الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

تنخرم منذ حينئذ ، والحمد لله رب العالمين ، قد دخلت الدّاخلة في القصعة والسيف ، حتى لا يقين فيهما عندنا اليوم ، ولو لا تداول الخلفاء للباس البرد أبدا أبدا فنقل أمرها جيلا بعد جيل ، والمنبر كذلك لما قطعنا عليهما ، ولكنّ التداول لهما أمّة بعد أمة وهما قائمان ظاهران للناس ، هو أوجب اليقين بهما ، ورفع الشك فيهما ، وكذلك كل ما جرى هذا المجرى. ثم لم يلبث دين النّصارى أن مات قسطنطين أول من تنصر من ملوك الدنيا ، ثم مات ابنه قسطنطين بن قسطنطين ، وولي ملك ترك النّصرانية ، ورجع إلى عبادة الأوثان إلى أن مات ، ثم ولي رجل من أقارب قسطنطين فرجع إلى النصرانية.

وأمّا ديانة اليهود فما صفت فيها نيات بني إسرائيل ، وموسى عليه‌السلام حيّ بين أظهرهم ، وما زالوا مائلين إلى إظهار عبادة الأوثان ، ثم تكذيبهم كلهم بالشريعة ، التي أتاهم بها بعد موته عليه‌السلام طبقة بعد طبقة إلى انقطاع دولتهم ، فكيف أن يتبعه غيرهم.؟!!

قال أبو محمّد : وبرهان ضروري لمن تدبّره ، حسّيّ لا محيد عنه ، وهو أنه لا خلاف بين أحد من اليهود والنصارى وسائر الملل في أن بني إسرائيل كانوا في مصر في أشدّ عذاب يمكن أن يكون من ذبح أولادهم ، وتسخيرهم في علم الطوب بالضرب العظيم ، والذّلّ الذي لا يصبر عليه كلب مطلق ، فأتاهم موسى عليه‌السلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الذي قتل النفس أخف منه ، وإلى الحرية ، والملك ، والغلبة والأمن ، ومضمون ممن هو في أقل من تلك الحال أن يسارع إلى كل من طمع على يديه بالفرج ، وإن يستجيب له إلى كل ما دعاه إليه ، وأن أكثر من في هذا البلاء يستجيز عبادة من أخرجه منه لا سيما إلى العز والحرمة ، وكانوا أيضا أهل عسكر مجتمع ، وبني عمّ يمكن منهم التواطؤ ، ثم كانوا أهل بلد صغير جدّا قد تكنّفهم الأعداء من كل جانب.

وأما عيسى عليه‌السلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلا معروفين ونساء قليل ، وعدد لا يبلغ جميعهم وفي جملتهم الاثني عشر إلّا مائة وعشرين فقط هكذا في نصّ إنجيلهم ، وكانوا مشردين مطرودين غير ظاهرين ، ولا يقوم بمثل هذا ضرورة يقين العلم.

وأمّا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلا يختلف أحد في شرق الأرض وغربها في أنه عليه‌السلام أتى إلى قوم لقاح (١) لا يقرّون بملك ، ولا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس ، نشأ على

__________________

(١) انظر الحاشية (١) ص ٣٣٨.

٣٤١

هذا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم مذ ألوف من الأعوام ، قد سرى الفخر ، والعزّ ، والنخوة ، والكبر ، والظلم ، والأنفة ، في طباعهم وهم أعداد عظيمة قد ملئوا جزيرة العرب ، وهي نحو شهرين في شهرين ، قد صارت طباعهم طباع السباع ، وهم ألوف الألوف ، قبائل وعشائر يتعصب بعضهم لبعض أبدا ، فدعاهم بلا مال ولا أتباع ، بل خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة ، ومن الحرّية والظلم إلى جري الأحكام عليهم ، ومن طول الأيدي بقتل من أحبوا ، وأخذ مال من أحبّوا إلى القصاص من النفس. ومن قطع الأعضاء ، ومن اللطمة من أجلّ من فيهم لأقل علج غريب دخل فيهم ، وإلى إسقاط الأنفة والفخر ، إلى ضرب الظهور بالسياط أو بالنّعال إن شربوا خمرا ، أو قذفوا إنسانا ، وإلى الضرب بالسياط والرّجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا ، فانقاد أكثرهم لكل ذلك طوعا بلا طمع ولا غلبة ولا خوف ، وما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط ، وما غزا قط غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات ، بعضها عليه ، وبعضها له ، فصحّ ضرورة أنّهم إنما آمنوا به طوعا لا كرها ، وتبدّلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ، ومن الجهل إلى العلم ، ومن العسف والقسوة إلى العدل العظيم الذي لم يبلغه أكابر الفلاسفة ، وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر ، وصحب منهم الرّجل قاتل أبيه وابنه ، وأعدى الناس له ، صحبة الإخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ، ولا رئاسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ، ولا مال يتعجلونه.

فقد علم الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا عطاء ولا غلبة ، فهل هذا إلّا بغلبة من الله تعالى على نفوسهم ..؟ وقسره عزوجل لطباعهم ، كما قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [سورة الأنفال : ٦٣].

ثم بقي عليه‌السلام كذلك بين أظهرهم بلا حرس ، ولا ديوان جند ، ولا بيت مال محروسا معصوما ، وهكذا نقلت آياته ومعجزاته ، فإنّما يصح من أعلام الأنبياء عليهم‌السلام المذكورين ما نقله هو عليه‌السلام لصحة الطريق إليه ، وارتفاع دواعي الكذب والعصبية جملة عن أتباعه فيه ، فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنّهم بدنيا ، ولا وعدهم بملك ، وهذا ما لا ينكره واحد من الناس.

وأيضا فإنّ سيرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن تدبّرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله حقّا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكفى ، وذلك أنه عليه‌السلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ، ولا خرج عن تلك البلاد قط إلّا

٣٤٢

خرجتين ، إحداهما : إلى الشام وهو صبيّ مع عمه إلى أرض الشام ورجع. والأخرى : أيضا إلى أول أرض الشام ، ولم يطل بها البقاء ، ولا فارق قومه قط ، ثم أوطأه الله تعالى على رقاب العرب كلّهم ، فلم تتغيّر نفسه ، ولا حالت سيرته إلى أن مات ، ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ، ولم يبت قط في ملكه درهم ولا دينار ، وكان يأكل على الأرض ما وجد ، ويخصف نعله بيده ، ويرقع ثوبه ، ويؤثر على نفسه. وقتل رجل من أفاضل أصحابه ـ وفقد مثله يهدّ عسكرا ـ قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك ، إذ لم يوجب ربه تعالى له ذلك ، ولا توصل بذلك إلى دمائهم ، ولا إلى دم أحد منهم ، ولا إلى أموالهم بل وداه من عند نفسه بمائة ناقة ، وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوّى به ، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا ، من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ، ولا يقتضي هذا أيضا ظاهر السيرة والسياسة ، فصحّ يقينا بلا شك أنه إنما كان متّبعا ما أمره به ربه عزوجل كان ذلك مضرّا به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضرّ به ، وهذا عجب لمن تدبره. ثم حضرته المنية ، وأيقن بالموت وله عمّ أخو أبيه هو أحب الناس إليه ، وابن عمّ هو من أخصّ الناس به ، وهو أيضا زوج ابنته التي لا ولد له غيرها ، وله منها ابنان ذكران وكلا الرجلين الذكورين عمه وابن عمه عندهما من الفضل في الدين ، والسياسة في الدنيا ، والبأس والحلم ، وخلال الخير ما كان كل واحد منهما حقيقا بسياسة العالم كله ، فلم يحابهما ، وهما من أشدّ الناس غناء به ومحبة فيه ، وهو من أحبّ الناس فيهما ، إذ كان غيرهما متقدّما لهما في الفضل وإن كان بعيد النسب منه ، بل فوّض الأمر إليه قاصدا إلى أمر الحق ، واتباع ما أمر به ، ولم يورث ورثته ، ابنته ونساءه وعمه فلسا فما فوقه ، وهم كلهم أحب الناس إليه ، وأطوعهم له ، وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنّما تصرّف بأمر الله عزوجل له ، بسياسة لا بهوى ، فوضح ما ذكرنا والحمد لله كثيرا أن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها ، واضطرت دلائلها إلى تصديقها ، والقطع على أنّها الحق الذي لا حقّ سواه ، وأنّها دين الله تعالى الذي لا دين له في العالم غيره ، والحمد لله رب العالمين عدد خلقه ، ورضى نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، على ما وفقنا من الملّة الإسلامية ، ثم على ما يسّرنا عليه من النّحلة الجماعية السنية ، ثم على ما هدانا له من التدين ، والعمل بظاهر القرآن وبظاهر السنن الثابتة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن باعثه عزوجل ، ولم يجعلنا ممن يقلد أسلافه وأحباره ، دون برهان قاطع ، وحجة قاهرة ، ولا ممن يتّبع الأهواء المضلّلة ،

٣٤٣

المخالفة لقوله ، وقول نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا ممن يحكم برأيه وظنه ، دون هدى من الله ورسوله.

اللهم كما ابتدأتنا بهذه النعمة الجليلة فأتمها علينا ، وأصحابنا إيّاها ، ولا تخالف بنا عنها حتّى تقبضنا إليك ونحن متمسكون بها فنلقاك بها غير مبدّلين ولا مغيّرين اللهم آمين يا رب العالمين. وصلّ اللهم على محمد عبدك ورسولك ، وخليلك ، وخاتم أنبيائك خاصة ، وعلى أنبيائك عامّة ، وعلى ملائكتك كافة ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

٣٤٤

ذكر فصول يعترض بها جهّال الملحدين

على ضعفة المسلمين

قال أبو محمد : إنّا لما تدبرنا أمر طائفتين ممن شاهدنا في زماننا هذا ، وجدناهما قد تفاقم الداء بهما.

فأمّا إحداهما : فقد جلت المصيبة فيها وبها ، وهم قوم افتتحوا عنوان فهمهم ، وابتداء دخولهم إلى المعارف بطلب علم العدد وبرهانه وطبائعه ، ثم تدرجت إلى تعديل الكواكب وهيئة الأفلاك ، وكيفية قطع الشمس والقمر والدراري الخمسة وتقاطع فلكي النيرين ، والكلام في الأجرام العلوية ، وفي الكواكب الثابتة وانتقالها ، وأبعاد كل ذلك وأعظامه ، وفيما دون ذلك من الطبيعيات ، وعوارض الجو ومطالعة شيء من كتب الأوائل وحدودها التي نصبت في الكلام ، وما مازج بعض ما ذكرنا من آراء الفلاسفة في القضاء بالنجوم ، وأنها ناطقة مدبّرة ، وكذلك الفلك ، فأشرفت هذه الطائفة من أكثر ما طالعت مما ذكرنا على أشياء صحاح براهينها ضرورية لائحة ، ولم يكن معها من قوة المنة ، وجودة القريحة ، وصفاء النظر ما تعلم به أن من أصاب في عشرة آلاف مسألة فجائز أن يخطئ في مسألة واحدة ، لعلها أسهل من المسائل التي أصاب فيها.

فلم تفرق هذه الطائفة بين ما صح مما طالعوه بحجة برهانية ، وبين ما في أثناء ذلك وتضاعيفه مما لم يأت عليه من ذكره من الأوائل ، إلّا بإقناع أو بشغب وربما بتقليد ليس معه شيء مما ذكرنا ، فحملوا كل ما أشرفوا عليه محملا واحدا ، وقبلوه قبولا مستويا فسرى فيهم العجب ، وتداخلهم الزّهو ، وظنّوا أنهم قد حصلوا على مباينة العالم في ذلك ، وللشيطان موالج خفية ، ومداخل لطيفة ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه يجري من ابن آدم مجرى الدّم» (١) فتوصل إليهم من باب غامض نعوذ بالله منه ، وهو

__________________

(١) روى البخاري في الأحكام باب ٢١ ، وبدء الخلق باب ١١ ، والاعتكاف باب ١١ و ١٢ ، عن صفية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتته صفية بنت حيي ، فلما رجعت انطلق معها فمرّ به رجلان من الأنصار فدعاهما فقال : «إنما هي صفية» قالا : سبحان الله! قال : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». ورواه أحمد في المسند (٣ / ١٥٦ ، ٢٨٥) عن أنس بن مالك. وروى

٣٤٥

أنهم كما ذكرنا أصفار (١) من كل شيء ، من علوم الديانة التي هي الغرض المقصود من كل ذي لب ، والتي هي نتيجة العلوم التي طالعوا لو عقلوا سبلها ومقاصدها ، فلم يعنوا بآية من كتاب الله عزوجل الذي هو جامع علوم الأولين والآخرين ، والذي لم يفرّط فيه من شيء ، والذي من فهمه كفاه ، ولا بسنن من سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي هي بيان الحق ونور الألباب.

ولم تلق هذه الطائفة المذكورة من حملة الدّين إلّا أقواما لا عناية لهم بشيء مما قدمنا ، وإنما عنيت من الشريعة بأحد ثلاثة أوجه :

إمّا بألفاظ ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ، ولا يهتمون بفهمها.

وإمّا بمسائل من الأحكام لا يشتغلون بدلائلها ومنبعها ، وإنما حسبهم منها ما أقاموا به جاههم وحالهم.

وإمّا بخرافات منقولة عن كل ضعيف وكذاب وساقط ، لم يهتبلوا (٢) قط بمعرفة صحيح منها من سقيم ، ولا مرسل من مسند ، ولا ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما نقل عن كعب الأحبار ، أو وهب بن منبه عن أهل الكتاب. فنظرت الطائفة الأولى من هذه الآخرة بعين الاستهجان والاحتقار والاستجهال ، فتمكن الشيطان منهم ، وحلّ فيهم حيث أحب ، فهلكوا وضلّوا واعتقدوا أن دين الله تعالى لا يصح منه شيء ولا يقوم عليه دليل ، فاعتقد أكثرهم الإلحاد والتعطيل ، وسلك بعضهم طريق الاستخفاف والإهمال ، واطراح نقل الشرائع ، واستعمال الفرائض والعبادات ، وآثروا الرّاحات وركوب اللذات من أنواع الفواحش المحرمات من الخمر والزنا واللياطة والبغاء ، وترك الصلاة والصيام ، والزكاة والحج والغسل ، وقصدوا كسب المال كيف تيسر ، وظلم العباد واستعمال الأهزال ، وترك الجد والتحقيق ، وتدين الأقل منهم بتعظيم الكواكب ، فأسفت نفس المسلم الناصح لهذه الملة وأهلها على هلاك هؤلاء المساكين ، وخروجهم عن جملة المؤمنين ، بعد أن غذوا بلبان الإسلام ، ونشئوا في حجور أهله ، نسأل الله العصمة من الضلال لنا ، ولأبنائنا ولكل إخواننا من المسلمين ، ونسأله تدارك من زلّت به قدمه ، وهوت نعله ، إنه على كل شيء قدير.

__________________

أحمد في المسند (٣ / ٣٠٩) عن جابر بن عبد الله قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم».

(١) أصفار : خالون.

(٢) اهتبل الفرصة : اغتنمها. ويقال : سمع كلمة فاهتبلها. انظر المعجم الوسيط (ص ٩٧٠).

٣٤٦

وأمّا الطائفة الثانية : فهم قوم ابتدءوا الطلب بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزيدوا على طلب علوّ الإسناد ، وجمع الغرائب ، دون أن يهتمّوا بشيء مما كتبوا أو يعملوا به ، وإنما يحملونه حملا لا يزيدون على قراءته هذا دون تدبير معانيه ، ودون أن يعلموا أنهم المخاطبون به ، وأنه لم يأتي هملا ، ولا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبثا ، بل أمرنا بالتفقه فيه والعمل به ، بل أكثر هذه الطائفة لا يعمل أكثرهم إلا ما جاء من طريق مقاتل بن سليمان (١) ، والضحاك بن مزاحم (٢) ، وتفسير الكلبي (٣) ، وتلك الطبقة ، وكتب البدي التي إنما هي خرافات موضوعة ، وأكذوبات مفتعلة ، ولّدها الزنادقة تدليسا على الإسلام وأهله ، فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاط لا يصح : من أن الأرض على حوت ، والحوت على قرن ثور ، والثور على صخرة ، والصخرة على عاتق ملك ، والملك على الظّلة ، والظلة على ما لا يعلمه إلّا الله عزوجل.

وهذا يوجب أنّ جرم العالم غير متناه ، وهذا هو الكفر بعينه ، فنافرت هذه الطائفة التي ذكرنا كل برهان ، ولم يكن عندها أكثر من قولهم نهينا عن الجدال!! فليت شعري من نهاهم عنه؟!. والله عزوجل يقول في كتابه المنزل على نبيّه المرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) مقاتل بن سليمان بن بشير أبو الحسن الأزدي الخراساني البلخي المروزي صاحب التفسير المتوفى سنة ١٠٥ ه‍. رمي بالتجسيم. أخرج له أبو داود في المسائل. وهو من الطبقة السابقة من التابعين. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (١٠ / ٢٧٩) وتقريب التهذيب (٢ / ٢٧٢) وخلاصة تهذيب الكمال (٣ / ٥٣) وتاريخ البخاري الكبير (١٨ / ١٤) وتاريخ البخاري الصغير (٢ / ٢٣٧) وميزان الاعتدال (٤ / ١٧٣) ولسان الميزان (٧ / ٣٩٧) والجرح والتعديل (٨ / ١٦٣٠) وسير أعلام النبلاء (٧ / ٢٠١) وتاريخ بغداد (١٣ / ١٦٠) وديوان الإسلام (ترجمة ١٨١٦).

(٢) الضحاك بن مزاحم أبو القاسم ، ويقال أبو محمد الهلالي الخراساني البلخي المتوفى سنة ١٠٥ أو ١٠٦ ه‍. تابعي من الطبقة الخامسة ، أخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. صدوق كثير الإرسال. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (٤ / ٤٥٣) وتقريب التهذيب (١ / ٣٧٣) وخلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٥) والكاشف (٢ / ٣٦) وتاريخ البخاري الكبير (٤ / ٢٣٢) وتاريخ البخاري الصغير (١ / ٢٤٣) والجرح والتعديل (٤ / ٢٠٢٤) وسير أعلام النبلاء (٤ / ٥٩٨) وميزان الاعتدال (٢ / ٣٢٥) ولسان الميزان (٧ / ٢٤٩) والوافي بالوفيات (٦ / ٣٦٩ ، ٧ / ٣٧٢).

(٣) هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر الكلبي المفسر النسّابة المتوفى سنة ١٤٦ ه‍. متهم بالكذب ورمي بالرفض. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (٩ / ١٧٨) وتقريب التهذيب (٢ / ١٦٣) وخلاصة تهذب الكمال (٢ / ٤٠٥) والكاشف (٣ / ٤٦) وتاريخ البخاري الكبير (١ / ١٠١) وتاريخ البخاري الصغير (٢ / ٥١) والجرح والتعديل (٧ / ١٤٧٨) وميزان الاعتدال (٣ / ٥٥٦) ولسان الميزان (٧ / ٣٥٩) وسير أعلام النبلاء (٦ / ٤٨) وتاريخ الإسلام (٦ / ١١٨) والوافي بالوفيات (٣ / ٨٣) وتراجم الأحبار (٣ / ٣٠٥ ، ٤ / ١٠١).

٣٤٧

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل : ١٢٥].

وأخبر الله تعالى عن قوم نوح عليه‌السلام أنهم قالوا : (يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [سورة هود : ٣٢].

وقد نص تعالى في غير موضع من كتابه على أصول البراهين ، وقد نبهنا عليها في غير ما موضع في كتابنا هذا. وحضّ تعالى على التفكر في خلق السماوات والأرض ، ولا يصح الاعتبار في خلقهما إلّا بمعرفة هيئاتهما ، وانتقال الكواكب في أفلاكهما واختلاف حركاتها في التغريب والتشريق ، وأفلاك تداويرها ، وتعارض فلك الأدوار على رتبة واحدة ، وكذلك معرفة الدوائر ، والمنطقة ، والميل والاستواء ، وكذلك معرفة الطبائع ، وامتزاج العناصر الأربعة وعوارضها ، وتركيب أعضاء الحيوان من عصبه وعضله وعظامه وعروقه وشرايينه ، واتصال أعضائه بعضها ببعض ، وقواه المركبة. فمن أشرف على ذلك وعلمه ، رأى عظيم القدرة ، وتيقّن أنّ ذلك كله صنعة ظاهرة ، وإرادة خالق قاصد مختار ، لأن اختلاف تلك الحركات تضطر إلى المعرفة بأنّ شيئا منها لا يقوم بنفسه دون ممسك مدبّر لا إله إلا هو ، ولا خالق سواه ، ولا مدبّر حاشاه ولا فاعل مخترع إلا هو. ثم زاد قوم منهم فأتوا بالأفيكة (١) التي تقشعرّ منها الذوائب ، وهي أن أطلقوا أنّ الدّين لا يؤخذ بحجة ، فأقروا عيون الملحدين ، وشهدوا أنّ الدين لا يثبت إلا بالدّعاوى والغلبة ، وهذا خلاف قول الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : ١١١].

وقوله تعالى : (فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [سورة الرحمن : ٣٣].

هذا قول الله عزوجل ، وما جاء به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي ذلك الكفاية والغناء عن قول كل قائل بعده.

وقد حاجّ ابن عباس الخوارج ، وما علمنا أحدا من الصحابة رضي الله عنهم ، نهى عن الاحتجاج ، فلا معنى لرأي من جاء بعدهم ، فكان كلام هذه الطائفة مغريا للطائفة الأولى بكفرها ، ومغبطا لهم بشركهم ، إذ لم يروا في خصومهم في الأغلب إلّا من هذه صفته ، ثم زادت هذه الطائفة الثانية غلوّا في الجنون فعابوا كتبا لا معرفة لهم بها ، ولا طالعوها ، ولا رأوا منها كلمة ، ولا قرءوها ، ولا أخبرهم عمّا فيها ثقة ، كالكتب التي فيها هيئة الأفلاك ، ومجاري النجوم ، والكتب التي جمعها «أرسطاطاليس» في حدود الكلام.

__________________

(١) جمع إفك ، وهو الكذب والاختلاق.

٣٤٨

قال أبو محمد : وهذه الكتب كلها سالمة مفيدة ، دالة على توحيد الله عزوجل وقدرته ، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم ، وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود في مسائل الأحكام الشرعية فيها يتعرف كيف يتوصل إلى الاستنباط وكيف تؤخذ الألفاظ على مقتضاها ، وكيف يعرف الخاص من العام ، والمجمل من المفسر ، وبناء الألفاظ بعضها على بعض. وكيف تقديم المقدمات وإنتاج النتائج ، وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبدا ، وما يصح مرة ويبطل أخرى ، وما لا يصح البتة وضروب الحدود التي ما شذّ عنها كان خارجا عن أصله ، ودليل الخطاب ، ودليل الاستقراء ، وبرهان الدّور وغير ذلك مما لا غناء للفقيه المجتهد لدينه ولأهل ملته عنه.

قال أبو محمد : فلما رأينا عظيم المحنة فيما تولّد في الطائفتين اللتين ذكرنا ، رأينا من عظيم الأجر ، وأفضل العمل ، بيان هذا الباب المشكل بحول الله تعالى ، وقدرته وتأييده ، فنقول وبه عزوجل نتأيّد ونستعين :

إنّ كلّ ما صح ببرهان أيّ شيء كان فهو في كلام الله عزوجل ، وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منصوص مسطور يعلمه كل من أحكم النظر ، وأيّده الله تعالى بفهم ، وأمّا كل ما عدا ذلك مما لا يصح ببرهان وإنما هو إقناع أو شغب ، فالقرآن وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه خاليان. والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : ومعاذ الله أن يأتي كلام الله عزوجل ، وكلام نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يبطله عيان أو برهان ، وإنما ينسب هذا إلى القرآن والسنة من لا يؤمنون بهما ، ويسعى في إبطالهما ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة : ٣٢].

ولسنا من تفسير الكلبي (١) الكذاب ومن جرى مجراه في شيء ، ولا نحن من نقل المتّهمين في شأن ، إنما نحتجّ بما نقله الأئمة الثّقات والأثبات من رؤساء المحدثين مسندا ، فمن فتّش الحديث الصحيح وجد فيه كل ما قلنا ، والحمد لله رب العالمين.

وإنما الباطل ما ادّعته الطائفة الأولى من نطق (٢) الكواكب وتدبيرها ، وهذا كفر لا حجة عندهم على ما قالوه منه أكثر من أن المحتجّ لهم قال :

لما كنا نعقل ، وكانت النجوم تدبّرنا كانت أولى بالعقل منا. وهذا الذي ذكروه

__________________

(١) انظر ترجمته في الحاشية (٣) ص ٣٤٧.

(٢) النطق : الفهم وإدراك الكليات ، كما في علم المنطق.

٣٤٩

ليس بشيء ، لأن الكواكب وإن كان لها تأثير في العالم ظاهر ، فليس تأثيرها تأثير ملك واختيار ، يدل على ذلك ما ذكرناه في كتابنا هذا من الدلائل على أن الكواكب مضطرة لا مختارة ، وإنما تأثيرها كتأثير النار بالإحراق ، والماء بالتبريد ، والسمّ بإفساد المزاج ، والطعام بالتغذية ، والفلفل بحذو (١) اللسان ، والإهليلج (٢) بالقبض للفم ، وما جرى هكذا من سائر ما في العالم ، وكل ذلك غير ناطق ، والكواكب والأفلاك جارية هذا المجرى ، لأن تأثيرها تأثير واحد لا يختلف ، وحركتها حركة واحدة لا تختلف ، وليس كذلك المختار.

وقد قال لي بعضهم وقد عارضته بهذا : إنّ المختار الفاضل يلزم أفضل الحركات فلا يتعدّاها ، وتلك الحركة الدّورية هي أفضل الحركات.

فقلت له : وما دليلك على أن أفضل الحركات الحركة الدورية؟ ومن أين صارت الحركة من شرق إلى غرب ، أو من غرب إلى شرق ، أفضل من جنوب إلى شمال ، أو من شمال إلى جنوب؟

وكيف يكون عندكم أفضل الحركات والأفلاك الثمانية تنتقل من غرب إلى الشرق؟ والتاسع من شرق إلى غرب ، فأي هاتين الحركتين قلتم إنها أفضل عندكم وقد اختار الآخر الحركة التي ليست أفضل؟ فظهر فساد هذا القول بيقين.

وهذه دعاوى مجردة بلا برهان ، وما كان هكذا فقد سقط ، ولا فرق بينك وبين من قال : بل الحركة علوّا أفضل أو على خط مستقيم سائرة وراجعة ، ونحن نجد تلك الأجرام تسفل في بعض ممراتها ، وتشرف في بعض ، وتسقط في بعض على قولهم ، وتوافق بزعمهم ريح نحس مظلمة ، وأخرى نيرة سعيدة ، وبعض الأفلاك تقطع من غرب إلى شرق ، وهو حركة جميعها إلّا الأعلى منها فإنّه يتحرك من شرق إلى غرب ، فليست هذه أفضل الحركات ، فبطل قولهم والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وكذلك ما ذكره من ذكر ذلك منهم من الكرور عند انتهاء آلاف من الأعوام ذكروها ، وانتصاب الكواكب الثابتة على نصب ما من قطعها لفلكها ، فهذا أيضا كذب مجرد ، ودعوى ساقطة لا دليل عليها ، ولا يعجز عن مثلها أحد ، ولم

__________________

(١) يقال : حذا اللسان شرابه : قرصه (المعجم الوسيط : ص ١٦٣).

(٢) الإهليلج : شجر ينبت في الهند وكابل والصين ، ثمره على هيئة حب الصنوبر الكبار (المعجم الوسيط : ص ٣٢).

٣٥٠

يأتوا على شيء من ذلك بشغب ولا بإقناع كيف ببرهان ، وإنما هو تقليد لبعض قدماء الصابئين فمثل هذه الحماقات هو الذي دفعته الشريعة الإسلامية وأبطلته ، وأمّا ما قامت عليه البراهين فهو في القرآن والسنة موجود نصّا واستدلالا ضروريا ، والحمد لله رب العالمين.

٣٥١

مطلب بيان كروية الأرض

قال أبو محمد : وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به ، وذلك أنهم قالوا : إنّ البراهين قد صحّت بأن الأرض كروية والسماء كذلك ، والعامة تقول غير ذلك ، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أنّ أحدا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض ، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة ، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها.

قال الله عزوجل : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [سورة الزمر : ٥].

وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض ، مأخوذ من كور العمامة ، وهو إدارتها ، وهذا نص على تكوير الأرض ودوران الشمس كذلك ، وهي التي يكون منها ضوء النهار بإشراقها وظلمة الليل بمغيبها ، وهي آية النهار بنص القرآن ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [سورة الإسراء : ١٢].

فيقال لمن أنكر ما جهل من ذلك من العامّة : أليس إنما افترض الله عزوجل علينا أن نصلي الظهر إذا زالت الشمس؟ فلا بدّ من بلى. فيسألون عن معنى زوال الشمس فلا بدّ من أنه إنما هو انتقال الشمس عن مقابلة من قابل بوجهه القرص ، واستقبل بوجهه وأنفه وسط المسافة ، التي بين مكان طلوع الشمس ، وبين موضع غروبها في كل زمان وكل مكان ، وأخذها إلى جهة حاجبه الذي يلي موضع غروب الشمس ، وذلك إنما هو في أول النصف الثاني من النهار ، وقد علمنا أن المدائن من معمور الأرض آخذة على أديمها من مشرق إلى مغرب ، ومن جنوب إلى شمال فيلزم من قال : إنّ الأرض منتصبة الأعلى غير مكوّرة ـ أنّ كل من كان ساكنا في أول المشرق ، أن يصلي الظهر في أول النهار ضرورة ، ولا بدّ إثر صلاة الصبح بيسير ، لأن الشمس بلا شك تزول عن مقابلة ما بين حاجبي كل واحد منهم في أول النهار ضرورة ولا بدّ ، إن كان الأمر على ما يقولون.

ولا يحل لمسلم أن يقول : إنّ صلاة الظهر تجوز أن تصلّى في الوقت المذكور

٣٥٢

ويلزمهم أيضا أنّ من كان ساكنا في آخر المغرب أن الشمس لا تزول عن مقابلة ما بين حاجبي كل واحد منهم إلّا في آخر النهار ، فلا يصلّون الظهر إلّا في وقت لا يتسع لصلاة العصر حتى تغرب الشمس ، وهذا خارج عن حكم دين الإسلام.

وأمّا من قال بتكويرها : فإن كل من على ظهر الأرض لا يصلي الظهر إلا إثر انتصاف نهاره أبدا على كل حال وفي كل زمان ، وفي كل مكان ، وهذا بيّن لا خفاء به. وقال عزوجل : (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [سورة الملك : ٨ وسورة نوح : ١٥].

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [سورة المؤمنون : ١٧].

وهكذا قام البرهان من قبل كسوف الشمس والقمر وبعض الدراري لبعض ـ أنها سبع سماوات ، وعلى أنها طرائق ، وقوله تعالى : (طَرائِقَ) يقتضي متطرقا فيها. وقال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [سورة البقرة : ٢٥٥].

وهذا نصّ ما قام عليه البرهان من انطباق بعضها على بعض ، وإحاطة الكرسيّ بالسبع السماوات والأرض ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاسألوا الله الفردوس الأعلى ، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن» (١).

وقال عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه : ٥].

فأخبر هذان النصّان بأنّ ما على العرش هو منتهى الخلق ونهاية العالم ، وقد قال تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [سورة الصافات : ٦ ، ٧].

وهذا هو نص ما قام عليه البرهان من أن الكواكب المرمي بها هي دون سماء الدنيا لأنها لو كانت في السماء لكان الشياطين يصلون إلى السماء ، أو كانت هي تخرج عن السماء وإلّا فكانت تلك الشهب لا تصل إليهم إلا بذلك ، وقد صح أنهم

__________________

(١) روى البخاري في الجهاد باب ٤ (حديث ٢٧٩٠) والتوحيد باب ٢٢ (حديث ٧٤٢٣) والترمذي في صفة الجنة باب ٤ ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقّا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها» فقالوا : يا رسول الله أفلا نبشّر الناس؟ قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ـ أراه قال : وفوقه عرش الرحمن ـ ومنه تفجّر أنهار الجنة».

٣٥٣

ممنوعون من السماء بالرّجوم ، فصح أنّ الرجوم دون السماء ، وأيضا فإن تلك الرجوم ليست نجوما معروفة وإنما هي شهب ونيازك من نار ، تتكوكب وتشتعل وتطفأ ، ولا نار في السماوات أصلا ، فلم نجد الاختلاف إلا في الأسماء لاختلاف اللغات ، وقد اعترض القاضي منذر بن سعيد (١) على رأي «أرسطاطاليس» في الآثار العلوية : أن السماوات بزعمه مملوءة نارا هذا فجعل الأفلاك غير السماوات ، والسماوات فوقها وقال : لو كانت السماوات محيطة بالأرض لكان بعض السماوات تحت الأرض.

قال أبو محمد : وهذا ليس بشيء لأن التحت والفوق من باب الإضافة لا يقال في شيء تحت إلّا وهو فوق لشيء آخر ، حاشا مركز الأرض ، فإنه تحت مطلق لا تحت له البتة ، وكذلك كل ما قيل فيه إنه فوق فهو أيضا تحت لشيء آخر ، حاشا الملائكة الذين على الصفحة العليا من الفلك الأعلى المقسوم بقسمة البروج ، فإنها فوق لا فوق لها البتة ، فالأرض على هذا البرهان للشاهد هي مكان التحت للسماوات ضرورة ، فمن حيث كانت السماء فهي فوق الأرض ، ومن حيث قابلتها الأرض فالأرض تحت السماء ولا بدّ ، وحيث ما كان ابن آدم فرأسه إلى السماء ، ورجلاه إلى الأرض ، وقد قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [سورة نوح : ١٥ ، ١٦].

وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [سورة الفرقان : ٦١] فأخبر الله تعالى إخبارا لا يردّه إلا كافر بأن القمر في السماء ، وأن الشمس أيضا في السماء ، ثم قد قام البرهان الضروري المشاهد بالعيان على دورانها حول الأرض من مشرق إلى مغرب ، ثم من مغرب إلى مشرق ، فلو كان على ما يظن أهل الجهل لكانت الشمس والقمر إذا دارا بالأرض وصارا فيما يقابل صفحة الأرض التي لسنا عليها قد خرجا عن السماء ، وهذا تكذيب لله تعالى ، فصح

__________________

(١) هو أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي الجماعة بقرطبة ، ينسب إلى قبيلة يقال لها كزنة ، وهو من موضع قريب من قرطبة يقال له فحص البلّوط. كان فقيها محققا وخطيبا بليغا مفوّها. له تصانيف منها : كتاب الإنباه عن الأحكام من كتاب الله ، وكتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة. ولد سنة ٢٦٥ ، وتوفي سنة ٣٥٥ ه‍. انظر ترجمته في تاريخ علماء الأندلس (٢ / ١٤٤) وجذوة المقتبس (ص ٣٤٨) وبغية الملتمس (ص ٤٦٥) ومعجم الأدباء (١٩ / ١٧٤) ومعجم البلدان (١ / ٤٩٢) وإنباه الرواة (٣ / ٣٢٥) وسير أعلام النبلاء (١٦ / ١٧٣) وتاريخ قضاة الأندلس (ص ٦٦) وبغية الوعاة (٢ / ٣٠١) وشذرات الذهب (٣ / ١٧) وغيرها.

٣٥٤

بهذا أنه لا يجوز أن يفارق الشمس والقمر السماوات ، ولا أن يخرجا عنها ، لأنهما كيف دارا فهما في السماوات ، فصحّ ضرورة أن السماوات مطابقة طباقا على الأرض ، وأيضا فقد نص الله تعالى كما ذكرنا على أن الشمس والقمر والنجوم في السماوات ، ثم قال تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة يس : ٤٠].

وبالضرورة علمنا أنه لا يمكن أن يكون جرم في وقت واحد في مكانين غير متداخلين فلو كانت السماوات غير الأفلاك ، وكانت الشمس والقمر بنصّ القرآن في السماوات وفي الفلك لكانا في مكانين غير متداخلين في وقت واحد ، وهذا محال ممتنع ، ولا ينسب القول بالمحال إلى الله تعالى إلّا أعمى القلب ، فصح أن الشمس في مكان واحد ، وهو سماء وهو فلك ، وهكذا القول في القمر وفي النجوم. وقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة يس : ٤٠] نصّ جليّ على الاستدارة ، لأنه أخبر تعالى أن الشمس والقمر والنجوم سابحة في الفلك ، ولم يخبر أنّ لها سكونا ، فلو لم تستدر لكانت على آباد الدهور بل في الأيّام اليسيرة تغيب عنّا ، حتّى لا نراها أبدا لو مشت على طريق واحد ، وخط واحد مستقيم أو معوج غير مستدير ، لكنّا أمامها أبدا ، وهذا باطل فصحّ ما نراه من كرورها من غرب إلى شرق ، ومن شرق إلى غرب ، أنها دائرة ضرورة ، وكذلك قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سئل عن قول الله تعالى عزوجل : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [سورة يس : ٣٨].

فقال عليه‌السلام : «مستقرّها تحت العرش» (١). وصدق عليه‌السلام لأنها أبدا تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقد علمنا أنّ مستقرّ الشيء هو موضعه الذي يلزم فيه ولا يخرج ، وإن مشى فيه من جانب إلى جانب ، «وسجودها» هو سيرها فيه.

حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري حدثنا عبد الله بن محمد الهروي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثني سليمان بن حرب الواشحي ، حدثنا : حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية المزني قال : «السماء مقبّبة هكذا على الأرض».

وبه إلى عبد بن حميد ، حدثنا : يحيى بن عبد الحميد عن يعقوب عن جعفر هو

__________________

(١) رواه البخاري في بدء الخلق باب ٤ (حديث ٣١٩٩) والتفسير (حديث ٤٨٠٢ و ٤٨٠٣) والتوحيد باب ٢٢ (حديث ٧٤٢٤) وباب ٢٣ (حديث ٧٤٣٣) عن أبي ذر بهذا اللفظ ، ومطولا أيضا.

٣٥٥

ابن أبي وحشية عن سعيد هو ابن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال : أرأيت قول الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [سورة الطلاق : ١٢].

قال ابن عباس : «هنّ ملتويات بعضهن على بعض».

حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي ، حدثنا محمد بن معاوية القرشي ، حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي البصري قال : أنبأنا عبد الأعلى ومحمد بن المثنى ، وسلمة بن شبيب قالوا كلهم : حدثنا وهب بن جرير بن حازم قال : سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة ، وجبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جدّه قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال يا رسول الله : جهدت الأنفس ، وضاع العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا! فذكر الحديث (١) بطوله ، وفيه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأعرابي : «ويحك أما تدري ما الله؟! إنّ عرشه على سماواته وأرضه هكذا» وقال بأصابعه مثل القبة. ووصف لهم وهب بن جرير يده ، وأمال كفّه وأصابعه اليمنى ، وقال هكذا.

حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عون الله ، وأحمد بن عبد البصير قالا جميعا أنبأنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السّلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار بندار ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ، حدثنا شعبة عن الأعمش هو سليمان ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «كلّ في فلك يسبحون» : فلك كفلك المغزل.

قال أبو محمد : وذكروا أيضا قول الله عزوجل عن ذي القرنين : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) [سورة الكهف : ٨٦].

وقرئ أيضا حامية.

قال أبو محمد : وهذا هو الحق بلا شك ، وذو القرنين هو كان في العين الحمئة. والحامية حميّة من حماتها ، حامية من استحرارها ، كما تقول رأيتك في البحر تريد أنك إذ رأيته كنت أنت في البحر ، وبرهان هذا : أنّ مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس

__________________

(١) روى نحوه من حديث أنس بن مالك البخاري في الأدب باب ٦٨ ، وأبو داود في السنة باب ١٨ ، والنسائي في الاستسقاء باب ٩ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٥٤ ، وأحمد في المسند (٣ / ٢٦١).

٣٥٦

الجدي إلى آخر مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان مرئي مشاهد ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك ، وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس ، يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف ، وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم عين البتة ، لا سيما أن تكون عينا حمية حامية وباللغة العربية خوطبنا ، فلما تيقّنا أنها عين بإخبار الله عزوجل الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، علمنا يقينا أنّ ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة ، وانقطع له إمكان المشي بعدها ، لاعتراض البحار له هنالك ، وقد علمنا بالضرورة أنّ ذا القرنين وغيره من الناس ليس يشغل من الأرض إلّا مقدار مساحة جسمه فقط قائما أو قاعدا أو مضجعا ، ومن هذه صفته فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض بمقدار مكان المغارب كلها ، لو كان مغيبها في عين من الأرض كما يظن أهل الجهل ، ولا بدّ من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض أو من نشز من أنشازها ما يمنع الخط من التمادي ، إلّا أن يقول قائل : إنّ تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمّى البحر في اللغة عينا حمئة ولا حامية. وقد أخبر الله عزوجل أن الشمس تسبح في الفلك ، وأنها إنما هي في الفلك سراج ، وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يجوز أن يختلف ولا يتناقض ، فلو غابت في عين في الأرض كما يظن أهل الجهل ، أو في البحر لكانت الشمس قد زالت عن السماء ، وخرجت عن الفلك ، وهذا هو الباطل المخالف لكلام الله عزوجل حقّا نعوذ بالله من ذلك ، فصحّ يقينا بلا شك أنّ ذا القرنين كان في العين الحمئة الحامية حين انتهى إلى آخر البر في المغارب ، وبالله تعالى التوفيق ، لا سيما مع ما قام البرهان عليه من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض ، وبالله تعالى التوفيق.

وبرهان آخر قاطع : وهو قول الله عزوجل : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وقرئ حامية ، (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) [سورة الكهف : ٨٦] ، فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس ، ومن كان عند العين فهو في العين ، وقال الله عزوجل : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة آل عمران : ١٣٣].

وصح الإجماع والنصّ على أنّ أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه في الجنة إلّا في قول من لا يعد في جملة أهل الإسلام ممن يقولون بفناء الأرواح وأنّها أعراض ، وكذلك أرواح الشهداء في الجنة ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رآهم ليلة أسري به في السماوات سماء سماء ، آدم في سماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في

٣٥٧

الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى وإبراهيم في السادسة والسابعة ، صلّى الله على جميعهم ، فصحّ ضرورة أنّ السماوات هي الجنات ، وقد قال عليه‌السلام : «إنّ أرواح الشهداء [في جوف] طير خضر تعلق من ثمار الجنة» (١).

ومن المحال الممتنع الذي لا يظنه مسلم ، أن تكون أرواح الشهداء طيورا خضرا في الجنة ، وأرواح الأنبياء عليهم‌السلام في غير الجنة ، إذ هم أولى بكل فضل ، ولا مكان أفضل من الجنة.

حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري ، حدّثنا أبو ذرّ الهروي ، حدّثنا أحمد بن عبدان الحافظ النيسابوري بالأهواز ، حدثنا محمد بن سهل القرشي ، حدّثنا محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف الصحيح ، حدثنا أبو عاصم النبيل حدّثنا عبد الله بن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، حدثنا محمد بن جبير عن صفوان بن يعلى عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البحر من جهنم أحاط به سرادقها» (٢).

حدثنا يوسف بن عبد الله بن مغيث ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم حدّثنا أحمد بن خالد ، حدثنا محمد بن عبد السّلام الخشني ، حدّثنا محمد بن بشّار ، حدّثنا يحيى بن سعيد القطان عن عثمان بن غياث عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنه عن كعب قال : «والبحر المسجور يسجر فيكون جهنم».

حدّثنا عبد الله بن ربيع التميمي ، حدّثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ، حدّثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدّثنا الحجّاج بن المنهال السلمي ،

__________________

(١) روى مسلم في كتاب الإمارة (حديث ١٢١) عن مسروق قال : سألنا عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ عن هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) قال : أما إنّا قد سألنا عن ذلك ، فقال : «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال : هل تشتهون شيئا؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟

ففعل ذلك بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : ربّ نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا».

ورواه أيضا أبو داود في الجهاد باب ٢٥ ، والترمذي في تفسير سورة ٣ باب ١٩ ، وابن ماجة في الجنائز باب ٤ والجهاد باب ١٦ ، والدارمي في الجهاد باب ١٨.

(٢) رواه أحمد في المسند (٤ / ٢٢٣) بهذا الإسناد بلفظ : «البحر هو جهنم» قالوا ليعلى ، فقال : ألا ترون أن الله عزوجل يقول : نارا أحاط بهم سرادقها؟ قال : لا والذي نفس يعلى بيده لا أدخلها أبدا حتى أعرض على الله عزوجل ولا يصيبني منها قطرة حتى ألقى الله عزوجل.

٣٥٨

حدّثنا مهدي بن ميمون عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبّي عن بشر بن شفاف قال : «كنا مع عبد الله بن سلام يوم الجمعة في المسجد فقال : إنّ الجنة في السماء ، وإنّ النّار في الأرض» وذكر كلاما كثيرا نسبه إلى الحجاج بن المنهال.

حدثنا حمّاد بن سلمة عن داود عن سعيد بن المسيّب أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال ليهودي : أين جهنم؟ قال : في البحر. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظنه إلّا صدق.

حدثنا المهلّب الأسدي ، حدّثنا ابن مناس ، حدثنا ابن مسرور ، حدّثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدّثنا عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد عن المنهال عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : الأرض كلها يومئذ نار ، والجنة من ورائها ، وأولياء الله تعالى في ظل عرش الله تعالى.

قال أبو محمد : وقال الله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [سورة يس : ٤٠].

فبيّن تعالى أن الشمس أبطأ من القمر ، وهكذا قام البرهان بالرّصد أن الشمس تقطع السماء في سنة ، والقمر يقطعها في ثمانية وعشرين يوما. ثم نصّ تعالى : أنّ الليل لا يسبق النهار ، فبين بهذا حكم الحركة الثانية التي للفلك الكلي ، وهي التي تتم في كل يوم وليلة دورة ، ويتساوى فيها جميع الدراري والنجوم والشمس والقمر ، وقال تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [سورة الحديد : ٣].

وأخبر تعالى أنّ أرواح الكافرين لا تفتّح لهم أبواب السماء ، ولا يدخلون الجنة ، فصحّ أن من فتحت له أبواب السماء دخل الجنة.

وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ شدّة الحر من فيح جهنم ، وأنّ لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصّيف ، وأنّ ذلك أشدّ ما نجد من الحرّ والبرد» (١) وأنّ نارنا هذه أبرد

__________________

(١) روى البخاري في مواقيت الصلاة (باب ٩ ، حديث ٥٣٦ و ٥٣٧) عن عليّ بن عبد الله قال :

حدثنا سفيان قال : حفظناه من الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا اشتدّ الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدّة الحرّ من فيح جهنّم. واشتكت النار إلى ربّها فقالت : يا ربّ أكل بعضي بعضا ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، أشدّ ما تجدون من الحرّ وأشدّ ما تجدون من الزمهرير». ورواه أيضا في بدء الخلق (باب ١٠ ، حديث ٣٢٦٠).

٣٥٩

من نار جهنم بتسع وستين درجة ، وهكذا نشاهد من فعل الصواعق ، فإنها تبلغ من الإحراق والإذابة في مقدار اللمحة ما لا تبلغه نارنا في المدد الطوال ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ آخر أهل الجنة دخولا فيها بعد خروجه من النار يعطى مثل الدنيا عشر مرّات» (١). رويناه من طريق أبي سعيد الخدري مسندا وصحّ أيضا مسندا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ الدنيا في الآخرة كإصبع في اليمّ» (٢).

قال أبو محمد : وهذا إنما هو في نسبة المساحة لا في نسبة المدّة ، لأن مدّة الآخرة لا نهاية لها ، وما لا نهاية له فلا ينسب شيء منه البتة بوجه من الوجوه ، ولا هو أيضا نسبة من السرور واللّذة ، ولا الحزن والبلاء لأن سرور الدنيا مشوب بألم ومتناه ، وحزنها متناه منقض ، وسرور الآخرة وحزنها خالصان غير متناهيين. وهكذا قام البرهان من قبل روايتنا لنصب السماء أبدا على أنه لا نسبة للأرض عن السماء ولا قدر وقال عزوجل : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة آل عمران : ١٣٣].

وقال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة الحديد : ٢١].

وقال تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [سورة الرحمن : ٥٤].

وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ للجنة ثمانية أبواب» (٣).

وقال عليه‌السلام : «فاسألوا الله الفردوس الأعلى ، فإنه وسط الجنة وأعلى

__________________

(١) رواه البخاري في الرقاق (باب ٥١ ، حديث ٦٥٧١) وفي التوحيد (باب ٣٦ ، حديث ٧٥١١) والترمذي في صفة جهنم (باب ١٠) وابن ماجة في الزهد (باب ٣٩ ، حديث ٤٣٣٩) عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا. رجل يخرج من النار كبوا ، فيقول الله : اذهب فادخل الجنة! فيأتيها ، فيخيّل إليه أنها ملأى فيأتيها فيرجع فيقول : يا ربّ وجدتها ملأى. فيقول : اذهب فادخل الجنة! فيخيّل إليه أنها ملأى فيأتيها فيرجع فيقول : يا ربّ وجدتها ملأى. فيقول : اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا ، فيقول : تسخر مني أو تضحك مني وأنت الملك؟».

(٢) رواه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (حديث ٥٥) والترمذي في الزهد (باب ١٥) وابن ماجة في الزهد (باب ٣) وأحمد في المسند (٤ / ٢٢٩ ، ٢٣٠) من حديث المستورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ ، فلينظر بم يرجع»

(٣) روى مسلم في الإيمان (حديث ٤٦) عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حقّ وأن النار حقّ ، أدخله الله من أيّ أبواب الجنة الثمانية شاء». وفي البخاري في صفة أبواب الجنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة ثمانية أبواب ، فيها باب يسمّى الرّيان لا يدخله إلا الصائمون».

٣٦٠