الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

وأيضا فإن الله عزوجل يقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [سورة الملك : ١٩].

وهذا عموم لكل شيء كما قلنا ، فلا يجوز أن يخص به شيء دون شيء إلّا بنص آخر أو إجماع ، أو ضرورة ، ولا سبيل إلى شيء من هذا فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق.

وقال تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه : ٧].

فصح أن بصيرا وسميعا وعليما بمعنى واحد.

ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : إنه تعالى بإجماع منّا ومنكم هو السميع البصير ، وهو أحد غير متكثّر ، ولا نقول إنّ السميع للألوان ، البصير بالأصوات إلّا على الوجه الذي قلناه. وليس يوجب أنّ السميع غير البصير ، فالذي أردتم ساقط ، وإنما اختلفت معلوماته ، وإنما هو تعالى واحد ، وعلمه بها كلها واحد ، يعلمها كلّها بذاته ، لا بعلم هو غيره البتة ، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال قائل : أتقولون إنّ الله عزوجل لم يزل سميعا بصيرا؟

قلنا : نعم ، لم يزل تعالى سميعا بصيرا ، عفوّا غفورا ، عزيزا قديرا وهكذا كل ما جاء في القرآن فيه ، «وكان الله سميعا بصيرا» ونحو ذلك ، لأن قوله عزوجل «كان» إخبار عن ما لم يزل ، وإذا أخبر بذلك عن نفسه لا عمن سواه.

فإن قالوا : أتقولون : لم يزل الله خالقا خلّاقا رازقا؟

قلنا : لا نقول هذا ، لأن الله تعالى لم ينص على أنه كان خالقا خلّاقا ، رازقا رازقا لكنا نقول : لم يزل الخلّاق الرزّاق ، ولم يزل الله تعالى لا يخلق ولا يرزق ثم خلق ورزق من خلق ، وهذا يوجب ضرورة أنها أسماء «أعلام» لا مشتقة لأنه لو كان «خالق ورازق» مشتقين من خلق ورزق ، لكان لم يزل ذا خلق يخلقه ويرزقه.

فإن قيل : فإنّ السميع والبصير ، والرحمن ، والرحيم ، والعفوّ والغفور والملك ، كلّ ذلك يقتضي مسموعا ومبصرا ، ومرحوما ، ومغفورا له ، ومعفوّا عنه ومملوكا.

قلنا : المعنى في «سميع وبصير» عن الله تعالى هو المعنى في «عليم» ولا فرق. وليس ما يظن أهل العلم من أنّ له سمعا وبصرا مختصّين بالمسموع والمبصر تشبيها بخلقه سوى علمه ، لأنّ الله تعالى لم ينصّ على ذلك فيلزمنا أن نقوله ، ولا يجوز أن يخبر أن الله تعالى بغير ما أخبر به عن نفسه لأن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الشورى : ١١].

٤٠١

فصحّ أنه تعالى : «سميع ليس كمثله شيء من السّامعين ، بصير لا كمثل شيء من البصراء».

فإن قال قائل : أتقولون إنّ الله تعالى لم يزل يسمع ويرى ويدرك؟

قلنا : نعم ، لأن الله عزوجل قال : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [سورة طه : ٤٦].

وقال تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [سورة الأنعام : ١٠٣].

وقال تعالى : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) [سورة المجادلة : ١].

وصحّ الإجماع بقول «سمع الله لمن حمده» ، وصحّ النص : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن الصّوت يتغنّى بالقرآن» (١).

فنقول : إنه يسمع ويرى ، ويدرك كل ذلك بمعنى واحد ، وهو معنى يعلم ولا فرق.

وأما الإذن لنبيّ حسن الصوت ، فهو من الإذن بمعنى القبول ، كما يأذن الحاجب للمأذون له في الدّخول ، وليس من الأذن التي هي الجارحة ، ولو كان ما تظنون لكان بصره للمبصرات ، وسمعه للمسموعات محدثا ، ولكان غير سميع حتى سمع ، وغير بصير حتّى أبصر ، ولم يدرك حتّى أدرك. وحاشا لله من هذا ، فكل هذا بمعنى العلم ، ولا مزيد.

فإن قيل : فإنّ الله تعالى يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) [سورة القصص : ٦٨].

قلنا : نعم. وخلق الله تعالى : فعل له محدث ، واختياره تعالى هو خلقه لا غيره. وليس هذا من «يسمع» و «سمع» و «يرى» و «يدرك» في شيء ، لأنّ معنى كل هذا ومعنى العلم سواء. ولا يجوز أن يكون معنى «يخلق ويختار» معنى العلم.

وأمّا العفوّ ، والغفور ، والرحيم ، والحليم ، والملك ، فلا يقتضي وجود شيء من هذا وجود مرحوم معه ، ولا معفوّ عنه ، مغفور له معه ، ولا مملوك مرحوم عنه معه ، بل هو تعالى : رحيم بذاته ، عفوّ بذاته ، غفور بذاته ، ملك بذاته ، مع النص الوارد بأنه تعالى كان كذلك ، وهي أسماء أعلام له عزوجل.

__________________

(١) رواه من حديث أبي هريرة : البخاري في فضائل القرآن باب ١٩ ، والتوحيد باب ٣٢. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث ٢٣٢ و ٢٣٤. وأبو داود في الوتر باب ٢٠. والنسائي في الافتتاح باب ٨٣. والدارمي في الصلاة باب ١٧١ ، وفضائل القرآن باب ٣٤. وأحمد في المسند (٢ / ٢٧١ ، ٢٨٥ ، ٤٥٠).

٤٠٢

فإن ذكروا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بينهم وبين أن يروه إلّا رداء الكبرياء على وجهه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» (١).

ففي هذا الخبر إبطال لقولهم ، لأن البصر منته ذو نهاية وكل ذي نهاية محدود ، وكل محدود محدث ، وهم لا يقولون هذا ، ومعناه : أن البصر قد يستعمل في اللغة بمعنى الحفظ.

قال النابغة :

رأيتك ترعاني بعين بصيرة

وتبعث حرّاسا عليّ وناظرا (٢)

فمعنى هذا الخبر : لو كشف تعالى الستر الذي جعل دون سطوته لأحرقت عظمته ما انتهى إليه حفظه ورعايته من خلقه. وكذلك قول عائشة رضي الله عنها : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» (٣). إنما هو بمعنى : أنّ علمه وسع كل ذلك : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه : ٧].

ثم نزيد بيانا بعون الله تعالى فنقول : إنّ قولكم لا يعقل سميع إلا بسمع ، ولا بصير إلا ببصر» فإن كان هذا صحيحا يوجب أن يقال : إنّ لله تعالى سمعا وبصرا فإنه لا يعقل من له مكر إلّا وهو ماكر ، ولا من كان من الماكرين إلّا وهو ماكر ، ولا يعقل أحد ممن يستهزىء إلّا وهو مستهزئ ، ولا يعقل أحد ممن يكيد إلّا وهو كيّاد ، ولا يعقل أحد ممن له كيد ومكر إلا وهو كيّاد وماكر ، ولا خادع إلّا ويسمى : الخادع.

ولا يعقل من نسي إلّا وهو ناس وذو نسيان ، وهذا هو الذي لا سبيل إلى أن يوجد في العالم خلافه. وقد قال تعالى : (وَأَكِيدُ كَيْداً) [سورة الطارق : ١٦].

وقال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة : ١٥].

وقال تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [سورة النساء ١٤٢].

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٣ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند (٤ / ٤٠١ ، ٤٠٥) ولفظ مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس كلمات ، فقال : «إن الله عزوجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

(٢) انظر البيت في ديوان النابغة (٦٤) طبعة دار صادر ، بيروت.

(٣) رواه ابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، والنسائي في الطلاق باب ٣٣ ، وأحمد في المسند (٦ / ٤٦).

٤٠٣

وقال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) [سورة الأعراف : ٩٩].

وقال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [سورة آل عمران : ٥٤].

وقال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) [سورة النمل : ٥٠].

وقال تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) [سورة الرعد : ٤٢].

وقال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة : ٦٧].

وقال تعالى : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة : ٧٩].

فيلزمهم إذا سمّوا ربّهم ووصفوه من طريق استدلالهم وقياسهم وما شاهدوه في الحاضر عندهم أن يسمّوه ماكرا ، فيقولون : يا ماكر ارحمنا ، ويسمّوا بينهم : «عبد الماكر» ، وكذلك القول في الكيّاد والمستهزئ ، والخدّاع ، والناسي ، والساخر. وإلّا فقد تناقضوا وتلاعبوا بصفات ربهم تعالى وبدينهم.

فإن قالوا : هذه الصفات ذمّ وعيب ، وإنما نصفه عزوجل بصفات المدح ، لزمهم مصيبتان عظيمتان ، إحداهما : إطلاقهم أنّ الله عزوجل أخبر عن نفسه في هذه الآيات بصفات الذمّ والعيب ، وهذا كفر.

والثاني : أن يصفوا ربّهم بكل صفة مدح وحمد فيما بينهم ، وإن لم يأت بها نصّ ، وإلا فقد تناقضوا وقصّروا ، فيصفوه بأنه عاقل ، وأنه شجاع ، جلد ، سخي ، حسن الأخلاق ، نزيه النفس ، تام المروءة ، كامل الفضائل ، ذو هيئة ، نبيل ، نعم المرء.

ويقولوا : إنّه تيّاه قياسا على أنه تعالى : جبّار ، متكبر.

ويقولوا : إنه مستكبر ، فهو والمتكبر في اللغة سواء. وذو تيه وعجب ، وزهو ، ولا فرق بين هذا وبين المكر والكبرياء. فإن فعلوا هذا خرجوا عن الإسلام بالإجماع إلّا أن يعتذروا بشدّة الجهل وظلمته وعماه ، وأن يفروا عن ذلك ، ويتركوا ما دانوا به من تسمية الله تعالى ووصفه بأنّ له سمعا وبصرا ، وسائر ما وصفوه تعالى به بآرائهم الفاسدة ممّا لم يأت به نص ، كقولهم : قديم ، ومتكلم ، ومريد ، وأن له تعالى إرادة لم تزل ، وسائر ما اجترءوا عليه بغير برهان من الله عزوجل.

وأيضا : فإنّ هذه الصفات التي منعوا منها لأنها بزعمهم صفات ذم ، فإن السمع والبصر والحياة أيضا صفات نقص لأنها أعراض دالّة على الحدوث فيمن هي فيه.

فإن قالوا : ليست لله تعالى كذلك.

قيل لهم : ولا تلك الصفات أيضا إذا أطلقتموها عليه أيضا صفات ذم ولا فرق.

٤٠٤

ولقد قال لي بعضهم : إنما قلنا : إن الله تعالى يكيد ، ويستهزىء ويمكر ، وينسى ، وهو خادعهم ، وتشبيههم بأنه تعالى يقارضهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها.

فقلت له : نعم. هكذا نقول ، ولم ننازعك في هذا فتستريح إليه ، بل قلنا لكم سمّوه تعالى : مستهزئا ، وكيّادا ، وخدّاعا ، وماكرا ، وناسيا ، وساخرا على معنى أنه مقارضهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها كما قلتم في الأفعال سواء بسواء.

وقد قلتم : إنّ الأفعال توجب لفاعلها أسماء فعلها ولا فرق. فسكت خاسئا. وهذا ما لا انفكاك منه. وبهذا وبما ذكرنا يعارض كل من قال : إننا سمّينا الله عزوجل عالما لنفي الجهل ، قادرا لنفي العجز ، متكلما لنفي الخرس ، وحيّا لنفي الموت ، لأنهم لا ينفكّون من هذا البتة.

وأمّا نحن فلو لا النص الوارد ب «عليم» و «قدير» ، وعالم الغيب والشهادة ، وقادر على أن يخلق مثلهم ، والحي ـ لما جاز أن يسمى تعالى بشيء من هذا أصلا ولا يجوز أن يقال حيّ بحياة البتة.

فإن قالوا : كيف يكون حيّ بلا حياة؟

قلنا لهم : وكيف يكون حيّ غير حسّاس ، ولا متحرك بإرادة ، ولا ساكن بإرادة ..؟ هذا ما لا يعقل البتة ، ولا يعرف ولا يتوهم ، ولا يجرون عليه تعالى الحسّ ولا الحركة ولا السكون.

فإن قالوا : إنّ تسميتنا إيّاه حكيما يغني عن «عاقل» وكريما يغني عن سخيّ وجبارا متكبرا يغني عن متجبر ، ومستكبر ، وتياه وزاه ، وقويا يغني عن شجاع وجلد.

قلنا : هذا ترك منكم لما أصّلتموه من إطلاق السمع والبصر والحياة والإرادة وأنه متكلم. واحتجاجك : بأن من كان سميعا لا بدّ له من سمع ، ومن كان بصيرا لا بدّ له من بصر ، ومن كان حيا لا بدّ له من حياة ، ومن كان مريدا فلا بدّ له من إرادة ، ومن كان له كلام فهو متكلم فأطلقتم كل هذا على الله تعالى بلا برهان.

فإذا ناب عندكم ما ورد به النص من حكيم وقويّ وكريم ومتكبر وجبار عن عاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر وتيّاه وزاه ـ فلم تجيزون أن تسمّوا الباري عزوجل بشيء من هذا؟ فكذلك فقولوا كما قلنا نحن إن سميعا ، وبصيرا وحيا ، وله كلام ، ويريد ، يغني عن تجويز ذكر السمع ، والبصر والإرادة ، ومتكلم ولا فرق.

٤٠٥

هذا على أن قولكم : إنّ قويا يغني عن شجاع خطأ ، فرب قوي غير شجاع ، وشجاع غير قوي. وكذلك أيضا كان الرحمن يغني عن الرّحيم ، والخالق يغني عن الباري وعن المصوّر.

فإن قالوا : لا يجوز الاقتصار على بعض ما أتى به النص ، ولا يجوز التعدّي إلى ما لم يأت به النص.

قلنا لهم : قد اهتديتم ، ووفقتم لرشدكم ، ولقيتم ربّكم تعالى بحجة ظاهرة في أنكم لم تتعدّوا حدوده ، ولا ألحدتم في أسمائه ، ولا خالفتم ما أمركم به وبالله تعالى التوفيق.

مع أنّ الذي ألزمناهم هو ألزم لهم مما التزموه لأن بالضرورة نعلم نحن وهم أن الفعل لا يقوم بنفسه ، ولا بدّ له ضرورة من أن يضاف إلى فاعله فلا بدّ أيضا من إضافة الفاعل إليه ، على معنى وصفه بأنه تعالى فعله.

هذا ما لا يقوم في العقل وجود شيء من العالم بخلاف هذه الرتبة ، وقد وجدنا في العالم أشياء كثيرة لا تحتاج إلى وصفها بصفة لتنفي عنها ضدّ تلك الصفة كالسماء والأرض ، لا يجوز أن يوصف منها شيء بالبصر لنفي العمى ، ولا بالعمى لنفي البصر ، فإذا لم نضطر إلى ذلك في وصف الأشياء فيما بيننا بطل قياسهم الباري تعالى على بعض ما في العالم ، وكان إطلاق شيء من جميع الصفات على خالق الصفات والموصوفين أبعد وأشد امتناعا إلّا بما سمّى به نفسه فنقرّ بذلك ، وندري أنه حق ، ولا نتعدّاه إلى ما سواه. أفلا يستحي من التزم إذا وجد أشياء في العالم توصف بالحياة لنفي الموت ، وبالبصر لنفي العمى ، فأجرى قياسه هذا الفاسد على ربه تعالى من أن يسمّيه مستهزئا وكيّادا ، وقد قال تعالى «إنه يستهزىء ويكيد» فهلّا إذ وفقه الله تعالى للإمساك عن تصريف الفعل هاهنا جرى على ذلك التوفيق فلم يزد على ما نص الله تعالى عليه من سميع وبصير وحي شيئا أصلا؟ ولكنّ التناقض سهل على من لم يعتصم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستعمل رأيه وقياسه في دينه ، وفيما يجريه على الله تعالى ، نعوذ بالله من الضلال والخذلان. وبهذا يبطل إلزام من أراد من المعتزلة إلزامنا أن نسمي الله تعالى مسيئا لخلقه السيئات ، وشرّا لخلقه الشرور.

قال أبو محمد : وقد شغب بعضهم فيما ادّعوه أنّ كل صفة أضافوها إلى الله تعالى فهو غير سائر صفاته ـ بأنّ الله تعالى موصوف بأنه لا يعلم نفسه ، ولا يوصف بالقدرة على نفسه.

٤٠٦

قالوا : فلو كان العلم والقدرة واحدا لجريا في الإطلاق مجرى واحدا.

قال أبو محمد : وقد بينا بطلان هذا في كلامنا قبل بعون الله عزوجل.

ونزيد بعون الله تعالى بيانا فنقول ، وبه نتأيّد :

إنّ التغاير إنما يقع في المعلومات ، والمقدورات ، لا في القادر ولا في العالم. ولا شك عندنا وعندهم في أنّ «العليم» و «القدير» ـ واحد ، وهو تعالى «عليم بنفسه» ، ولا يقال عندهم قدير على نفسه ، فإذا لم يوجب هذا الحكم أن يكون القدير غير العليم ، فهو غير موجب أن يكون العلم غير القدرة بلا شك.

ثم نقول لهم : أخبرونا عن علم الله تعالى بحياة زيد قبل موته ، وبإيمانه قبل كفره ، هل هو العلم بموته وكفره أو هو غير العلم بذلك ..؟

فإن قالوا : إنّ العلم بموت زيد هو غير العلم بحياته ، وعلمه بإيمانه هو غير علمه بكفره ، لزمهم تغاير العلم ، والقول بحدوثه ، وهم لا يقولون هذا.

وإن قالوا : علمه تعالى بإيمان زيد هو علمه بكفره ، وعلمه بكفره هو علمه بإيمانه ، وعلمه بحياة زيد هو علمه بموته.

قيل : فإنّ تغاير المعلوم تحت العلم لا يوجب تغاير العلم في ذاته عندكم ، فمن أين أوجبتم أن تغاير المعلوم والمقدور موجب لتغاير العلم والقدرة ...؟

والحقيقة من كل ذلك : أنه لا حقيقة أصلا إلّا الخالق تعالى وخلقه ، وأنّ كل ما نصّ الله تعالى عليه من وصفه لنفسه ومن أسمائه فلا يحل لأحد أن يخبر عنه تعالى إلّا به ، ولا أن يسميه عزوجل إلّا به.

ونعلم أنّ المراد بكل ذلك وأن كل ما نص الله عزوجل عليه من أسمائه وما أخبر به تعالى عن نفسه فهو حق ندين الله تعالى عزوجل بالإقرار به.

ونعلم أنّ المراد بكل ذلك هو الله تعالى لا شريك له ، وأنها كلّها أسماء يعبّر بها عنه تعالى ، ولا يرجع منها إلى شيء غير الله البتة. تعالى الله أن يكون معه شيء آخر غيره.

وقد أقرّ بعضهم بحضرتي أن مع الله تعالى سبعة عشر شيئا متغايرة ، كلها قديم لم تزل ، وكلها غير الله تعالى. ورأيت في كتاب لبعضهم : أنها خمسة عشر ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وذكروا أن تلك الأشياء هي : السمع ، والبصر ، واليد ، والوجه ، والكلام ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والعزة ، والرحمة ، والأمر ، والعدل ، والحياة ، والصدق.

٤٠٧

قال أبو محمد : لقد قصروا من طريق النص ومن طريق العقل أيضا عن أصولهم فأين لهم عن النفس ، والجلال ، والإكرام ، والجبروت ، والكبرياء ، واليدين والأعين ، والأيدي ، والقدم ، والجنب. والقوة ..؟

فهذه كلها منصوص عليها كالعلم والقدرة ، وأين هم عن : الحلم من حليم والكرم من كريم ، والعظمة من عظيم ، والتوبة من تواب ، والهبة من وهّاب ، والقرب من قريب ، واللطف من لطيف ، والسعة من واسع ، والشكر من شاكر ، والمجد من مجيد ، والودّ من ودود والقيام من قيوم ..؟ ـ وهذا كثير جدّا ويتجاوز أضعاف الأعداد التي اقتصروا عليها بتحكيمهم بالضلال والإلحاد في أسمائه عزوجل.

وقد زاد بعضهم فيما ادعوه من صفات الذات : الاستواء ، والتكليم ، والقدم والبقاء.

ورأيت للأشعري في كتاب المعروف بالموجز ، أن الله تعالى إذ قال : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [سورة الطور : ٤٨].

إنما أراد عينين. وبالجملة فكل من لم يخف الله عزوجل فيما يقول ، ولم يستح من الباطل لم يبال بما يقول. وقد قلنا : إنه لم يأتي نص بلفظ الصفة قط بوجه من الوجوه لأن الله تعالى أخبرنا بأن علما وقوة ، وكلاما ، وقدرة ، وهذا كله حق لا يرجع منه إلى شيء غير الله تعالى أصلا. وبه نتأيد.

قال أبو محمد : ويقال لهم : إنما سمّي الله تعالى «عليما» لأنّ له علما ، وحكيما لأن له حكمة ، وهكذا في سائر أسمائه. وادّعى أن الضرورة توجب ألّا يسمّى عالما إلا من له علم ، وهكذا في سائر أسمائه. وادّعى أن الضرورة توجب ألّا يسمّى عالما إلا من له علم ، وهكذا في سائر الصفات إذا قستم الغائب بزعمكم تريدون الله عزوجل على الحاضر منكم ، فبالضرورة ندري أنه لا علم عندنا إلّا ما كان في ضمير ذي خواطر وفكر تعرف به الأشياء على ما هي عليه.

فإن وصفتم ربكم تعالى بذلك ألحدتم ولا خلاف في هذا من أحد ، وتركتم أقوالكم ، وإن منعتم من ذلك : تركتم أصلكم في اشتقاق أسمائه تعالى من صفات فيه.

وأيضا : فإنّ حكيما ، وعليما ، ورحيما ، وقديرا ، وسائر ما جرى هذا المجرى لا يسمى في اللغة إلّا نعوتا وأوصافا ، ولا تسمّى أسماء البتة.

وأما إذا سمّي الإنسان حكيما أو حليما أو حيا ، وكان ذلك اسما له فهي حينئذ أسماء أعلام غير مشتقة بلا خلاف من أحد. وكل هذه فإنما هي لله عزوجل أسماء بنصّ القرآن ، ونص السنة والإجماع من جميع أهل الإسلام.

٤٠٨

قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف : ١٨٠].

وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الإسراء : ١١٠].

وقال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الحشر : ٢٢. ٢٤].

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلّا واحدا ، من أحصاها دخل الجنّة ، إنّه وتر يحبّ الوتر» (١).

ولم يختلف أحد من أهل الإسلام في أنها أسماء لله تعالى ، ولا في أنها لا يقال : إنها نعوت له عزوجل ، ولا أوصاف لله ، ولو وجد في المتأخرين من يقول ذلك لكان قولا باطلا ، ومخالفا لقول الله تعالى ولا حجة لأحد في الدين دون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإذ لا شكّ فيما قلنا ، فليست مشتقة من صفة أصلا.

ويقال لهم : إذا قلتم إنّها مشتقة ، فقولوا لنا : من اشتقّها ..؟

فإن قالوا : إنّ الله تعالى اشتقها لنفسه.

قلنا لهم : هذا هو القول على الله تعالى بالكذب ، الذي لم يخبر به عن نفسه ، وقفوتم في ذلك ما لم يأتكم به علم.

وإن قالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشتقها.

قلنا : كذبتم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد سمّى الله بها نفسه قبل أن يخلق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أوحى بها إليه فقط. فصحّ يقينا أن القول بأنها مشتقة فرية على الله تعالى ، وكذب عليه ، ونعوذ بالله من ذلك ، وصح بهذا البرهان الواضح أنه لا يدل حينئذ «عليم» على «علم» ولا «قدير» على «قدرة» ، ولا «حي» على «حياة». وهكذا في سائر ذلك.

__________________

(١) رواه بطرق وألفاظ مختلفة : البخاري في الدعوات باب ٦٩ ، ومسلم في الذكر حديث ٥ و ٦ ، وأبو داود في الوتر باب ١ ، والترمذي في الوتر باب ٢ ، والنسائي في قيام الليل باب ٢٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١٤ ، والدارمي في الصلاة باب ٢٠٩ ، وأحمد في المسند (١ / ١٠٠ ، ١١٠ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٨ ، ٢ / ١٠٩ ، ١٥٥ ، ٢٥٨ ، ٢٦٧ ، ٢٧٧ ، ٢٩٠ ، ٣١٤ ، ٤٩١).

٤٠٩

قال أبو محمد : وإنما قلنا بالعلم ، والقدرة ، والقوة ، والعزّة ، بنصوص أخر يجب الطاعة لها ، والقول بها ، ووجدنا المتأخرين من الأشعرية كالباقلاني وابن فورك وغيرهما قالوا : إنّ هذه الأسماء ليست أسماء لله تعالى ولكنها تسميات له ، وأنه ليس لله إلا اسم واحد ، لكنه قول إلحاد ومعارضة لله عزوجل بالتكذيب التي تلونا ، ومخالفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما نصّ عليه من عدد الأسماء ، وهتك لإجماع أهل الإسلام عامّهم ، وخاصّهم ، قبل أن تحدث هذه الفرقة.

فصل

فيما أحدثه أهل الإسلام في أسماء الله عزوجل القديم

قال أبو محمد : وهذا لا يجوز أن يسمى عزوجل بما لم يسمّ به نفسه ، لأنه لم يصحّ به نصّ البتّة. وقد قال تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [سورة يس : ٣٩].

فصح أن القديم من صفات المخلوقين ، فلا يجوز أن يسمّى الله تعالى بذلك ، وإنما يعرف القديم في اللغة من القدمية الأزلية ، أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة ، وهذا منفيّ عن الله عزوجل. وقد أغني الله عزوجل عن هذه التسمية بلفظة «أوّل». فهذا هو الاسم الذي لا يشاركه تعالى فيه غيره ، وهو معنى أنه لم يزل.

وقد قلنا بالبرهان : إن الله لا يجوز أن يسمّى بالاستدلال ، ولا فرق بين من قال : إنه يسمّي ربّه تعالى جسما إثباتا للوجود ونفيا للعدم ، وبين من سمّاه «قديما» إثباتا لأنه لم يزل ، ونفيا للحدوث ، لأن كلا اللفظين لم يأت به نص.

فإن قال : من سماه جسما ألحد لأنه جعله كالأجسام.

قيل له : ومن سمّاه قديما قد ألحد في أسمائه ، لأنه جعله كالقدماء.

فإن قيل : ليس في العالم قدماء. أكذبه القرآن بما ذكرنا ، وأكذبته اللغة التي بها نزل القرآن ، إذ يقول كل قائل في اللغة : هذا الشيء أقدم من هذا ، وهذا أمر قديم ، وزمان قديم ، وشيخ قديم ، وبناء قديم. وهكذا في كل شيء.

وأمّا نفي خلق الإيمان فهذا أعجب ما أتوا به. وهل الإيمان إلا فعل المؤمن ، الظاهر منه ، يزيد وينقص ، ويذهب البتة ، وهو خلق الله تعالى ..؟ وهذه صفات الحدوث نفسها.

٤١٠

فإن قالوا : إنّ الله تعالى هو المؤمن.

قلنا : نعم. هو المؤمن المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور.

فأسماؤه بذلك أعلام ، لا مشتقّة من صفات محمولة فيه عزوجل. تعالى الله عن ذلك. إلّا ما كان مشتقا من فعل محدث ـ فهو ظاهر كالخالق والمصوّر.

فإن قلتم : إنها صفات لم تزل لربكم أنه المصور بتصوير لم يزل ، فهذا قول أهل الدّهر مجرّد. وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد : وقال بعضهم : إنّ قولنا سميع بسمع ، بصير ببصر ، حيّ بحياة ـ لا يوجب تشابها ، ولا يكون الشيء شبها للشيء إلا إذا ناب منابه ، وسدّ مسدّه.

قال أبو محمد : وهذا كلام في غاية السخافة لأنه دعوى بلا برهان ، لا من لغة ، ولا من شريعة ، ولا من طبيعة ، وما اختلفت قط اللغات ولا الطبائع ، ولا الأمم في أنّ الشّبهة بين المشبهات إنما هو بصفاتها في الأجسام وبذواتها في الأعراض. وأما النص فإنّ الله تعالى يقول :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [سورة الأنعام : ٣٨].

فليت شعري هل قال ذو مسكة عقل : إن الحمير ، والكلاب ، والخنافس تنوب منابنا ، وتسدّ مسدّنا ..؟ وقال تعالى حاكيا عن الأنبياء عليهم‌السلام ، أنهم قالوا للكفار : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [سورة إبراهيم : ١١].

فهل قال قط مسلم : إن الكفار ينوبون عن الأنبياء عليهم‌السلام ، ويسدّون مسدّهم ..؟

وقال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [سورة الرحمن : ٥٨].

فهل قال ذو مسكة عقل : إن الياقوت ينوب مناب الحور العين ، ويسدّ مسدّهم ..؟

ومثل هذا في القرآن كثير جدّا ، وفي كلام كلّ أمة. والعجب أنهم بعد أن أتوا بمثل هذه العظيمة نسوا أنفسهم فجعلوا المتشابه في بعض الأحوال يوجب شرع الشرائع قياسا ، وهذا دين لم يأذن به الله تعالى ، فهم أبدا في الشيء وضده ، والبناء والهدم. ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وحقيقة التماثل والتشابه هو : أنّ كل جسمين اشتبها فإنما يشتبهان بصفة محمولة فيهما ، أو بصفات فيهما ، وكل عرضين فإنما يشتبهان بوقوعهما

٤١١

تحت نوع واحد كالحمرة والصفرة والخضرة وهذا أمر يدرك بالعيان وأول الحسّ والعقل. وبالله تعالى التوفيق.

الكلام في الحياة

قال أبو محمد : قال قائلون : الاستدلال أوجب أن الباري تعالى حيّ ، لأن الأفعال الحكيمة لا تقع إلّا من الحي ، وأنه لا يعقل إلّا ميّت أو حيّ ، فلما أبطل إمكان وقوع الفعل من الميت ، صحّ وقوعه من الحي ولا بدّ.

ثم انقسم هؤلاء قسمين ، فطائفة قالت : هو تعالى حيّ لا بحياة ، وقال آخرون بل هو تعالى حي بحياة.

واحتجت طائفة بأن قالت : لا يعقل حيّ إلّا بحياة. ولم يكن الحيّ حيّا ، إلّا لأن له حياة ، ولو لا ذلك لم يكن حيّا. ولو جاز أن يكون حيا لا بحياة لجاز أن تكون حياة لا لحيّ.

وقال آخرون : لم يكن الحيّ حيّا لأن له حياة ، لكن لأنه فاعل قادر ، عالم فقط ، إذ لا يكون العالم القادر الفاعل إلّا حيّا.

قال أبو محمد : وكلا القولين في غاية الفساد ، لأن اتفاق الطائفتين على أن سمّوا ربهم حيّا من طريق الاستدلال ، إما لنفي الموت ، والجماد عنه ، وإمّا لأنه فاعل قادر ، عالم. ولا يكون الفاعل العالم القادر إلّا حيّا ، يلزمهم أن يطردوا استدلالهم هذا ، وإلّا فهم متناقضون ، وذلك أنه يلزمهم أن يقولوا : إنه تعالى جسم ، لأنهم لم يعقلوا قط فاعلا ، ولا حكيما ، ولا عالما ، ولا قادرا إلا جسما ـ فإذا لم يكن هذا دليلا على أنه جسم فليس دليلا على أنه حي.

وأيضا : فإن اتفاقهم على ما ذكرنا موجب عليهم أن يطردوا استدلالهم ، وإلّا كانوا مناقضين مبطلين لاستدلالهم ، وذلك يوجب على من قال : حيّ لا بحياة أن يطردوا استدلالهم ، وإلّا فهو فاسد ، لأنه لا يكون العالم القادر فيما بيننا إلّا ذا حياة ، ولا يكون حيا إلّا بحياة ـ لا يعقل غير هذا أصلا.

ويقال لهم : ما الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال : إذا كان الحيّ لا يجب أن يقال له حي من أجل أنه حي ، ولا أنه إذا كان حيّا وجب أن يكون له حياة ، ولا أنه سمّى حيّ حيّا لأن له حياة ـ فكذلك لم يجب أن يكون الفاعل فاعلا لأنه حي لكن لأن له فعلا فقط ، ولا وجب أن يكون الفاعل فاعلا لأنه قادر عالم ، لكن لأن

٤١٢

له فعلا ، وكذلك المؤلف ، لم يسمّ مؤلفا لأن فيه تأليفا ولا يسمّى الحكيم حكيما لإحكامه الفعل ، ولا وجب المؤلف أن يكون محدثا للتأليف الذي فيه.

هذا ، على أنّ من قال بعض هذه القضايا فهو أصحّ قولا ممن قال : إن كان الحيّ حيّا لا يقتضي بذلك الاستدلال أن يكون له حياة ، لأننا لم نجد قط حيّا إلّا بحياة ، ولا توهمنا ذلك إلّا بالفعل ، ولا يتشكل في العقل البتة ، ولا يدخل في الممكن بدليل ، وقد وجدنا العنكبوت والنحلة والخطاف تحكم أفعالها وبناءها بالطين والشّمع مسدّسا على رتبة واحدة بالنسج ، ثم لا يجوز أن يسمّى شيء منها حكيما.

فإن قال : إنما أقول إنه حي استدلالا بأنه لا يموت ، والحي هو الذي لا يموت ، كان قد أتى بأسخف قول ، وذلك يلزمه أن يقول : إننا لسنا أحياء لأننا نموت ، وأنه لا حيّ في العالم ، لأنّ من قول هذا القائل : إنّ الملائكة تموت ، فليس في العالم حيّ على قوله.

وقد أتى بعضهم بهذيان ظريف فقال : قد وجدنا شيئا فيه حياة وليس حيّا وهو يد الإنسان ورجله.

قال أبو محمد : ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم. أما علم الجاهل أن الحياة إنما هي للنفس لا للجسد ، وأن الحيّ إنما هو النفس لا الجسد؟ أما سمع قول الله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج : ٤٦].

وليت شعري لو عكس عليه هذا السخف فقيل له : بل يد الإنسان حيّة ولا حياة فيها ، بما ذا كان ينفصل من هذا الجنون المطابق لجنونه ..؟

ثم إذ بطل قول هؤلاء فنقول بحول الله تعالى وقوته للطائفة الأخرى التي قالت : إنه تعالى حي بحياة استدلالا بالشّاهد : ما الفرق بينكم وبين من قال : إنه تعالى جسم لأن الأفعال لا تقع إلّا من جسم؟ فإنّه على أصولكم لا يعقل إلّا جسم وعرض ـ فلما بطل إمكان الفعل من العرض ، صحّ وقوعه من الجسم فقط ولا بد. ولما صحّ أن العالم لا يكون إلّا جسما ذا ضمير ضرورة صحّ أنه تعالى جسم ذو ضمير. ولما صحّ أنه قادر لا يكون إلّا جسما صحّ أنه جسم ، فبأي شيء راموا الانفصال به عكس عليهم مثله سواء بسواء في استدلالهم ، وما التزموه لزمهم.

فإن قالوا : إنّ الله تعالى أخبر أنه حي ، ولم يخبر أنه جسم.

قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق : وإنّ الله تعالى لم يخبر بأن له حياة.

٤١٣

فإن قالوا : إن الحي يقتضي أن له حياة.

قلنا لهم : والحي يقتضي أنه جسم ، وهكذا أبدا.

فإن قالوا : إنه تعالى قال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [سورة الفرقان : ٥٨] ـ فوجب أن يكون له حياة.

قيل لهم : وإن وجب هذا ـ فقال تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [سورة البقرة : ٢٥٥].

فقولوا : إنه تعالى يقظان.

فإن قالوا : لم ينصّ تعالى على أنه يقظان.

قيل لهم : ولا نصّ على أن له حياة.

فإن قالوا : الحيّ يقتضي حياة.

قيل لهم : ومن ليس نائما ، ولا وسنان فهو يقظان. ولا فرق.

ويقال لهم : أخبرونا ما ذا نفيتم عنه تعالى بإيجاب الحياة له ..؟ أنفيتم عنه بذلك الموت المعهود والمواتية المعهودة ، أم موتا غير معهود ، ومواتية غير معهودة ..؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث.

فإن قالوا : ما نفينا عنه إلّا الموت المعهود ، والمواتية المعهودة.

قلنا لهم : إنّ الموت المعهود والمواتية المعهودة لا ينتفيان البتة إلّا بالحياة المعهودة ، التي هي الحسّ والحركة الإراديان. وهذا خلاف قولكم ، ولو قلتموه لأبطلنا قولكم بما أبطلنا به قول المجسمة.

وإن قال : ما نفينا عنه تعالى إلّا موتا غير معهود ، ومواتية غير معهودة.

قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق : هذا لا يعقل ، ولا يتوهم ، ولا قام به دليل ولا يجوز أن ينتفي ما ذكرتم بحياة يقتضيها اسم الحي المعقول ، وهكذا نقول في قولهم : سميناه تعالى سميعا لنفي الصمم ، وبصيرا لنفي العمى ، ومتكلما لنفي الخرس.

قلنا لهم : هل نفيتم بذلك كله الخرس المعهود ، والصمم المعهود ، والعمى المعهود ، أم صمما لا يعهد ، وعمى غير المعهود ، وخرسا غير المعهود؟

فإن قالوا : نفينا المعهود من كلّ ذلك.

قلنا : إنّ الصمم المعهود لا ينتفي إلا بالسمع المعهود ، الذي هو بأذن سالمة ، والعمى المعهود لا ينتفى إلّا بالبصر المعهود ، الذي هو حدقة سالمة ، والخرس المعهود لا ينتفي إلّا بالكلام المعهود الذي هو صوت من لسان وحنك وشفتين.

٤١٤

فإن قالوا : بل نفينا من كلّ من ذلك غير المعهود.

قلنا : هذا لا يعقل ، ولا يتوهم ، ولا يصح به دليل ، ولا ينتفي بما أردتم نفيه به ، وأيضا : فإنّ الباري تعالى لو كان حيا بحياة لم يزل ، وهي غيره لوجب ضرورة أن يكون تعالى مؤلفا مركبا من ذاته وحياته ، وسائر صفاته ولكان كثيرا لا واحدا ، وهذا إبطال الإسلام. ونعوذ بالله من الخذلان.

قال أبو محمد : وأما قولهم : إنما خاطبنا الله بما نعقل ، ودعواهم أن في بديهة العقل : أن الفاعل لا يكون إلا عالما بعلم هو غيره ، حيّا بحياة هي غيره ، قادرا بقدرة هي غيره ، متكلما بكلام هو غيره ، سميعا بسمع هو غيره ، بصيرا ببصر هو غيره.

فإنا نقول ـ وبالله تعالى التوفيق : إن هذه القضية كما ذكروا ، ما لم يقم برهان على خلاف ذلك. ثم نسألهم : هل عقلتم قط ، أو توهمتم نارا محرقة تنبت في الشجر المثمر ..؟ وهذه صفة جهنم التي إن أنكرتموها كفرتم.

وهل عقلتم قط طيرا حيّا يؤكل دون أن يموت ، أو يعانى بنار؟ وهذه صفة الجنة التي إن أنكرتموها كفرتم. ومثل هذا كثير ، وإنما الحق ألا نخرج عما عهدناه ، وما عقلناه ، إلّا أن يأتي برهان.

فإن قنعوا بهذا القدر من الدّعوة ، فليقنعوا بمثل هذا من المجسّمة ، إذ قالوا : إنما خاطبنا الله تعالى بما نفهم ونعقل ، لا بما لا نعقل ، وقد أخبرنا تعالى أنه له عينا ويدا ووجها ، وأنه ينزل في ظلل من الغمام.

قالوا : فكل هذه محمول على ما عقلنا من أنها جوارح وحركات ، وأنها جسم ، واقنعوا به منهم أيضا إذ قالوا : ببديهة العقل وأوله عرفنا ، ووجب ألا يكون الفاعل إلا جسما في مكان وبضرورة العقل علمنا : أنه لا شيء إلا جسم وعرض ، وما لم يكن كذلك فهو عدم ، وإن لم يكن عرضا فهو جسم. والباري تعالى ليس عرضا فهو جسم ولا بدّ. واقنعوا بمثل هذا من المعتزلة ، إذ قالوا في إبطال الرؤية بضرورة العقل : علمنا أنه لا يرى إلا جسم ملون ، وما كان في حيّز ، وإذ قالوا بضرورته وبديهته ، علمنا أنّ كلّ من فعل شيئا فإنما يوصف به ، وينسب إليه ، فلو أنه تعالى خلق الشرّ والظلم لنسبا إليه ، ووصف بهما ، واقنعوا بمثل هذا من الدّهرية ، إذ قالوا : بضرورة العقل علمنا أنه لا يكون شيء إلّا من جسم.

قال أبو محمد : وكل طائفة من هذه الطوائف تدّعي الباطل على العقول. والصحيح من هذا ، والحسبة فيه : هو أن كلّ من ادّعى في شيء ما أنه يعرف ببديهة

٤١٥

العقل ، وضرورته ، وأوله ، أن ينظر في تلك الدعوى ، فإن كانت ترجع إلى الحواس المشاهدة ، فهي دعوى فاسدة كاذبة ، لأن العقول توجب أشياء لا تشكّل في الحواس ، كالألوان التي يتوهمها الأعمى ، ولا يتشكلها بحاسة وهو موقن بها بضرورة عقله ، لصحة الخبر وتواتره عليه بوجودها. وكالصوت الذي لا يتوهمه البتة ، ولا يتشكله من ولد وهو أصم ، وهو موقن بعقله بصحة الأصوات لتواتر الخبر عليه بصحتها. وإن كانت تلك الدعوى ترجع إلى مجرّد العقل ، دون توسط الحواس ـ فهي دعوى صادقة ، وهذه الدعاوى التي ذكرنا عن الأشعرية ، والمجسمة ، والمعتزلة ، والدّهرية ـ فإنما غلطوا فيها ، لأنهم نسبوا إلى أول العقل ما أدركوه بحواسّهم.

وقد قلنا : إنّ العقل يوجب ولا بد معرفة أشياء لا تدرك بالحواس ، ولا سيما دعوى الدّهرية ، فإنها تعارض بمثلها من أنه بضرورة العقل وأوله علمنا أنه لا يمكن وجود جسم وعرض في زمان لا أوّل له ، وهذا هو الحق ، لا دعواهم التي عوّلوا فيها على ما شاهدوه بحواسهم فقط.

وبالله تعالى التوفيق.

وأيضا فيقال لهم : إذا سميتموه حيّا لنفي الموت والمواتية عنه تعالى ، وقادرا لنفي العجز ، وعالما لنفي الجهل ـ فيلزمكم ولا بد أن تسموه حسّاسا لنفي الخدر عنه ، وشمّاما لنفي الخشم عنه ، ومتحركا لنفي السكون والجمادية عنه ، وعاقلا لنفي ضد العقل عنه ، وشجاعا لنفي الجبن عنه.

فإن امتنعوا من ذلك كانوا قد ناقضوا في استدلالهم في تسميتهم إيّاه حيّا ، عالما ، قادرا ، جوادا.

فإن قالوا : إنه لا يجوز أن يسمّى بشيء مما ذكرنا لأنه لم يأت به نصّ.

قيل لهم : وكذلك لم يأت نص بأنّ له تعالى حياة ، ولا أنه تسمّى حيّا ، عالما ، قادرا لنفي أضداد هذه الصفات عنه ، لكن لما جاء النص بأنه تعالى تسمّى بالحيّ العالم القدير سميناه بذلك ـ ولو لا النص ما جاز لأحد أن يسمي الله تعالى بشيء من ذلك ، لأنه كان يكون مشبّها بخلقه ، لا سيما ولفظة الحيّ تقع في اللغة على العالم المميز بالحقائق.

قال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة يس : ٧٠].

فأراد بالحي هاهنا : العالم المميز بالإيمان ، المقرّ به.

وأيضا : فإنهم يدّعون أنهم ينكرون التشبيه ثم يرتكبونه أتم ركوب ، فيقولون : لما

٤١٦

لم يكن الفعّال عندنا إلّا حيّا ، عالما ، قادرا ـ وجب أن يكون الباري تعالى ، الفاعل للأشياء حيا ، عالما ، قادرا ـ وهذا نصّ قياسهم له تعالى على المخلوقات ، وتشبيهه تعالى بهم ، ولا يجوز عند القائلين بالقياس أن يقاس الشيء إلّا على نظيره. وأما أن يقاس الشيء على خلافه من كل جهة وعلى ما لا يشبهه في شيء البتة ـ فهذا ما لا يجوز أصلا عند أحد ، فكيف والقياس كله باطل لا يجوز ..؟

وأيضا فإنّ الحياة التي لا يعرف أحد بالعقل حياة غيرها إنما هي الحسّ والحركة الإرادية ، ولا يعرف أحد الحيّ إلّا الحساس المتحرك بإرادة ـ وهذا أمر يعرف بالضرورة ، فمن أنكر ذلك ، فقد أنكر الحسّ والمشاهدة والضرورة ، وخرج عن أن يكلم.

فإن قال قائل منهم : «إنّ الموات قد يتحرك» فلم يزد على أن أبان عن قوة جهله ، لأنه إنما قلنا الحركة الإرادية ، فإذا لم يفرق هذا الجاهل بين الحركة الإرادية والاضطرارية فينبغي أن يتعلم قبل أن يتكلم. وكل حركة ظهرت من غير حي ، فليست حركة إرادة له ، ولكنّها تحريك المحرك له ، إمّا الباري تعالى ، وإمّا من دونه. ومما يبطل قولهم ضرورة : أنه إنما سمّي تعالى حيّا لأنه عالم قادر ، ووجدنا أحياء كثيرة ليسوا علماء ، ولا قادرين كالأطفال حين ولادتهم ، وكالنائم المستثقل ، وكالمخدورين ، والجهّال المجانين ، وكضعاف الدور ، والصّوادب (١) ، وما لا ينتقل عن محلّه كالوصل وغيره ، وكالمريض من سائر الحيوان ـ فهذه كلها أحياء ليس شيء منها عالما ولا قادرا ، فصح ضرورة أنه لا معنى للحياة مرتبط بالعلم والقدرة لكن الحق في ذلك : أنّ بعض الأحياء عالم قادر ، وليس كل حيّ عالما قادرا ولا سبيل إلى وجود شيء غير حسّاس ولا متحرك بإرادة.

فإن ذكروا المغمى عليه ، فذلك عائد عليهم لأنه ليس عالما ولا قادرا.

وأما الحسّ ففيه بالضرورة ، فلو جشّ جشّا (٢) قويّا لتألم ، ولأخبر بذلك عند انتباه ـ وكذلك الحسّ والحركة الإرادية باقيان لا بدّ في بعض أعضاء المخدور والمغمى عليه ولا بدّ ـ وقد بيّنا الواجب في هذا وهو أنه لا يسمّى الله عزوجل ، ولا نخبر عنه من طريق الاستدلال باسم يشاركه فيه شيء من خلقه ، ولا بخبر يشاركه شيء من خلقه ، ولكن نقول : إنه تعالى لا يجهل شيئا أصلا ، وهذه صفة لا يستحقها

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولم أهتد إلى معناها. ولعلّها من تحريف النسّاخ.

(٢) جشّه بالعصا : ضربه (المعجم الوسيط : ص ١٢٤).

٤١٧

أحد دونه تعالى. ونقول : لا يغفل البتة ، ولا يضل ، ولا يسهو ، ولا ينام ، ولا يتحير ، ولا ينحل ، ولا يخفى عليه متوهم ، ولا يعجز عن مسئول عنه ، ولا ينسى ، وكل هذا فلا يستحقه مخلوق دونه تعالى أصلا.

ثم نقر بما جاء به القرآن والسنن كما جاء لا نزيد فيه ولا ننقص منه ، ولا نحيله (١) ، فنؤمن بأنه بخلاف المعهود فيما يقع عليه ذلك اللفظ من خلقه.

وأما لفظ الصفة في اللغة العربية ، وفي جميع اللغات ، فإنها عبارة عن معنى محمول في الموصوف بها ، لا معنى للصفة غير هذا البتة. وهذا أمر لا يجوز إضافته إلى الله تعالى البتة إلّا أن يأتي نص بشيء أخبر الله تعالى به عن نفسه فنؤمن به ، وندري حينئذ أنه اسم علم لا مشتق من صفة ، وأنه خبر عنه تعالى لا يراد به غيره عزوجل ، ولا يرجع منه إلى سواه البتة. والعجب كل العجب أن يسمّى الله تعالى حيّا ، لأنهم لم يجدوا الفعل يقع إلّا من حيّ ، ثم يقولون : إنه لا كالأحياء فعادوا إلى دليلهم فأفسدوه ، لأنهم إذا أوجبوا وقوع الفعل من حيّ ليس كالأحياء الذين لا تقع الأفعال إلّا منهم ، فقد أبطلوا أن يكون ظهور الأفعال دليلا على أنها من حيّ كما عهدوه وإن كان بخلاف ما عهدوه فلا ينكرون وقوع الفعل ممن لا يسمّى حيّا ـ وإن كان بخلاف ما عهده ، وقد علمنا يقينا أن القدرة من كل قادر في العالم إنما هي عرض فيه ، وأنّ الحياة في الحيّ المعهود بضرورة العقل عرض فيه أيضا ، وأن العلم في كل عالم في العالم كذلك ، وقد وافقونا على أن الباري تعالى بخلاف ذلك ، فإذ قد بطل أن يكون هذا موصوفا بصفة القادر فيما بيننا والعالم منا التي لولاها لم يكن العالم عالما والقادر قادرا فإن الفعل فيما بيننا لا يقع إلّا من أهل تلك الصفة ، فقد بطل ضرورة أن يسمّى الباري تعالى باسم قادر أو عالم أو حيّ استدلالا بأن الفعل فيما بيننا لا يقع إلّا من عالم قادر ، وإذ قد جوّزوا وجود علم ليس عرضا وحياة ليس عرضا ، وهذا أمر غير معقول أصلا ، فلا ينكرون وجود حيّ بلا حياة ، وسميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر ، وكل هذا خروج عن المعهود ـ ولا فرق. وإنما يستجاز الخروج عن المعهود إذا جاء به نصّ من الخالق عزوجل ، أو قام به برهان ضروري ، وإلا فلا. ولم يأت نصّ قط بلفظ الحياة ، ولا الإرادة ، ولا السمع ، ولا البصر. واحتجّ بعضهم في معارضة من قال : إن الحيّ لا يكون إلّا حسّاسا متحركا بإرادة ، لأننا لم نشاهد قط حيا إلّا حساسا متحركا

__________________

(١) أي لا نعتبره مستحيلا.

٤١٨

بإرادة ، فقال هذا المعترض : إن من اتفق له ألا يرى نباتا إلّا أخضر ، ولا أخضر إلا نباتا فقطع بأن كل أخضر فهو نبات فقد أخطأ.

قال أبو محمد : فأول ما يقال له : قل هذا لنفسك في استدلالك بأنك لم تر قطّ فعّالا إلّا حيا ، عالما ، قادرا ـ ولا فرق.

ثم نعود بعون الله تعالى إلى بيان ما شغبوا به ، مما لا يعرفون الفرق بينه وبين ما يقطع عليه ـ فنقول وبالله تعالى التوفيق :

إنّ الأعراض تنقسم قسمين ، أحدهما ذاتي ، لا يتوهم بطلانه إلّا ببطلان حامله كالحسّ والحركة الإرادية للحيّ ، وكذلك احتمال الموت للإنسان مع إمكان التمييز للعلوم والتصرف في الصناعات وما أشبه هذا.

ومن هذه الأعراض تقوم فصول الأشياء وحدودها التي تفرق بينها وبين غيرها من الأنواع التي تقع معها تحت جنس واحد ـ فهذا القسم مقطوع على وجوده في كل ما وقع اسم حامله عليه.

والقسم الثاني : غيريّ وهو ما يتوهم بطلانه ولا يبطل بذلك ما هو فيه كاجترار البعير والغنم ، وحلاوة العسل ، وسواد الغراب ، فإن وجد عسل مر ـ وقد وجدناه ـ لم يبطل بذلك أن يكون عسلا ، وكذلك لو وجد غراب أبيض ـ وقد وجد ـ لم يبطل بذلك أن يكون غرابا. فمثل هذا القسم لا يقطع على أنه موجود ولا بدّ أبدا. فهذا الفرق بين ما شغب به من النبات ، لأنه إن توهّم النبات أحمر أو أصفر لم يبطل أن يسمّى نباتا ، ولكنه إن توهّم أن يكون النبات غير نام من الأرض ، ولا متغذّ برطوباتها ، منجذبا نحو الهواء فإنه لا يكون نباتا أصلا.

وأيضا فقد قال بعضهم : إنه قد يعرف الباري حيّا من لا يعرفه حسّاسا متحركا بإرادة.

قيل له : وقد يعرفه حيّا من لا يعرف أنّ له حياة ، وقد يعرفه جسما من لا يعرفه مؤلفا ، ولا محدثا ، وليس توهم الجهّال ما توهموه من الحماقات حجة على أهل العقول. والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : برهان ضروري ، وهو أنّ كل صفة في العالم فهي ضرورة ـ ولا بدّ ـ عرض بين الطرفين ، أو أحد ذينك الطرفين ، وإما ذات ضدّ فحاملها بالضرورة قابل للأضداد. ولا عالم في العالم إلّا والجهل منه متوهّم ، ولا قادر في العالم إلّا والعجز منه متوهّم ، ولا حيّ في العالم إلّا والسكون والحركة والحسّ والحذر متوهّمات كلّها

٤١٩

منه ، وقد علمنا أنّ الله تعالى أرحم الرّاحمين حقّا لا مجازا ، من أنكر هذا فهو كافر ، حلال دمه وماله ، وهو تعالى يبتلي الأطفال بالجدري ، والأواكل والجن والذبحة والأوجاع حتى يموتوا ، وبالجوع حتى يموتوا كذلك. ويفجع الآباء بالأبناء ، وكذلك الأمهات ، والأحياء بعضهم ببعض حتى يهلكوا ثكلا ، ووجدا ، وكذلك الطير بأولادها ، وليس هذه صفة الرحمن بيننا ـ فصحّ يقينا أنها أسماء لله تعالى ، سمّى الله تعالى بها نفسه غير مشتقة من صفة محمولة فيه تعالى ـ وحاشا له من ذلك.

فإن قالوا : إن العالم ، القادر ، الحيّ ، الأوّل ، الرحيم ـ بخلاف هذا.

قيل لهم : صدقتم. وهذا إبطال منكم لاستدلالكم بالشاهد بينكم على تسمية الباري تعالى وصفاته.

قال أبو محمد : وأمّا وصفنا الباري تعالى بأنه أوّل ، حيّ ، خالق ، فلا يلزمنا في ذلك شيء مما ألزمناه خصومنا ، لأنه قد قام البرهان بأنه خالق ما سواه ، وليس في العالم خالق البتّة بوجه من الوجوه إلّا الباري تعالى.

وقد قام البرهان على أنه تعالى واحد ، لا واحد في العالم غيره البتة بوجه من الوجوه ، وكلّ ما في العالم فمتكثر كثير لا واحد ، وقد قام البرهان على أنه تعالى الأول الذي لا أوّل في العالم غيره ، وكل ما في العالم ينافي الأول.

وقد قام البرهان على أنه تعالى : الحق بذاته ، وأنّ كل ما في العالم فإنما هو محقّق له تعالى. وإنما كان حقا بالباري عزوجل ، ولولاه لم يكن حقّا. فهذا هو البرهان الصحيح الثابت ، الذي لا يعارض ببرهان البتة ، وهذا هو نفي التشبيه.

ثم إننا ننفي عن الباري تعالى جميع صفات العالم ، فنقول :

إنه تعالى لا يجهل أصلا ، ولا يغفل البتة ، ولا يسهو ، ولا ينام ، ولا يجبن ، ولا يخفى عليه متوهم ، ولا يعجز عن مسئول عنه ، لأننا قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا : أنّ الله تعالى بخلاف خلقه من كل وجه.

فإذ ذلك كذلك ـ فواجب نفي كلّ ما يوصف به شيء في العالم عنه تعالى عن المعهود.

وأمّا إثبات الوصف أو التسمية له تعالى ، فلا يجوز إلّا بنصّ. ونخبر عنه تعالى في أفعاله عزوجل فنقول :

إنه تعالى يحيي الموتى ويميت الأحياء إلّا أن يثبت إجماع في إباحة شيء من ذلك. ولو لا الإجماع على إباحة إطلاق بعض ذلك هاهنا لما أجزناه ونقول : إنه تعالى

٤٢٠