الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

ولإلياجيم ولد آزور ، وآزور ولد شان ، وشان ولد يعقوب ، ويعقوب ولد يوسف خطيب مريم التي ولدت يسوع الذي يدعى مسيحا ، فصار من إبراهيم إلى داود أربعة عشر أبا ، ومن داود إلى وقت الرحلة أربعة عشر أبا ، ومن الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا ، فجميع الموالد من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا.

قال أبو محمد : في هذا الفصل خلاف لما في كتب اليهود والتوراة ، التي هي عندهم في النقل كالتوراة ، وهما كتاب ملاخيهم ، وكتاب وبراهياشيم فقال هاهنا تارح بن يهوذا ، وفي التوراة زارح بن يهوذا ، وهذا اختلاف في الاسم ، وكذب من أحد الخبرين ، والأنبياء لا يكذبون. وقال هاهنا احزياهو بن بهورام ، وفي كتب اليهود أحزيا بن يورام ، وهذا اختلاف في الأسماء ووحي الله تعالى لا يحتمل هذا ، فأحد النقلين كاذب بلا شك. وقال هاهنا يوثام بن أحزياهو وفي كتب اليهود المذكورة يوثام بن عزريا بن أمصيا بن يواش بن أحزيا ، فأسقط ثلاثة آباء مما في كتب اليهود وهذا عظيم جدا. فإن صدقوا كتب اليهود وهم مصدقون لها فقد كذب متّى وجهل. ولئن صدقوا متى فإن كتب اليهود كاذبة ، لا بدّ من أحد ذلك. فقد حصلوا على التصديق بالشيء وضدّه معا. وقال هاهنا : أحزياهو بن أحاز بن يوثام. وفي كتب اليهود المذكورة حزقيا بن أحاز بن يوثام ، وهذا اختلاف في الاسم ، والوحي لا يحتمل هذا. فأحد النقلين كاذب بلا شك. وقال هاهنا : يخنيا بن يوشياهون بن آمون ، وفي كتب اليهود التي ذكرنا يخنيا بن الياقيم بن يوشيا بن آمون ، فأسقط متى الياقيم وخالف في اسم يوشيا بن آمون ، وهذا عظيم وكما قدمنا من كذبهم ولا بدّ ، إذ يصدقون بالشيء والضدّ له معا. وهم لا يختلفون في أن متّى رسول معصوم أجلّ عند الله من موسى ومن سائر الأنبياء كلهم عليهم‌السلام ، وهو قد قال في أول كلمة من إنجيله : «مصحف نسبة المسيح ابن داود بن إبراهيم» ثم لم يأت إلا بنسب يوسف النجار زوج مريم الذي هو عندهم ربيب إلههم زوج أمه. فكيف يقول : إنه ذكر نسبة المسيح ثم يأتي بنسبة يوسف النجار؟ والمسيح عند هذا التيس البوّال ليس هو ولد يوسف أصلا. فقد كذب هذا القذر كذبا لا خفاء به ، ولا مدخل للمسيح في هذا النسب أصلا بوجه من الوجوه ، إلا أن يجعلوه ولد يوسف النجار وهم لا يقولون هذا ولا نحن ولا جمهور اليهود.

أما هم فيقولون : إنه ابن الله من مريم ، وإنه إله وابن إله وامرأة ، تعالى الله عن هذا. وأما نحن والعيسوية من اليهود معنا ، والآريوسية والبولقانية والمقدونية من

٢٦١

النصارى ، فنقول إنه عبد آدمي خلقه الله تعالى ، في بطن مريم عليها‌السلام ، من غير ذكر.

وأما جمهور اليهود فيقولون إنه لغير رشدة (١) حاشا له من ذلك ، بل إن طائفة قليلة من اليهود يقولون إنه ابن يوسف النجار ، وما نرى متّى إلا شاهدا لقولهم ومحققا له. وإلا فكيف يبدأ بأنه يذكر نسب المسيح إلى داود ثم لا يذكر إلا يوسف النجار إلى داود ..؟ ولو أنه ذكر نسبة أمه مريم لكان لقوله مخرج ظاهر ، لكنه لم يذكر نسب مريم أصلا ، ثم لم يستح النذل من أن يحقق ما ابتدأ به ، فبعد أن أتم نسب يوسف النجار قال : من الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا ، فجميع المواليد من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا ، فأكّد هذا الملعون كذبه وأن المسيح ولد يوسف ، لا بد ضرورة من أحدهما ، وإلا فكيف يكون من الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا والمسيح ليس هو ابنا لأحدهم ، ولا هم آباء له؟ وكيف يكون من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا ولا مدخل للمسيح في تلك الولادات إلا كمدخله في ولادات أهل الهند وأهل الصين وأهل ططفة وسقر وسقرال ولا فرق؟

هذه فضائح الدهر وما لا يأتي به إلا أفحش البرية. ونعوذ بالله من الخذلان. ثم كذب آخر وجهل زائد ، وهما قوله فمن إبراهيم إلى داود أربعة عشر أبا.

قال أبو محمد : هذا كذب إنما هم على ما ذكرنا ثلاثة عشر : إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب ، ويهوذا ، وزارح ، وحصروم ، وآرام ، وعميناذاب ، ونجشون ، وأشلومون ، وبوعز ، وعوبيذ ، وأنشاي فهؤلاء ثلاثة عشر أبا ثم داود ، ولا يجوز البتة أن يعد داود في آباء نفسه ، فيجعل أبا لنفسه وهذه ملحنة. ثم قال : ومن داود إلى الرحلة أربعة عشر أبا ، وليس كذلك لأن يخنيا هو الراحل بنص قول متّى ، وأنه لم يولد على قوله صلثيال إلا بعد الرحلة ، فهم : أشلومون ورحبعام وأبيوب وأشا ، ويهوشافاظ ، وبهورام وأحزياهو ، ويوثام ، وأحاز ، وأجزياهو ، ومنشأ وآمون ويوشاهو ويخنيا.

وقد عدّ داود قبل فإن عدّه هاهنا فقد حققوا الكذب في الفصل الذي قبله ، وإن لم يعدوه هاهنا فقد كذبوا في هذا العدد الثاني ، أو جعلوا يخنيا أبا لنفسه وهذا هوس.

ثم قال : ومن الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا ، وهذا فصل جمع كذبتين عظيمتين.

__________________

(١) الرشدة (بفتح الراء ، وتكسر) : يقال : هو ولد رشدة ولرشدة : صحيح النسب ، أو من نكاح صحيح (المعجم الوسيط : ص ٣٤٦).

٢٦٢

إحداهما : أنه إذا عد صلثيال من بعده إلى يوسف النجار فليسوا إلا اثني عشر رجلا فقط. وهم صلثيال وأبيوب والياجيم ، وازور ، وصدوق ، واجيم واليوث ، والعيزار ، وزربابيل ، وماثان ، ويعقوب ويوسف. فإنّ عدّ فيهم يخنيا كانوا ثلاثة عشر ، وهو يقول أربعة عشر فاعجبوا لهذا الحمق ولهذا الضلال ، واعجبوا من رعونة كل من جاز هذا عليه واعتقده دينا ..؟!

ثم إن كان عنى أنهم آباء المسيح فيوسف والد المسيح وكفى ، وهذا عندهم كفر ، فقد كفر متّى أو كذب وجهل لا بد من أحد ذلك ، ثم قوله فمن إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا ، وهذا كذب فاحش وجهل مفرط ، لأنه إذا عدّ إبراهيم ومن بعده إلى يوسف ، وعد يوسف أيضا فإنما هم أربعون فقط. فإن عدّ المسيح وجعله ولد يوسف لم يكونوا أيضا إلا واحدا وأربعين فقط. فاعجبوا ممن يدين الله تعالى بهذا الحمق واحمدوه على السلامة.

هذا إلى الكذب المفضوح الذي في نسب داود عليه‌السلام إلى بخشون بن عميناذاب ، لأن بخشون بنص توراتهم هو الخارج من مصر ، وهو مقدم بني يهوذا ، ولم يدخل بنص التوراة أرض القدس. لأن كل من خرج من مصر ابن عشرين سنة فصاعدا ، ماتوا كلهم في التيه بنص التوراة. فإذا عدّت الولادات من أشلومون بن بخشون الذي دخل أرض القدس إلى داود عليه‌السلام وجدوا أربعة فقط. وهم داود بن إنشاي بن عوبيذ بن بوعز بن أشلومون ، الداخل مصر المذكور ولا يختلفون يعني اليهود والنصارى معا ، أن من دخول أشلومون المذكور مع يوشع وبني إسرائيل الأرض المقدسة إلى مولد داود عليه‌السلام خمسمائة سنة وثلاثا وسبعين سنة. فيجب على هذا أن يقول : إن أشلومون لم يدخل الأرض المقدسة إلا ابن أقل من سنة ، وإنه لم يولد لكل واحد منهم ولده المذكور إلا وله مائة سنة ونيف وأربعون سنة ، وكتبهم تشهد ككتاب ملاجيم وديراهياميم وغيرهما ، ونقطع أنه لم يعش أحد من بني إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام مائة سنة وثلاثين سنة إلا يهوياراع الكوهين الهاروني وحده. فكم هذا الكذب وهذا الإفضاح فيه وهذه الشهرة العظيمة؟ لا ينفكون من كذبة إلا إلى أخرى ، ومن سوأة إلا إلى سوأة ، ونعوذ بالله من البلاء. فاعجبوا لما افتتح به هذا الكذاب كتابه وتأليفه ما ذا جمع هذا الفصل على صغره وإنه أسطار يسيرة من الكذب والجهل ..؟

وأحسن ما في خالد وجهه

فقس على الغائب بالشاهد

ثم ذكر لوقا الطبيب في الباب الثالث منه نسب المسيح عليه‌السلام ، فقال : إنه

٢٦٣

كان يظن أنه ابن يوسف النجار ، المنسوب إلى عالي إلى ناثان ، إلى لاوي ، إلى ملكي إلى يمتاع إلى يوسف إلى متّاثيا إلى حاموص إلى ناحوم إلى أشلا إلى أبجا إلى ماهاث إلى متشيا إلى صمغي إلى يصداق إلى يهندع إلى يوحنا إلى رشا إلى زربابيل إلى صلثيال إلى ملكي إلى نادي إلى مرا إلى أربع إلى قرصام إلى اليمدان إلى هار إلى يشوع إلى اليعزار إلى يوريم إلى ماثا إلى لاوي إلى شمعون إلى يهوذا إلى يوسف إلى يونا إلى الياجيم إلى ملكان إلى أنان إلى عيشاع إلى مناثان إلى مناثان إلى داود النبي عليه‌السلام ، ثم ذكر نسب داود كما نسبه متّى حرفا حرفا.

قال أبو محمد : فاعجبوا لهذه المصيبة الحالة بهم ما أفحشها وأوحشها ، وأقذرها وأوضرها ، وأرذلها وأنذلها ، متّى الكذاب ينسب المسيح إلى يوسف النجار ....؟؟ ثم ينسب يوسف إلى الملوك من ولد سليمان بن داود عليهما‌السلام أبا فأبا. ولوقا ينسب يوسف النجار إلى آباء غير الذين ذكر متّى حتى يخرجه إلى ناثان بن داود ، أخي سليمان بن داود ، ولا بد ضرورة من أن يكون أحد النسبين كذبا فيكذب متّى أو لوقا ، ولا بد أن يكون كلا النسبتين كذبا فيكذب الملعونان لوقا ومتّى جميعا ، ولا يمكن البتة أن تكون كلا النسبتين حقا ، ولوقا عندهم ـ لوّق الله صورهم وألاق وجوههم ولقّاهم البلاء ، وألقى عليهم الدمار واللعنة ، في الحالة ـ فوق جميع الأنبياء عليهم‌السلام فهذه صفة أناجيلهم. فاحمدوا الله تعالى أيها المسلمون على السلامة والعصمة.

وقال بعض أكابر من سلف منهم من مضلّيهم : إن أحد هذين النسبتين هو نسب الولادة ، والنسب الآخر نسب إلى إنسان تبنّاه على ما كان في قديم زمن بني إسرائيل من أن من مات ولا ولد له تزوج أخوه امرأته ، وينسب إلى الميت من ولدت من هذا الحي ، فقلنا لمن عارضنا منهم بهذا الهوس : من لك بهذا؟ وأين وجدته للوقا أو لمتّى؟ والدعوى لا يعجز عنها أحد وهي باطلة ، إلا أن يعضدها برهان. وبعد هذا فأيّ النسبتين هو نسب الولادة ..؟ وأيهما هو نسب الإضافة لا الحقيقة؟ فأيهما قال قلب عليه قوله ، وقيل له هذه دعوى بلا برهان. فإن قيل : إن لوقا لم يقل إن فلانا ولد فلانا كما قاله متّى لكن قال : المنسوب إلى على قلنا : وهكذا قال في آباء على أبا فأبا إلى داود ثم إلى إبراهيم ، ثم إلى نوح ثم إلى آدم عليهم‌السلام سواء سواء ، في اسم بعد اسم وفي أب بعد أب ولا فرق. أفترى نسب داود إلى إبراهيم ، وإبراهيم إلى نوح ، ونوح إلى آدم ، كان أيضا على الإضافة لا على الحقيقة كما قلت في نسب يوسف إلى علي؟ هذا

٢٦٤

عجب. فإذ لا سبيل إلى ما يصحح هذه الدعوى فهي كذب ، ووضح الكذب في أحد النسبين ضرورة عيانا ، والحمد لله رب العالمين.

فصل

وفي الباب الثالث من إنجيل متى : فلحق يسوع ـ يعني المسيح ـ بالمفاز وساقه الروح إلى هنالك ، ولبث به ليقيس إبليس فيه ، فلما أن صام أربعين يوما بلياليها جاع ، فوقف إليه الجساس وقال له : إن كنت ولد الله فأمر هذه الجنادل (١) تصير لك خبزا. فقال يسوع : قد صار مكتوبا بأن عيش المرء ليس بالخبز وحده ، لكن في كل كلمة تخرج من فم الله تعالى.

وبعد هذا أقبل إليه إبليس في المدينة المقدسة ، وهو واقف في أعلى بنيانها وقال له : إن كنت ولد الله فترام من فوق ، فإنه قد صار مكتوبا بأنه سيبعث ملائكته يرفدونك ، ويدفعون عنك ، حتى لا يصيب قدمك مكروه ، فأجابه يسوع وقال له : قد صار مكتوبا أيضا ألا يقيس أحد العبيد إلهه. ثم عاد إليه إبليس وهو في أعلى جبل منيف فأظهر له زينة جميع الدنيا وشرفها وقال له : إني سأملكك كل ما ترى إن سجدت لي. فقال له يسوع : اذهب يا منافق مقهقرا ، فقد كتب ألّا يعبد أحد غير السّيّد الإله ، ولا يخدم سواه ، فتأيس عنه إبليس عند ذلك وتنحى عنه ، وأقبلت الملائكة وتولت خدمته.

وفي الباب الرابع من إنجيل لوقا : «فانصرف يسوع من الأردن محشوا من روح القدس ، وقاده الروح إلى القفار ، ومكث به أربعين يوما ، وقايسه إبليس فيه ، ولم يأكل شيئا في تلك الأربعين يوما ، فلما كملها جاع فقال له إبليس : إن كنت ابن الله فأمر هذا الحجر أن يصير خبزا فأجابه يسوع وقال له : قد صار مكتوبا أنه ليس عيش الآدمي في الخبز وحده إلا في كل كلمة لله ، ثم قاده إبليس إلى جبل منيف عال ، وعرض عليه ملك جميع الدنيا في وقته. وقال له : سأملكك هذا السلطان ، وأبرأ إليك بعظمته لأني قد ملكته وأنا أعطيه من وافقني ، فإن سجدت لي كان لك أجمع. فأجابه يسوع : قد صار مكتوبا أن تعبد السيد إلهك ، وتخدمه وحده ، ثم ساقه إلى برشلام (٢) وصعده ووقفه على صخرة البيت في أعلاه وقال له : إن كنت ولد الله فتسيب من هاهنا ، لأنه

__________________

(١) جمع جندل ، وهو الحجر الكبير.

(٢) وهي أورشليم ، أي القدس.

٢٦٥

مكتوب أنه يبعث ملائكته لحرزك وحملك في الأكف حتى لا تعثر بقدمك في حجر ، ولا يصيبك مكروه ، فأجابه يسوع وقال له : قد كتب أيضا أن لا تقيس السيد إلهك».

قال أبو محمد : في هذا الفصل عجائب لم يسمع بأطمّ منها.

أولها : إقرار الصادق عندهم بأن إبليس قاد المسيح عليه‌السلام مرة إلى جبل منيف وانقاد له ومضى معه ، وقاده مرة أخرى إلى أعلى صخرة ببيت المقدس ، فما تراه إلا ينقاد لإبليس حيث قاده ، ولا يخلو من أن يكون قاده فانقاد له مطيعا سامعا ، فما تراه إلا منصرفا تحت حكم الشيطان وهذه والله منزلة رذلة جدا ، أو يكون قاده كرها فهذه منزلة المصروعين ، الذين يتخبطهم الشيطان من المس ، وحاشا للأنبياء من كلتا الصفتين فكيف إله وابن إله بزعمهم ..؟ وما سمع قط بأحمق من هذا الهوس ، ونحمد الله تعالى على عظيم نعمته. ثم الطامّة الأخرى ، كيف يطمع إبليس عند هؤلاء النّوكى (١) في أن يسجد له خالقه وفي أن يعبده ربه في أن يخضع له من فيه روح اللاهوت ..؟ أم كيف يدعو إبليس ربه وإلهه إلى أن يعبده ..؟ والله إني لأقطع أن كفر إبليس وحمقه لم يبلغا قط هذا المبلغ. فهذه آبدة الدهر. ثم عجب آخر كيف يمنّي إبليس رب الدنيا وخالقها وخالقه ، ومالكها ومالكه ، وإلهها وإلهه في أن يملكه زينة الدنيا ..؟ فهذه كما تقول عامتنا «أعطه من خبزه كسيرة» ما هذه الوساوس التي لا ينطق بها إلّا لسان من حقّه سكنى المارستان ، أو عيّار كافر مستخف بقوم نوكى يوردهم ولا يصدرهم!! ما شاء الله كان.

فإن قالوا : إنما دعا الناسوت وحده وإياه عنى إبليس.

قلنا : فإن اللّاهوت والناسوت عندكم متّحدان بمعنى أنهما صارا شيئا واحدا ، والمسيح عندكم إله معبود وقد قلتم هاهنا : إن إبليس قاد المسيح فانقاد له المسيح ، ودعاه إبليس إلى عبادته والسجود له ، ومنّاه إبليس بملك الدنيا ، وقال للمسيح وقال له المسيح أو قال ليسوع وقال له يسوع ، وعلى قولكم أنه إنما خاطب الناسوت وحده فإنما دعا نصف المسيح ونصف يسوع ، وإنما منّى بزينة الدنيا نصف المسيح ، فقد كذب لوقا ومتى على كل حال ، وأهل الكذب هما ، فكيف ونص كلامهما ـ جذّت ألسنتهما في لظى ـ يمنع من هذا ..؟ ويوجب أن إبليس إنما دعا اللاهوت لأنه قال له :

__________________

(١) النوكى : جمع أنوك ، وهو الأحمق. والأنوك : العييّ في كلامه. والأنوك : العاجز الجاهل (المعجم الوسيط : ص ٩٦٤).

٢٦٦

إن كنت ابن الله فافعل كذا ، ولو لم يكن في الأناجيل إلا هذا الفصل الأبخر (١) وحده لكفى ، فكيف وله فيها نظائر جمّة ..؟!! ونحمد الله على السلامة.

فصل

قال أبو محمد : وذكر في الفصل الذي تكلمنا عليه أن المسيح عليه‌السلام أحشي من روح القدس ، وفي أول باب من إنجيل لوقا أن يحيى بن زكريا أحشي من روح القدس في بطن أمه ، وأن أم يحيى أحشيت أيضا من روح القدس ، فما ترى للمسيح من روح القدس إلا كالذي ليحيى ولأم يحيى من روح القدس ، ولا فرق فأي فضل له عليهما.

فصل

قال أبو محمد : وفي الباب الثالث من إنجيل متّى : فلما بلغه عن حبس يحيى بن زكريا تنحى إلى جلجال ، وتخلى من مدينة الناصرة ، ورحل وسكن في كفر «ناحوم» ، على الساحل في زابلون وتفتالي ، ليتم قول شعيا النبي حيث قال : أرض زابلون وتفتالي وطريق البحر خلف الأردن وجلجال الأجناس ، وكل من كان بها في ظلمة يبصرون نورا عظيما ، ومن كان ساكنا في ظلل الموت فيها يطلع النور عليهم ، ومن ذلك الموضع ابتدأ يسوع بالوصية ، وقال : توبوا فقد تدانى ملكوت السماء. وبينا هو يمشي على ريف بحر جلجال إذ بصر بأخوين ، أحدهما : يدعى شمعون المسمى باطرة ، والآخر : اندرياش وهما يدخلان شباكهما في البحر ، وكانا صيادين فقال لهما : اتبعاني أجعلكما صيادي الآدميين ، فتخليا وقتهما من شباكهما واتّبعاه ، ثم تحرك من ذلك الموضع وبصر بأخوين أيضا وهما يعقوب ويوحنا ابني سيذاي ، في مركب مع أبيهما يعدان شباكهما فدعاهما ، فتخليا ذلك الوقت من شباكهما ومن أبيهما ومتاعهما ، واتّبعاه. هذا نص كلام متّى في إنجيله حرفا حرفا.

وفي أول باب من إنجيل مارقش قال : فبعد أن ثل بيحيى أقبل يسوع إلى جلجال ملك الله ، وقال : إن الزمان قد تمّ وتدانى ملك الله ، فتوبوا وتقبلوا الإنجيل. فلما خطر جوار بحر جلجال ، نظر إلى شمعون واندرياش وهما يدخلان شباكهما في البحر ، وكانا صيادين ، فقال لهما يسوع : اتبعاني أجعلكما صيادين للآدميين ، فتركا تلك

__________________

(١) الأبخر : المنتن (المعجم الوسيط : ص ٤١).

٢٦٧

الشبكة واتبعاه ، ثم تمادى قليلا وأبصر يعقوب بن سبذاي ، وأخاه يوحنا وهما في المركب يهندمان شباكهما ، فدعاهما فتركا والدهما مع العمالين بأجرة في المركب ، واتبعاه. هذا نص كلام مارقش في إنجيله حرفا حرفا.

وقال في الباب الرابع من إنجيل لوقا : وبينما الجماعات يوما تزدحم عليه رغبة في استماع كلام الله ، وكان في ذلك الوقت واقفا على ريف بحيرة بشيرات إذ بصر بمركبين في البحيرة ، قد نزل عنهما أصحابهما لغسل شباكهم ، فدخل يسوع أحدهما الذي كان لشمعون ، وسأله أن ينتحى به عن الريف قليلا ، فقعد في المركب وجعل يوصي الجماعات منه ، فلما أمسك عن الوصية قال لشمعون : تنحّ وألقوا جرافاتكم للصيد ، فقال له شمعون : يا معلم قد عنينا طول الليل ولم نصب شيئا ، ولكن سنلقي الجرافة بأمرك وقولك. فلما ألقاها قبضت على حيتان كثيرة جليلة ، فكادت تنقطع الجرافة من كثرتها ، فاستعانوا بأصحاب المركب الثاني ، وسألوهم أن يعينوا على إخراجهم لها ، فاجتمعوا عليها وشحنوا منها المركبين حتى كادا أن يغرقا. فلما بصر بذلك شمعون الذي يدعى باطرة سجد ليسوع ، وقال اخرج عنّي يا سيدي لأني إنسان مذنب.

وكان قد حاروا كل من كان معه لكثرة ما جمعا من الحيتان ، وحار يعقوب ويوحنا ابنا سيذاي ، قال يسوع لشمعون : لا تخف فإنك ستصطاد اليوم الآدميين. فأخرجوا إلى الريف الآخر مركبهم ، وتخلوا من جميع ما كان معهم واتّبعوه. هذا نص كلام لوقا في إنجيله حرفا حرفا.

وفي أول باب من إنجيل يوحنا بن سيذاي قال : وفي يوم آخر كان يحيى بن زكريا المعمد واقفا ومعه تلميذان من تلاميذه ، فبصر يسوع ماشيا فقال : هذا خروف الله فسمع ذلك منه التلميذان ، واتّبعا يسوع فالتفت إليهما يسوع إذ رآهما يتبعانه وقال لهما : ما الذي طلبتما ..؟ قالا له يا معلم أين مسكنك؟ فقال لهما : أقبلا فأبصراه فتوجها معه ورأيا مسكنه وباتا عنده ذلك اليوم.

وكانوا في الساعة العاشرة وكان أحد التلميذين اللذين اتبعاه أندرياش أخو شمعون المسمى باطرة ، أحد الاثنى عشر فلقي أخاه شمعون ، وهو أحد اللّذين سمعا من يحيى واتبعاه ، إذ نظر إليه وقال له : وجدنا المسيح. ثم أقبل إليه به فلما بصر به المسيح قال له : أنت شمعون بن يونا ، وأنت تسمى كيفا وترجمته الحجر. وهذا نص كلام يوحنا في إنجيله حرفا حرفا.

٢٦٨

قال أبو محمد : فاعجبوا لهذه الفضائح وتأملوها ، اتفق متى ومارقش ، على أن أول ما كانت صحبة شمعون باطرة ، وأخيه أندرياش ابني يونا للمسيح عليه‌السلام ، فإنها كانت بعد أن سجن يحيى بن زكريا عليه‌السلام ، إذ وجدهما المسيح وهما يدخلان شبكتهما في البحر للصيد ، وقال لوقا : إنه وجدهما أول ما صحباه ، إذ وجدهما قد نزلا من المركب لغسل شباكهما ، وأنهما كانا قد تعبا طول الليل ولم يصيدا شيئا.

وقال يوحنا : إن أول ما صحباه إذ رآه أندرياش أخو شمعون باطرة وهو واقف مع يحيى بن زكريا ، وأنه كان تلميذا ليحيى ، وأن يحيى حينئذ كان يعمد الناس ، فلما سمع أندرياش قول يحيى إذا رأى المسيح هذا خروف الله ، ترك يحيى وصحب المسيح ، وذلك في الساعة العاشرة ، وبات عنده تلك الليلة ، ثم مضى إلى أخيه شمعون باطرة وأخبره ، وأتى به إلى المسيح فصحبه ، وهي أول صحبته له. فبعضهم يقول : أول صحبة باطرة وأخيه أندرياش للمسيح كانت بعد سجن يحيى بن زكريا ، وهو قول متى ومارقش ، وبعضهم يقول : إن أول صحبة شمعون باطرة وأندرياش للمسيح كانت قبل أن يسجن يحيى بن زكريا وهو قول يوحنا ، وبعضهم يقول : أول صحبة باطرة وأندرياش للمسيح كانت إذ وجدهما يدخلان شبكتهما للصيد جميعا ، فتركاها وصحباه من حينئذ ، وهو قول متّى ومارقش. وبعضهم يقول : أول صحبة باطرة وأندرياش للمسيح كانت إذ رآه أندرياش وهو واقف مع يحيى ، وهو تلميذ ليحيى يومئذ ، فرأى المسيح ماشيا فقال يحيى : هذا خروف الله ، فترك أندرياش يحيى وصحب المسيح من حينئذ ، ثم مضى إلى أخيه شمعون وعرفه أنه وجد المسيح وأتى به إليه فصحبه من حينئذ ، وهو قول يوحنا. فهذه أربع كذبات في نسق.

أحدها : في الوقت الذي كان ابتدأ صحبتهما للمسيح فيه.

والأخرى : في الموضع الذي كان فيه أول صحبتهما للمسيح عليه‌السلام.

والثالثة : في رتبة صحبتهما للمسيح أمعا أم أحدهما قبل الثاني ..؟

والرابعة : في صفة الحال التي وجدهما عليها أول ما صحباه. وبالضرورة ندري أن أحد هذه الاختلافات الأربعة كذب بلا شك ، ومثل هذا لا يمكن البتة أن يكون من عند الله عزوجل ، ولا من عند نبي ولا من عند صادق ، بل من كذّاب عيّار لا يبالي بما حدث ، وأغرب شيء في ذلك قولهم كلهم : إن يوحنا بن سيذاي هو ترجم إنجيل متّى من العبرانية إلى اليونانية ، فإذ رأى هذه القصص في إنجيل متّى بخلاف ما عنده

٢٦٩

فلا بد ضرورة من أن يكون عرف أن قول متّى كذب أو عرف أنه حق ، لا بدّ من أحدهما ضرورة.

فإن كان قول متّى كذبا فقد استجاز يوحنا أن يورد الكذب عن صاحبه المقدس ، الذي هو عندهم أكبر من موسى ، ومن سائر الأنبياء عليهم‌السلام ، وإن كان قول متّى حقا فقد قصد يوحنا إيراد الكذب فيما أخبر هو به في إنجيله ، لا بدّ من أحدهما ، ولقد كانت هذه وحدها تكفي في بيان أن الأناجيل من عمل كذابين ملعونين ، شاهت وجوههم ، وحاقت بهم لعنة الله تعالى.

فصل

وفي الباب الرابع من إنجيل متّى ، أن المسيح قال لتلاميذه : لا تحسبوا أني أتيت لنقض التوراة وكتب الأنبياء ، إنما أتيت لإتمامها آمين. أقول لكم : إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد «يا» واحدة ، ولا حرف واحد من التوراة ، حتى يتم الجميع فمن حلّل عهدا من هذه العهود الصغيرة وحمل الناس على تحليله ، فسيدعى في ملكوت السموات صغيرا ، ومن أتمه وحضّ الناس على إتمامه فسيدعى في ملكوت السموات عظيما.

وفي الباب السادس عشر من إنجيل متّى : ستحول السموات والأرض ولا يحول كلامي.

قال أبو محمد : وهذه نصوص تقتضي التأبيد وتمنع من النسخ جملة ، ثم لم يمض بعد الفصل الأول المذكور إلا أسطار يسيرة حتى ذكر متّى أنه قال لهم المسيح : قد قيل من فارق امرأته فليكتب لها كتاب طلاق. قال : وأنا أقول لكم : من فارق امرأته إلا لزنا فقد جعل لها سبيلا إلى الزنا ، ومن تزوج مطلقة فهو فاسق. وهذا نقض لحكم التوراة الذي ذكر أنه لم يأت لنقضها لكن لإتمامها.

ثم يحكون عن بولش الملعون أنه نهى عن الختان ، وهو أوكد شرائع التوراة ، وعن شمعون باطرة المسخوط أنه أباح أكل الخنزير ، وكل حيوان وطعام حرمته التوراة ، ثم هم قد نقضوا شرائع التوراة كلها أولها عن آخرها من السبت وأعياد اليهود وغير ذلك ، وهم مع هذا العمل لا يختلفون في أن المسيح وجميع تلاميذه بعده لم يزالوا يلتزمون السبت وأعياد اليهود وفصحهم إلى أن ماتوا على ذلك ، وأن المسيح إنما أخذ ليلة الفصح وهو يفصح على سنة اليهود ، وشريعتهم فكيف هذا ..؟ ولا بد لهم من أن

٢٧٠

يضيفوا الكذب إلى المسيح جهارا إذ أخبر أنه لم يأت لنقض التوراة ثم نقضها ، فصح أنه أتى لما أخبر أنه لم يأت له من نقضها ، وهذا كذب لا مرحل عنه. ولا بدّ لهم من أن يقروا أن المسيح مسخوط ، يدعى في ملكوت السموات صغيرا لا عظيما لأنه هكذا أخبر عن من حلّل عهدا صغيرا من عهودها ، وهو قد حل عهودا كبارا من عهودها ، إذ حرم الطلاق وقد أباحته التوراة ونهى عن القصاص الذي جاءت به التوراة وقال قد قيل : العين بالعين ، والسن بالسن ، وأنا أقول لا تكافئوا أحدا بسيئة ، ولكن من لطم خدك الأيمن فانصب له الآخر.

قال أبو محمد : ولا بد لهم من أن يشهدوا على أنفسهم أولهم على آخرهم ، وسالفهم عن خالفهم بمعصية الله تعالى ومخالفة المسيح ، وأنهم يدعون في ملكوت السموات صغارا ، إذ نقضوا حكم التوراة ، أولها عن آخرها ، ولا يمكنهم هاهنا دعوى النسخ البتة ، لأنهم حكوا كما أوردنا عن المسيح أنه قال : أقول لكم : إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد «يا» واحدة ولا حرف واحد ، من التوراة حتى يتم الجميع. فمنع من النسخ جملة ، وإن في هذا لعجبا لا نظير له ، وحمقا وضلالا ما كنا نصدق بأن أحدا يدين به ، لو لا أنا شاهدناهم ونسأل الله السلامة.

ثم ذكر في الباب الثامن عشر من إنجيل متى أن المسيح قال للحواريين الاثني عشر بأجمعهم وفي جملتهم يهوذا الاشكريوطا (١) الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهما : كل ما حرمتموه على الأرض يكون محرما في السماء ، وكل ما حللتموه على الأرض يكون محللا في السماء.

وفي الباب السادس عشر من إنجيل متّى أنه قال هذا القول لباطرة وحده.

قال أبو محمد : وهذا تناقض عظيم ، كيف يكون التحليل والتحريم للحواريين ، أو لباطرة مع قوله إنه لم يأت لتبديل التوراة لكن لإتمامها ..؟ وأنه من نقض عهدا من عهودها صغيرا دعي في ملكوت السموات صغيرا ، وأن السماء والأرض تبيدان قبل أن تبيد من التوراة «يا» واحدة أو حرف واحد ، ولئن كان صدق في هذا فإن في نص التوراة أن الله قد لعن من صلب في خشبة ، وهم يقولون إنه صلب في خشبة ، ولا شك في أن باطرة وشمعون أخوا يوسف ، وأندرياش أخو باطرة ، وفليش وبولش صلبوا في الخشب. فعلى قول المسح عليه‌السلام لا يبيد شيء من التوراة حتى يتم جميعها ،

__________________

(١) أو : الأسخريوطي.

٢٧١

فكل هؤلاء ملعونون بلعنة الله تعالى. فاعجبوا لضلال هذه الفرقة المخذولة ، فما سمع بأطمّ من هذه الفضائح أبدا.

فصل

وفي الرابع من إنجيل متّى : أن المسيح قال لهم أنا أقول لكم : كل من سخط على أخيه بلا سبب فقد استوجب القتل ، وإن أضرت إليك عينك اليمنى فافقأها وأذهبها عن نفسك ، فذهابها عنك أحسن من إدخال جميع جسدك الجحيم. وإن أضرّت يدك اليمنى إليك فابرأ منها ، فذهابها منك أحسن من إدخال جميع جسدك النّار.

قال أبو محمد : وهذه شرائع يقرّون أن المسيح عليه‌السلام أمرهم بها كلهم بلا خلاف من أحد منهم لا يرون القضاء بشيء منها ، فهم على مخالفة المسيح بإقرارهم ، وهم لا يرون الختان ، والختان كان ملة المسيح ، وكان مختونا. والمسيح وتلاميذه لم يزالوا إلى أن ماتوا يصومون صوم اليهود ، ويفصحون فصحهم ، ويلتزمون السبت إلى أن ماتوا ، وهم قد بدّلوا هذا كله ، وجعلوا مكان السبت الأحد وأحدثوا صوما آخر بعد أزيد من مائة عام بعد رفع المسيح ، فكفى بهذا كله ضلالا وكفرا ، وليس منهم أحد يقدر على إنكار شيء من هذا.

فإن قالوا : إن المسيح أمرهم باتباع أكابرهم ، قلنا : لا عليكم ، أرأيتم لو أن بطارقتكم اليوم أجمعوا على إبطال ما أحدثته بطارقتكم بعد مائة عام من رفع المسيح وأحدثوا صياما آخر ويوما آخر غير يوم الأحد وفصحا آخر ، وردّوكم إلى ما كان عليه المسيح من تعظيم السبت وصوم اليهود وفصحهم أكان يلزمكم اتباعهم؟ فإن قالوا : لا ، قلنا : ولم؟ وأي فرق بين اتباع أولئك ، وقد خالفوا ما مضى عليه الحواريّون ، وبين اتباع هؤلاء فيما أحدثوه آنفا؟ فإن قالوا : إن أولئك لعنوا ومنعوا من تبديل ما شرعوا. قلنا لهم : وأيّ لعن وأي منع أعظم من منع المسيح من تبديل شيء من عهود التوراة؟ ثم قد بدّله من أطعتموه في تبديله له ، فقد صار منع من بعد المسيح أقوى من منع المسيح.

وإن قالوا : نعم كنا نتبعهم. أقرّوا أن دينهم لا حقيقة له ، وأنه إنما هو اتباع ما شرعه أكابرهم من تبديل ما كانوا عليه. ويقال لهم : أرأيتم إن أحدث بعض بطارقتكم شرائع وأحدث الآخرون منهم شرائع أخرى ، ولعنت كل طائفة منهم من عمل بغير ما شرعت ، كيف تكون الحال؟ فأيّ دين أنتن وأوسخ ، أو أضل أو أفسد ، من دين هذه

٢٧٢

صفته؟ ولقد كان لهم فيما أوردناه في هذا الفصل كفاية في بطلان كل ما هم عليه لو كان لهم مسكة عقل ، وحق لكل دين مرجعه إلى متّى الشرطي ويوحنا المستخف ، ومارقش المرتدّ ولوقا الزنديق ، وباطرة اللعين ، وبولش المدسوس للإضلال لهم في دينهم أن تكون هذه صفته ، والحمد لله على عظيم نعمته علينا.

فصل

وفي الباب الخامس من إنجيل متّى : أن المسيح عليه‌السلام قال لهم : ليكن دعاؤكم على ما أصف لكم : يا أبانا السماوي تقدس اسمك. ثم قال بعد ذلك : وقد علم أبوكم أنكم ستحتاجون إلى جميع هذا. وفي آخر الإنجيل أنه قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم. فما ترى للمسيح من البنوة لله تعالى إلا ما لسائر الناس ولا فرق ، فمن أين خصوه بأنه ابن الله دون سائرهم كلهم؟ إلا إن كذبوه في هذا القول. فليختاروا أحد الأمرين ولا بد. ثم من أين خصوا كل من سوى المسيح بأن الله تعالى إلهه ، ولم يقولوا : إن الله إلهه المسيح كما قال هو بلسانه ، فلا بدّ ضرورة من الإقرار بأن الله هو إله المسيح ، وأن سائر الناس أبناء الله أو يكذبوا المسيح في نصف كلامه ، وحسبك بهذا فسادا وضلالا. تعالى الله أن يكون أبا لأحد ، أو أن يكون له ابن لا المسيح ولا غيره ، بل هو تعالى إله المسيح ، وإله كل من هو غير المسيح أيضا.

فصل

وكثيرا ما يحكون في جميع الأناجيل في غير ما موضع أنه إذا أخبر المسيح عن نفسه سمى نفسه ابن الإنسان ، ومن المحال والحمق أن يكون إله ابن إنسان ، أو أن يكون ابن إله وابن إنسان معا ، أو أن يلد إنسان إلها ، ما في الحمق والمحال والكفر أكثر من هذا. ونعوذ بالله من الضلال.

فصل

وفي الباب التاسع من إنجيل متّى «فبينا يسوع يقول هذا ، أقبل إليه أحد أشراف ذلك الموضع وقال له : إن ابنتي توفيت وأنا أرغب إليك أن تذهب إليها ، وتمسها بيديك لتحيا» ثم ذكر أنه لما دخل بيت القائد ونظر بالنوائح والبواكي قال لهن : اسكتن فإن الجارية لم تمت ولكنها راقدة ، فاستهزأت الجماعة به. ولما خرجت الجماعة عنها دخل عليها فأخذ بيدها ثم أقامها حية. وذكر هذه القصة نفسها في

٢٧٣

الباب السابع من إنجيل لوقا ، إلا أنه قال فيها : إن أباها قال له قد أشرفت على الموت وأنه نهض معه فلقيه رسول يخبره بأن الجارية قد ماتت ، فلا تعنّه (١). وأن المسيح قال لأبيها : لا تخف وآمن فتحيا. فلما بلغ البيت لم يدخل مع نفسه في البيت إلا باطرة ويحيى ويعقوب وأبوي الجارية ، وكانت الجماعة تبكي وتلتدم فقال هم : لا تبكوا فإنها راقدة وليست ميتة ، فاستهزءوا به معرفة بموتها فأخذ بيدها ودعاها وقال : يا جارية قومي فانصرف فيها روحها ، وقامت من وقتها وأمرت بأن تطعم طعاما وحار أبوها وأمرهما ألا يعلم أحد بما فعل. وذكر مثل ذلك في الباب الخامس من إنجيل مارقش.

قال أبو محمد : في هذا الفصل مصائب جمة أحدها : كان يكفي في أنه إنجيل موضوع مكذوب أولها حكاياتهم عن المسيح أنه كذب جهارا إذ قال لهم لم تمت إنما هي راقدة ليست ميتة فإن كان صادقا في أنها ليست ميتة ، فلم يأت بآية ولا بعجيبة ، وحاشا لله أن يكذب نبي فكيف إله ..؟!! وليس لهم أن يقولوا : إن الآية هي إبراؤها من الإغماء ، لأن في نص إنجيلهم أنه قال لأبيها : آمن فتحيا ابنتك ، فلا بد من الكذب في أحد القولين.

والثانية : أن متّى ذكر أن أباها جاء إلى المسيح وهي قد ماتت وأخبره بموتها ودعاه لحييها ، ولوقا يقول : إن أباها أتى إلى المسيح وهي مريضة لم تمت وأتى به ليبرئها بعد ، وأن الرسول لقيه في الطريق وقال له : لا تعنّه فقد ماتت ، فأحد النذلين كاذب بلا شك ، فعليهما لعائن الله وسخطه فلا يجوز أخذ الدين عن كذاب.

والثالثة : انفراد المسيح عن الناس عند مجيئه بهذه الآية حاشا أبويها وثلاثة من أصحابه ، ثم استكتامه إياهم ذلك ، والآيات لا يطلب لها الخلوات ولا تستر عن الناس ، وفي الأناجيل مثل هذا كثير ، من أنه لم يقدر في بعض الأوقات على آية مرة بحضرة بلاطس ، ومرة بحضرة اليهود ، وأنه قال لمن طلب منه آية : إنكم لا ترون آية إلا آية يونس عليه‌السلام إذ بقي في بطن الحوت ثلاثا ، وما كان هكذا فإنما هي أخبار مسترابة وكذبات مفتعلة ، ونقل عن من لا خير فيه ، وبالله تعالى التوفيق.

فصل

وفي الباب العاشر من إنجيل متّى أن المسيح جمع إلى نفسه اثني عشر رجلا

__________________

(١) أي لا تجهد نفسك بالذهاب إليها فإنها قد ماتت.

٢٧٤

من تلاميذه ، وأعطاهم سلطانا على الأرواح النجسة ، أن ينفوها وأن يبرءوا كل مرض وهذه أسماؤهم :

أولهم شمعون المسمّى باطرة ، وأندرياش أخوه ، ويعقوب بن سيذاي ، ويحيى أخوه ، وفلبش وبرتلوما وطوما ومتّى بن الجابي ويعقوب ويهوذا أخوه ، وشمعون الكنعاني ، ويهوذا الاشكريوطا الذي دل عليه بعد ذلك فبعث يسوع هؤلاء الاثني عشر (١) ، وقال لهم : لا تسلكوا في سبيل الأجناس ، ولا تدخلوا مدائن السامريين ، ولكن اختصروا إلى الضأن التالفة من بني إسرائيل.

ففي هذا الفصل طامتان إحداهما : قوله : إنه أعطى أولئك الاثني عشر وسماهم بأسمائهم كلهم سلطانا على الأرواح النجسة ، وأن يبرءوا كل مريض ، وسمى فيهم يهوذا ولم يدع للإشكال وجها ، بل صرح بأنه الذي دلّ عليه بعد ذلك اليهود حتى أخذوه وصلبوه بزعمهم ، وضربوه بالسياط ، ولطموه واستهزءوا به ، وكذبوه لعنهم الله تعالى ، فكيف يجوز أن يقرب الله تعالى ويعطى السلطان على الجن والإبراء من كل مرض من يدري أنه هو الذي يدل عليه ويكفر بعد ذلك؟ هذا مع قول يوحنا ـ من سرقة يهوذا وخبث باطنه في إنجيله ـ أن يهوذا المذكور كان سارقا ، وأنه كان يخطف كل ما يهدى إلى المسيح ، ويذهب به. فلا بد ضرورة من أحد وجهين بلا ثالث أصلا :

إما أن يكون المسيح اطلع على ما اطلع عليه يوحنا من سرقة يهوذا وخبث باطنه ، وأعطاه مع ذلك الآيات المعجزات ، وجعله واسطة بينه وبين الناس ، وجعل له أن يحرم ويحلّل فيكون ما حلل وحرم محرّما ومحللا في السموات ، فهذه مصيبة وترفيع بالكفار ، وتقديم لمن لا يستحق وسخرية بالدّين ، وليس هذا صفة إله ولا من فيه خير. أو يكون خفي على المسيح من خبث نية يهوذا ما عرف غيره ، فهذه عظيمة من إله يجهل ما خلق. فهل سمع قط بأحمق من هذه القصص وممن يعتقدها حقّا ..؟!!

والثانية : قوله لا تسلكوا في سبيل الأجناس ، ولا تدخلوا مدائن السامريين ، واختصروا إلى الضأن المبددة من نسل إسرائيل ، وأنه لم يبعث إلا إلى الضأن التالفة من بني إسرائيل ، وهذا إنما أمرهم بأن يكملوه بعد رفعه بإقرارهم كلهم أنه طول كونه في الأرض لم يفارقه أحد منهم ، ولا نهضوا داعين إلى بلد آخر البتة ، فقد خالفوا أمره

__________________

(١) أسماؤهم كما وردت في أناجيلهم : بطرس ، وأخوه أندراوس ، فيلبّس ، برتلماوس ، توما ، متّى ، يعقوب بن حلفى ، لباوس الملقّب تداوس ، سمعان القانوني ، ويهوذا الأسخريوطي الذي دلّ عليه وأسلمه.

٢٧٥

وعصوه ، لأنهم لم يذهبوا إلا إلى الأجناس ، فهم عصاة لله تعالى فساق بإقرارهم.

فصل

وفي هذا الباب نفسه أن المسيح قال لتلاميذه : وإذا طلبتم في هذه المدينة فاهربوا إلى أخرى آمّين ، أقول لكم : لا تستوعبوا مدائن بني إسرائيل ، حتى يأتي ابن الإنسان ـ يعني رجوعه إلى الدنيا ـ ظاهرا بعد رفعه إلى جميع الناس.

وفي الباب السابع من إنجيل مارقش ، وفي أول الباب التاسع من إنجيل لوقا ، أن المسيح قال لهم : إن من هؤلاء الوقوف بعض قوم لا يذوقون الموت ، حتى يروا ملك الله مقبلا بقدرة.

قال أبو محمد : وكذب هذا القول قد ظهر علانية ، فقد استوعبوا مدائن بني إسرائيل وغيرها ، ولم يروا ما وعدهم به من رجوعه بالقدرة علانية قبل أن يموت كل من بحضرته يومئذ ، وحاشا لله أن يكذب نبي ، فكيف إله ..؟!! وفي هذا الفصل وحده كفاية لو كان عقل في أن الذين كتبوا هذه الأناجيل كانوا كذابين قوم سوء. فإن قالوا : فإن في صحيح حديثكم : «أن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وأشار إلى غلام بحضرته من بني النجار : إن استكمل هذا عمره أدرك الساعة ، فمات ذلك الغلام في حد الصبا وأنه كان يقول للأعراب إذا سألوه متى تقوم الساعة؟ فيشير إلى أصغرهم ويقول : إن استكمل هذا عمره لم يأته الموت حتى تقوم الساعة» (١) قلنا : هذا الغلط غلط فيه قتادة ومعبد بن هلال ، فحدثا به عن أنس على ما توهماه من معنى الحديث ، ورواه ثابت بن أسلم (٢) ،

__________________

(١) نصّ الحديث كما ورد في الصحاح عن أنس : أن رجلا من أهل البادية أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة قائمة؟ قال : «ويلك وما أعددت لها؟» قال : ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله. قال : «إنك مع من أحببت». فقلنا : ونحن كذلك؟ قال : «نعم». ففرحنا يومئذ فرحا شديدا ، فمرّ غلام للمغيرة وكان من أقراني ، فقال : «إن أخّر هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة». رواه البخاري في الأدب باب ٩٥ ، واللفظ له ، والرقاق باب ٤٢. ومسلم في الفتن حديث ١٣٦ ـ ١٣٩. وأحمد في المسند (٣ / ١٩٢ ، ٢١٣ ، ٢٢٨ ، ٢٧٠ ، ٢٨٣).

(٢) كانت في الأصل : «مسلم» والصواب ما أثبتناه. وهو ثابت بن أسلم أبو محمد البصري البناني القرشي المتوفى سنة ١٢٧ ا ه وله من العمر ٨٦ سنة. ثقة عابد من الطبقة الرابعة. أخرج له أصحاب الصحاح الستّة. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (٢ / ٢) وتقريب التهذيب (١ / ١١٥) وخلاصة تهذيب الكمال (١ / ١٤٧) والكاشف (١ / ١٧٠) والثقات (٤ / ٨٩) وتاريخ البخاري الكبير (٢ / ١٥٩) وتاريخ البخاري الصغير (١ / ٢٦١ ، ٣١٨) والجرح والتعديل (٢ / ١٨٠٥) وميزان الاعتدال (١ / ٣٦٢) ولسان الميزان (٧ / ١٨٥) وتذكرة الحفاظ (١ / ١٢٥) وحلية الأولياء

٢٧٦

البناني عن أنس كما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظه فقال : «قامت عليكم ساعتكم» وهكذا رواه الثقات أيضا عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه ثابت عن أنس وقالت : إنه عليه‌السلام قال إن هذا لا يستوفي عمره حتى تقوم عليه ساعتكم يعني وفاة أولئك المخاطبين له ، وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ، ولا خلاف من أن ثابتا البناني أثقف لألفاظ الأخبار من قتادة ومعبد ، فكيف وقد وافقته أم المؤمنين ...؟ ونحن لا ننكر غلط الراوي إذا قام البرهان على أنه خطأ ، وقد صح في القرآن والأخبار الثابتة من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وابنه وغيرهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يدري أحد متى تقوم الساعة (١) ، غير الله تعالى ، ولو قال النصارى واليهود مثل هذا في نقلة كتبهم ما عنفناهم ، ولا أنكرنا عليهم وجود الغلط في نقلهم ، إنما ننكر عليهم أن ينسبوا ـ يعني اليهود والنصارى ـ إلى الله تعالى الكذب البحت ، ويقطعون أنه من عنده تعالى وننكر على النصارى أن يجعلوا من صح عنه الكذب معصوما ، يأخذون عنه دينهم ، وأن يحققوا كل خبر متناقض وكل قضية يكذّب بعضها بعضا. ونعوذ بالله من الخذلان.

فصل

وفي هذا الباب نفسه أن المسيح قال لهم : لا تحسبوا أني جئت لأدخل بين أهل الأرض الصلح إلا السيف وإنما قدمت لأفرق بين المرء وزوجه وابنه ، وبين الابنة وأمها ، وبين الكنّة وختنتها ، وأن يعادي المرء أهل خاصته.

وفي الباب الثاني عشر من إنجيل لوقا أن المسيح قال لهم : إنما قدمت لألقي في الأرض نارا وإنما إرادتي إشعالها ولنغطس فيها جميعها ، وأنا بذلك منتصب إلى تمامه أتظنون أني أتيت لأصلح بين أهل الأرض؟ ولكن لأفرق بينهم فيكون خمسة مفترقين في بيت ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة ، الأب على الولد والولد على الأب والابنة على الأم والأم على الابنة ، والختنة على الكنة والكنة على الختنة. فهذان فصلان كما ترى.

__________________

(٢ / ٣١٨) وسير أعلام النبلاء (٥ / ٢٢٠) والوافي بالوفيات (١٠ / ٤٦١).

(١) قال تعالى في سورة الأعراف الآية ١٨٧ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

٢٧٧

وفي الباب التاسع من إنجيل لوقا أن المسيح عليه‌السلام قال لهم : لم نبعث لتلف الأنفس لكن لسلامتها.

وفي الباب العاشر من إنجيل يوحنا أن المسيح قال : من سمع كلامي ولم يحفظه فلست أحكم أنا عليه فإني لم آت لأحكم على الدنيا وأعاقبها لكن لأسلم أهل الدنيا.

قال أبو محمد : هذان الفصلان ضد الفصلين اللذين قبلهما ، وكل واحد من المعنيين يكذب الآخر صراحا ، فإن قيل : إنه إنما أراد أنه لم يبعث لتلف الأنفس التي آمنت به. قلنا : قد عمّ ولم يخصّ ، وبرهان بطلان تأويلكم هذا من أنه إنما عنى أنه لم يبعث لتلف النفوس المؤمنة به أنّه نص هذا الفصل في الباب التاسع من إنجيل لوقا ، هو كما نورده إن شاء الله تعالى قال عن المسيح : إنه بعث بين يديه رسلا وجعلوا طريقهم على السامرية ليعدوا له بها فلم يقبلوه لتوجهه إلى برشلام ، فلما رأى ذلك يوحنا ويعقوب قالا له : يا سيدنا أيوافقكم أن تدعو فتنزل عليهم نار من السماء وتحرق عامتهم كما فعل إلياس ..؟ فرجع إليهم وانتهرهم وقال : الذي أنتم له أرواح لم يبعث الإنسان لتلف الأنفس لكن لسلامتها. ثم توجهوا إلى حصن آخر.

قال أبو محمد : فارتفع الإشكال وصح أنه لم يعن بالأنفس التي بعث لسلامتها بعض النفوس دون بعض ، لكن عنى كل نفس كافرة به ومؤمنة به لأنه كما تسمعون إنما قال ذلك إذ أراد أصحابه هلاك الذين لم يقبلوه ، فظهر تكاذب الكلام الأول ، وحاشا لله أن يكذب المسيح عليه‌السلام ، لكن الكذب بلا شك من الفساق الأربعة الذين كتبوا تلك الأناجيل المحرّفة المبدلة.

ثم في هذا الفصل نصّ جليّ على أنه مبعوث مأمور ، فصح أنه نبي كما يقول أهل الحق إن كانوا صدقوا في هذا الفصل وبالله تعالى التوفيق.

فصل

وفي الباب المذكور نفسه أن المسيح قال : من قبل نبيّا على اسم نبي فإنه يكافأ بمثل أجر النبي.

قال أبو محمد : وهذا كذب ومحال ، لأنه لا تفاضل للناس عند الله تعالى في الآخرة ، إلا بأجورهم التي يعطيهم الله تعالى فقط ، لا بشيء آخر أصلا ، فمن كان أجره فوق أجر غيره فهو بالضرورة أفضل منه ، والآخر بلا شك دون ، ومن كان أجره مثل أجر

٢٧٨

آخر فهما بلا شك سواء في الفضل ، هذا يعلم ضرورة بالحس ، فلو كان كل من اتبع نبيا له مثل أجر النبي لكان أهل الإيمان كلهم في الآخرة سواء لا فضل لأحد على أحد عند الله تعالى ، وهذا يعلم أنه كذب ومحال بالضرورة ، ولو كان هذا لوجب أن يكون أجر كل كلب من النصارى مثل أجر باطره والتلاميذ وبولش ومارقش ولوقا ، وليس منهم أحد يقول بهذا ، ولا يدخله في الممكن ، فكلهم متفق على أن إلههم كذب ، وحاشا لله من أن يكذب نبي من أنبيائه ، أو رجل صادق من أهل الإيمان وبالله تعالى التوفيق.

فصل

الكلام في يحيى عليه‌السلام

وفي الباب الثاني عشر من إنجيل متّى أن المسيح عليه‌السلام قال وقد ذكر يحيى بن زكريا : أنا أقول لكم إنه أكثر من نبي وهو الذي قيل فيه وأنا باعث ملكي بين يديك ليعد لك طريقك.

قال أبو محمد : في هذا الفصل كذب في موضعين.

أحدهما : قوله في يحيى إنه أكثر من نبي وهذا محال ، لأنه لا يخلو يحيى وغير يحيى من إلا أن يكون رسولا نبيا ، ويحيى رسول بإجماعهم ، وإن كان لم يوح إليه فهذه منزلة يستوي فيها الكافر والمؤمن ، ولا يجوز أن يكون من لا يوحي الله تعالى إليه مثلا لمن استخصه عزوجل بالوحي إليه ، فكيف أن يكون أكثر منه ..؟

والكذبة الثانية : قوله إن يحيى هو الذي قيل فيه وأنا باعث ملكي بين يديك لأن يحيى عليه‌السلام على هذا ملك ، وهذا كذب بحت لأنه إنسان ابن رجل وامرأة ، عاش إلى أن قتل ، وليس هذا صفة الملك ، ويحيى لم يكن ملكا. وفي هذا الفصل الذي بعد هذا أنه قال : إنّ يحيى آدمي فهذا القول كذب على كل حال ، وحاشا لله أن يكذب نبي ، ولا رجل فاضل ، وصح أن متّى الشرطي النذل هو الذي كذب ، فعليه ما على الكذابين أمثاله.

فصل

وفي الباب المذكور ، أن المسيح قال لهم : آمين أقول لكم لم يولد أحد من الآدميين أشرف من يحيى المعمّد ، ولكن من كان صغيرا وفي ملكوت السماء فهو أكبر منه.

٢٧٩

قال أبو محمد : تأملوا هذا الفصل تروا مصيبة الدهر فيهم ، وقرة عيون الأعداء ، وقولا لا يمكن أن يقوله ولا ينطق به صبيّ يرجى فلاحه ، ولا أمة وكفاء (١) إلا أن تكون مدخولة العقل. أثبت أنه لم يولد في الآدميين أشرف من يحيى وإذا كان كما زعم أن الصغير في ملكوت السماء أكبر من يحيى ، فكل مؤمن يدخل ملكوت السماء ضرورة فهو أفضل من يحيى ، فوجب من هذا أن كل مؤمن من بني آدم فهو أفضل من يحيى ، وأن يحيى أرذل وأصغر من كان مؤمن. فما هذا الهوس ..؟ وما هذا الكذب وما هذا العبارة (٢) السمجة في الدين ..؟ وكم هذا التناقض ..؟ والله ما قال المسيح قط شيئا من هذه الرعونة ، وما قالها إلا الكذاب متّى ونظراؤه عليهم اللعنة ، فلقد كانوا في غاية الوقاحة والاستخفاف بالدين.

فصل

وفي الباب المذكور : أن المسيح قال لهم : كل كتاب ونبوة فإن منتهاها إلى يحيى.

قال أبو محمد : في هذا الفصل كذبتان على صغره. إحداهما : قوله قيل : إن يحيى أكثر من نبي مع ما في الإنجيل من أن يحيى سئل فقيل له أنبيّ أنت؟ قال : لا. وقال هاهنا : إن كل نبوة فمنتهاها إلى يحيى ، فمرة ليس هو نبيا ، ومرة هو نبي الأنبياء ، ومرة هو أكثر من نبي ، تبارك الله كم هذا التخليط والكذب الفاحش ..؟!!

والأخرى قوله فيه : إن كل نبوة فمنتهاها إلى يحيى ، وليس بعد النهاية نبي فهو على هذا آخر الأنبياء.

وفي الباب الرابع عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لهم : أنا باعث إليكم أنبياء وعلماء وستقتلون منهم وتصلبون. فقد كذب بأن يحيى آخر الأنبياء ، ومنتهى النبوة إليه ، والنصارى مقرّون بأنه قد كان بعده الأنبياء ، وأن نبيا أتى إلى بولش وأنذره بأنه سيصلب. ذكر ذلك لوقا في الافركسيس. فقد حصلوا على تكذيب المسيح في قوله وفي بعض هذا كفاية.

__________________

(١) الوكفاء : الواقعة في العيب والإثم. وفي نسخة أخرى : «وكعاء» بالعين ، والوكعاء : الحمقاء. انظر المعجم الوسيط (ص ١٠٥٤).

(٢) كذا في الأصل ، ولعل معناها «العار» وهو كل ما يلزم منه سبّة أو عيب (المعجم الوسيط : ص ٦٣٩). وفي نسخة أخرى «الغباوة» وهي أنسب بالمقام.

٢٨٠