الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

فصل

وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم : أتاكم يحيى وهو لا يأكل ، ولا يشرب ، فقلتم هو مجنون ، ثم أتاكم ابن الإنسان يعني نفسه فقلتم : هذا جوّاف (١) شروب الخمر ، خليع صديق المستخرجين والمذنبين.

قال أبو محمد : في هذا كذب وخلاف للنصارى ، أما الكذب ، فإنه قال هاهنا : إن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب ، حتى قيل فيه : إنه مجنون من أجل ذلك.

وفي الباب الأول من إنجيل مارقش : أن يحيى بن زكريا عليهما‌السلام هذا كان طعامه الجراد والعسل الصحراوي وهذا تناقض ، وأحد الخبرين كذب بلا شك. وأما خلاف قول النصارى فإنه ذكر أن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب ، وأن المسيح كان يأكل ويشرب ، بلا شك من أغناه الله عزوجل عن الأكل والشرب من الناس فقد أبانه ورفع درجته على من لم يغنه عن الأكل والشرب منهم ، فيحيى أفضل من المسيح بلا شك على هذا.

وقصة ثالثة : وهي اعتراف المسيح على نفسه بأنه يأكل ويشرب ، وهو عندهم إله فكيف يأكل الإله ويشرب؟ ما في الهوس أكثر من هذا. فإن قالوا : إن الناسوت منه هو الذي كان يأكل ويشرب. قلنا : وهذا كذب منكم على كل حال ، لأنه إذا كان المسيح عندكم لاهوتا وناسوتا معا فهو شيئان ، فإن كان إنما أكل الناسوت وحده فإنما أكل الشيء الواحد من جملة الشيئين ، ولم يأكل الآخر ، فقولوا : إذا أكل نصف المسيح ، وشرب نصف المسيح ، وإلا فقد كذبتم في كل حال ، وكذب أسلافكم في قولهم أكل المسيح ، ونسبتم إلى المسيح الكذب في خبره عن نفسه أنه يأكل ، وإنما يأكل نصفه لا كلّه ، والقوم أنذال بالجملة.

فصل

وفي الباب المذكور أن المسيح قال : لا يعلم الولد غير الأب ، ولا يعلم الأب غير الولد. قال أبو محمد : هذا عجب جدا ، لأن المسيح عندهم ابن الله بلا خلاف منهم ، والله ـ تعالى عن كفرهم ـ هو والد المسيح وأبوه ، وهكذا يطلق النذل باطرة في رسائله

__________________

(١) كذا في الأصل. ولعلها من الجوف ، يريد أنه كثير الأكل وشرب الخمر. أو لعلها «مجوّف» ورجل مجوّف : جبان لا قلب له (المعجم الوسيط : ص ١٤٨).

٢٨١

المنتنة متى ذكر الله عزوجل قال : الله والد ربنا المسيح آمرا كذا وكذا ، ثم هاهنا قال : إن المسيح قال : إنه لا يعلم الأب إلا الابن ، ولا يعلم الابن إلا الأب ، فقد وجب ضرورة أن التلاميذ وسائر النصارى لا يعرفون الله تعالى أصلا ، ولا يعرفون المسيح البتة ، فهم جهّال بالله تعالى وبالابن ، ومن جهل الله تعالى ولم يعرفه فهو كافر ، فهم كلهم كفار أسلافهم وأخلافهم ، أو كذب المسيح في هذا الكلام ، أو كذب النذل متّى ، لا بد والله من أحدها ، وقد أعاذ الله تعالى عبده ورسوله من الكذب ، فبقيت الاثنتان وهما والذي سمك السماء حق ، وإن النصارى لكفار جهال بالله عزوجل ، وإن الشرطيّ متّى لكذاب كافر ملعون ، فعلى جميعهم لعنة الله. نعم وفي هذا القول الملعون الذي أضافوه إلى المسيح عليه‌السلام القطع بأن الملائكة والأنبياء السالفين كلهم ليس منهم أحد يعرف الله تعالى ، فاعجبوا لكفر هذا اللعين متى وعظيم حماقته ومن قلده في دينه؟ ونحمد الله على السلامة كثيرا.

فصل

مطالبة المسيح بآية

وفي الباب المذكور أن بعض التوراتيين قال للمسيح : يا معلم إنا نريد أن تأتينا بآية فقال لهم المسيح : يا نسل السوء ونسل الزنا تسألون آية ولا ترون منها آية غير آية يونس النبي ..؟ فكما أن يونس كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال ، كذلك يكون ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام بلياليها.

قال أبو محمد : لو لم يكن في أناجيلهم إلا هذا الفصل الملعون وحده لكفى في بطلان جميع أناجيلهم ، وجميع دينهم. فإنه قد جمع عظيمتين :

إحداهما : تحقيق أنه لم يأت مخالفيه قط بآية ، وإقرار المسيح بذلك بزعمهم ، وأن آياته التي يذكرون إنما كانت خفية وفي السر بحضرة النزر القليل الذين اتبعوه ، ومثل هذا لا يقوم حجّة على المخالف ، أو تحقيق الكذب على المسيح في أنه يخبر أنهم لا يرون آية وهو يريهم الآيات ، لا بد من إحداهما.

والفصل الثاني وهو الطامة الكبرى ، حكايتهم عن المسيح أنه قال عنه نفسه : كما بقي يونس في بطن الحوت ثلاثة أيام بلياليها ، كذلك يبقى هو في جوف الأرض ثلاثة أيام بلياليها ، وهذه كذبة شنيعة لا حيلة فيها ، لأنهم مجمعون في جميع أناجيلهم أنه دفن قرب مغيب الشمس من يوم الجمعة في دخول ليلة السبت ، وقام من القبر قبل الفجر من ليلة الأحد ، فلم يبق في جوف الأرض إلا ليلة وبعض أخرى ، ويوما ويسيرا

٢٨٢

من يوم ثان فقط ، وهذه كذبة لا خفاء بها فيما أخبر به المسيح ، لا بد منها أو كذب أصحاب الأناجيل ، وهم أهل الكذب وحسبنا الله.

فصل

وفي الباب الثالث عشر من إنجيل متّى أن المسيح قال : «يشبه ملكوت السماء بحبة خردل ، ألقاها رجل في فدانه ، وهي أدق الزراريع ، فإذا أنبتت استعلت على جميع البقول والزراريع ، حتى ينزل في أغصانها طير السماء ويسكن إليها».

قال أبو محمد : حاشا للمسيح عليه‌السلام أن يقول هذا الكلام ، لكن النذل الذي قاله كان قليل البصارة بالفلاحة ، وقد رأينا نبات الخردل ، ورأينا من رآه في البلاد البعيدة ، فما رأينا قط ولا أخبرنا من رأى شيئا منه يمكن أن يقف عليه طائر ، ومثل هذه المسامحات لا تقع لنبي أصلا فكيف لله عزوجل.

فصل

وفي آخر الباب المذكور أنّ المسيح رجع إلى بلاده ، وجعل يوصي جماعتهم بوصايا يعجبون منها ، وكانوا يقولون : من أين أوتي هذه العلوم ، وهذه القدرة؟ أما هذا ابن الحدّاد وأمه مريم ، وإخوته يعقوب ، ويوسف ، وشمعون ، ويهوذا ، وأخواته؟ أما هؤلاء كلهم عندنا فمن أين أوتي هذا ..؟ وكانوا يشكون فيه. فقال لهم يسوع : «ليس يعدم النبي حرمته إلّا في بيته وبلده» ولتشككهم وكفرهم لم يطلع في ذلك الموضع عجائب كثيرة.

وفي الباب الخامس من إنجيل مارقش قال : وكانت الجماعة تسمع منه وتعجب العجب الشديد من وصيته ، ويقولون : من أين أوتي هذا؟ وما هذه الحكمة التي رزقها؟ ومن أين هذه الأعاجيب التي ظهرت على يديه؟ أليس هو ابن الحدّاد ، وابن مريم أخو يوسف ويعقوب وشمعون ويهوذا؟ أليس أخواته هنّ هاهنا معنا؟ وكان يقول لهم يسوع : لا يكون نبي بغير حرمة إلّا في وطنه وبين عشيرته ، وفي أهل بيته ، وليس كان يقوى أن يفعل هنالك آية ، لكن وضع يديه على مرضى قليل فأبرأهم.

وفي الباب الثاني من إنجيل لوقا : «فلما دخل الوالد المسيح البيت» وبعد هذا بيسير قال : «فكان يعجب منه أبوه وأمه» وبعده بيسير قول مريم أمه له : «وقد طلبك أبوك وأنا معك».

٢٨٣

وفي الباب السابع منه : أقبلت إليه أمه وإخوته.

وفي الباب الثاني من إنجيل يوحنا : وبعد هذا نزل إلى كفر ناحوم ، ومعه أمه وإخوته وتلاميذه.

وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا : وكان إخوته لا يؤمنون به.

قال أبو محمد : في هذه الفصول ثلاث طوام نذكرها طامة طامة (١) إن شاء الله تعالى.

أولها : اتفاق الأناجيل الأربعة على أنه كان له والد معروف من الناس ، وإخوة وأخوات سمّى الإخوة بأسمائهم ، وهم أربعة رجال سوى الأخوات ، ولا نقول في ذلك إلّا على إقرار منهم : بأن له والدا طلبه معها ، وهو يوسف الحدّاد أو النجار ، فأمّا أمّه فقد اتفقنا نحن واليهود ، وجمهور النصارى على أنها حملت به حمل النساء ، وولدته كما تلد النساء أولادهنّ ، إلّا طائفة من النصارى قالت : لم تحمل به ، لكن دخل من أذنها وخرج من فرجها في الوقت كالماء في الميزاب ، ولكن بقي علينا أن نعرف : كيف تقول أمّه عليها‌السلام عن النجار أو الحدّاد إنّه أبوه ووالده؟ فإن قالوا : إنّ زوج الأم يسمّى في اللغة أبا قلنا : هبكم أن هذا كذلك؟! كيف العمل في هؤلاء الذين اتفقت عليهم الأناجيل على أنهم إخوته وأخواته ، وإنّما هم أولاد يوسف النجّار أو الحدّاد ..؟ وما وجد في اللغة العبرانية أنّ الربيب من غير الأم يسمّى أخا ، إلّا أن يقولوا : إنّ مريم ولدته من النجّار ، فقد قال هذا طائفة من قدمائهم منهم : «بيار» مطران «طليطلة» (٢) ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى مما يقول هؤلاء الكفرة أن يكون لإله معبود أمّ أو خال أو خالة ، أو ابن خالة أو ربيب ، أو أخت ، أو أخ ، وتبّا لعقول يدخل هذا فيها من أن لله تعالى ربيبا هو زوج أمه.

وليس يمكنهم أن يقولوا : إنّما أراد كتّاب الأناجيل أنّهم إخوته في الإيمان والدّين ، لأن «يوحنا» قد رفع الإشكال في ذلك وقال : «معه إخوته وتلاميذه» فجعلهم طبقتين.

وقال أيضا : إن إخوته كانوا لا يؤمنون به. وتالله لو لا أننا شاهدنا النّصارى ما

__________________

(١) الطامّة : الداهية تفوق ما سواها (المعجم الوسيط : ص ٥٦٦).

(٢) طليطلة : مدينة كبيرة بالأندلس يتصل عملها بعمل وادي الحجارة ، وكانت قاعدة ملوك القرطبيين وموضع قرارهم ، وهي على شاطئ نهر تاجه (مراصد الاطلاع : ص ٨٩٢).

٢٨٤

صدّقنا أن من يلعب بعذرة وما يخرج من أسفله يصدّق بشيء من هذا الحمق ، ولكن تبارك من أرادنا بهذا أنه لا ينتفع أحد ببصره ولا بسمعه ولا بتمييزه إلّا أن يهديه خالق الهدى والضلال. نسأل الله الذي هدانا لملّة الإسلام البيضاء الواضحة السليمة من كل ما ينافره العقول ، ألا يضلّنا بعد إذ هدانا حتى نلقاه على ملّة الحق ، ونحلة الحق ، ومذهب الحق ، ناجين من ملل الكفر ، ونحل الضلال ، ومذاهب الخطاء.

وكلّ ما أوردناه بيان واضح ، في أنّ الذين ألّفوا الأناجيل كانوا عيّارين (١) ، مستخفّين بمن أضلّوه ، متلاعبين بالدّين.

والثانية : إقرارهم بأن المسيح لم يكن يقوى في ذلك المكان على آية ، ولو كان لهم عقل لعلموا أن هذه ليس صفة إله يفعل ما يشاء ، بل صفة عبد مخلوق مدبّر لا يملك من أمره شيئا ، كما قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [سورة الأنعام : ١٠٩].

الثالثة : إقرارهم أن المسيح عليه‌السلام سمعهم ينسبونه إلى ولادة الحدّاد ، وأنه أبوه ، ولم ينكر ذلك عليهم.

فقد حققوا عليه أحد شيئين لا ثالث لهما البتة : إمّا أنه سمع الحق من ذلك فلم ينكره ، وفي هذا ما فيه من خلاف قولهم جملة.

وإمّا أنه سمع الباطل والكذب فأقرّ عليه ولم ينكره. وهذه صفة سوء وتلبيس في الدين.

قال أبو محمد : وفي هذه الفصول مما لم يطلق الله تعالى أيديهم على تبديله من الحق قوله : «لا يعدم النبي حرمته إلّا في وطنه وأهل بيته».

فيا عقول الأطفال ، ويا أدمغة الإوزّ : لو عقلتم أما كنتم تقولون فيه ما قال في نفسه ، وما يشهد العيان بصدقه وصحته فيه ، وتتركون الرعونة التي لم تقدروا منذ ألف عام بيان ما تعتقدونه منها بقلوبكم ، ولا قدرتم على العبارة عنها بألسنتكم؟ وكلما رمتم وجها من وجوه النّوك (٢) انفتق عليكم باب لا قبل لكم به ونعوذ بالله من الضلال.

فصل

وفي الباب السادس عشر من إنجيل «متّى» أن المسيح قال لباطرة : «إليك أبرأ

__________________

(١) جمع عيّار : وهو الذي يخلّي نفسه وهواها لا يردعها ولا يزجرها (المعجم الوسيط) ص ٦٣٩.

(٢) النّوك : الحمق (المرجع السابق : ص ٩٦٤).

٢٨٥

بمفاتيح السماوات ، فكل ما حرّمته في الأرض يكون محرّما في السماوات ، وكل ما حلّلته على الأرض يكون حلالا في السماوات».

وبعد هذا الكلام بأربعة أسطر أن المسيح قال لباطرة نفسه متّصلا بالكلام المذكور : «اتبعني يا مخالف ، ولا تعارضني فإنك جاهل بمرضاة الله تعالى ، وإنّما تدري مرضاة الآدميين».

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذا الفصل على قلته ـ وإنه قليل ومنتن كبعض ما يشبهه ممّا يكره ذكره ـ سوأتان عظيمتان :

إحداهما : أنه بريء إلى باطرة النذل بمفاتيح السماوات ، وولّاه خطة إلاهية لا تجوز لغير الله تعالى وحده ، لا شريك له ، من أنّ كلّ ما حرّمه في الأرض كان حراما في السماوات وكلّ ما حلّله في الأرض كان حلالا في السماوات.

والثانية : أنه آثر براءته إليه بمفاتيح السماوات وتوليته له خطة الربوبية ، إمّا شريكا لله تعالى في التحريم والتحليل ، وإمّا منفردا دونه عزوجل بهذه الصفة.

قال له في الوقت : «إنه مخالف معارض له جاهل بمرضاة الله تعالى ، مخالف له لا يدري إلّا مرضاة الآدميين».

فو الله لئن كان صدق في الآخرة لقد خرق (١) في الأولى ، إذ ولى ما لا ينبغي إلا لله تعالى جاهلا بمرضاة الله تعالى ، مخالفا له لا يدري إلّا مرضاة الناس ، وإنّ هذه لسوأة الأبد ، إذ من هذه صفته لا يصلح أن يبرأ إليه بمفاتيح كنيف (٢) ، أو بيت زبل. ولئن كان صدق وأصاب في الأولى لقد كذب في الثانية ، وو الله ما قال المسيح قط ما ذكروا عنه في الأولى ، لأنها مقالة كافر شرّ خلق الله تعالى ، وما يبعد أنه قال له الكلام الثاني ، فهو والله كلام حق ، يشهد به اللعين الكافر «باطرة» شاه وجهه (٣) ، وعليه سخط الله وغضبه.

ثم عجب ثالث : أننا قد ذكرنا قبل أن في الباب الثامن عشر من إنجيل «متى» أنّ المسيح أشرك مع «باطرة» في هذه الخطة التي أفرده بها هاهنا سائر الاثني عشر

__________________

(١) خرق الكذب : اختلقه (المعجم الوسيط : ص ٢٢٩).

(٢) الكنيف : حظيرة من خشب أو شجر تتخذ للإبل والغنم تقيها الريح والبرد (المرجع السابق : ص ٨٠١).

(٣) شاه وجهه : قبح (المعجم الوسيط : ص ٥٠١).

٢٨٦

تلميذا ، ومن جملتهم السّارق الكافر (١) ، الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهما أخذها منهم ، وأنّه قال لجميعهم : «ما حرّمتموه في الأرض كان حراما في السّماوات ، وما حللتموه في الأرض كان حلالا في السماوات».

فيا ليت شعري كيف يكون الحال إن اختلفوا فيما ولّاهم من ذلك ، فأحلّ بعضهم شيئا وحرّمه آخر منهم؟

كيف يكون الحال في السماوات وفي الأرض؟

لقد يقع أهلها مع هؤلاء السفلة في سفل وفي حرمة وحلّ معا.

فإن قيل : لا يجوز أن يختلفوا. قلنا : سبحان الله وأيّ خلاف أعظم من تحليل يهوذا إسلامه إلى اليهود ، وأخذه ثلاثين درهما رشوة على ذلك ، إلا إن كان عزله عن خطته الإلهية بعد أن ولّاه إيّاها ، فلعمري إنّ من قدر أن يوليها إنه لقادر على أن يعزل عنها ، ولعمري لقد رذلت هذه المنزلة عند هؤلاء الأرذال حقا إذ وليها السرّاق ومن لا خير فيه ، ثم يعزلون عنها بلا مئونة ، تعالى الله ، والله لو دكّت الجبال والأرض دكّا ، وخرّت السماوات العلى ، وصعق بكل ذي روح عند سماع كفر هؤلاء الخسّاس ، لما كان ذلك بكثير. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ولا يخلو هذا القول من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إمّا أنه أراد أن «باطرة» والتلاميذ المولين هذه الخطة لا يحلّلون شيئا ، ولا يحرّمون إلّا بوحي من الله عزوجل.

فإن كان هذا فقد كذب في قوله الذي ذكرنا قبل أنّ كل نبوّة فمنتهاها إلى يحيى بن زكريّا عليهما‌السلام ، لأن هؤلاء أنبياء على هذا القول.

وإمّا أنه أراد : أنه قد جعل لباطرة ولأصحابه ابتداء الحكم في التحريم والتحليل من عند أنفسهم بلا وحي من الله تعالى.

فيجب على هذا أنهم متى حرّموا شيئا حرّمه الله تعالى اتباعا لتحريمهم ، ومتى حلّلوا شيئا حلّله الله تعالى اتّباعا لتحليلهم.

فلئن كان هذا فإنها لحظة خسف ، وترى «باطرة» وأصحابه الأوغاد قد صاروا حكّاما على الله تعالى ، وقد صار عزوجل تابعا لهم. وحاشا لله تعالى من هذا كله. وما

__________________

(١) يعني يهوذا الأسخريوطي.

٢٨٧

نرى «باطرة» المنتن وأصحابه الأرذال حصلوا من مفاتيح السماوات ، ومن خطة الألوهية إلّا على حلق اللّحى ، وإنها أحق لحى بالنتف. وعلى ضرب الظهور بالسياط والصلب. أمّا باطرة دبره إلى فوق ، ورأسه إلى أسفل. والحمد لله رب العالمين.

بيان أن ما يسميه النصارى بالحواريّين هم غير الحواريين

المنصوص عليهم في القرآن

قال أبو محمد : ليعلم كل مسلم أن هؤلاء الذين يسمّونهم النصارى ، ويزعمون أنهم كانوا حواريّين للمسيح عليه‌السلام كباطرة و «متّى» الشرطي ، و «يوحنا» و «يعقوب» و «يهوذا» الأخسّاء لم يكونوا قط مؤمنين ، فكيف حواريّين؟ بل كانوا كذابين كفارا مستخفّين بالله إمّا مقرين بألوهية المسيح عليه‌السلام معتقدين لذلك ، غالين فيه كغلوّ السبئية (١) ، وسائر الفرق الغالية في عليّ رضي الله عنه ، وكقول الخطابية (٢) بألوهية أبي الخطاب ، وأصحاب الحلّاج (٣) بألوهية الحلّاج ، وسائر كفار

__________________

(١) السبئية : هم أتباع عبد الله بن سبأ الذي غلا في علي رضي الله عنه وزعم أنه كان نبيّا ، ثم غلا فيه حتى زعم أنه إله ، ودعا إلى ذلك قوما من غواة الكوفة. ورفع خبرهم إلى علي رضي الله عنه فأمر بإحراق قوم منهم في حفرتين. ثم إن عليّا خاف من إحراق الباقين منهم شماتة أهل الشام وخاف اختلاف أصحابه عليه فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن ، فلما قتل علي رضي الله عنه زعم ابن سبأ أن المقتول لم يكن عليّا وإنما كان شيطانا تصوّر للناس في صورة علي وأن عليّا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم عليه‌السلام. وزعم بعض السبئية أن عليّا في السحاب وأن الرعد صوته والبرق سوطه. وهذه الطائفة تزعم أن المهدي المنتظر هو عليّ دون غيره. وقال المحققون من أهل السنّة : إن عبد الله بن سبأ كان علي هوى دين اليهود وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه‌السلام. انظر الفرق بين الفرق (ص ١٧٧ ـ ١٧٩).

(٢) هم أتباع أبي الخطّاب الأسدي الذي قتله عيسى بن موسى والي الكوفة من قبل العباسيين سنة ١٤٣ ه‍. ويقول الخطابية إن الإمامة كانت في أولاد علي إلى أن انتهت إلى جعفر الصادق ، ويزعمون أن الأئمة كانوا آلهة. وكان أبو الخطاب يزعم أولا أن الأئمة أنبياء ، ثم زعم أنهم آلهة وأن أولاد الحسن والحسين كانوا أبناء الله وأحباءه ، وكان يقول : إن جعفرا إله. فلما بلغ ذلك جعفرا لعنه وطرده. وكان أبو الخطاب يدعي بعد ذلك الإلهية لنفسه ، وزعم أتباعه أن جعفرا إله غير أن أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي. انظر الفرق بين الفرق (ص ١٨٨).

(٣) هم الحلّاجية المنسوبون إلى أبي المغيث الحسين بن منصور المعروف بالحلّاج. وكان من أرض فارس من مدينة يقال لها البيضاء ، وكان في بدء أمره مشغولا بكلام الصوفية ، وكانت عباراته حينئذ من الجنس الذي تسميه الصوفية الشطح. وقد اختلف فيه المتكلمون والفقهاء والصوفية ، فأما المتكلمون فأكثرهم على تكفيره ، وتوقف بعض الفقهاء في شأنه مثل أبي

٢٨٨

الباطنية (١) عليهم اللعنة من الله والغضب. وإمّا مدسوسين من قبل اليهود كما تزعم اليهود لإفساد دين أتباع المسيح عليه‌السلام وإضلالهم ، كانتصاب عبد الله بن سبأ الحميري ، والمختار بن أبي عبيد (٢) ، وأبي عبد الله العرديّ (٣) ، وأبي زكريا الخياط ، وعليّ النجار (٤) وعلي بن الفضل الجنيد ، وسائر دعاة القرامطة (٥) والمشارقة لإضلال شيعة عليّ رضي الله عنه ، فوصلوا من ذلك إلى حيث عرف ، وسلّم الله من ذلك من لم يكن من الشيعة.

__________________

العباس بن سريج لما استفتي في دمه ، وأفتى أبو بكر محمد بن داود بجواز قتله. واختلف فيه مشايخ الصوفية فبرئ منه بعضهم وقبله جماعة آخرون. وفي سنة ٣٠٩ ه‍ استفتى الخليفة المقتدر بالله الفقهاء في دمه ، فأفتوا بقتله ، فضرب ألف سوط وقطعت يداه ورجلاه وصلب عند جسر بغداد ثم أنزل من جذعه الذي صلب عليه بعد ثلاثة أيام وأحرق وطرح رماده في الدجلة.

وزعم بعض المنسوبين إليه أنه حيّ لم يقتل وإنما قتل من ألقي عليه شبهه. والذين تولّوه من الصوفية زعموا أنه كشف له أحوال من الكرامة فأظهرها للناس ، فعوقب بتسليط منكري الكرامات عليه لتبقى حاله على التلبيس. انظر الفرق بين الفرق (ص ١٩٧ ـ ١٩٩).

(١) أفرد عبد القاهر البغدادي فصلا كبيرا للكلام على الباطنية في كتابه الفرق بين الفرق ، ثم قال (ص ٢٢٢) : «الذي يصحّ عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع».

(٢) هو المختار بن أبي عبيد الثقفي. سار من الطائف بعد مصرع الحسين إلى مكة ، فأتى ابن الزبير فأظهر المناصحة ، وتردّد إلى ابن الحنفية. ثم دعا ابن الزبير إلى مبايعة محمد ابن الحنفية ، فأبى فحصره وضيّق عليه وتوعّده. وقد ادعى المختار أنه ينزل عليه الوحي واختلق كتابا عن ابن الحنفية إليه يأمره بنصر الشيعة. قتل المختار سنة سبع وستين وأتي برأسه مصعب بن الزبير. انظر ترجمته في الاستيعاب (١٤٦٥) وأسد الغابة (٥ / ١٢٢) والإصابة (٣ / ٥١٨) وسير أعلام النبلاء (٣ / ٥٣٨) وشذرات الذهب (١ / ٧٤) ومروج الذهب (٣ / ٢٧٢) وتاريخ الطبري (٥ / ٥٦٩ و ٦ / ٧ ، ٣٨ وما بعدها).

(٣) كانت في الأصل «العجّاني» والصواب ما أثبتناه ، وهو الذي ذكر في جميع المصادر. وكان أبو عبد الله العردي من الباطنية يدعي علم النجوم ويتعصب للمجوس ، وصنف كتابا ذكر فيه أن القرن الثامن عشر من مولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوافق الألف العاشر وهو نوبة المشتري والقوس ، وقال : عند ذلك يخرج إنسان يعيد الدولة المجوسية ويستولي على الأرض كلها ، وزعم أنه يملك مدة سبع قرانات. انظر الفرق بين الفرق (ص ٢١٦ ، ٢١٧).

(٤) لم أجد عليّا النجار هذا. ولعله يريد الحسين بن محمد النجار زعيم الفرقة المسماة بالنجارية.

انظر الفرق بين الفرق (ص ١٥٥) والفرست لابن النديم (ص ٢٦٨) وسير أعلام النبلاء (١٠ / ٥٥٤).

(٥) من الباطنية أتباع حمدان قرمط (الفرق بين الفرق : ص ٢١٣).

٢٨٩

وأمّا الحواريون الذين أثنى الله عليهم فأولئك أولياء الله حقّا ندين الله تعالى بمحبتهم ولا ندري أسماءهم ، لأن الله تعالى لم يسمهم لنا ، إلّا أننا نبت ، ونوقن ، ونقطع ، أن «باطرة» الكذاب ، و «متّى» الشرطي ، و «يوحنا» المستخف ، و «يهوذا» و «يعقوب» النذلين ، و «مارقش» الفاسق ، و «لوقا» الفاجر ، و «بولش» اللعين ما كانوا قط من الحواريين لكن من الطائفة التي قال الله تعالى فيها : (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) [سورة الصف : ١٤] وبالله تعالى التوفيق.

فصل

وفي آخر الباب السادس عشر من إنجيل متى : وأعلم يسوع من ذلك الوقت تلاميذه بما ينبغي أن يفعله من دخول «برشلام» ، وحمل العذاب من أكابر أهلها وعلمائهم ، وقتلهم له ، وقيامه في الثالث. فخلا به «باطرة» وقال له : «تعفى عن هذا يا سيدي ، ولا يصيبك منه شيء».

وفي الباب السابع عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لتلاميذه : سيبلى ابن الإنسان في أيدي الناس ويقتل ويحيا في الثالث ـ يعني نفسه ـ فحزنوا لذلك حزنا شديدا.

وفي أول الباب الثامن من إنجيل مارقش : أن المسيح قال لتلاميذه : «إن ابن الإنسان سيبلى في أيدي الآدميين ، ويقتلونه ، فإذا قتل يقوم في اليوم الثالث».

وأنهم لم يفهموا مراده بهذا الكلام.

وفي قرب آخر الباب الثامن من إنجيل لوقا : أن المسيح قال للاثني عشر تلميذا «إنا نصعد إلى «برشلام» ونكمل كل ما نبأت به الأنبياء عليهم‌السلام عن ابن الإنسان ، ويسيرون به إلى الأجناس يستهزءون به ويجلدونه ، ويبصقون فيه. وبعد جلدهم إياه يقتلونه ، ويحيا في اليوم الثالث».

فلم يفهموا عنه ممّا ألقى شيئا ، وكان هذا عندهم معقّدا لا يفهمونه.

قال أبو محمد رضي الله عنه : في هذه الفصول ثلاث كذبات من طوامّ الكذب.

إحداها : اتفاق الأناجيل المذكورة كما أوردنا على أن المسيح أخبرهم عن نفسه أنه يقتل ، وجميع الأناجيل الأربعة متفقة عند ذكرهم لصلبه على أنه مات على الخشبة حتف أنفه ، ولم يقتل أصلا ، إلّا أن في بعضها أنه طعنه بعد موته أحد الشرط برمح في جنبه ، فخرج من الطعنة دم وماء.

٢٩٠

وفي هذا إثبات الكذب على المسيح ، واتفاقهم كما أوردنا على أنه أخبرهم بأنه يقتل ، واتفاقهم كلهم على أنه لم يقتل ، وهذه سوأة جدّا. وحاشا لله أن يكذب نبيّ أو ينذر بباطل. هذه علامة الكذابين ، لا علامة أهل الصدق.

وثانيها : اتفاق الأناجيل المذكورة ـ كما أوردنا ـ على أنه قال : «ويقوم في الثالث». ثم اتفقت الأناجيل كلها على أنه «لم يحي» ولا قام إلّا في الليلة الثانية ، وأنه دفن في آخر يوم الجمعة مع دخول ليلة السبت وحسبك أنهم ذكروا أنه لم يحنط استعجالا لئلا تدخل عليهم ليلة السبت ، وأنه قام ليلة الأحد قبل الفجر ، وهذه كذبة ثالثة فاحشة نسبوها إلى المسيح ، وحاشا له من مثلها.

وكذبة ثالثة : وهي إخبار (متّى) أنهم فهموا مراده بهذا القول ، وأنهم حزنوا حزنا شديدا لذلك ، وأنّ «باطرة» قال له : «تعفى عن هذا يا سيدي ، ولا يصيبك منه شيء». وإخبار «مارقش» و «لوقا» أنهم لم يفهموا مراده بهذا الكلام ، وهذا كذب فاحش لا يجوز أن يقع من صادقين ، فكيف من معصومين؟! فلاح يقينا عظيم كذب الذين وضعوا هذه الأناجيل ، وأنهم كانوا فسّاقا لا خير فيهم. وبالله تعالى التوفيق.

فصل

وفي الباب السابع عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لتلاميذه : «لئن كان لكم إيمان على قدر حبّة الخردل ، لتقولن للجبل ارحل من هنا فيرحل ، ولا يتعاصى عليكم شيء» وقبله متصلا به أن تلاميذه عجزوا عن إبراء رجل به جن ، وأن المسيح أبرأه ، وأن تلاميذه قالوا له : لم عجزنا نحن عن برائه؟ قال : تشكّككم.

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل متّى : أنّ المسيح دعا على شجره تين خضراء فيبست من وقتها. فعجب التلاميذ ، فقال لهم المسيح : «آمين أقول لكم ، لئن آمنتم ولم تشكّوا ليس تفعلون هذا في التينة وحدها ، لكن متى قلتم لهذا الجبل : انقلع واطّرح في البحر ، لم يقف لكم».

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا : أن المسيح قال لتلاميذه : «من آمن بي سيفعل الأفاعيل التي أفعلها أنا ، وسيفعل أعظم منها».

قال أبو محمد : في هذه الفصول ثلاث طوام من الكذب عظيمة.

لا يخلو التلاميذ المذكورون ثم هؤلاء الأشقياء بعدهم إلى اليوم ، من أن يكونوا مؤمنين بالمسيح عليه‌السلام أو غير مؤمنين ، ولا سبيل إلى قسم ثالث.

٢٩١

فإن كانوا مؤمنين فقد كذب المسيح فيما وعدهم به في هذه الفصول جهارا ـ وحاشا له من الكذب ـ وما منهم أحد قط قدر على أن تأتمر له ورقة ، فكيف على قلع جبل وإلقائه في البحر؟!

وإن كانوا غير مؤمنين به فهم بإقرارهم هذا ، كفار ، ولا خير في كافر ، ولا يجوز أن يصدّق كافر ، ولا أن يؤخذ الدّين عن كافر.

ولا بدّ لهم من أن يجيبوا إذا سألناهم : أفي قلوبكم مقدار حبة خردل من إيمان أم لا؟ وتؤمنون بالمسيح أم لا؟

إن قالوا : نعم. نحن مؤمنون به ، والإيمان في قلوبنا.

قلنا : فقد كذب المسيح يقينا فيما أخبر به من أنّ من آمن به وفي قلبه مقدار حبة خردل من إيمان يأمر الجبل بأن ينقلع فينقلع ، والله ما فيكم أحد يقدر على تيبيس شجرة بدعائه ، ولا على قلع جبل من موضعه.

وإن قالوا : ليس في قلوبنا قدر حبة خردل من إيمان ، ولا نحن مؤمنون به. قلنا : صدقتم والله حقا. وشهدوا على أنفسهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [سورة الأعراف : ٥٣] صدق الله عزوجل ، وأنبياؤه عليهم‌السلام ـ وكذب «متّى» و «باطرة» و «يوحنّا» و «مارقش» و «لوقا» ، وسائر النصارى الكذّابين.

ولقد قلت هذا لبعض علمائهم فقال : إنما عنى شجرة الخردل التي تعلو على جميع الزراريع حتى يسكن الطير فيها.

فقلت له : لم يقل في الإنجيل مثل شجرة الخردل ، إنما قال مثل حبة الخردل ، وقد وصفها وصفها المسيح بإقرارهم بأنها أصغر الزراريع.

وأيضا : فإنه ليس إلا مؤمن أو كافر. وأمّا الشّاك : فإنه متى دخل الإيمان شكّ بطل ، وحصل صاحبه في الكفر ، فكيف ولم يدعنا المسيح بإقرارهم في شكّ من هذا التأويل الفاسد ، بل زعموا أنه قال لهم : «لتشكككم لئن كان لكم إيمان قدر حبة خردل لتقولن للجبل ...».

وقال في إنجيل يوحنا كما أوردنا : «لئن آمنتم ولم تشكّوا ...» فإنما أراد بيقين بهذه النصوص : التصديق الذي هو خلاف الشك ، لا غاية العمل الصالح.

وقال كما أوردنا في إنجيل يوحنا : «من آمن بي سيفعل الأفاعيل التي أفعل أنا» فعن هذا الإيمان به سألناكم : أفي قلوبكم هو أم لا؟

٢٩٢

فقولوا ما بدا لكم.

قال أبو محمد : وأما أنا فلو سمعت هذا القول ممّن يدّعي النبوّة لما تردّدت في اليقين بأنه كذب ، وو الله ما قالها المسيح قط ، وما اخترع هذا الكذب إلّا أولئك السفلة ، متّى ويوحنا ، وأمثالهم. والعجب كله إقرار متّى في الفصل المذكور كما أوردنا ، أن المسيح قال له ولأصحابه : إنهم إنما عجزوا عن إبراء المجنون لتشككهم ، فشهد عليهم بالشك ، وأنه لو كان لهم إيمان لم يعجزوا عن ذلك.

فلا يخلو المسيح عليه‌السلام فيما حكوا عنه من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن كان كاذبا : فهذه صفة سوء ، والكاذب لا يكون نبيا ، فكيف إلها؟ وإن كان صادقا : فإن الذين أخذوا عنهم دينهم ويسمونهم تلاميذ ، وأنهم فوق الأنبياء ـ كفّار شكّاك. فكيف يأخذون دينهم عن كفّار شكّاك؟

لا مخرج لهم من إحداهما ، ولو لم تكن إلّا هذه في أناجيلهم لكفت في إبطالها ، وإبطال جميع ما هم عليه من دينهم المنتن.

ثم العجب كله ، كيف يشهد عليهم بالشك وهم يحكون أنه قد ولّاهم خطة الإلهية وولّاهم رتبة الربوبية في أنّ كل ما حرّموه في الأرض كان حراما في السماوات ، وكل ما حلّلوه في الأرض كان حلالا في السماوات؟ فكيف يجتمع هذا مع هذا؟

وهل يأتي التناقض من دماغه سالم أو فيه آفة يسيرة؟ بل هذا والله توليد أفّاك كاذب ، واختراع عيّار متلاعب ، ونعوذ بالله من الخذلان.

فصل

وفي قرب آخر الباب الثامن عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لتلاميذه : «إذا اجتمع اثنان منكم على أمر فليس يسألان شيئا على الأرض إلّا أجابهم إليه أبي السّماوي ، وحيث اجتمع اثنان أو ثلاثة على اسمي فأنا متوسطهم».

قال أبو محمد : هذا الفصل ظريف جدّا ، وكذب لا يمطل ظهوره ، ولا يخلو أن يكون عنى بهذه المخاطبة تلاميذه خاصة ، أو كلّ من آمن به.

وأيّ الأمرين كان فهو كذب ظاهر ، وما يشك أحد في أن تلاميذه سألوه أن يجيبهم من دعوة إلى ما دعوه إليه من دينهم ، وأن يخلّص من فتن من أصحابهم ، فما أعطاهم شيئا من ذلك الذي أسماه أباه السّماوي.

فإن قيل : لم يسألوه قط شيئا من ذلك.

٢٩٣

قلنا : هذه طامّة أخرى. لئن كان هذا فهم غاشّون للناس غير مريدين لصلاحهم ، بل ساعون في هلاكهم. هيهات ، هذه منزلة ما أعطاها الله تعالى أحدا من خلقه.

صدق الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أخبر أن ربه تعالى قال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [سورة المنافقون : ٦].

وأنه أخبرنا عليه‌السلام : أنه دعا ألّا يجعل بأسنا بيننا بعده ، فلم يجبه الله تعالى إلى ذلك (١). هذا هو الحق الذي لا نزيد فيه ، والقول الذي صحبه الصدق ، والحمد لله رب العالمين.

لم يفخر بما لم يعط ، ولا أنزل نفسه فوق قدرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل

وفي الباب المذكور أن المسيح قال لهم : «إن أساء إليك أخوك فعاقبه وحدك فيما بينك وبينه ، فإن سمع منك فقد ربحته ، وإن لم يسمع منك فخذ إلى نفسك رجلا أو رجلين لكيما تثبت كلّ كلمة بشهادة شاهدين أو ثلاثة ، فإن لم يسمع فأعلم بخبره الجماعة ، فإن لم يسمع للجماعة فليكن عندك بمنزلة المجوسي والمستخرج».

ثم بعده بأسطار يسيرة قال : وعند ذلك تدانى إليه باطرة وقال له : يا سيدي فإن أساء إليّ أخي أتأمرني أن أغفر له سبعا؟ فقال له يسوع : لن أقول لك سبعا ولكن سبعين في سبعة.

قال أبو محمد : هذا ضد قوله في الثالثة : فليكن عندك بمنزلة المجوس والمستخرج ولا سبيل إلى الجمع بينهما.

فصل

وفي الباب الموفي عشرين من إنجيل متّى : أنّ أم ابني شيذاي (٢) أقبلت إليه مع

__________________

(١) عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل ذات يوم من العالية ، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ، ثم انصرف إلينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». رواه مسلم في الفتن (حديث ٢٠) واللفظ له ، والترمذي في الفتن باب ١٤ ، وابن ماجة في الفتن باب ٩ و ٢٢ ، ومالك في القرآن (حديث ٣٥) وأحمد في المسند (٥ / ٢٤٠ ، ٢٤٣ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨).

(٢) هما يعقوب ويحيى أخوه.

٢٩٤

ولديها فخشعا ، ورغبت إليه فقال لها : ما تريدين؟ فقالت : أحبّ أن تقعد ابنيّ هذين أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكك.

فقال يسوع : تجهلين السؤال. أيصبران على شرب الكأس الذي أشرب؟

فقالا : نصبر. فقال لهما : ستشربان بكأسي وليس إليّ مجلسكما عن يميني وشمالي ، إلّا من وهب له ذلك أبي.

قال أبو محمد : ففي هذا الفصل بيان أنه ليس إليه من الأمر شيء ، وأنه غير الأب كما يقولون ، بخلاف دينهم ، فإذا هو غير الأب وكلاهما إله ، فهما إلهان اثنان متغايران ، أحدهما قويّ والآخر ضعيف ، لأنه بإقراره ليس له قدرة على تقريب أحد إلّا من وهب له ذلك الذي يسمونه أبا ، وليت شعري كيف يجتمع ما ينسبون إليه هاهنا من الاعتراف بأنه ليس بيده أن يجلس أحدا عن يمينه ولا عن شماله ..؟ وإنما هو بيد الله تعالى مع ما ينسبون إليه من أنه قدر على إعطاء مفاتيح السماوات والأرض لأنذل من وجد وهو «باطرة» ، وأنه يفعل كما يفعله الأب ، وأن الله تعالى قد تبرأ إليه من الحكم ، وأن الله عزوجل ليس يحكم بعد على أحد ، وسائر تلك الفضائح المهلكة مع تكاذبها وتدافعها وشهادتها بأنها ليست من عند الله تعالى ، ولا من عند نبي أصلا ، لكن توليد كاذب كافر وبالله تعالى نعوذ.

فصل

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل متّى : فلما تدانى المسيح من «برشلام» وكان في موضع يقال له «تتفيا» جوار جبل الزيتون بعث رجلين من تلاميذه ، وقال لهما : اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما ، وستجدان فيه حمارة مربوطة بفلوها (١) فحلّا عنهما ، وأقبلا إليّ بهما ، فإن تعرضكما أحد فقولا : إن السيّد يريدها فيدعكما من وقته ، وكان ذلك ليتم به قول النبي القائل لابن صهيون : سيأتيك ملكك متواضعا على حمارة وابن أتان. فتوجه التلميذان وفعلا كما أمرهما به ، وأقبلا بالحمارة وفلوها ، وألقوا ثيابهم عليها ، وأجلسوه من فوقها.

وفي الباب التاسع من إنجيل مارقش : فلما بلغ المسيح «تتفيا» إلى جبل الزيتون ، أرسل اثنين من تلاميذه وقال : اذهبا إلى الحصن الذي بحيالكما ، فإذا دخلتما ستجدان فلوا مربوطا لم يركبه بعد أحد من الآدميين ، حلّاه وأقبلا به إليّ ، فإن قال لكما أحد ما

__________________

(١) الفلوّ والفلوّ والفلو : الجحش والمهر إذا فطم. انظر لسان العرب (١٥ / ١٦٢ ـ مادة فلا).

٢٩٥

هذا الذي تفعلان؟ فقولا له : إن السيّد يحتاج إليه فيخليه لكما ، فانطلقا ووجدا الفلو مربوطا قبالة رحبة الباب في رفاقين (١) فحلّاه. فقالوا لهما بعض الوقوف هنالك : ما لكما تحلّان الفلو؟ فقالا له كالذي أمرهما يسوع فتركوه لهما ، وساقا الفلو إلى يسوع ، ليحملوا عليه ثيابهم وركب من فوق.

قال أبو محمد : فهاتان قضيتان كل واحدة منهما تكذب الأخرى ، متّى يقول ركب حمارة ، ومارقش يقول ركب فلوا ، والعجب كله من استشهادهم لذلك بقول النبي : «يأتيك ملكك راكبا على حمارة وابن أتان» ، وما كان المسيح قط ملك برشلام فهذه كذبة أخرى.

وأطرف شيء استشهادهم لصحة أمره بركوبه حمارة ، أتراه لم يدخل «برشلام» إنسان على حمارة سواه؟!!

هذه بالله ضحكة من مضاحك السخفاء. ولقد أخبرني الحسن بن بقي صاحبنا نوّر الله وجهه : أنه وقف عالم من علمائهم على هذا الفصل ، قال : فقال : إنما هذا رمز والحمارة : هي التوراة ، فأضحكني قوله ، وقلت له : فالإنجيل هو : الفلو. وقال : فسكت وعلم أنه أتى بما يوجب السخرية به.

فصل

وفي الباب الثالث عشر من إنجيل متّى : أن يسوع قال لهم : إذا قام الناس لا يتزوجون ، ولا يتناكحون ، لكنهم يكونون كأمثال ملائكة الله تعالى في السماء.

وفي الباب السادس عشر من إنجيل متّى ، وأيضا في الباب الثاني عشر من إنجيل مارقش ، أن المسيح قال لتلاميذه ليلة أخذه : لا شربت بعدها من نشل الزرجون حتى أشربها معكم جديدة في ملكوت الله تعالى.

وفي الباب الرابع عشر من إنجيل لوقا : أن المسيح قال للحواريين الاثني عشر : أنتم الذين صبرتم معي في جميع مصائبي ، فأنا ألخص لكم الوصية على حال ما لخص لي أبي ، لتطعموا وتشربوا على مائدتي في الملك ، وتجلسوا على عروش حاكمين على اثني عشر سبطا من ولد إسرائيل.

قال أبو محمد : ففي الفصل الأول أن الناس في الآخرة لا يتناكحون ، وفي

__________________

(١) الرّفاق : جبل يشدّ به عضد البعير إذا خيف أن يهرب (المعجم الوسيط : ص ٣٦٢).

٢٩٦

الفصول الثلاثة بعده أن في الجنة أكلا وشربا للخبز والخمر على الموائد. والنصارى ينكرون كل هذا ، ولا مئونة عليهم في تكذيبهم للمسيح مع إقرارهم بعبادتهم له ، وأنه ربهم لا سيما في الفصل الأول ، أن الناس في الجنة كالملائكة ، وفي التوراة التي يصدقون بها أن الملائكة أكلت عند لوط وعند إبراهيم عليهما‌السلام الفطائر واللحم واللبن والسمن ، وإذا كانت الملائكة يأكلون والناس في الجنة مثلهم ، فالناس في الجنة يأكلون ويشربون بلا شك ، بموجب التوراة والإنجيل ، ولا سيما وقد أخبروا أن المسيح بعد أن مات ورجع إلى الدنيا ولقي تلاميذه طلب منهم ما يأكل فأتوه بحوت مشوي ، فأكل معهم وشرب شراب عسل بعد موته ، فإذا كان الإله يأكل الحيتان المشوية ويشرب عليها العسل فأي نكرة في أكل الناس وشربهم في الجنة؟ وإذا كان الله تعالى عندهم اتخذ ولدا من امرأة اصطفاها فأيّ عجب في اتخاذ الناس النساء في الجنة؟ وهذا هو طبعهم الذي بناهم الله عزوجل عليه. إلّا أنّ في دعوة هؤلاء النّوكى (١) لعبرة لمن اعتبر. والحمد لله على السلامة.

وعجب آخر وهو وعده للاثني عشر تلميذا بأنهم يقعدون على عروش حاكمين على اثني عشر سبطا من بني إسرائيل ، فوجب ضرورة كون يهوذا الأشكريوطي فيهم ، ولا يجوز أن يخاطب بهذا أصحابه دونه ، لأنه قد أوضح أنهم اثنا عشر على اثني عشر سبطا من بني إسرائيل ـ وجب ضرورة كون الأشكريوطي فيهم ، وهذا الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين دريهما ، فلا بدّ من أنه لم يذنب في ذلك ، وهذا كذب ، لأنه قد قال في مكان آخر : «ويل لذلك الإنسان الذي قيل فيه : كان أحب إليه لو لم يخلق».

أو كذب المسيح في الوعد المذكور ، لا بدّ من إحداهما ضرورة.

فصل

وفي الباب الثالث من إنجيل متّى : أنّ المسيح كاشف علماء بني إسرائيل ، وقال : ما تقولون في المسيح؟ وابن من هو؟

قالوا : هو ابن داود.

فقال لهم : كيف يسميه داود بالروح إلها حيث كنت قال الله إلهي : اقعد عن يميني حتى أجعل من أعاديك كرسيا لقدميك.

فإن كان «داود» يدعونه إلها كيف هو ولده؟

__________________

(١) النوكى : الحمقى.

٢٩٧

فلم يقدر أحد منهم على مراجعته.

قال أبو محمد : هذا هو الحق من قول المسيح عليه‌السلام ، ولقد أنكر عليه‌السلام المنكر حقا ، والعجب أنّ هؤلاء الأنذال المنتمين إلى أتباعه عليه‌السلام لا يختلفون في الاحتجاج بهذا الفصل المذكور ، هو عليه‌السلام قد أنكر أن يكون المسيح ابن داود ، وهم يسمونه في الأناجيل كلها بأنه ابن «داود». فاعجبوا.

فصل

وفي الباب المذكور أن المسيح قال لتلاميذه : أنتم إخوان ، ولا تنتسبوا إلى أب على الأرض ، فإنّ أباكم السماوي واحد.

قال أبو محمد : في هذا الفصل فضيحتان عظيمتان : إحداهما : إخباره أن الله تعالى هو أبو التلاميذ ، فنراهم مثله سواء سواء ، فلم خصه النصارى بأن يقولوا : إنه ابن الله دون أن يقولوا عن تلاميذه متى ذكروهم أنهم أبناء الله ..؟ تعالى الله عن هذا الكفر ، وعن أن يكون أبا أو ابنا.

والأخرى قوله : «لا تنتسبوا إلى أب على الأرض».

والنصارى والأناجيل يطلقون أن شمعون بن يوثا ، ويعقوب ويوحنا ابنا سبذاي ، ويهوذا ويعقوب ابنا يوسف ، فقد أقروا بثباتهم على معصية المسيح إذ نهاهم أن ينتسبوا إلى أب على الأرض ، وهم أبدا ملازمون لمخالفة أمره في ذلك متدينون بعصيانه.

فصل

وفي الباب الخامس عشر من إنجيل متّى : أن المسيح أنذر تلاميذه بما يكون في آخر الزمان من الزلازل والبلاء ، وقال لهم : فادعوا ألا يكون هروبكم في شتاء ولا سبت.

قال أبو محمد : هذا بيان واضح بلزومهم حفظ السبت إلى انقضاء أمرهم ، وإلى حلول الزلازل بهم ، وهم على خلاف ذلك. هذه أمة لا عقول لهم.

فصل

وفي الباب المذكور : أن المسيح قال لهم : سيعود مسحاء الكذب ، وأنبياء الكذب ، ويطلعون العجائب العظيمة والآيات حتى يغلط من يظن به الصلاح.

٢٩٨

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل مارقس : سيقوم مسيحون كذابون ، وأنبياء كذابون ، ويأتون بالآيات والبدائع ليخدعوا إن أمكن أيضا المختارين.

قال أبو محمد : هذا الفصل مع الفصل الأخير الذي في توراة اليهود في السفر الخامس الذي نصه : «إن طلع فيكم نبي ، أو ادّعى أنه رأى رؤيا وأتاكم بخبر ما يكون ، وكان ما وصفهن ، ثم قال لهم بعد ذلك : اتبعوا آلهة الأجناس ، فلا تصغوا له».

مع الفصل الذي فيه من التوراة : أنّ السحرة عملوا مثل عمل موسى عليه‌السلام في قلب العصا حية ، وإحالة الماء دما ، والمجيء بالضفادع ـ كافية في إبطال كل ما أتى به موسى والمسيح عليهما‌السلام ، وكل نبي يقرون بنبوته ، لأنه إذا جاز أن يأتي نبي كاذب بمعجزات ، وأمكن أن يكذب النبي الصادق فيما ينذر به ، وأمكن أن يعمل السحرة مثل شيء من آيات نبي ، فقد امتزج الحق بالباطل ولم يكن له إلى تمييز أحدهما من الآخر طريق أصلا ، وهذا إفساد الحقائق ، وإبطال موجب الحق ، وتكذيب الحواس. وإذا أمكن عند اليهود والنصارى ما ذكرناه مما في توراتهم وأناجيلهم ، فما الذي يؤمنهم أن موسى والمسيح عليهما‌السلام وسائر أنبيائهم ، إنما كانوا سحرة ، أو كذابين ..؟ شهدنا بالله شهادة حق أن هذه الفصول المذكورة من عمل برهمي مكذب بالنبوة جملة ، أو مناني مكذب بنبوة الأنبياء المذكورين عليهم‌السلام ، وأن موسى وعيسى عليهما‌السلام لم يقولا قط شيئا مما في هذه الفصول الخبيثة الملعونة.

وأما نحن فلا نجيز البتة أن يكذب نبي ، ولا أن يأتي غير نبي بمعجزة ساحرة ولا كذاب ولا صالح الصناعة.

فإن قيل : إنكم تقولون : إن الدّجال يأتي بالمعجزات.

قلنا : حاشا لله من هذا ، وما الدّجال إلا صاحب عجائب ، كأبي العجب الشعبذ ولا فرق إنما هو متحيل يتحيل بحيل معروفة ، كل من عرفها عمل مثل عمله ، وقد صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المغيرة بن شعبة سأله : هل مع الدّجال نهر ماء وخبز ونحو ذلك؟

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو أهون على الله من ذلك (١).

وصح أيضا عنه عليه‌السلام : أن الدّجال صاحب شبه (٢). وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) روى البخاري في الفتن باب ٢٧ (حديث ٧١٢٨) عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينا أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر ينطف ـ أو يهراق ـ رأسه ماء ، قلت : من

٢٩٩

فصل

وفي الباب المذكور : أن المسيح عليه‌السلام قال عن ذلك اليوم ، وذلك الوقت : لا يدري أحد ما بعده ، لا الملائكة ، ولا أحد غير الأب وحده.

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل مارقش : أن المسيح قال : السماوات والأرض تذهب وكلامي لا يبيد أبدا. ومن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم أحد ما بعده ولا الملائكة في السماء ، ولا ابن الإنسان ما عدا الأب.

قال أبو محمد : هذا الفصل يوجب ضرورة أن المسيح هو غير الله تعالى ، لأنه أخبر أن هاهنا شيئا يعلمه الله تعالى ، ولا يعلمه هو ، وإذا كان بنص أناجيلهم أن الابن لا يعلم متى الساعة والأب يعلم متى هي فبالضرورة القاطعة نعلم أن الابن غير الأب ، وإذا كان كذلك فهما اثنان متغايران ، أحدهما يجهل ما لا يجهله الآخر. وهذا الشرك الذي عليه يحومون ، وهذا ما يبطله العقل ، أن يكون إلهان أحدهما ناقص ، فصح ضرورة أن من هو غير الله تعالى فهو مخلوق ومربوب ، وبطل هوسهم وتخليطهم والحمد لله رب العالمين. أو يكذبوا المسيح في هذا الفصل ولا بدّ.

فصل

وفي الباب السادس والعشرين من إنجيل متّى : أن المسيح قال لباطرة ليلة أخذ : آمين أقول لك ، إنك ستجحدني في هذه الليلة قبل صرخة الديك ثلاثا.

فقال له باطرة : لا يكون هذا ولو بلغت القتل.

وفي الباب الثاني عشر من إنجيل مارقش : أن المسيح قال لباطرة : آمين أقول لك ، إنك أنت اليوم في هذه الليلة قبل أن يرفع الديك صوته مرتين ستجحدني ثلاثا ، فكان باطرة يعيد القول : حتى لو أمكنني أن أموت معك لست أجحدك.

وفي الباب التاسع عشر من إنجيل لوقا : أن المسيح قال لباطرة : أنا أعلمك أنه لا يصرخ الديك هذه الليلة حتى تجحدني ثلاثا ، وأنك لم تعرفني.

وفي الباب الحادي عشر من إنجيل يوحنا : أن المسيح قال لباطرة : آمين آمين أقول لك لا يصرخ الديك حتى تجحدني ثلاثا.

__________________

هذا؟ قالوا. ابن مريم. ثم ذهبت ألتفت فإذا رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين كأن عينه عنبة طافية ، قالوا : هذا الدجّال ، أقرب الناس به شبها ابن قطن رجل من خزاعة».

٣٠٠