسوغ لأحد التمسك بها وان كان قائلاً بالخبر كما ستعرف في كلامهم.

قال البخاري في باب تحريص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صلاة الليل والنوافل :

عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي فقال : لا تصليان؟

__________________

(١). نفس المصدر : كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) رقم ٣٣٥٧ ، كتاب النكاح باب اتخاذ السراري رقم ٥٠٨٤ ،

(٢). التفسير الكبير ٢٢ : ١٨٥ و ٢٦ : ١٤٨ ، وفيه لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلّا الزنديق.

١٣٢

فقلت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنفسنا بيد الله لو شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قلت له ولم يرجع اليّ ، ثمّ سمعته وهو مولّ يضرب فخذه ويقول : كان الانسان أكثر شيء جدلاً (١) ، وأورده أيضاً في كتاب التفسير في باب (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٢).

وأورده أيضاً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٣).

وأورده أيضاً في كتاب ردّ الجهمية وغيرهم في باب المشيّة والارادة (٤).

وذكر جماعة من متأخري العامة هذا الخبر الموضوع في مقابل الرواية الصحيحة الثابتة بطرقهم وطرق الشيعة ، من أن عمر ردّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : ايتوني بدواة وقرطاس ونسبته إلى الهجر ، فقالوا : كما وقع من عمر هذا فقد وقع من علي عليه‌السلام ، فما هو الجواب هنا هو جوابنا ثمة!.

ولعمري أن هذه المعارضة والمقابلة غاية الحماقة ونهاية الخرافة ، اذ فيها مضافاً إلى وجوه الفرق بين القضيّتين أن هذا الخبر من موضوعات عهد بني أميّة ولم يرد في كتاب من كتب الشيعة.

والاستشهاد برواية البخاري كاستشهاد ابن آوى بذنبه ، بل هو مخالف لما ثبت وصحّ في كتب الفريقين من كثرة عبادته عليه‌السلام حتى قال جماعة من العامة ، منهم ابن أبي الحديد : أن الناس تعلموا منه المواظبة على صلاة الليل والعبادات.

__________________

(١). صحيح البخاري باب ٥ ، تحريص النبي على صلاة الليل رقم ١١٢٧.

(٢). نفس المصدر : سورة الكهف باب ١ ، رقم ٤٧٢٤.

(٣). نفس المصدر : باب ١٧ ، رقم ٧٣٤٧.

(٤). نفس المصدر : كتاب التوحيد باب ٣١ ، رقم ٧٤٦٥.

١٣٣

بل بعد تسليم الخبر أيضاً لا معنى للمعارضة ، قال ابن حجر ردّاً على ابن بطّال ، ما لفظه : ومن اين له أن علياً لم يمتثل ما دعاه الله ، فليس في القصة تصريح بذلك وانّما أجاب علي بما ذكر اعتذاراً عن تركه القيام بغلبة النوم ولا يمتنع أنه صلّى عقيب هذا المراجعة وليس في الخبر ما ينفيه.

ولننقل بعض كلمات ابن تيمية في المنهاج مما يعلم منه غاية نصبه وشقاوته وضلالته وانهماكه في عداوته حيث أنه أطال الكلام في مواضع عديدة من كتابه في بطلان التمسك بشبهة القدر وأن بطلانها ضروري ثمّ نسب صريحاً التمسك بها إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

الاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتّفاق كلّ ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة ، اذا احتج بها في ظلم ظلمه ايّاه وترك ما يجب عليه من حقوقه ، بل يطلب منه ماله عليه ويعاقبه على عدوانه عليه ، وانما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم ، فكما انّك تعلم فسادها بالضرورة وان كانت تعرض كثيراً لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه ، وغير ذلك من المعارف الضرورية ، فكذلك هذا يعرض في الاعمال حتى يظن أنها شبهة في اسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك ، واباحة الكذب والظلم وغير ذلك.

ويعلم بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ، ولهذا لا يقبلها أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد الّا مع عدم علمه بالحجة بما فعله ، فاذا كان معه علم بان ما فعله هو المصلحة وهو المأمور ، وهو الذي ينبغي فعله ، لم يحتج بالقدر وكذلك اذا كان معه علم بان الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأموراً به لم يحتج بالقدر ، بل اذاً كان متبعاً لهواه بغير علم احتج بالقدر ، ولهذا

١٣٤

قال المشركون : «لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» قال الله تعالى : «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» (١)

فان هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة فان أحدهم لو ظلم الآخر ، أو حرج في ماله ، أو فرج امرأته ، أو قتل ولده ، أو كان مصرّاً على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال : لو شاء الله لم أفعل هذا ، لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره ، وانما يحتج بها المحتج رفعاً للوم بلا وجه.

فقال الله لهم : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة ينبغي فعله ، ان تتبعون إلّا الظن ، فانه لا علم عندكم بذلك ، ان تظنون ذلك الّا ظنّاً وان أنتم إلّا تخرصون تحرزون وتفترون ، فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ليس في عمدتكم في نفس إلّا وكون الله شاء ذلك وقدره.

فإن مجرد المشيّة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل ولا حجة لأحد على أحد ولا عذراً لأحد اذ الناس كلهم مشتركون في القدر ، فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر ، ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الاعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم.

وهؤلاء المشركون المحتجّون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من

__________________

(١). الانعام : ١٤٨ ـ ١٤٩.

١٣٥

توحيده والايمان به لو احتج به بعضهم على بعض في سقوط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه ، بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضاً ويعادي بعضهم بعضاً ، ويقاتل بعضهم بعضاً ، على فعل (ما يرونه) (١) تركاً لحقهم أو ظلماً ، فلما جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إلى حق الله على عبادة وطاعة أمره احتجوا بالقدر (٢).

وقال في موضع آخر : وهذا السؤال أعني لزوم افحام الانبياء في جواب الكفار ، انما يتوجه على من يسوّغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره ، اذا عصى بأن هذا مقدر عليّ ، ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة ، أي الحقيقة الكونية.

وهؤلاء كثيرون في الناس وفيهم من يدعي أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في توحيد الربوبية ، ويقولون : أن العارف اذا فنى في شهود توحيد الربوبية ، لم يستحسن حسنه ولم يستقبح قبحه (٣) ، ويقول بعضهم من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ، ويقول بعضهم الخضر عليه‌السلام سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة.

وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ النساك والصوفية والفقراء بل في الفقهاء والأمراء والعامة ، ولا ريب أن هؤلاء شرٌّ من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالامر والنهي وينكرون القدر وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة.

__________________

(١). من يريد ، ن خ.

(٢). منهاج السنة ٢ : ٢ ـ ٣.

(٣). سيئته ، ن خ.

١٣٦

فان من أقرّ بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرمات ولم يقل أن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي ، هو قد قصد تعظيم الأمر وتنزيه الله تعالى عن الظلم واقامة حجة الله على نفسه لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة وبين المشية العامة ، وخلقه الشامل وبين عدله وحكمته ، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، فجعل الله الحمد ولم يجعل له تمام الملك.

والذين اثبتوا قدرته ومشيّته ، وخلقه وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شرٌّ من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنّف (١).

فان قولهم يقتضي افحام الرسل ، ونحن انما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلاً ، وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل وليس لأحد أن يردّ بدعة ببدعة ولا يقابل باطلاً بباطل.

والمنكرون للقدر وان كانوا في بدعة فالمحتجّون به على الامر أعظم بدعة وان كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل ، الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آبائنا ولا حرّمنا من دونه من شيء.

وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم جماعة من هؤلاء القدرية ، وأما المحتجون بالقدر على الامر فلا يعرف لهم طائفة من طوائف المسلمين معروفة وانّما كثروا في المتأخرين (٢).

وهذه الكلمات كلّها كما ترى تسليم التشنيعات التي أوردها العلامة قدس

__________________

(١). يعني العلامة رحمه‌الله.

(٢). منهاج السنة ٢ : ٨.

١٣٧

سره على العامة أعني على الاشاعرة ، منهم الذين هم الاكثرون عدداً وعدّة ، ومع هذا كلّه قال هذا الناصب ما نقلنا عنه ، أولاً ما هذا لفظه :

ثمّ يعلم ان هذه الحجة باطلة بصريح العقل ، عند كل أحد مع الايمان بالقدر ، وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر ، وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرة ، ولا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلّا بذلك.

فلا بد أن يتأمروا بما فيه محصل منافعهم ودفع مضارهم ، سواء بعث إليهم رسول أم لم يبعث ، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم ، والرسل صلوات الله عليهم ، بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

فاتباع الرسل أكمل الناس في ذلك ، والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقّهم ، فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح ، فهم شرّ الناس ، ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها وأمور يجتنبونها ، وأن يتدافعوا جميعاً ما يضرهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك.

فلو ظلم بعضهم بعضاً في دمه ، أو ماله ، أو حرمه ، فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة ، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر ، ولو قال : اعذروني ، فان هذا كان مقدراً عليَّ ، لقالوا : وأنت لو فعل بك ذلك ، فاحتج عليك ظالمك بالقدر ، لم تقبل منه ، وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه ، وان كان الاحتجاج بالقدر مردوداً في فطر جميع الناس وعقولهم ، مع ان جماهير الناس مقرّون بالقدر ، علم أن الاقرار بالقدر لا

١٣٨

ينافي دفع الاحتجاج به ، بل لا بد من الايمان به ، ولا بد من ردّ الاحتجاج به.

ولما كان الجدل ينقسم إلى حقّ وباطل وكان من لغة العرب : أن الجنس ، اذا انقسم إلى نوعين : أحدهما أشرف من الآخر ، خصوا الأشرف باسم الخاص ، وعبّروا عن الآخر ، باسم العام ، كما في لفظ الجائز العام والخاص ، والمباح العام والخاص ، وذوي الأرحام العام والخاص ، ولفظ الجواز ، العام والخاص ، ويطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق ، لاختصاص الناطق باسم الانسان غلبوا في لفظ الكلام والجدل ، فلذلك يقولون : فلان صاحب كلام ومتكلّم ، اذا كان قد يتكلّم بلا علم ، ولهذا ذم السلف ، أهل الكلام والجدل.

فاذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة ، لم يكن الّا جدلاً محضاً ، والاحتجاج بالقدر من هذا الباب ، كما في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال : طرقني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة فقال : ألا تقومان فتصليان ، فقلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ، قال فولّى وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ، فإنّه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل علي بالقدر ، وأنه لو شاء الله لأيقظنا ، علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان هذا ليس فيه إلّا مجرد الجدل الذي ليس بحق ، فقال : وكان الانسان أكثر شيء جدلاً (١).

وأنا والله استحيي من بيان لوازم كلامه الميشوم سيما بعد ضم بعضها إلى بعض ، وتعصّبات هذا الملحد الزنديق وتحاملاته كثيرة لم أر أحداً من علماء العامة بلغ مبلغه في التعصب وتجاسر على بعض ما صدر عنه ، وقد تقدم كلامه في حجية أقوال العترة الطاهرة.

__________________

(١). منهاج السنة ٢ : ١٠ ـ ١١.

١٣٩

وبلغ من تعصبه إلى أن صنّف رسالته في فضل معاوية ويزيد ، كما ذكره صلاح الدين في فوات الوفيات المذيّل على تاريخ ابن خلّكان ، فانه اثنى عليه أولاً بأوصاف جميلة ، فقال : شيخنا الامام الرباني امام الائمة ومفتي الأُمة وبحر العلوم سيد الحفاظ وفارس المعاني والالفاظ فريد العصر وقريع الدهر شيخ الاسلام قدوة الانام علامة الزمان وترجمان القرآن علم الزهاد وأوحد العباد قامع المبتدعين وآخر المجتهدين نزيل دمشق صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها ثمّ ضيّع ستّ ورقات تقريباً في أحواله ثمّ عدّ من مصنّفاته رسالة في فضل معاوية وابنه يزيد (١).

ابن تيمية وطاعة أولى الأمر

وقال في موضع من المنهاج : أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وليا الامر ، والله قد أمر بطاعة أولى الأمر ، وطاعة ولي الأمر طاعة الله ومعصيته معصية الله ، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه ، وعلي وفاطمة ردّا أمر الله وسخطا حكمه وكرها رضى الله ، لان الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الامر طاعته فمن كره طاعة ولي الامر فقد كره رضوان الله ، والله يسخط بمعصيته ومعصية ولي الامر معصيته ، فمن اتبع معصية ولي الامر فقد اتبع ما اسخط الله وكره رضوانه (٢).

كفانا بهذا قدحاً في أبي بكر وعمر حيث انهما أسخطا علياً وفاطمة صلوات الله عليهما ومن أسخطهما فقد أسخط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في

__________________

(١). فوات الوفيات ١ : ٧٤ ـ ٧٧.

(٢). منهاج السنة ٢ : ١٧١ ـ ١٧٢.

١٤٠