الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

غير مأخوذة عن نبي أصلا فهي معاص مفتراة على الله عزوجل بيقين لا شك فيه. وبالله تعالى التوفيق.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا حين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إن شاء الله لا إله إلّا هو في تبيين أن الواحد ليس عددا فنقول وبالله تعالى التوفيق :

إن خاصة العدد هو أن يوجد عدد آخر مساو له ، وعدد آخر ليس مساويا له ، هذا شيء لا يخلو منه عدد أصلا.

والمساواة هي : أن تكون أبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت ، ألا ترى أن الفرد والفرد مساويان للاثنين ، وأن الزوج والفرد ليسا مساويين للزوج الذي هو الاثنان ، والخمسة مساوية للاثنين والثلاثة ، غير مساوية للثلاثة وهكذا كل عدد في العالم؟ فهذا معنى قولنا : إن المساوي وغير المساوي هو خاصة العدد ، وهذه المساواة أردنا لا غيرها ، فلو كان للواحد أبعاض مساوية له لكان كثيرا بلا شك ، لأن الواحد المطلق على الحقيقة هو الذي ليس كثيرا ، هذا ما لا شك فيه عند كل ذي حس سليم. وكان ما كان له أبعاض فهو مركب كثيرا (١) بلا شك ، فهو إذا بالضرورة ليس واحدا ، فالواحد ضرورة هو الذي لا أبعاض له ، فإذ لا شك فيه فالواحد الذي لا أبعاض له تساويه عددا ، وهو الذي أردنا أن نبين ، وأيضا فإن الحسّ وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد إذ لو لم يكن الواحد موجودا لم يقدر على عدد أصلا ، إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا يوصل إلى عدد ولا معدود إلّا بعد وجوده ، ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم عدد ولا معدود أصلا ، والعالم كله أعداد ومعدودات موجودة ، فالواحد موجود ضرورة. فلما نظرنا في العالم كله نظرا طبيعيا ضروريا لم نجد فيه واحدا على الحقيقة البتة بوجه من الوجوه ، لأن كل جرم من العالم فمنقسم محتمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبدا بلا نهاية ، وكل حركة فهي أيضا منقسمة بانقسام المتحرك بها والزمان حركة الفلك فهو منقسم بانقسام الفلك ، فكل مدة فمنقسمة أيضا بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة ، وكذلك كل معقول من جنس أو نوع أو فصل ، وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم بانقسام حامله ، هذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة ، وليس العالم كله شيئا غير ما ذكرنا ، فصح ضرورة أنه ليس في العالم واحد البتة.

__________________

(١) أي مركّب متكثّر. فلعل الصواب «كثير» بالرفع.

٨١

وقد قدمنا ببرهان ضروري آنفا أنه لا بدّ من وجود الواحد ، فإذ لا بدّ من وجود الواحد ، وليس هو في شيء من العالم البتة ، فهو إذا بالضرورة شيء غير العالم ، فإذ ذلك كذلك فبالضرورة التي لا محيد عنها فهو الواحد الأول الخالق للعالم ، إذ ليس يوجد بالعقل البتة شيء غير العالم ولا بوجه من الوجوه ، ولا واحد سواه البتة ، ولا أول غيره أصلا ، ولا مخترع فاعلا خالقا إلا هو وحده لا شريك له.

وإنما قلنا في كل فرد في العالم ، وهو الذي يسمى في اللغة عند العد واحدا على المجاز ، أنه كثير بمعنى أنه يحتمل أن يقسم ، وأن له مساحة كثيرة الأجزاء فإذا قسم ظهرت الكثرة فيه ، وأمّا ما لم يقسم فهو يعد فردا حقيقيا ، وقد ذكرنا برهان وجوب احتمال الانقسام لكل جزء في العالم في آخر كتابنا هذا ببراهين ضرورية لا محيد عنها ، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال قائل : فما تقول في الباء والتاء وسائر حروف الهجاء؟ أليس كل واحد منها واحدا لا ينقسم؟ قيل له وبالله التوفيق : إنّ هذا شغب ينبغي أن يتحفظ من مثله ، لأن الحرف إنما هو هواء يندفع من مخرج ذلك الحرف بعصر بعض آلات الصوت له من الرئة ، وأنابيب الصدر والحلق ، والحنك واللسان والأسنان والشفتين ، فإذ لا شك في هذا فذلك الهواء المندفع جسم طويل عريض عميق ، فهو محتمل الانقسام ضرورة ، فذلك الهواء هو الحرف ، فالحرف هو جسم محتمل للقسمة ضرورة ، وبالله تعالى التوفيق.

الكلام على من يقول إن البارئ خلق العالم جملة

كما هو بجميع أحواله بلا زمان

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ، من يذهب إلى ذلك ، وناظرناه على ذلك ، فقلت : إنّ الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى ، والذي نقول نحن من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكرا واحدا وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم منهما لا يمكنك إخراجه عن الإمكان. فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه؟ فتردد ساعة فلما لم يجد دليلا قال : فمن أين ملتم أنتم إلى هذه الحيثية دون تلك؟ فقلت : لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم.

منها : أنه لو كان ما قلت ، لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود ، من الشبان والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ، ويوقنون أنهم الآن به

٨٢

حدثوا ، وأنهم لم يكونوا قبل ذلك ، لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك.

ولو كان هذا لنقلوه إلى أولادهم نقلا يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولا بد ، كما يقتضي العلم الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع ، ولبلغ الأمر إلينا كذلك ، ولعلمه جميع الناس علما ضروريا ، لأن شيئا ينقله جميع أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبدا ، كما نقل طلوع الشمس وغروبها والموت والولادة وغير ذلك.

ونحن نجد الأمر بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض قاطبة لا يعرفون هذا ، بل لا يدريه أحد منهم ، وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن ، لا بخبر ونقل أصلا.

هذا ما لا تخالفنا فيه أنت ولا أحد من الناس ، فمن المحال الممتنع أن يكون خبر نقله جميع سكان العالم أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عما شاهدوه يخفى حتى لا يعرفه أحد من سكان الأرض ، هذا أمر يعرف كذبه بأول العقل وبديهته.

فقال : والذي تحكونه أنتم أيضا قد وجدنا جماعات ينكرونه فينبغي أن يبطل بما عارضتنا به. فقلت : بين النقلين فرق لا خفاء فيه ، لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل واحد ، وامرأة واحدة فقط ، وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني ، وما كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري ، إذ التواطؤ ممكن في ذلك ، ولو لا أن الأنبياء عليهم‌السلام الذين جاءوا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صحّ قولنا من جهة النقل وحده ، بل كان ممكنا أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق منهم ، لكن لما أخبر من صممت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدئ من النوع الإنساني إلا رجلا واحدا وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم.

وبرهان آخر : وهو أنكم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنساني بأن خلق ذكرا وأنثى ، ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك ببرهان أصلا ولا بدليل إقناعي فضلا عن برهاني. وقد صحت البراهين التي قدمنا قبل ، أنه لا بد من مبدأ (١) ضرورة ، فوجب ولا بدّ حدوث ذكر وأنثى ، وكان من ادّعى حدوث أكثر من ذلك مدّعيا لما لا دليل له عليه أصلا ، وما

__________________

(١) أي أوّل لكل شيء.

٨٣

كان هكذا فهو باطل بيقين لا مرية (١) فيه ، وكل ما ذكرت عنه نبوة في الهند والمجوس والصابئين واليهود والنصارى والمسلمين فلم يختلفوا في أن الله تعالى إنما أحدث الناس من ذكر وأنثى ، وما جاء هذا المجيء فلا يجوز الاعتراض عليه بالدّعوى. وإنما اختلف عنهم في الأسماء فقط وليس في هذا معترض لأنه قد يكون للمرء أسماء كثيرة فلم يمنع من هذا مانع وبالله تعالى التوفيق.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فلم نجد عندهم في ذلك معارضة أصلا ، وما علمنا أحدا من المتكلمين ذكر هذه الفرقة أصلا.

قال «أبو محمد» وقلت له في خلال كلامي معه : أترى العالم إذ خرج دفعة أخرج فيه الحوامل يطلقن ، والطباقون (٢) قعودا على أطباقهم يبيعون التين والسّرقين (٣)؟ فضحك وعلم أني سلكت به مسلك السخرية في قوله لفساده ، وقال لي : نعم. فقلت : ينبغي أن يكونوا كلهم أنبياء يوحى إليهم أولهم عن آخرهم بما هم عليه من العلوم والصناعات ، أو يلهمون ذلك.

وفي هذا من بطلان الدّعوى ما لا خفاء به.

وكان مما اعترض به : أن ذكر الجزائر المنقطعة في البحار ، وأنه يوجد فيها النمل والحشرات ، وكثير من الطير ، وكثير من حشرات الأرض ، فقلت : إن كل ذلك لا ينكر ذو حس دخوله في جملة رحالات المسافرين الداخلين إلى تلك البلاد فقد شاهدنا دخول الفئران في جملة الرحل كذلك ، وليس في ذلك ما يوجب ما ذكرت أصلا. مع أن الحيوان نوعان ، نوع متولد (٤) يخلقه الله تعالى من عفونات الأبدان ، وعفونات الأرض ، فهذا لا ينكر تولده بإحداث الله تعالى له في كل حين.

وقسم آخر متوالد (٥) قد رتب الله تعالى في بنية العالم أنه لا يخلقه إلّا عن منيّ ذكر وأنثى ، فهذا هو الذي صار في تلك الجزائر عن دخول المسافرين إليها بلا شك وبالله تعالى التوفيق.

وما ننكر في كل نوع ما عدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين ، فهذا

__________________

(١) المرية : الشكّ.

(٢) يقال : طبّق الجازر : أصاب الطّبق ، وهو المفصل (المعجم الوسيط : ص ٥٥٠).

(٣) السرقين (بكسر السين) ، ويقال أيضا السّرجين : الزبل (المعجم الوسيط : ص ٤٢٥ ، ٤٢٨).

(٤) أي من نفسه.

(٥) أي من حيوان آخر.

٨٤

ممكن في قدرة الله تعالى ، ولم يأت خبر صادق بخلافه ، لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليه‌السلام وسفينته حين الطوفان : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [سورة هود : ٤٠]. ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليه‌السلام مأمورا بأن يحمل من كلّ زوجين اثنين ، ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم.

وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط.

وبرهان آخر : وهو أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم ، من المعلوم ، والعلماء بها ، والصناعات ، والصانعين لها ، دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله (١) لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إمّا أن يكون ذلك بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى.

وإمّا بطبع مركب فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك ما صنعوا.

فإن كان بوحي إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم ، إذ ليست النبوة معنى غير هذا ، وهذه دعوى ممن قال بهذا القول بلا دليل ، وما لا دليل عليه فهو باطل ، لا يجوز القول به ، لا سيما والقائلون بها منكرون للنبوة ، فلاح تناقض قولهم.

وإن كان كل ذلك عن طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم ، متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا تعليم ولا توقيف ، فهذا محال ضرورة ، وممتنع في العقل وفي الطبيعة ، إذ لو كان ذلك لوجدوا أبدا كذلك ، إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد أبدا في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلا يأتي بعلم من العلوم لم يعلّمه إياه أحد ، ولا يتكلم بلغة لم يعلّمه إيّاها أحد ، ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها أحد.

وبرهان ذلك ما قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة (٢) ، والسودان ، والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها أبدا أحد يدري شيئا من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم ، وأنه لا ينطق أحد

__________________

(١) أوائل العقل : بديهياته.

(٢) الصقالبة : جيل من الناس كانت مساكنهم إلى الشمال من بلاد البلغار ، وانتشروا الآن في كثير من شرق أوروبا ، وهم المسمّون الآن بالسّلاف. انظر المعجم الوسيط (ص ٥١٩).

٨٥

حتى يعلمه معلم ، فظهر فساد هذا القول ببرهان وقبل البرهان بتعرية من البرهان ، وبالله تعالى التوفيق.

الكلام على من ينكر النبوّة والملائكة

البراهمة وإبطال آرائهم

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون إنهم من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم ، ولهم علامة ينفردون بها ، وهي خيوط ملونة بحمرة وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف ، وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلّا أنهم أنكروا النبوات.

وعمدة احتجاجهم في دفعها أن قالوا : لما صحّ أن الباري عزوجل حكيم ، وكان من بعث رسولا إلى من يدري أنه لا يصدقه فلا شك في أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل عن الله عزوجل لنفي العبث والعنت (١) عنه.

وقالوا أيضا : إن كان الله تعالى إنما بعث الرسل إلى الناس ليخرجهم بهم من الضلال إلى الإيمان فقد كان أولى به في حكمته وأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان به ، قالوا : فبطل إرسال الرسل على هذا الوجه أيضا.

ومجيء الرسل عندهم من باب الممتنع. وأمّا نحن فنقول : إنّ مجيء الرسل قبل أن يبعثهم الله تعالى واقع في باب الإمكان ، وأمّا بعد أن بعثهم الله عزوجل ففي حدّ الوجوب.

ثم أخبر الصادق عليه‌السلام عنه تعالى : أنه لا نبيّ بعده (٢) ، فقد جدّ الامتناع ولسنا نحتاج إلى تكلف ذكر قول من قال من المسلمين : إن مجيء الرسل من باب الواجب واعتلالهم في ذلك بوجوب الإنذار في الحكمة إذ ليس هذا القول صحيحا.

__________________

(١) العنت (بالتحريك) : الخطأ. وعنّته : شدّد عليه وألزمه ما يصعب عليه أداؤه. وأعنته : أوقعه في مشقّة وشدة (المعجم الوسيط : ص ٦٣٠).

(٢) روى الإمام أحمد في المسند (٣ / ٣٣٨) عن جابر بن عبد الله قال : لما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخلف عليّا رضي الله عنه قال له عليّ : ما يقول الناس فيّ إذا خلفتني؟ قال : فقال : «أما ترضى أن تكون مني بمنزله هارون من موسى؟ إلا أنه ليس بعدي نبيّ» أو «لا يكون بعدي نبي».

وروى أيضا (٦ / ٣٦٩ ، ٤٣٨) عن أسماء بنت عميس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعليّ : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبيّ».

٨٦

وإنما قولنا الذي بيناه في غير موضع أنه تعالى لا يفعل شيئا لعلّة (١) ، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ، وأن كل ما فعله فهو عدل وحكمة أي شيء كان.

فيقال وبالله تعالى التوفيق لمن احتج بالحجة الأولى من أن الحكمة تضاد بعثة الرسل ، وأن الحكيم لا يبعث الرسل إلى من يدري أنه يعصيه إنكم اضطركم هذا الأصل الفاسد الحاكم بذلك إلى موافقة المانية على أصولها في أن الحكيم لا يخلق من يعصيه ، ولا من يكفر به ويقتل أولياءه. وهم يقولون : إن الله تعالى خلق الخلق ليدلّهم به على نفسه.

ويقال لهم : قد علمنا وعلمتم أنّ في الناس كثيرا يجحدون الربوبية والوحدانية فقولوا : إنه ليس حكيما من خلق دلائل لمن يدري أنه لا يستدل بها.

فإن قالوا : إنه قد استدلّ بها كثير ، قيل لهم : وقد صدّق الرسل أيضا كثير.

فإن قالوا : إنه خلق الخلق كما شاء. قيل لهم : وكذلك بعث الرسل أيضا كما شاء ، فبعثته تعالى الرسل هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى ، وعلى توحيده.

ويقال لمن احتج بالحجة الثانية من أن الأولى به أنه كان يضطر العقول إلى الإيمان به : إن هذا قول مرذول مردود عليكم في قولكم : إن الله عزوجل خلق الخلق ليدلّهم بهم على نفسه ووحدانيته.

فيلزمكم على ذلك الأصل الفاسد أنه كان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم والاستدلال ، وقد علم أن فيهم من لا يستدل ، وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال. فكان الأولى في الحكمة أن يضطر عقولهم إلى الإيمان به ، ولا يكلفهم مئونة الاستدلال ، وأن يلطف بهم ألطافا يختار جميعهم معها الإيمان كما فعل بالملائكة.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وملاك هذا كله ما قد قلناه في غير موضع من أن الخلق لما كانوا لا يقع منهم فعل إلّا لعلّة ، ووجب بالبراهين الضرورية أن البارئ تعالى بخلاف جميع خلقه من جميع الجهات ، وجب أن يكون فعله لا لعلة بخلاف أفعال جميع الخلق ، وأنه لا يقال في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلّة ، ولا إذ جاء الإنسان بالنطق (٢) وحرمه سائر الحيوان ، وخلق بعض الحيوان صائدا وبعضه

__________________

(١) لأنه لا يجب على الله تعالى شيء.

(٢) النّطق : الفهم وإدراك الكليات. والإنسان حيوان ناطق : أي مفكّر. انظر المعجم الوسيط (ص ٩٣١).

٨٧

مصيدا ، وباين بين جميع مفعولاته ، كما شاء ، فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقا وحرم الحمار النطق ، وجعل الحجر جامدا لا حياة فيه ولا نطق ، وهذا أصل قد وافقتنا البراهمة عليه ، وسائر من خالفنا من تفريع هذا المعنى ممن يقول بالتوحيد. وهكذا إذا بعث الله تعالى الرسل ليس لأحد أن يقول : لم بعثهم؟ أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا الآخر؟ ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان؟ ولا لم بعثهم في هذا المكان دون غيره من الأمكنة؟ كما لا يقال لما حبا هذا المكان بالخصب دون غيره ، ولا لم حبا هذا الإنسان بالجمال دون غيره ، ولا لم حباه بالسّعد في الدنيا دون غيره؟ وهكذا كل ما في العالم إذا نظر فيه تعالى الذي لا يسأل عن شيء. قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء : ٢٣].

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وإذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تعالى وتأييده ، فلنقل الآن بعون الله تعالى وتأييده في إثبات النبوة إذ (١) وجدت قولا بيّنا وبالله تعالى التوفيق : فنقول وبالله تعالى نستعين : قد قدّمنا فيما خلا إثبات حدوث الأشياء وأن لها محدثا لم يزل واحدا لا مبدأ له ، ولا كان معه غيره ، ولا مدبر سواه ، ولا خالق غيره. فإذ قد ثبت هذا كله وصح أنه تعالى أخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ، ولا معاناة ، ولا طبيعة ، ولا استعانة ، ولا مثال سلف ، ولا علّة موجبة ، ولا حكم سابق قبل الخلق يكون ذلك الحكم لغيره تعالى ، فقد ثبت أنه لم يفعل إذ لم يشأ ، وفعل إذ شاء ، كما شاء ، وينقص ما شاء ، فكل منطوق به مما يتشكك في النفس أو لا يتشكك فهو داخل له تعالى في باب الإمكان على ما بيّنا في غير هذا المكان ، إلّا أننا نذكر منه هاهنا طرفا إن شاء الله عزوجل فنقول وبالله تعالى التوفيق :

إن الممكن ليس واقعا في العالم وقوعا واحدا ، ألا ترى أن نبات اللحية للرّجال ما بين الثماني عشرة إلى عشرين سنة ممكن؟ وهو في حدود الاثني عشرة سنة إلى العامين ممتنع ، وأن فك الإشكالات العويصة ، واستخراج المعاني الغامضة ، وقول الشعر البديع ، وصناعة البلاغة الرائقة ممكن لذي الذهن اللطيف والذكاء النافذ ، وغير ممكن من ذي البلادة الشديدة والغباوة المفرطة؟

فعلى هذا ما كان ممتنعا بيننا ـ إذ ليس في بنيتنا ولا في طبيعتنا ، ولا من عادتنا ـ فهو غير ممتنع على الذي لا بنية له ، ولا طبيعة له ، ولا عادة عنده ، ولا رتبة

__________________

(١) كانت في الأصل : «إذا» والصواب ما أثبتناه.

٨٨

لازمة لفعله ، فإذ قد صح هذا ، فقد صح أنه لا نهاية لما يقوى عليه تعالى ، فصح أن النبوة في الإمكان.

وهي بعثة قوم قد خصهم الله تعالى بالحكمة والفضيلة والعصمة لا لعلة إلّا أنه شاء ذلك ، فعلّمهم الله تعالى العلم بدون تعلم ، ولا تنقل في مراتبه ، ولا طلب له ، ومن هذا الباب ما يراه أحدنا في الرؤيا فيخرج صحيحا (١) ، وما هو من باب تقدّم المعرفة ، فإذ قد أثبتنا أن النبوّة قبل مجيء الأنبياء عليهم‌السلام واقعة في حدّ الإمكان ، فلنقل الآن بحول الله تعالى وقوته على وجوبها إذا وقعت ولا بدّ. فنقول :

إذ قد صحّ أن الله تعالى ابتدأ العالم ولم يكن موجودا حتى خلقه الله تعالى فبيقين ندري أن العلوم والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه فيما بيننا دون تعليم كالطب ، ومعرفة الطبائع ، والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير التي لا سبيل إلى تجريبها كلها أبدا ، وكيف يجرّب كل عقار في كل علة؟ ومتى يتهيأ هذا؟ ولا سبيل له إلا في عشرة آلاف من السنين؟ ومشاهدة كل مريض في العالم ، وهذا يقطع دونه قواطع الموت والشغل بما لا بدّ منه من أمر المعاش وذهاب الدول ، وسائر العوائق. وكعلم النجوم ، ومعرفة دورانها وقطعها وعودها إلى أفلاكها مما لا يتم إلّا في عشرة آلاف من السنين ، ولا بدّ من أن يقطع دون ضبط ذلك العوائق التي قلنا. وكاللغة التي لا يصح تربية ولا عيش ولا تصرف إلا بها ، ولا سبيل إلى الاتفاق عليها إلا بلغة أخرى ولا بد ، فصحّ أنه لا بدّ من مبدأ ما للغة. وكالحرث والحصاد ، والدراس ، والطحن وآلاته ، والعجن ، والطبخ والحلب وحراسة المواشي ، واتخاذ الأنسال منها ، والغرس واستخراج الأدهان ، ودق الكتان والقنب ، والقطن وغزله ، وحياكته ، وقطعه ، وخياطته ، ولبسه وآلات كل ذلك ، وآلات الحرث والأرحاء (٢) ، والسفن ، وتدبيرها في القطع بها للبحار ، والدواليب ، وحفر الآبار ، وتربية النحل ودود الخز ، واستخراج المعادن ، وعمل الأبنية منها ، ومن الخشب والفخار.

وكل هذا لا سبيل إلى الاهتداء إليه دون تعليم. فوجب بالضرورة ولا بدّ أنه لا بدّ من إنسان واحد فأكثر علّمهم الله تعالى ابتداء كلّ هذا دون معلم ، لكن بوحي

__________________

(١) قوله : «فيخرج صحيحا» أي يتحقّق.

(٢) الأرحاء : جميع رحى ، وهي الأداة التي يطحن بها ، وهي حجران مستديران يوضع أحدهما على الآخر ويدار الأعلى على قطب ، ويجمع أيضا على : أرح ورحيّ وأرحية (المعجم الوسيط : ص ٣٣٥).

٨٩

حققه عنده. وهذه صفة النبوة. فإذا لا بدّ من نبيّ أو أنبياء ضرورة. فقد صح وجود النبوّة والنبي في العالم بلا شك.

ومن البرهان على ما ذكرنا : أننا نجد كل من لم يشاهد هذه الأمور لا سبيل له إلى اختراعها البتة ، كالذي يولد وهو أصم فإنه لا يمكن له البتة الاهتداء إلى الكلام ، ولا إلى مخارج الحروف.

وكالبلاد التي ليست فيها بعض الصناعات وهذه العلوم المذكورة كبلاد السودان والصقالبة ، وأكثر الأمم ، وسكان البوادي نعم والحواضر لا يمكن البتة منذ أول العالم إلى وقتنا هذا ولا إلى انقضائه اهتداء أحد منهم إلى علم لم يعرفه ، ولا إلى صناعة لم يعرّف بها ، فلا سبيل إلى تهدّيهم إليها البتة حتى يعلّموها ، ولو كان ممكنا في الطبيعة التهدّي إليها دون تعليم لوجد من ذلك في العالم على سعته وعلى مرور الأزمان من يهتدي إليها ، ولو واحدا ، وهذا أمر يقطع على أنه لا يوجد ولم يوجد.

وهكذا القول في العلوم ، ولا فرق ، ولسنا نعني بهذا ابتداء جمعها في الكتب لأن هذا أمر لا مئونة فيه ، إنما هو كتاب ما سمعه الكاتب وإحصاؤه فقط كالكتب المؤلفة في المنطق وفي الطب ، وفي الهندسة وفي النجوم ، وفي الهيئة والنحو ، واللغة ، والشعر ، والعروض. إنما نعني ابتداء مئونة اللغة والكلام بها ، وابتداء معرفة الهيئة وتعلمها ، وابتداء تعلم أشخاص الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير ، والمعاناة بها ، وابتداء معرفة الصناعات. فصح بذلك أنه لا بدّ من وحي الله تعالى في كل ذلك.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا أيضا برهان ضروري على حدوث العالم ، وأن له محدثا مختارا ولا بدّ. إذ لا بقاء للعالم البتة إلا بنشأة ومعاش ، ولا نشأة ولا معاش إلّا بهذه الأعمال والصناعات والآلات ، ولا يمكن وجود شيء من هذه كلها إلا بتعليم الباري تعالى. فصح أن العالم لم يكن موجودا ، إذ لا سبيل إلى بقائه إلا بما ذكرنا. ثم أوجد معلما مدبرا مبتدأ بتعليمه على ما ذكرنا ـ وبالله تعالى التوفيق.

البراهين الدّالة على صدق مدّعي النبوّة

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وإذ قد تكلمنا على أنه لا بدّ من نبوّة وصحّ ذلك ضرورة ، فلنتكلم على براهينها التي صحّ بها علم صدق مدّعيها إذ وقعت فنقول : إنه قد صح أن الباري تعالى هو فاعل كل شيء ظهر وأنه قادر على إظهار كلّ متوهّم

٩٠

لم يظهر (١) ، وعلمنا بكل ما قدمنا أنه تعالى مرتب هذه المراتب التي في العالم ومجريها على طبائعها المعلومة منا الموجودة عندنا ، وأنه لا فاعل على الحقيقة غيره تعالى ، ثم رأينا خلافا لهذه الرتب والطبائع قد ظهرت ، ووجدنا طبائع قد أحيلت ، وأشياء في حدّ الممتنع قد وجبت ووجدت (٢) ، كصخرة انفلقت عن ناقة (٣) ، وعصا انقلبت حية (٤) ، وميّت أحياه إنسان (٥) ، ومئين من الناس رووا وتوضئوا كلهم من ماء يسير في قدح صغير يضيق عن بسط اليد فيه ، لا مادة له (٦) ، فعلمنا أن محيل هذه الطبائع ، وفاعل هذه المعجزات هو الأول الذي أحدث كل شيء. ووجدنا هذه القوى قد أصحبها الله تعالى رجالا يدعون إليه ، ويذكرون أنه تعالى أرسلهم إلى الناس ، ويستشهدون به تعالى فيشهد لهم بهذه المعجزات المحدثة منه تعالى ، في حين رغبة هؤلاء القوم إليه فيها ، وضراعتهم إليه في تصديقهم بها ، فعلمنا علما ضروريا يقينيا لا مجال للشك فيه أنهم مبعوثون من قبله عزوجل ، وأنهم صادقون فيما أخبروا به عنه تعالى ، إذ لا سبيل في طبيعة مخلوق في العالم إلى التحكم على البارئ ، ولا على طبائع خلقه مثل هذا ، ووجوب النبوة إذ ظهر على مدّعيها معجزة من إحالة الطبائع المخالفة لما بني عليه العالم.

وقد تكلمنا في غير هذا المكان على أنّ هذه الأشياء لها طرق توصل إلى صحة اليقين بها عند من لم يشاهدها كصحتها عند من شاهدها ولا فرق. وهي نقل الكافة التي قد استشعرت العقول ببدايتها والنفوس بأوّل معارفها أنه لا سبيل إلى جواز الكذب

__________________

(١) أي أن كل شيء موجود بالقوة والإمكان قادر على أن يجعله موجودا بالفعل.

(٢) وهي المعجزة.

(٣) يشير إلى ناقة صالح عليه‌السلام.

(٤) وهي عصا موسى عليه‌السلام.

(٥) أحياه عيسى عليه‌السلام بإذن ربّه ، قال تعالى في الآية ٤٩ من سورة آل عمران على لسان عيسى عليه‌السلام : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ).

(٦) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوا ، فأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضوئه ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضئوا منه ، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه ، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخره. رواه البخاري في الوضوء باب ٣٢ ، ٤٦ ، والمناقب باب ٢٥. ومسلم في الفضائل حديث ٤ و ٥. والنسائي في الطهارة باب ٦٠. والدارمي في المقدمة باب ٥. ومالك في الطهارة حديث ٣٢. وأحمد في المسند (٣ / ١٣٢).

٩١

ولا الوهم عليها ، وأن ذلك ممتنع فيها. فمن تجاهل وأجاز ذلك عليها خرج عن كل معقول ، ولزمه أن لا يصدق أن من غاب عن بصره من الإنس بأنهم أحياء ناطقون كمن شاهد ، وأن صورهم على حسب الصورة التي عاين ، ولزم أن يكون عنده ممكنا في بعض من غاب عن بصره من الناس أن يكونوا بخلاف ما عهد من الصورة ، إذ لا يعرف أحد أن كل من غاب عن حسه فإنه في مثل كيفية ما شاهد من نوعه إلا بنقل الكواف ذلك ، كما نقلت أن بعضهم بخلاف ذلك في بعض الكيفيات ، فوجب تصديق ذلك ضرورة كبلاد السودان وما أشبه ذلك. ويلزم من لم يصدق خبر الكافة ، ويجيز فيه الكذب والوهم أن لا يصدق ضرورة بأن أحدا كان قبله في الدنيا ، ولا أن في الدنيا أحدا إلّا من شاهد بحسه. فإن جوّز هذا عرف بعقله أنه كاذب ، وخرج عن حدود من يتكلم معه ، لأن هذا الشيء لا يعرف البتة إلّا من طريق الخبر لا غير ، فإن نفر عن هذا وأقر بأنه قد كان قبله ملوك وعلماء ، ووقائع وأمم ، وأيقن بذلك ، ولم يكن في كثير منها شك بل هي عنده في الصحة كما شاهد ولا فرق ـ سئل : من أين عرفت ذلك وكيف صح عندك؟ فلا سبيل له أصلا إلى أن يصح ذلك عنده إلا بخبر منقول نقل كافة. وبالله تعالى التوفيق. فنقول له حينئذ : فرّق بين ما نقل إليك من كل ذلك ، وبين كل ما نقل إليك من علامات الأنبياء عليهم‌السلام! ولا سبيل له إلى الفرق بين شيء من ذلك أصلا. فإن قال : الفرق بينها وبينها أنه لا ينكر أحد هذه الأمور ، وكثير من الناس ينكرون أعلام الأنبياء ، قيل له وبالله تعالى التوفيق : إن كثيرا من الناس لا يعرفون كثيرا مما صح عندك من الأخبار العارضة لمن كان في بلادك قبلها فليس جهلهم بها ودفعهم لها لو حدثوا بها مخرجا لها عن الصحة ، وكذلك جحد أعلام الأنبياء ليس مخرجا لها عن الوجوب والصحة.

فإن قال : إنه ليس نجد الناس على الكذب فيما كان قبلنا من الأخبار ما نجدهم على الكذب في أعلام النبوة. قيل له وبالله التوفيق :

هذا كذب ، بل الأمران سواء لا فرق بينهما. ومن الملوك من يشتد عليهم وصف أسلافهم بالجور والظلم والقبائح ، ويحمي هذا الباب بالسيف فما دونه ، فما انتفعوا بذلك في كتمان الحق.

قد نقل ذلك كله وعرف ، كما نقلت فضائل من تغضب ملوك الزمان من مدحه كفضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ما قدر قط ملوك بني مروان على سترها وطيها.

٩٢

وقد رام المأمون والمعتصم والواثق على سعة ملكهم لأقطار الأرض قطع القول بأن القرآن غير مخلوق (١) فما قدروا على ذلك.

وكل نبي فله عدو من الملوك والأمم يكذبونهم ، فما قدروا قط على طيّ أعلامهم ولا على تحقيق ما زادوا على ذلك لمن يغضب له من لا دين له. فصح أن الأمرين سواء ، وأن الحقّ حق. فإن قال قائل : فلعلّ هذا الذي ظهرت منه المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قدر معها على إظهار ما أظهر. قيل له وبالله التوفيق :

إن الخواصّ قد علمت ، ووجوه الحيل قد أحكمت ، وليس في شيء منها عمل يحدث عنه اختراع جسم لم يكن كنحو ما ظهر من اختراع الماء الذي لم يكن (٢) ، ولا في شيء منه إحالة نوع آخر دفعة على الحقيقة ، ولا جنس إلى جنس آخر دفعة على الحقيقة (٣) ، وهذا كله قد ظهر على أيدي الأنبياء عليهم‌السلام فصح أنه من عند الله تعالى ، لا مدخل لعلم إنسان ولا حيلته فيه.

الفرق بين المعجزة والسحر

ونحن نبين إن شاء الله تعالى الفرق الواضح بين معجزات الأنبياء عليهم‌السلام وبين ما يقدر عليه بالسحر وبين حيل العجائبيين. فنقول وبالله تعالى التوفيق :

إن العالم كله جوهر وعرض ، لا سبيل إلى وجود قسم ثالث في العالم دون الله تعالى.

فأمّا الجواهر فاختراعها من ليس إلى أيس (٤) وهو من العدم إلى الوجود فممتنع غير ممكن البتة لأحد دون الله تعالى ، مبتدئ العالم ومخترعه. فمن ظهر عليه اختراع جسم كالماء النابع من أصابع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحضرة الجيش فهي معجزة شاهدة من الله تعالى بصحة نبوته لا يمكن غير ذلك أصلا.

وكذلك إحالة الأعراض إلى جوهريات ذاتيات ، وهي الفصول التي تؤخذ من

__________________

(١) وهو قول المعتزلة بخلق القرآن وما نتج عن ذلك من محنة الذين لا يقولون بقولهم.

(٢) راجع الحاشية ٥ ص ١٠٠.

(٣) كتحوّل عصا موسى عليه‌السلام حيّة.

(٤) الليس في التعبير الفلسفي معناه العدم ، والأيس خلافه. ويقال : ائت به من حيث أيس وليس ، أي من حيث يكون ولا يكون. انظر المعجم الوسيط : ص ٣٤.

٩٣

الأجناس ، وذلك كقلب العصا حية ، وحنين الجذع (١) ، وإحياء الموتى الذين رمّوا وصاروا عظاما ، والبقاء في النار ساعات لا تؤذيه (٢) ، وما أشبه ذلك.

وكذلك الأعراض التي لا تزول إلا بفساد حاملها كالغطس والرزق ونحو ذلك. فهذا لا يقدر عليه أحد دون الله تعالى بوجه من الوجوه.

وأما إحالة الأعراض من الغيرات التي تزول بغير فساد حاملها فقد تكون بالسحر. ومنه طلسمات (٣) كتنفير بعض الحيوان عن مكان ما فلا يقرب أصلا ، وكإبعاد البرد ببعض الصناعات ، وما أشبه هذا ، وقد يزيد الأمر ويفشو العلم ببعض هذا النوع حتى يحسنه أكثر الناس كالطب والأصباغ وما أشبه هذا.

وأمّا التخييل بنوع من الخديعة كسكين مثقوبة النصاب تدخل فيها السكين ويظن من رآها أنها دخلت في جسد المضروب بها ، في حيل غير هذه من حيل أرباب العجائب كالحلاج (٤) وأشباهه فأمر يقدر عليه من تعلمه ، وتعلمه ممكن لكل من أراده. فالذي يأتي به الأنبياء عليهم‌السلام هو إحالة الذاتيات ، ومن ذلك صرف الحواس عن طبائعها كمن أراك ما لا يراه غيرك ، أو مسح يده على مريض فأفاق ، أو سقاه ما يضر علته فبرئ ، أو أخبر عن الغيوب في الجزئيات عن غير تعديل ولا فكرة ، فهذه كلها إحالة الذاتيات وما ثبت ، إذ ثباتها لا يكون إلّا لنبي.

__________________

(١) عن عبد الله بن عمر قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب إلى جذع ، فلما اتّخذ المنبر تحوّل إليه ، فحنّ الجذع ، فأتاه فمسح يده عليه». وفي الباب عن جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وأبيّ بن كعب. روى هذه الأحاديث البخاري في المناقب باب ٢٥ ، والترمذي في الجمعة باب ١٠ والمناقب باب ٦ ، والنسائي في الجمعة باب ١٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٩٩ ، والدارمي في المقدمة باب ٦ ، والصلاة باب ٢٠٢ ، وأحمد في المسند (١ / ٢٤٩ ، ٢٦٧ ، ٣١٥ ، ٣٦٣ ، ٣ / ٢٢٦ ، ٢٩٣ ، ٢٩٥ ، ٣٠٦ ، ٣٢٤ ، ٥ / ١٣٩).

(٢) وهي معجزة إبراهيم عليه‌السلام حين ألقي في النار ، فقال عزوجل : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩].

(٣) جمع طلسم وطلّسم (بتخفيف اللام وتشديدها) : وهي في علم السحر خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية لجلب محبوب أو دفع أذى.

وهو لفظ يوناني لكل ما هو غامض مبهم كالألغاز والأحاجي. والشائع على الألسنة «طلسم» كجعفر. انظر المعجم الوسيط (ص ٥٦٢).

(٤) هو الحسين بن منصور الحلّاج الفارسي البيضاوي البغدادي. صوفي متكلم. قتل ببغداد لستّ بقين من ذي القعدة سنة ٣٥٩ ه‍ (٩٢٢ م). من تصانيفه الكثيرة : كتاب الطواسين ، حمل النور والحياة والأرواح ، خلق الإنسان والبيان ، السياسة والخلفاء والأمراء ، والأصول والفروع (معجم المؤلفين : ٤ / ٦٣ ، ٦٤).

٩٤

فإذ قد تكلمنا على إمكان النبوة قبل مجيئها ووجوبها حين وجودها ، فلنتكلم الآن بحول الله وقوته على امتناعها بعد ذلك. فنقول وبالله تعالى التوفيق :

إذ قد صح كل ما ذكرناه من المعجزات الظاهرة من الأنبياء عليهم‌السلام شهادة من الله تعالى لهم مصدقا بها أقوالهم ، فقد وجب علينا الانقياد لما أتوا به ، ولزمنا تيقن كل ما قالوا. وقد صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابه أنه أخبر أنه لا نبي بعده (١) ، إلّا ما جاءت الأخبار الصحاح عن نزول عيسى عليه‌السلام الذي بعث إلى بني إسرائيل وادّعى اليهود قتله وصلبه ، فوجب الإقرار بهذه الجملة ، وصحّ أن وجود النبوة بعده عليه‌السلام باطل لا يكون البتة.

وبهذا يبطل أيضا قول من قال بتواتر الرسل ووجوب ذلك أبدا وبكل ما قدمناه مما أبطلنا به قول من قال بامتناعه البتة ، إذ عمدة حجة هؤلاء هي قولهم : إن الله حكيم ، والحكيم لا يجوز في حكمته أن يترك عباده هملا (٢) دون إنذار.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد أحكمنا بحول الله تعالى وقوته قبل هذا أن الله تعالى عزوجل لا شرط عليه ، ولا علة عليه أن يفعل شيئا ، ولا ألا يفعله ، وأنه تعالى لو أهمل الناس لكان حقا وحسنا لو خلقهم كما خلق سائر الحيوان الذي لم يلزمه شريعة ، ولا حظر عليه شيء ، وأنه تعالى لو واتر الرسل والنذارة أبدا لكان حقا وحسنا ، كما فعل بالملائكة الذين هم حملة وحيه ورسله أبدا ، وأنه تعالى لو خلق الخلق كفارا كلهم لكان ذلك منه حقا وحسنا ، أو لو خلقهم مؤمنين كلهم لكان حقا وحسنا ، كما أن الذي فعل تعالى من كل ذلك حق وحسن ، وأنه لا يقبح شيء إلّا من مأمور ومنهي قد تقدّمت الأوامر وجوده وسبقت الحدود المرتّبة للأشياء كونه ، وأما من سبق كلّ ذلك فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء لا معقب لحكمه.

وأمّا الملائكة فكل من له معرفة ببنية العالم والأفلاك والعناصر فإنه يعلم أن الأرض وعمقها أقرب إلى الفساد من سائر العناصر ، ومن سائر الأجرام العلوية ، وأنها مواتية (٣) كلها ، وأن الحياة إنما هي في النفس المنزلة قسرا إلى مجاورة البدن الترابي

__________________

(١) انظر الحاشية ١ صفحة ٩٦.

(٢) الهمل (بالتحريك) : المهمل المتروك ليلا ونهارا بلا رعاية ولا عناية (المعجم الوسيط : ص ٩٩٥).

(٣) أي صائرة إلى الموت.

٩٥

المواتي من سائر جميع الحيوان. فقد ثبت يقينا بضرورة المشاهدة أن محلّ الحياة وعنصرها ، ومعدنها ، وموضعها إنما هو هنالك من حيث جاءت النفوس الحية الناقصة بما في طبعها من مجاورة هذه الأجساد ، والتثبت بها عن كمال ما خصّ بالحياة الدائمة ولم يشن ولا نقص فضله وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفات ودرنا وعيوبا ، فصحّ أن العلو الصافي هو محل الأحياء الفاضلين السالمين من كل رذيلة ، ومن كل نقص ، ومن كل مزاج فاسد ، المحبوّين بكل فضيلة في الخلق ، وهذه صفة الملائكة عليهم‌السلام. وصح بهذا أن على قدر سعة ذلك المكان يكون كثرة من فيه من أهله وعمّاره ، وأنه لا نسبة لما في هذا المحل الضيق والنقطة الكدرة مما هنالك كما لا نسبة لمقدار هذا المكان من ذلك ، وبهذا صحت النبوة وهكذا أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كثرة الملائكة في الأخبار المسندة الثابتة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبهذا وجب أن يكونوا هم الرسل والوسائط بين الأول تعالى الذي خصهم بالنبوّة والرسالة وتعليم العلوم ، وبين إنقاذ النفوس من الهلكة.

الردّ على من ادّعى أنّ في البهائم رسلا

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ذهب أحمد بن حابط (١) وكان من أهل البصرة من تلاميذ إبراهيم النظام (٢) يظهر الاعتزال ، وما نراه الكافر كان إلا منانيا.

وإنما استجزنا إخراجه عن الإسلام لأن أصحابه حكوا عنه وجوها من الكفر ، منها التناسخ ، والطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنكاح ، وكان من قوله إن الله عزوجل نبأ أنبياء من كل نوع من أنواع الحيوان ، حتّى البق والبراغيث والقمل وحجته في ذلك قول الله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام : ٣٨] ، ثم ذكر قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤].

__________________

(١) أحمد بن حابط القدري كان من أصحاب النظّام في الاعتزال ، وكان يزعم أن للخلق ربين وخالقين ، أحدهما قديم وهو الله سبحانه ، والآخر مخلوق وهو عيسى ابن مريم. وزعم أن المسيح ابن الله على معنى دون الولادة ، وزعم أيضا أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة ، وكان يؤمن بالتناسخ. مات أيام الواثق. انظر الفرق بين الفرق (ص ٢٠٨ ، ٢٠٩).

(٢) هو إبراهيم بن سيّار بن هانئ النظّام. كان أحد فرسان أهل النظر والكلام على مذهب المعتزلة ، وله في ذلك تصانيف عدة منها : النكت. وكان أيضا متأدبا ، وله شعر جمع بخمسين ورقة ، وهو دقيق المعاني على طريقة المتكلمين ، والجاحظ كثير الحكايات عنه. توفي سنة ٢٣١ ه‍.

٩٦

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عزوجل يقول : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء : ١٦٥] ، وإنما يخاطب الله بالحجة من يعقلها قال الله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ). وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق الذي هو التصرف في العلوم ، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها ـ الإنسان خاصة. وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن ، وأضفنا إليهم بالخبر الصادق ، وببراهين أيضا ضرورية الملائكة ، وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة خاصة وهي الحس والحركة الإرادية ، فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلّا من يعقلها ويعرف المراد بها ، وبقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [سورة البقرة : ٢٨٦]. ووجدنا جميع الحيوان حاشا الناس يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معاشها وتناسلها ، لا يجتنب منها واحد شيئا يفعله غيره. هذا الذي يدرك حسا فيما يعاشر الناس في منازلهم من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك. وليس الناس في أحوالهم كذلك ، فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع وبطل قول ابن حابط. وصح أن معنى قول الله تعالى : (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي أنواع أمثالكم ، إذ كل نوع يسمى أمة. وأن معنى قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) إنما عنى تعالى تلك الأمم من الناس ، وهم القبائل والطوائف ، ومن الجن لصحة وجوب العبادة عليهم. فإن قال قائل : فما يدريك لعل سائر الحيوان له نطق وتمييز؟

قيل له وبالله التوفيق : بقضية العقول وبديهيّها عرفنا الأشياء على ما هي عليه ، وبها عرفنا الله عزوجل وصحة النبوات وهي التي لا يصح شيء إلّا بموجبها. فما عرف بالعقل وجوبه فهو واجب بيننا ـ نريد في الوجود في العالم ـ وما عرف بالعقل أنه محال فهو محال في العالم ، وما وجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد ، وجائز أن لا يوجد ، وبضرورة العقل والحس علمنا أن كل نوعين واقعين تحت جنس واحد فإن ذلك الجنس يعطيهما اسمه وحدّه عطاء مستويا. فلما كان جنس الحي يجمعنا مع سائر الحيوان استوينا معها كلها استواء لا تفاضل فيه ، فما اقتضاه اسم الحياة من الحس والحركة الإرادية ، وهذان المعنيان هما الحياة لا حياة غيرهما أصلا. وعلمنا ذلك بالمشاهدة لأننا رأينا الحيوان يألم بالضرب والنخس ، ويحدث لها من الصوت والقلق ما يحقق ألمها كما نفعل نحن ولا فرق. ولذلك لما تشاركنا والحيوان وجميع الشجر والنبات في النماء استوى جميع الحيوان فيما اقتضاه اسم النمو من طلب الغذاء ، واستحالته في المتغذّى به إلى نوعه ، ومن طلب بقاء النوع مع جميع الشجر والنبات استواء واحدا لا تفاضل فيه.

٩٧

ولما شاركنا وجميع الحيوان والشجر والنبات وسائر الجمادات في أن كل ذلك أجسام طويلة عريضة عميقة ـ جميع الأجرام استوى كل ذلك فيما اقتضاه له اسم الجسمية في ذلك استواء لا تفاضل فيه. ولم يدخل ما لم يشارك شيئا مما ذكرنا في الصفة التي انفرد بها عنه. هذا كله يعلمه ضرورة من وقف عليه مما له حس سليم.

فلما كان النطق الذي هو التصرف في العلوم والصناعات قد خصنا دون سائر الحيوان وجب ضرورة أن لا يشاركنا شيء من الحيوان في شيء منه ، إذ لو كان فيه شيء منه لما كنا أحق بكله من سائر الحيوان. كما أنا لسنا بالحياة أحق منها ، ولا بالنمو ولا بالحركة ولا بالجسمية ، فصح بهذا أنه لا نطق لها أصلا.

فإن قال قائل : لعل نطقها بخلاف نطقنا؟ قيل له وبالله التوفيق :

لا يتشكل في العقول البتة حياة على غير صفة الحياة عندنا ، ولا نماء على غير صفة النماء عندنا ، ولا حمرة على غير الحمرة عندنا ، ولا جسم على خلاف الأجسام عندنا ، وهكذا في كل شيء ، ولو كان شيء بخلاف ما عندنا لم يقع عليه ذلك الاسم أصلا ، وكان كمن سمّى الماء نارا ، والعسل حجرا ، وهذا هو الحمق والتخليط فبالضرورة وجب أن كل صفة هي بخلاف نطقنا فليس نطقا. والنطق عندنا هو التصرف في العلوم والصناعات ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، فلو كان ذلك النطق بخلاف هذا لكان ليس معرفة للأشياء على ما هي عليه ، ولا تصرفا في العلوم والصناعات ، فهو إذا ليس نطقا ، فبطل هذا الشغب السخيف والحمد لله رب العالمين.

فإن اعترض معترض بفعل النحل ونسج العنكبوت ، قيل له وبالله التوفيق :

إنّ هذا طبيعة ضرورية ، لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ولا توجد أبدا إلّا كذلك. وأمّا الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج والوشي والقباطي (١) ، وأنواع الأصباغ والدباغ ، والخرط والنقش ، وسائر الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ والبناء والتجارات. وفي أنواع العلوم من النجوم ومن الأغاني والطب والنبل والجبر ، والعبارة (٢) والعبادة وغير ذلك.

ولا سبيل لشيء من الحيوان إلى التصرف في غير الشيء الذي اقتضاه له طبعه ،

__________________

(١) القباطي : جمع قبطية ، وهي ثياب من كتّان بيض رقاق كانت تنسج بمصر ، وهي منسوبة إلى القبط على غير قياس (المعجم الوسيط : ص ٧١١).

(٢) أي تعبير الأحلام.

٩٨

ولا إلى مفارقة تلك الكيفية. فإن اعترض معترض بقول الله تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [سورة النمل : ١٦]. وبما ذكر الله تعالى من قول النملة : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [سورة النمل : ١٨] الآية. وقصة الهدهد. قيل وبالله تعالى التوفيق :

لم ندفع أن يكون للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء ، وعند الألم ، وعند المضاربة ، وطلب السّفاد ، ودعاء أولادها ، وما أشبه ذلك فهذا هو الذي علمه الله تعالى سليمان رسوله عليه‌السلام ، وهذا الذي يوجد في أكثر الحيوان ، وليس هذا من تمييز دقائق العلوم والكلام فيها ، ولا من عمل وجوه الصناعات كلها في شيء. وإنما عنى الله تعالى : ب «منطق الطير» أصواتها التي ذكرنا لا تمييز العلوم والتصرف في الصناعات التي من ادعاها لها أكذبه العيان ، والله تعالى لا يقول إلّا الحق.

وأما قصة النملة والهدهد : فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل ولذلك الهدهد ، وآيتان لسليمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ككلام الذراع وحنين الجذع ، وتسبيح الطعام لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات لنبوته عليه‌السلام ، وكذلك حياة عصا موسى عليه‌السلام آية لرسول الله موسى عليه‌السلام ، لأن هذا النطق شامل لأنواع هذه الأشياء.

قال «أبو محمد» رضي الله عنه : وقد قاد السخف والضعف والجهل من يقدّر في نفسه أنه عالم وهو المعروف بخويزمنداد (١) المالكي إلى أن جعل للجمادات تمييزا.

قال «أبو محمد» رضي الله عنه : ولعلّ معترضا يعترض بقول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء : آية ٤٤] وبقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج : آية رقم ١٨] الآية. وبقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [سورة الأحزاب : ٧٢] الآية. وبقوله تعالى حاكيا أنه قال للسماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة فصلت : ١١] وبقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء» (٢) فهذا كله حق ولا

__________________

(١) هو محمد بن أحمد عبد الله بن خويزمنداد المالكي العراقي المتوفى سنة ٣٩٠ ه‍ تقريبا. فقيه أصولي. من آثاره : كتاب كبير في الخلاف ، وكتاب في أصول الفقه. انظر الوافي بالوفيات للصفدي (٢ / ٥٢).

(٢) رواه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث ٦٠) عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

٩٩

حجة لهم فيه والحمد لله رب العالمين. لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عزوجل مبدلا لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن ، أو ضرورة حسّ على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلكم ، ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسبا الكذب إلى الله عزوجل ، أو كاذبا عليه وعلى نبيه عليه‌السلام نعوذ بالله من كلا الوجهين. وإذ قد بينا قبل بالبراهين الضرورية أن الحيوان غير الإنس والجن والملائكة لا نطق له نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات ، وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه ، وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا فإنه ليس تمييزا ، وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة ، فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا ، فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها ، وأما معانيها فمختلفة لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ، لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ولولاه ما عرفناه ، ومن أجاز هذا كان كافرا مشركا ، ومن أبطل العقل ، فقد أبطل التوحيد إذ كذب شاهده عليه ، إذ لو لا العقل لم يعرف الله عزوجل أحد ، ألا ترى المجانين والأطفال لا يلزمهم شريعة لعدم عقولهم؟ ومن جوّز هذا فلا ينكر على النصارى ما يأتون به من خلاف المعقول ، ولا على الدهرية ، ولا على السوفسطائية ما يخالفون به المعقول ، لكنا نقول : إنّ اللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه ، كما فعلنا في النزول وفي الوجه واليدين والأعين ، وحملنا كل ذلك على أنه حق بخلاف ما يقع عليه اسم «ينزل» عندنا ، واسم «يد» و «عين» عندنا ، لأن هذا عندنا في اللغة واقع على الجوارح والنقلة ، وهذا منفيّ عن الله تعالى.

فإذ لا شك في هذا فلنقل الآن على معاني الآيات التي ذكرنا أنه ربما اعترض بها من لا يمعن النظر بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق :

أما تسبيح كل شيء فالتسبيح عندنا إنما هو قول «سبحان الله وبحمده». وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوام والحشرات والحيوان غير الناطق لا تقول «سبحان الله» بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء. هذا ما لا يشك فيه من

__________________

«لتؤدّنّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء». والشاة الجلحاء : هي الجمّاء ، وهي التي لا قرن لها. ورواه أيضا الترمذي في صفة القيامة باب ٢ ، وأحمد في المسند (٢ / ٢٣٥ ، ٣٠١ ، ٣٢٣ ، ٣٧٢ ، ٤١١).

١٠٠