الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

والخلاص وصفات النور والظلمة إذ إنما قصدنا اجتثاث أصول المذاهب الفاسدة في أن الفاعل أكثر من واحد ، واعتمدنا البيان في إثبات الواحد فقط ، فإذ قد ثبت ذلك ببراهين ضرورية بطل كل ما فرعوه من هذا الأصل الفاسد ، إذ إنما قصدنا ما تدفع إليه الضرورة من الاستيعاب لما لا بدّ منه بإيجاز بحول الله تعالى وقوته.

وأمّا من جعل الفاعل أكثر من واحد إلّا أنهم جعلوهم غير العالم كالمجوس والصابئين ، والمزدكية ، ومن قال بالتثليث من النصارى ، فإنه يدخل عليهم من الدلائل الضرورية بحول الله وقوته ما نحن نورده إن شاء الله تعالى. فنقول وبالله تعالى التوفيق :

إنّ ما كان أكثر من واحد ، فهو واقع تحت جنس العدد ، وما كان واقعا تحت جنس العدد فهو نوع من أنواع العدد ، وكل ما كان نوعا فهو مركب من جنسه العام له ولغيره ، ومن فصل خصّه ليس في غيره ، وله موضوع وهو الجنس القابل لصورته وصورة غيره من أنواع ذلك الجنس ، وله محمول وهو الصورة التي خصته دون غيره ، فهو ذو موضوع وذو محمول ، فهو مركب من جنسه وفصله ، والمركب مع المركب من باب المضاف الذي لا بد لكل واحد منهما من الآخر ، فأما المركب فإنما يقتضي وجود المركب من وقت تركبه ، وحينئذ يسمى مركبا لا قبل ذلك.

وأمّا الواحد فليس عددا لما سنبينه إن شاء الله تعالى بعد انقضاء الكلام في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق.

ومن البرهان على أن الفاعل للعالم ليس إلّا واحدا : أن العالم لو كان مخلوقا لاثنين فصاعدا لم يخل من أن يكون لم يزالا مشتبهين (١) أو مختلفين ، فأيّا ما قالوا فقد أثبتوا معنى فيهما أو في أحدهما به اشتبها (٢) أو به اختلفا ، فإن نفوا ذلك فقد نفوا الاختلاف والاشتباه معا ، ولا يجوز ارتفاعهما معا أصلا ، لأن ذلك محال وموجب للعدم ، لأن وجود شيئين لا يشتبهان في شيء ولا يختلفان بوجه من الوجوه محال ، إذ في ذلك عدمهما ، لأن هذه الصفة معدومة ، وإذا كانت الصفة معدومة فحاملها معدوم ، وهم قد أثبتوا وجودها فيلزمهم القول بموجود معدوم في وقت واحد من وجه واحد وهذا محال. وهم إذا أثبتوهما موجودين لم يزالا فقد أثبتوا لهما معاني قد اشتبها فيها ،

__________________

(١) كذا في الأصل : والأصح أن يقول : «متشابهين». لأن معنى اشتبه غير معنى تشابه ، يقال : اشتبه الأمر عليه : إذا اختلط. انظر المعجم الوسيط (ص ٤٧١).

(٢) راجع الحاشية السابقة.

٦١

وهي كونهما مشتبهين في الوجود ، مشتبهين في الفعل ، مشتبهين في أن لم يزالا. ولا يجوز أن تكون هذه الأشياء ليست غيرهما لأنها صفات عمّتهما : أعني اشتباههما في المعاني المذكورة ، فإن كان اشتباههما هو هما فهما شيء واحد ، وكذلك أيضا يلزم في كونهما مختلفين في أن كلّ واحد منهما غير صاحبه ، فإن كان هذا الاختلاف فيهما هو غيرهما ، فها هنا ثالث ، وهكذا أيضا أبدا. وسنذكر ما يدخل في هذا إن شاء الله تعالى. وإن كان التغاير هو هما ، والاشتباه هو هما فالتغاير هو الاشتباه ، وهذا هو عين المحال ، لأنه لا بدّ من معنى موجود في المتغاير ليس اشتباها لأن معنى التغاير هو أن هذا هو غير هذا ولا يجوز أن يكون الشيئان مشتبهين بالتغاير. فإذ قد ثبت ما ذكرناه ، ولم يكن بد من اشتباه أو اختلاف هو معنى غيرهما ، فقد ثبت ثالث ، وإذ ثبت ثالث لزم فيهم ثلاثتهم مثل ما لزم في الاثنين من السؤال ، وهكذا أبدا. وهذا يوجب ضرورة أن كل واحد منهما أو أحدهما مركب من ذاته ، ومن المعنى الذي بان به عن الآخر ، أو به أشبه الآخر.

فإن أثبتوا ذلك لهما جميعا ، وكلاهما مركب ، والمركب محدث فهما مخلوقان لغيرهما ولا بدّ.

وإن أثبتوا ذلك لأحدهما فقط كان مركبا ، وكان الآخر هو الفاعل له ، فقد عاد الأمر إلى واحد غير مركب ولا بدّ ضرورة.

ويوجب أيضا إن تمادوا على ما ألزمناهم من وجوب معنى به بان كلّ من الآخر وجود قدماء لم يزالوا ، ووجود فاعلين آلهة أكثر من المألوهين. وهذا محال ، لأنه لا سبيل إلى وجوب أعداد قائمة ظاهرة في وقت واحد لا نهاية لها ، لأنه إن كان لها عدد فقد حصرها ذلك العدد على ما قدّمنا ، وكل ما حصر فهو متناه ، وقد أوجبنا عليهم القول بأنها غير متناهية ، فلزمهم القول بأعداد متناهية لا متناهية ، وهذا من أعظم المحال.

فإن لم يكن لها عدد فليست موجودة ، لأن كلّ موجود فله عدد ، وكل ذي عدد متناه كما قدمنا.

فإن قال قائل : فبأيّ شيء انفصل الخالق عن الخلق؟ وبأي شيء انفصل الخلق بعضه من بعض؟ وأراد أن يلزمنا في ذلك مثل الذي ألزمناه في الأدلة المتقدمة ، قيل له وبالله التوفيق :

الخلق كله حامل ومحمول ، فكل حامل فهو منفصل من خالقه ، ومن غيره من

٦٢

الحاملين بمحموله ، وبما هو عليه مما باين به سائر الحاملين من فصله ، ونوعه ، وجنسه ، وخواصه ، وأعراضه ، في مكانه وسائر كيفياته.

وكل محمول فهو منفصل من خالقه ومن غيره من المحمولات بحامله ، وبما هو عليه مما باين فيه سائر المحمولات ، من نوعه ، وجنسه ، وفصله.

والباري تعالى غير موصوف بشيء من ذلك كله. وبالله تعالى التوفيق.

وقد ذكرنا في باب الكلام في بقاء الجنة والنار ، وبقاء الأجسام فيها بلا نهاية ، وفيما خلا من كتابنا ، الانفصال ممن أراد أن يلزمنا هنالك ما ألزمناهم نحن هنالك من القول بالأعداد التي لا تتناهى. إلا أننا نذكر هنا من ذلك إن شاء الله تعالى طرفا كافيا ـ وبالله تعالى التوفيق وبه نستعين ـ فنقول :

إن الفرق بين المسألتين المذكورتين أننا لم نوجب نحن في الجنة والنار وجود أعداد لا تتناهى. بل قولنا : إن أعدادهم متناهية لا تزيد ولا تنقص ، وأن مساحة النار والجنة محدودة متناهية لا تزيد ولا تنقص ، وأن كل ما ظهر من حركاتهم ومددهم فيها فمحصورة متناهية. وإنما نفينا عنها النهاية بالقوة بمعنى أن الباري تعالى محدث لهم في كلتا الدارين بقاء ومددا ، ونعيما وعذابا ، أبدا لا إلى غاية. وليس ما ظهر من ذلك بعضا لما لم يظهر ، فيلزمنا أن يكون اسم كل ما يقع على الموجود والمعدوم لأن الموجود لا يكون بعضا للمعدوم ، وإنما هو بعض لموجود مثله ، هذا يعلم بالحس لأن الأسماء إنما تقع على معانيها. ومعنى الوجود إنما هو ما كان قائما في وقت من الأوقات ، ماض من الأوقات أو حالّ منها. فما لم يكن هكذا فليس موجودا ، وأبعاض الموجودات كلها موجودة ، فكلها موجود ، وكلها كان موجودا فليس الموجود بعضا للمعدوم ، والعدم هو إبطال الوجود ونفيه ، ولا سبيل إلى أن تكون أبعاض الشيء التي يلزمها اسمه الذي لا اسم لها سواه يبطل بعضها بعضا.

وقد يمكن أن يشغب مشغب في هذا المكان فيقول : قد وجدنا أبعاضا لا يقع عليها اسم كلها كاليد والرجل والرأس ، وسائر الأعضاء ليس شيء منها يسمى إنسانا فإذا اجتمعت وقع عليها كلها اسم إنسان.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا شغب لأننا إنما تكلمنا على الأبعاض المتساوية التي كان بعض منها يقع عليه اسم الكل كالماء الذي كل بعض منه ماء ، وكله ماء ، وليس الإنسان الجزء من هذا الباب. وكل بعض من أبعاض الموجود فإنه يقع عليه اسم موجود.

٦٣

وقد يمكن أن يشغب أيضا مشغب في قولنا : إن الأبعاض لا تتنافى ، فيقول : إن الخضرة تنافي البياض ، وكلاهما بعض للون الكلي ، فهذا أيضا ليس مما أردناه في شيء ، لأن قولنا موجود ليس جنسا فيقع على أنواع المتضادات ، وإنما هو إخبار عن وجود أشياء قد تساوى كلها في وجودنا إياها حقا ، فهو يعم بعضها كما يعم كلها ، وأيضا فإن الخضرة لا تضاد البياض في أن هذا لون ، بل يجتمعان في هذا المعنى اجتماعا واحدا لا يختلفان فيه ، وإنما اختلفا بمعنى آخر. وكذلك لا يخالف موجود موجودا في أنه موجود ، والموجود يخالف المعدوم في هذا المعنى نفسه ، وليس بعضا للمعدوم ، والمعدوم ليس شيئا ، ولا له معنى حتى يوجد ، فإذا وجد كان حينئذ شيئا موجودا.

وقد تخلصنا أيضا في باب التجزؤ ، وكلامنا في هذا الديوان من مثل الإلزام هنالك.

الكلام على النّصارى

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : النصارى وإن كانوا أهل كتاب ، ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهم‌السلام ، فإن جماهيرهم وفرقهم لا يقرون بالتوحيد مجردا ، بل يقولون بالتثليث ، فهذا مكان الكلام عليهم.

والمجوس أيضا وإن كانوا أهل كتاب لا يقرون ببعض الأنبياء عليهم‌السلام ، ولكنا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا.

فالنصارى أحق منهم بالإدخال هاهنا ، لأنهم يقولون بثلاثة لم يزالوا.

والنصارى فرق :

منهم أصحاب «آريوس» وكان قسيسا بالإسكندرية. ومن قوله : التوحيد المجرد ، وأن عيسى عليه‌السلام عبد مخلوق ، وأنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السموات والأرض. وكان في زمن قسطنطين الأول ، باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم ، وكان على مذهب «آريوس» هذا.

ومنهم أصحاب «بولس الشمشاطي» : وكان بطريركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية. وكان قوله : التوحيد المجرد الصحيح ، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم‌السلام ، خلقه الله تعالى في بطن مريم من غير ذكر ، وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة. وكان يقول : لا أدري ما الكلمة ولا روح القدس؟

٦٤

وكان منهم أصحاب «مقدونيوس» وكان بطريركا في «القسطنطينية» بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنيطين باني «القسطنطينية» ، وكان هذا الملك «آريوسيّا» كأبيه. وكان من قول «مقدونيوس» هذا : التوحيد المجرد ، وأن عيسى عليه‌السلام عبد مخلوق ، إنسان نبي ، رسول الله كسائر الأنبياء عليهم‌السلام. وأن عيسى هو روح القدس ، وكلمة الله عزوجل. وأن روح القدس والكلمة مخلوقان ، خلق الله كل ذلك.

ومنهم «البربرانية» : وهم يقولون إن عيسى وأمه إلهان من دون الله عزوجل. وهذه الفرقة قد بادت.

وعمدتهم اليوم ثلاث فرق :

فأعظمها فرقة «الملكانية» : وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ، ومذهب جميع نصارى إفريقية ، وصقلية ، والأندلس وجمهور الشام ، وقولهم : إن الله تعالى ـ عبارة عن قولهم ـ ثلاثة أشياء : أب وابن وروح القدس ، كلها لم تزل ، وأن عيسى عليه‌السلام : إله تام كله ، وإنسان تام كله ، ليس أحدهما غير الآخر ، وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل ، وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك ، وأن مريم ولدت الإله والإنسان وأنهما معا شيء واحد ابن الله. تعالى الله عن كفرهم.

وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء ، إلّا أنهم قالوا : إنّ مريم لم تلد الإله ، وإنما ولدت الإنسان ، وأن الله تعالى لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله. تعالى الله عن كفرهم. وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان. وهم منسوبون إلى «نسطور» وكان بطريركا بالقسطنطينية.

وقالت «اليعقوبية» : إن المسيح هو الله تعالى نفسه ، وإن الله ـ تعالى عن عظيم كفرهم ـ مات وصلب وقتل ، وإن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر ، والفلك بلا مدبر ، ثم قام ورجع كما كان ، وإن الله تعالى عاد محدثا ، وإن المحدث عاد قديما ، وإنه تعالى هو كان في بطن مريم محمولا به.

وهم في أعمال مصر ، وجميع النوبة ، وجميع الحبشة ، وملوك الأمتين المذكورتين.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ولو لا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة : ١٧] وإذ يقول تعالى حاكيا عنهم : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [سورة المائدة : ٧٣] وإذ يقول تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة : ١١٦] لما انطلق

٦٥

لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع ، السمج ، السخيف ، وتالله لو لا أننا شاهدنا النصارى ما صدقنا أن في العالم عقلا يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان.

فأما «اليعقوبية» : فإنهم ينسبون إلى «يعقوب» البرذعاني ، وكان راهبا بالقسطنطينية ، وهم فرقة نافرت العقل والحس منافرة وحشية تامّة ، لأن الاستحالة نقلة ، والنقلة والاستحالة لا يوصف بهما الأول الذي لم يزل تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

ولو كان كذلك لكان مخلوقا ، والمحدث يقتضي محدثا خالقا له ، ويكفي من بطلان هذا القول دخوله في باب المحال والممتنع الذي أوجب العقل والحس بطلانه ، وليس في باب المحال أعظم من أن يكون الذي لم يزل يعود محدثا لم يكن ثم كان ، وأن يصير غير المؤلف مؤلّفا ، ويلزم هؤلاء القوم أن يعرفونا من دبر السماوات والأرض وأدار الفلك هذه الثلاثة الأيام التي كان فيها ميتا؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ثم يقال للقائلين بأن الباري تعالى ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس : أخبرونا ، إذ هذه الثلاثة الأشياء لم تزل كلها ، وأنها مع ذلك شيء واحد إن كان ذلك كما ذكرتم؟ فبأي معنى استحق أن يكون أحدهما يسمى أبا والثاني ابنا والثالث روح القدس وأنتم تقولون : إن الثلاثة واحد ، وأن كل واحد منها هو الآخر؟ فالأب هو الابن والابن هو الأب وهما روح القدس ، وليس روح القدس سواهما؟ وهذا هو عين التخليط ، وإنجيلهم يبطل هذا بقولهم فيه «سأقعد عن يمين أبي». وبقولهم فيه : «إن القيامة لا يعلمها إلا الأب وحده ، وإن الابن لا يعلمها».

فهذا يوجب أن الابن ليس هو الأب.

وإن كانت الثلاثة متغايرة ـ وهو لا يقولون بهذا ـ فيلزمهم أن يكون في الابن معنى من الضعف ، أو من الحدوث ، أو من النقص به وجب أن ينحط عن درجة الأب.

والنقص ليس من صفة الذي لم يزل ، مع ما يدخل على من قال بهذا من وجوب أن تكون محدثة لحصر العدد وجري طبيعة النقص والزيادة فيها ، على حسب ما قدمناه في حدوث العالم.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد لفق بعضهم أشياء قالوا إنها لا معنى لها ، إلا أننا ننبّه عليها ليتبين هجنة قولهم وضعفه بحول الله تعالى وقوّته ، وذلك أنّ بعضهم قال : لما وجب أن يكون الباري تعالى حيّا وعالما وجب أن تكون له حياة وعلم ، فحياته هي التي تسمى روح القدس ، وعلمه هو الذي يسمى الابن.

٦٦

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا من أغث ما يكون من الاحتجاج ، لأننا قد قدّمنا أن الباري تعالى لا يوصف بشيء من هذا من طريق الاستدلال ، لكن من طريق السمع خاصة ، ولا يصح لهم دليل لا من إنجيلهم ولا من غيره من الكتب أن العلم يسمّى ابنا ، ولا في كتبهم أن علم الله هو ابنه. وقد ادّعى بعضهم أنّ هذا تقتضيه اللغة اللاتينية من أنّ علم العالم يقال فيه : إنّه ابنه.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا باطل ظاهر الكذب ، لأن الإنجيل الذي كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس ، لا يختلف أحد من الناس في أنه إنما نقل عن اللغة العبرانية إلى السريانية وغيرها. فعبّر عن معاني تلك الألفاظ العبرانية ، وبها كان فيه (١) ذكر الأب والابن وروح القدس. وليس في اللغة العبرانية شيء مما ذكر وادّعى.

وإن كانوا ممن يقولون بتسمية الباري عزوجل من طريق الاستدلال ، فقد أسقطوا صفة القدرة ، إذ ليس الاستدلال على كونه عالما بأصح ولا أولى من الاستدلال على كونه قادرا ، لا سيما مع قول «بولس» وهو عندهم فوق الأنبياء : «إن المسيح قدرة الله وعلمه تعالى».

قال هذا النص في رسالته الأولى إلى أهل قونية : فليضيفوا إلى هذه الثلاث صفة رابعة وهي القدرة ، وأخرى وهي السمع ، وأخرى وهي البصر ، وأخرى وهي الكلام ، وأخرى وهي العقل ، وأخرى وهي الحكمة ، وأخرى وهي الجود.

فإن قالوا : القدرة هي الحياة.

قيل لهم : والعلم هو الحياة.

فإن قالوا : ليس العلم الحياة لأنه قد يكون حيّ ليس عالما كالمجنون ، قيل لهم : قد يكون حي ليس قادرا كالمغشى عليه ونحو ذلك ، فالقدرة ليست الحياة.

وأيضا فإن كان الابن هو العلم وروح القدس هو الحياة ، فما بال إقحامهم المسيح عليه‌السلام في أنه الابن وروح القدس. أترى المسيح هو حياة الله وعلمه؟ وما بال قول بعضهم إنّ مريم ولدت ابن الله؟ أتراها ولدت علم الله؟!

أيكون في التخليط أكثر من هذا؟ وهل حظ المسيح عليه‌السلام من علم الله وحياته إلّا كحظ غيره ولا فرق؟

__________________

(١) أي في الإنجيل الذي ذكره.

٦٧

وهذا لا مخلص منه. وبالله التوفيق.

وقال بعضهم : لما وجدنا الأشياء قسمين حيّا ولا حيّا ، وجب أن يكون الباري عزوجل حيّا ، ولمّا وجدنا الحيّ ينقسم قسمين : ناطقا وغير ناطق ، وجب أن يكون الباري تعالى ناطقا.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا الكلام في غاية الكلال (١) لوجهين : أحدهما : أن هذه القسمة قسمة طبيعية واقعة تحت جنس ، لأنه إذا كان تسمية الباري تعالى حيّا إنما هو من هذا الوجه ، فهو إذا يقع مع سائر الأجسام تحت جنس الحي ، ويحدّ بحدّ الحي وبحد الناطق.

وإذا كان كذلك فهو مركب من جنسه وفصله ، وكل ما كان محدودا فهو متناه ، وكل ما كان مركبا فهو محدث.

والوجه الثاني : أن هذه القسمة التي قسموها منقوضة مموّهة ، لأنه يلزمهم أن يبدءوا بأول القسمة الذي هو أقرب إلى الطبيعة ، فيقولوا : وجدنا الأشياء جوهرا ولا جوهرا ، ثم يدخلوه تحت أي القسمين شاءوا ، وهم إنما يدخلونه تحت الجوهر ، فإذا أدخلوه تحت الجوهر فقد وجب ضرورة أن يحدّوه بحد الجوهر.

فإذا كان ذلك وجب أن يكون محدثا ، إذ كل محدود فهو محدث كما قدمنا.

ثم نعترضهم في قسمتهم من قبل أن يبلغوا إلى الحي الناطق.

وعلى بعض القسم قبله يقع الثاني.

وهذه كلها مخلوقات.

فلو كان الباري تعالى بعضها ، أو كانت هذه الصفات واقعة عليه من طريق وجوب وقوعها علينا ، لكان مخلوقا. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وقال بعضهم : لما كانت الثلاثة تجمع الزوج والفرد ، وهذا أكمل الأعداد ، وجب أن يكون الباري تعالى كذلك لأنه غاية الكمال.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا من أغث الكلام لوجوه ضرورية أحدها : أن الباري تعالى لا يوصف بكمال ولا تمام ، لأن الكمال والتمام من باب الإضافة ، لأن

__________________

(١) أي الضعف والفساد.

٦٨

التمام والكمال لا يقعان البتة إلا فيما فيه النقص ، لأن معناهما إنما هو إضافة شيء إلى شيء به كملت صفاته ، ولولاه لكان ناقصا. ولا معنى للكمال والتمام إلّا هذا فقط.

والوجه الثاني : أن كل عدد بعد الثلاثة فهو أتم من الثلاثة ، لأنه يجمع إما زوجا وفردا وإمّا زوجا وزوجا ، وإمّا زوجا وزوجا وفردا ، وإمّا أكثر من ذلك.

وبالضرورة يعلم أن ما جمع أكثر من زوج فهو أتم وأكمل مما لم يجمع إلا زوجا وفردا فقط ، فيلزمه أن يقول : إن ربّه أعداد لا تتناهى ، أو أنه أكثر الأعداد ، وهذا أيضا ممتنع محال لو قاله ، ويكفي فسادا بقول يؤدي إلى المحال.

والوجه الثالث : أن هذا الاستدلال مضاد لقولهم : إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد هي غير الثلاثة التي هي عندكم واحد بلا شك ، لأن الثلاثة التي تجمع الزوج والفرد ليست الفرد الذي هو فيها ، وهي جامعة له ولغيره ، بل ذلك الفرد بعض لها ، وهي كل له ولغيره والباري تعالى لا كل له ولا بعض ، والكل ليس هو الجزء ، والجزء ليس هو الكل ، والفرد جزء للثلاثة والثلاثة كل للفرد وللزوج معه ، فالفرد غير الثلاثة ، والثلاثة غير الفرد ، والعدد مركب من واحد يراد به الفرد ، وواحد كذلك ، وواحد كذلك إلى نهاية العدد المنطوق به ، فالعدد ليس الواحد ، والواحد ليس هو العدد ، لكن العدد مركب من الآحاد التي هي الأفراد ، وهكذا كل مركب من أجزاء ، فذلك المركب ليس هو جزء من أجزائه ، كالكلام الذي هو مركب من حرف وحرف حتى يقوم المعنى المعبر عنه ، فالكلام ليس هو الحرف ، والحرف ليس هو الكلام.

والوجه الرابع : أنّ هذا المعنى السخيف الذي قصده هذا الجاهل نجده في الاثنين ، لأن الاثنين عدد يجمع فردا وفردا ، وهو زوج مع ذلك ، فقد وجدنا في الاثنين الزوج والفرد ، فيلزمه أن يجعل ربه اثنين.

والوجه الخامس : أن كلّ عدد فهو محدث ، وكذلك كل معدود يقع عليه عدد فهو أيضا محدث ، على ما قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا.

والمعدود لم يوجد قط إلا ذا عدد ، والعدد لا يوجد قط إلّا ذا معدود ، والواحد ليس عددا على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وبه يتم الكلام في التوحيد بحول الله وقوته.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهم يقولون : إن الإله اتحد مع الإنسان بمعنى أنهما صارا شيئا واحدا.

٦٩

فقالت اليعقوبية : كاتحاد الماء يلقى في الخمر فيصيران شيئا واحدا.

وقالت النسطورية : كاتحاد الماء يلقى في الزيت فكل واحد منهما باق بحسبه (١).

وقالت الملكية : كاتحاد النار في الصفيحة المحماة (٢).

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وكل هذا في غاية الفساد.

أول ذلك : أنها دعاوى لا يعجز عن مثلها متحامق ، وليس في إنجيلهم شيء من هذه الأقسام.

والثاني : أنها كلها محال ، لأن قول الملكية في تمثيلهم بما مثلوا إنما هو عرض في جوهر لا يجوز ولا يمكن إلا من عرض في جوهر ولا يتوهم غير ذلك ، فالإله على قولهم عرض والإنسان جوهر وهذا في غاية الفساد.

وقول اليعقوبية أفسد ، لأننا نقول لهم إن كان استحال الإله إنسانا ، فالمسيح إنسان وليس إلها ، وإن كان الإنسان استحال إلها ، فالمسيح إله وليس بإنسان ، وإن كان كلاهما لم يستحل واحد منهما إلى الآخر فهذا قول النسطورية لا قولهم. وإن كان كل واحد منهما استحال إلى الآخر فقد صار الإله إنسانا لا إلها ، وصار الإنسان إلها لا إنسانا ، وحصلوا بعد هذا الحمق على قول النسطورية ولا مزيد. وإن كان استحالا إلى غير الإنسان والإله ، فالمسيح لا إله ولا إنسان ، وكل هذا خلاف قولهم.

وأما قول النسطورية ، فلم يزيدوا على أن قالوا : إن الإنسان إنسان ، والإله إله. وهكذا كل فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله ، فالمسيح وغيره من الناس سواء.

وأيضا فإنّ ما قالوا محال ، لأن الباري عزوجل الذي لم يزل لا يستحيل إلى طبيعة الإنسان المحدث ، ولا يستحيل المحدث إلها لم يزل ، وهذا محال بذاته لا يتشكل وكذلك الإنسان : لا يجاوز الإله مجاوزة مكانية ، لأنه محال أيضا ، وكذا لا يتوهم ولا يمكن أن يكون الإله عرضا يحمله جوهر الإنسان.

ولا يمكن أيضا أن يكون الإنسان عرضا يحمله الإله في ذاته كما تدّعي الملكية من تشبيه ذلك الاتحاد بضوء الشمس في البيت ، وبالنار في الحديدة المحماة ، فقد

__________________

(١) لأن الماء والزيت لا يمتزجان.

(٢) وهذا أشدّ أنواع الاتحاد ، فهو أكثر من الامتزاج.

٧٠

صح أنّ كل ما قالوا محال وباطل وسخف لا يقبله إلّا مخذول.

ولا يمكنهم ادعاء وجود شيء من هذا في كتب الأنبياء أصلا.

وأيضا فإنهم يضيفون إلى ذكرهم الأب والابن وروح القدس شيئا رابعا وهو الكلمة ، وهي المتحدة عندهم بالإنسان ، الملتحمة في مشيمة مريم عليها‌السلام. فإنّ أمانتهم التي اتفقوا عليها كلهم هي كما نورده نصا : «نؤمن بالله الأب مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، وبالرّب الواحد يسوع المسيح ، بكر الخلائق كلها ، وليس بمصنوع. الإله حق من الإله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم كلها وخلق كل شيء ، الذي من أجلنا معشر الناس ، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ، وصار إنسانا ، وولد من مريم البتول ، وألم وصلب أيام «قيطوش بلاطش (١)» ، ودفن وقام في اليوم الثالث ، كما هو مكتوب ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين الأب ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد ، روح الحق الذي هو مشتق من أبيه روح محبة ، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة قدسية سليحية جاثليقية ، وبقيامة أبداننا ، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين».

وقال في أول إنجيل «يوحنا التلميذ» : «في البدء كانت الكلمة ، والكلمة عند الله ، والله كان الكلمة».

قال «أبو محمد» رضي الله عنه : فهذه أقوال إذا تأملها ذو عقل علم أنها وساوس أو جنون ملقّى من الشيطان لا يمتحن به إلّا مخذول مشهود له ببراءة الله تعالى منه.

ويقال لهم : الكلمة هي الأب؟ أو الابن أو روح القدس؟ أم شيء رابع؟

فإن قالوا : شيء رابع. فقد خرجوا عن التثليث إلى التربيع.

وإن قالوا : إنها أحد الثلاثة ، سئلوا عن الدليل على ذلك ؛ إذ الدعوى لا يعجز عنها أحد.

ثم يقال لهم : الأب هو الابن أم هو غيره؟

فإن قالوا : هو غيره ، سئلوا أيضا :

من الملتحم في مشيمة مريم؟ المتحد مع طبيعة المسيح ، الأب أم الابن؟ فإن قالوا : الابن. فقد بطل أن يكون هو الأب ، وخالفوا «يوحنا» إذ يقول في أول إنجيله : إن

__________________

(١) بيلاطس : هو حاكم روما على اليهودية ، وهو الذي دفع بالمسيح إلى اليهود ليصلبوه بزعمهم.

٧١

الكلمة هي الله والتحمت. فإذا كانت هي الله ، والكلمة التحمت في مشيمة مريم فالله تعالى هو نفسه التحم في مشيمة مريم فعلى هذا فالأب والابن والكلمة كلهم التحموا في مشيمة مريم ، وفي أمانتهم : أن الابن هو الذي التحم في مشيمة مريم.

وهذه وساوس لا نظير لها.

ويقال لهم أيضا : هل معنى التحم إلّا صار لحما؟ وهذا غير قول النسطورية والملكية.

وإن قالوا : بل الأب ، فقد بطل أن يكون هو الابن ، وخالفوا «يوحنا» والأمانة.

وإن قالوا : هو الأب وهو الابن. تركوا قولهم : إن الابن يقعد عن يمين أبيه ، وأن الأب يعلم وقت القيامة ، والابن لا يعلمها ، وقولهم في إنجيل «يوحنا» : الأب فوّض الأمر إلى ابنه ، والأب أكبر من الابن ، فهذه نصوص على أن الابن غير الأب ، إذ لا يقعد المرء عن يمين نفسه ، ولا يفوض الأمر إلى نفسه ، ولا يجهل ما يعلم ، وهذا كله يبطل قولهم : إن الابن هو العلم والقدرة أو غير ذلك ، لأن هذه الصفات لا تقعد عن يمين حامله ، ولا يفوّض إليها شيء.

وإن قالوا : لا هو هو ، ولا هو غيره ، دخل عليهم من الجنون ما يدخل على من ادّعى أن الصفات لا هي الموصوف ولا هي غيره.

وإن قالوا : الأب هو الابن وهو غيره ـ لم يكن ذلك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عن المعقول ، ولزمهم أن الابن ابن لنفسه ، وأب لنفسه ، وأن الأب أب لنفسه وابن لنفسه ، وليس في الحمق والهوس أكثر من هذا. ولا متعلق لهم بشيء مما في «الزبور» وفي كتاب «شعياء» وغيره ، لأنه ليس في شيء منها أن المراد بما ذكر هنالك هو عيسى ابن مريم عليهما‌السلام.

وقد قال «لوقا» في آخر إنجيله : «إنه كان نبيّا مقتدرا عبد الله». وهذا كله بيّن عظيم مناقضتهم ، وما توفيقنا إلا بالله عزوجل.

فإن تعلقوا بما في الإنجيل من ذكر المسيح أنه ابن الله ، قيل لهم : في الإنجيل أيضا : أبي وأبيكم الله ، «إلهي وإلهكم». وأمرهم إذا دعوا أن يقولوا : يا أبانا السماوي ، فله من ذلك كالذي لهم ولا فرق.

فإن قالوا : إنه أتى بالعجائب. قيل لهم : والحواريون أيضا عندكم أتوا بالعجائب ،

٧٢

وموسى قبله «وإلياس» وسائر الأنبياء عليهم‌السلام قد أتوا بمثل ما أتى به من إحياء الموتى وغيره ، فأي فرق بينه وبينهم؟

على أنه ليس في شيء من الإنجيل نص الأمانة التي لا يصح الإيمان عندهم إلّا بها من ذكر أب وابن وروح القدس معا وسائر ما فيها. وإنما هي تقليد لأسلافهم من الأساقفة ، ونعوذ بالله من الخذلان.

وأمانتهم التي ذكروا أنهم متفقون عليها موجبة أن الابن هو الذي نزل من السماء وتجسّد من روح القدس ، وصار إنسانا ، وقتل وصلب ، فيقال لهم : هذا الابن الذي في أمانتكم أنه نزل من السماء وتجسّد من روح القدس ، وصار إنسانا ، أخبرونا قبل أن ينزل من السماء أمخلوقا كان أو غير مخلوق أم كان لم يزل؟ فإن قالوا : كان مخلوقا. فقد تركوا قولهم ، لا سيما إن قالوا : إنه ليس هو غير الأب بل يصير الأب وروح القدس مخلوقين.

وإن قالوا : كان قبل أن ينزل غير مخلوق. قيل لهم : فقد صار مخلوقا إنسانا. وهذا محال وتناقض.

وأيضا فقد لزم من هذا أن الابن مخلوق ، وروح القدس مخلوق ، إذ صار إنسانا ، ثم يقال لهم : أخبرونا عن هذا الابن الذي أخبرتم عنه بما لم تخبروا عن الأب ، والذي يقعد عندكم عن يمين أبيه ، ثم ينزل لفصل القضاء أله علم وحياة أم لا علم له ولا حياة؟

فإن قالوا : لا علم له ولا حياة ، فارقوا إجماعهم ، ولزمهم ضرورة أن قالوا مع ذلك إنه غير الأب الذي له حياة وعلم ، إذ ما لا علم له هو بلا شك غير الذي له علم ، والذي لا حياة له هو بلا شك غير الذي له حياة. وهذا ترك منهم للنصرانية.

وإن قالوا : بل له علم وحياة لزمهم أن الأزليين خمسة : الأب وعلمه وحياته ، والابن الذي هو علم الأب وعلمه وحياته ، وهكذا يسألون أيضا عن روح القدس ، ولا فرق.

وقد قال «يوحنا» في أول إنجيله : فمن تقبله منهم وآمن به أعطاهم سلطانا أن يكونوا أولاد الله ، أولئك المؤمنون باسمه الذين لم يتوالدوا من دم ولا شهوة اللحم ، ولا باه رجل ، ولكن توالدوا من الله.

فصح بهذا أن كلّ نصراني من ولادة والأزلية والكون من جوهر الأب كالذي للمسيح سواء بسواء ولا فرق.

٧٣

وإلّا فقد كذب «يوحنا» اللعين قائل هذا الكفر ، وأهل للكذب هو. وهذا ما لا انفكاك منه.

وهذا يلزم الأشعرية الذين يقولون بأن علم الله تعالى وقدرته هما غير الله. تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا.

وممّا يعترض به علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف (١) من سائر الملحدين : أن قال قائلهم : قد نقلت اليهود والنصارى أن المسيح عليه‌السلام قد صلب وقتل ، وجاء القرآن بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟

فإن جوّزتم على هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل الباطل ، فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.

فإن قلتم : اشتبه عليهم ، فلم يتعمدوا نقل الباطل ، فقد جوزّتم التلبيس على الكواف ، فلعل كافتكم أيضا ملتبس عليها. فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.

وقولوا لنا : كيف فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟ فإن قلتم كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على الناس الإقرار بالباطل ، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به ، وفي هذا ما فيه.

وإن قلتم كان الفرض عليكم الإنكار لصلبه ، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف ، وفي هذا إبطال قول كافتكم ، بل إبطال جميع الشرائع ، بل إبطال كل خبر كان في العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ، ووقعتم ـ وفي هذا ما فيه.

قال «أبو محمد» رضي الله عنه : هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة (٢) والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.

فنقول وبالله التوفيق : إن صلب المسيح عليه‌السلام لم يقله قط كافّة ، ولا صحّ

__________________

(١) الكوافّ : جمع كافّة ، أي جميع الناس. ولم أجد هذا الجمع في كتب اللغة التي بين يدي. ويريد بقوله : «إسقاط الكوافّ» إسقاط أخبارهم.

(٢) أي الاستحالة.

٧٤

بالخبر قط ، لأن الكافّة التي يلزم قبول نقلها هي : إمّا الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ طرقهم ، وعدم التقائهم ، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة ، أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا.

وإمّا أن يكون عدد كثير (١) يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما نواطئوا عليه ، فأخبروا بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه ، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة ، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ، ويضطر خبرها سامعها (٢) إلى تصديقه ، وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفّارا وما عدا هذا من الخبر فليس كافة ، ولا يضطر سامعه إلى تصديقه ، وسواء أكانوا عدولا أم غير عدول ولا يقطع على صحته إلا ببرهان. فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب المسيح عليه‌السلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه ، فإنّ هنالك تبدّلت الصفة ورجعت لى شرط مأمورين مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل.

والنصارى مقرون بأنهم لم يقدموا على أخذه (٣) نهارا خوف العامة ، وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن الفصح ، وأنه لم يبق في الخشبة إلّا ست ساعات من النهار ، وأنه أنزل إثر ذلك ، وأنه لم يصلب إلّا في مكان نازح (٤) عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ، ليس موضعا معروفا بصلب ولا موقوفا لذلك ، وأنه بعد هذا كله رشي الشّرط على أن يقولوا إن أصحابه سرقوه ففعلوا ذلك ، وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور موضع صلبه ، بل كانت واقفة على بعد تنظر ، هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن يكون صلبه منقولا بكافة ، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه. وما كان الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم ، غيّبا عن ذلك المشهد ، هاربين بأرواحهم مستترين. وأنّ «شمعون الصفا» (٥) غرّر ودخل دار «قيقان» الكاهن أيضا بضوء فقال له : أنت من أصحابه فانتفى وجحد ،

__________________

(١) يجوز الرفع في «عدد كثير» على أنّ «يكون» فعل تام ، و «عدد كثير» فاعل. ويجوز النصب فيه على أنه خبر «يكون» واسمه «الكافّة».

(٢) الصواب «سامعه» أي : سامع هذا الخبر.

(٣) أي المسيح عليه‌السلام.

(٤) نازح : بعيد.

(٥) هو القديس بطرس أحد حواريي المسيح عليه‌السلام.

٧٥

وخرج هاربا عن الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النّفس عليه على أن تظن به الصدق ، فكيف أن ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء : ١٥٧]. إنما عنى بذلك تعالى : أنّ أولئك الفساق الذين دبّروا هذا الباطل وتواطئوا عليه ، هم شبهوا على من قلّدهم (١). فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك ، عالمون أنهم كذبة. ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت الحقائق كلها ، ولأمكن أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس ، وفيمن يجالس ، وفي حيث هو (٢) فلعله نائم أو مشبه على حواسه. وفي هذا خروج إلى السخف ، وقول السفسطائية والحماقة.

وقد شاهدنا نحن مثل ذلك ، وذلك أننا أندرنا (٣) للجبل لحضور دفن المؤيد هشام ابن الحكم المستنصر فرأيت أنا وغيري نعشا فيه شخص مكفن ، وقد شاهد غسله رجلان شيخان جليلان حكيمان من حكام المسلمين ، ومن عدول القضاة في بيت ، وخارج البيت أبي رحمه‌الله وجماعة عظماء البلد ، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه. ثم لم يلبث إلّا شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيّا ، وبويع بعد ذلك بالخلافة. ودخلت عليه أنا وغيري وجلست بين يديه ورأيته ، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام (٤).

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وأما قوله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد بينا أنها لم تكن كافة قط ، وحتى لو صح أنها كانت كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟ فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات ، فلو صحّ أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه شبّه لهم حاكما على حواسهم ومحيلا لها كخروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه أبصارهم عنه فلم يروه.

وأما ما لم يأت خبر عن الله عزوجل بأنه شبّه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك لأنه قطع بالمحال وإحالة طبيعة ، وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن إلا أن يأتي بذلك يقين عن الله عزوجل فيلزم قبوله.

__________________

(١) بعض التفسيرات الأخرى للآية ، وهي الأشهر ، أنهم صلبوا فعلا رجلا آخر يشبه المسيح عليه‌السلام. والمؤلف يشير هنا إلى أنه لم يحصل صلب ، بل نقل في ذلك خبر كاذب.

(٢) أي موجود ، أو كائن.

(٣) أندر الشيء. أخرجه (المعجم الوسيط : ص ٩١٠).

(٤) كذا في الأصل. والصواب : «وأياما».

٧٦

وأمّا التشبيه على الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز ، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على الواحد والاثنين ونحو ذلك ، ولا يجوز على الجماعة كلها.

وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء : ١٥٧] إنما هو إخبار عن الذين يقولون بتقليد أسلافهم من النصارى واليهود : إنه عليه‌السلام قتل وصلب ، فهؤلاء شبّه لهم القول أي أدخلوا في شبهة منه. وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المدّعون لهم أنهم قتلوه وصلبوه وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك ، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه ، وصلبوه في استتار ومنع من حضور الناس ، ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة الذين شبّه لهم الخبر.

ثم نقول لليهود والنصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته فساد ما شغبوا به في هذه المسألة : إنّ كوافّكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقا ووطء إماء وهو حرام عندكم ، وعن هارون عليه‌السلام : أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته والرقص أمامه ، وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهم‌السلام عن عبادة غيره ، وعن الأمر بذلك ، وعن كل معصية ورذيلة ، فإذا جوّزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى عليه‌السلام وسائر الأنبياء كان كل ما أمروهم به من جنس عمل العجل والرقص والأمر بعبادته ، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهما‌السلام ، وسائر أنبيائهم ، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور بطبعه.

وأمّا نحن فجوابنا في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة ، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه ، وأمّا خوار العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه إنما كان صفير الريح تدخل من فيه وتخرج من دبره ، لا أنه خار بطبعه قط ، وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل عليه‌السلام ، والذي يعتمد عليه قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه ، وبالله تعالى التوفيق.

وأمّا قوله : كيف كان الغرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟

فهذه قسمة فاسدة شغبية قد حذّر منها الأوائل كثيرا ، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام ، وذلك أنهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين : إمّا فرض بإنكار وإمّا فرض بإقرار ، وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه ، وهذا لا يرضى به لنفسه إلّا جاهل أو سخيف مغالط غابن لنفسه غاشّ لمن اغتر به. وإنما الحقيقة هاهنا أن يقول :

٧٧

هل لزم الناس قبل ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه ، أو لم يلزمهم فرض بشيء من ذلك؟

فهذه هي القسمة الثابتة من السؤال الصحيح (١).

وحق الجواب : أنه لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك لا بإقرار ولا بإنكار ، وإنما كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ، ممكن صدق قائله ، فقد قتل أنبياء كثيرة ، وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك. وهو بمنزلة شيء مغيب (٢) في دار ، فيقال لهذا المعرّض بهذا السؤال الفاسد : ما الفرض على الناس فيما في هذا الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك؟ فهذا كله لا يلزم منه شيء ، ولم ينزل الله عزوجل كتابا قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بإنكاره. وإنما لزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب الخبر بقتله وصلبه. فإن قالوا : قد نقل الحواريون صلبه ، وهم أنبياء وعدول.

قيل لهم وبالله التوفيق :

الناقلون لنبوتهم وإعلامهم ولقولهم بصلبه عليه‌السلام هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه (٣) ، والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى مفتر عليه كافر.

فإن كان الناقل لذلك عنهم صادقا ، أو كانوا كافة ، فما كان «يوحنا» و «متّى» و «بولس» إلّا كفارا كاذبين ، وما كانوا قط من صالحي الحواريين.

وإن كان ناقل ما ذكرنا عنهم كاذبا فالكاذب لا يقوم بنقله حجة. فبطل التمويه المتقدم والحمد لله رب العالمين.

طبيعة المسيح

وقال متكلموهم : إن الاتحاد المذكور إنما هو تقليد للإنجيل ، ولم يكن نقلة ولا حركة ، ولا فارق الباري ولا العلم ما كانا عليه ولا انتقلا.

__________________

(١) فإنهم تجاهلوا في التقسيم الاحتمال الثالث ، وهو : لم يلزمهم فرض لا بصلبه ولا بإنكار صلبه. وبدون هذا الاحتمال لا تكتمل القسمة.

(٢) أي غائب عن الأنظار.

(٣) يعني في قولهم أنه عليه‌السلام ابن الله.

٧٨

فيقال لهم : هذا إبطال للاتحاد ، وقول منكم بأن حظه وحظ غيره في ذلك سواء وخلاف لأمانتكم التي فيها أن الابن نزل من السماء ، وتجسّد وولد ، وقتل ودفن.

وقالت طائفة منهم : المسيح حجاب خاطبنا الله تعالى منه.

فيقال لهم : أنتم تقولون إن المسيح رب معبود ، وإله خالق ، والحجاب عندكم مخلوق والمسيح عند بعضكم طبيعة واحدة ، وعند بعضكم طبيعتان ناسوتية ولاهوتية.

فأخبرونا أتعبدون الطبيعتين معا اللاهوتية والناسوتية أم تعبدون إحداهما دون الأخرى؟

فإن قالوا : نعبدهما جميعا أقروا بأنهم يعبدون إنسانا وحجابا مخلوقا مع الله تعالى. وهذا أقبح ما يكون من الشرك.

وإن قالوا : بل نعبد اللاهوت وحده قيل لهم فإنما تعبدون نصف المسيح لا كله لأنه طبيعتان عندكم ولستم تعبدون إلّا إحداهما دون الأخرى.

وكذلك يسألون عن موت المسيح وصلبه؟

فمن قول الملكية والنسطورية : إن الموت والصلب إنما وقع على الناسوت خاصة. فيقال لهم : فأنتم في قولكم «مات المسيح وصلب» : كاذبون ، لأنه إنما مات نصفه فقط وصلب نصفه فقط ، لأن اسم المسيح عندكم واقع على اللاهوت والناسوت كليهما معا لا على أحدهما دون الآخر.

وكل من قال من اليعقوبية : الإنسان والإله شيء واحد فإنه يلزمه أن يعبد إنسانا لأنه إذا عبد الإله ، والإله هو الإنسان ، فقد عبد إنسانا وربه إنسان مخلوق.

وكل من قال منهم : الإله غير الإنسان فقد أبطل الاتحاد. وهكذا يقال لهم في الحجاب مع الله تعالى سواء بسواء ، ويلزمهم جميعهم إذ قد أقروا بعبادة المسيح هكذا جملة ، وأنه رب خالق ـ وفي الإنجيل أنه جاع وأكل الخبز والحيتان وعرق ، وضرب ـ أن ربهم (١) أكل وجاع ، وأن الإله ضرب ولطم وصلب. وكفى بهذا رذالة وفحش قول وبيان بطلان.

ويقال للملكية واليعقوبية القائلين بأن المسيح ابن الله وابن مريم وقد أقررتم أن المسيح إنسان وإله ، فالإنسان هو ابن الله وابن مريم ، والإله هو ابن مريم وابن الله وهذه غاية الشناعة.

__________________

(١) سياق العبارة : ويلزمهم جميعهم إذ قد أقرّوا بعبادة المسيح هكذا جملة وأنه ربّ خالق ، أن ربهم أكل .... الخ. فقوله : «وفي الإنجيل .... وضرب» جملة اعتراضيه.

٧٩

فإن قالوا : ما تقولون فيما في كتابكم : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [سورة الشورى : ٥١]. وأنه تعالى كلم موسى من جانب الطور من الشجرة من شاطئ الوادي؟

قلنا : التكليم فعل الله تعالى مخلوق ، والحجاب إنما هو للتكليم ، والتكليم هو الذي حدث في الشجرة وشاطئ الوادي وجانب الطور ، وكل ذلك مخلوق محدث وكذلك تحوّل جبريل عليه‌السلام في صورة دحية إنما هو أن الله تعالى جعل للملائكة والجن قوى يتحولون بها فيما شاءوا من الصور ، وكلهم مخلوق تتعاقب عليهم الأعراض بخلاف الله تعالى في ذلك.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وما يعترض به على النصارى ـ وإن كان ليس برهانا ضروريا لكنه يقرب من فهم كل ذي فهم ، وينقض عليهم به جميع شرائعهم نقضا ضروريا على جميعهم لكنه برهان ضروري على كل من تقلد منهم الشرائع التي يعمل بها الملكيون والنساطرة واليعاقبة والمارونية ـ قاطع لهم ، وهي مسألة جرت لنا مع بعضهم ، وذلك أنهم لا يخلون من أحد وجهين ، إمّا أن يكونوا يقولون ببطلان النبوة بعد عيسى عليه‌السلام ، وإمّا أن يقولوا بإمكانها بعده عليه‌السلام.

فإن قالوا بإمكان النبوة بعده عليه‌السلام لزمهم الإقرار بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ثبت نقل أعلامه بالكواف التي بمثلها نقلت أعلام عيسى وغيره عليهم الصلاة والسلام ، وإن قالوا ببطلان النبوة بعد عيسى عليه‌السلام لزمهم ترك جميع شرائعهم من صلاتهم ، وتعظيمهم الأحد ، وصيامهم وامتناعهم من اللحم ومناكحهم ، وأعيادهم ، واستباحتهم الخنزير والميتة ، والدّم ، وترك الختان ، وتحريم النكاح على أصل المراتب (١) في دينهم ، إذ كل ما ذكرنا ليس منه في أناجيلهم الأربعة شيء البتة ، بل أناجيلهم مبطلة لكل ما هم عليه اليوم ، إذ فيها أنه عليه‌السلام قال : «لم آت لأغير شيئا من شرائع التوراة». وأنه كان يلتزم هو وأصحابه بعده السبت ، وأعياد اليهود من الفصح وغيره ، بخلاف كل ما هم عليه اليوم ، فإذا منعوا من وجود النبوة بعده وكانت الشرائع لا تؤخذ إلّا عن الأنبياء عليهم‌السلام ، وإلّا فإنّ شارعها عن غير الأنبياء عليهم‌السلام حاكم على الله تعالى وهذا أعظم ما يكون من الشرك والكذب والسخف ، فشرائعهم التي هي دينهم

__________________

(١) كذا في الأصل : «على أصل المراتب» والصواب : «أهل المراتب» أي أهل الرتب الذين يتبتّلون ويحرمون النكاح على أنفسهم.

٨٠