الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

الاعتراض الثالث :

وقالوا أيضا : إن كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه :

إمّا أن يكون مثلها من جميع الوجوه.

وإمّا أن يكون خلافها من جميع الوجوه.

وإمّا أن يكون مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه.

قالوا : فإن كان مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثا مثلها ، وهكذا في محدثه أيضا أبدا.

وإن كان مثلها في بعض الوجوه لزمه أيضا من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع الوجوه من الحدوث ، إذ الحدوث لازم للبعض كلزومه للكل ولا فرق.

وإن كان خلافها من جميع الوجوه فمحال أن يفعلها ، لأن هذا هو حقيقة الضد والتناقض إذ لا سبيل إلى أن يفعل الشّيء ضدّه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد.

الاعتراض الرابع :

وقالوا أيضا : لا يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة ، أو لدفع مضرة ، أو طباعا ، أو لشيء من ذلك.

قالوا : فإن كان فعله لإحراز منفعة ، أو لدفع مضرة ، فهو محل المنافع والمضار ، وهذه صفة المحدثات عندكم فهو محدث مثلها.

قالوا : وإن كان فعله طباعا فالطباع موجبة لما حدث بها فالفعل لم يزل معه.

قالوا : وإن كان فعله لا لشيء أصلا فهذا لا يعقل ، وما خرج عن المعقول فمحال.

الاعتراض الخامس :

وقالوا أيضا : لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها ، قالوا وتركها لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا. وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة.

٢١

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عوّل عليه القائلون بالدّهر قد تقصيناها لهم. ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحدا واحدا.

إفساد الاعتراض الأول

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئا حدث إلّا من شيء أو في شيء :

هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة ، أو لا يدرك شيء من الحقائق إلّا من طريق الرؤية فقط؟

فإن قالوا : إنه قد تدرك حقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه ، إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة ، وقد نفوا ذلك قبل هذا.

فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلّا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى.

فإن قالوا : لا يدرك شيء إلّا من طريق الرؤية والمشاهدة.

قيل لهم : فهل شاهدتم شيئا قط لم يزل؟

فلا بدّ من نعم أو لا. فإن قالوا لا ، صدقوا وأبطلوا استدلالهم. وإن قالوا : نعم ، كابروا وادّعوا ما لا سبيل إلى مشاهدته ، إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أوّل بلا شك ، وذو الأول هو غير الذي لم يزل ، لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ، ولا سبيل إلى أن يشاهد ما له أوّل ما لا أوّل له مشاهدة متصلة. فبطل هذا الاستدلال على كل وجه. والحمد لله رب العالمين.

إفساد الاعتراض الثاني

قال «أبو محمد» : (رضي الله عنه) : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنّه ، أو لعلّة : هذه قسمة ناقصة. وينقص منها القسم الثالث وهو الصحيح وهو أنه فعل لا لأنّه ، ولا لعلّة أصلا ، لكن كما شاء.

لأن كلا القسمين المذكورين أوّلا ، وهما : أنّه فعل لأنّه ، أو لعلّة ، فقد بطلا بما قدّمنا هنالك ، لأن العلّة توجب إما الفعل وإمّا الترك ، وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصحّ بذلك أنّه لا علّة لفعله أصلا ، ولا لتركه البتة.

٢٢

فبطل هذا الشغب ، والحمد لله رب العالمين.

فإن قالوا : إنّ ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ، ففعله الذي هو الترك لم يزل. قلنا وبالله تعالى التوفيق : إنّ ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلا أصلا على ما نبين في إفساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى.

إفساد الاعتراض الثالث

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه : إمّا أن يكون مثلها من جميع الوجوه. أو من بعض الوجوه لا من كلّها ، أو خلافها من جميع الوجوه .. إلى انقضاء كلامهم .. بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه ، وإدخالكم ـ على هذا الوجه ـ أنه حقيقة الضد والتناقض والضد لا يفعل ضدّه ، كما لا تفعل النار التبريد (١) إدخال فاسد. لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضدّ لخلقه ، لأن الضد : ما حمل على التضاد ، والتضادّ : هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد ، فإذا وقع أحد الضدّين ارتفع الآخر (٢).

وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى.

وإنما التضادّ كالخضرة والبياض (٣) اللذين يجمعهما اللون.

أو الفضيلة والرذيلة اللتين تجمعهما الكيفية والخلق.

__________________

(١) في هذا المقطع تقديم وتأخير ، ومعنى العبارة هكذا : وإدخالكم هذه المقولة على الوجه الذي صورتموه أنه حقيقة الضدّ والتناقض ، إدخال فاسد لأن الضد لا يفعل ضدّه كما لا تفعل النار التبريد.

(٢) يريد بالضدّين هنا المتناقضين ، وتعريف النقيضين في علم المنطق أنهما اللذان لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا في نفس الوقت ونفس الظروف ، فوجود أحدهما يعني ارتفاع الآخر ، وعدم وجود أحدهما يعني بالضرورة وجود الآخر. وهذا مثل «الوجود» و «اللاوجود» أو «الوجود» و «العدم». ومثل كل شيء يعبّر عنه بصيغة الإيجاب ، ثم تسلب عنه صفة الإيجاب بإضافة لفظة «اللا» إليه. أما الضدّان فهما صفتان لا يمكن أن تجتمعا معا في نفس الوقت ، ولكن قد يرتفعان معا ، فوجود أحدهما ليس دليلا على انعدام الآخر ، كما أن انعدام أحدهما ليس دليلا على وجود الآخر. وهذا مثل الأبيض والأسود ، والحرارة والبرودة ، والطول والقصر .... الخ. فلا يمكن أن يكون نفس الشيء أبيض أسود ، أو حارا باردا ، أو طويلا قصيرا في نفس الوقت ، ولكن يمكن أن يكون لا أبيض ولا أسود ، ولا حارا ولا باردا ، ولا طويلا ولا قصيرا في نفس الوقت ، بل بين البياض والسواد والحرارة والبرودة والطول والقصر.

(٣) راجع الحاشية السابقة.

٢٣

ولا يكون الضدّان إلّا عرضين تحت جنس (١) واحد ولا بدّ.

وكل هذا منفي عن الخالق عزوجل ، فبطل بالضرورة أن يكون عزوجل ضدّا لخلقه إذ ليس كلّ خلاف ضدّا ، فالجوهر خلاف العرض من كل وجه ـ حاشا الحدوث فقط (٢) ـ وليس ضدّا له.

ويقال أيضا لمن قال هذا القول : هل تثبت فاعلا وفعلا على وجه من الوجوه؟ أو تنفي أن يوجد فاعل وفعل البتة؟

فإن نفى الفاعل والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن (٣).

ومن دفع هذا كان في نصاب من لا يكلّم (٤).

وإن أثبت الفعل والفاعل فيما بيننا ، قيل له : هل يفعل الجسم إلّا الحركة والسكون؟ فلا بدّ من نعم (٥).

والحركة والسكون خلاف الجسم ـ وليسا ضدّا له ، إذ ليسا معه تحت جنس واحد أصلا ، وإنما يجمعهما وإيّاه الحدوث فقط.

فلو كان كلّ خلاف ضدّا لكان الجسم فاعلا لضدّه ، وهو الحركة أو السكون.

وهذا نفس ما أبطلوا.

فصحّ بالضرورة أنه ليس كل خلاف ضدّا. وصحّ أن الفاعل يفعل خلافه ، لا بدّ من ذلك. فبطل اعتراضهم ، والحمد لله رب العالمين.

إفساد الاعتراض الرابع

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ويقال لمن قال : لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة ، أو لدفع مضرة ، أو طباعا (٦) أو لا لشيء من

__________________

(١) الجنس هو الذي يجمع الأنواع ، والنوع يجمع الأفراد. فقولنا مثلا «حيوان» هو جنس يجمع تحته أنواعا مثل «الإنسان» فهو نوع ، و «الأسد» وهو نوع ، و «النسر» وهو نوع. ثم هذه الأنواع تجمع تحتها الأفراد ، مثل زيد وعمرو من نوع الإنسان ، أو هذا الأسد وهذا النسر من نوعيهما.

(٢) الجوهر ثابت والعرض متغير.

(٣) أي أنه أنكر أن المشي والقيام والقعود والتحرك .... الخ ، كلها أفعال.

(٤) لأنّه أنكر ما هو ثابت بديهة.

(٥) هذا إذا اعتبرنا أن السكون فعل. ويمكن أن يقال إن الحركة فعل ، والسكون لا فعل.

(٦) أي ضرورة. كما يقول أصحاب نظرية الفيض الذين يعتبرون أن الخلق حدث بالفيض ضرورة

٢٤

ذلك ، إلى انقضاء كلامهم :

أمّا الفعل لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون (١) ، وأمّا فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين (٢).

وكل صفات المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو خالق لكل ما دونه.

وأمّا القسم الثالث : وهو أنه فعل لا لشيء من ذلك فهذا هو قولنا (٣).

ثم نقول لمن قال : «إنّ الفعل لا لشيء من ذلك أمر غير معقول» : «ما ذا تعني بقولك غير معقول؟

أتريد أنه لا يعقل حسّا أو مشاهدة؟ أم تقول : إنه لا يعقل استدلالا؟ فإن قلت : إنه لا يعقل حسّا ومشاهدة ، قلنا لك : صدقت ، كما أن أزلية الأشياء لا تعقل حسّا ومشاهدة. وإن قلت : إنه لا يعقل استدلالا. كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل (٤) ، والدّعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة ، فالاستدلال بها ساقط ، فكيف والفعل لا لشيء من ذلك متوهم ممكن متشكل غير داخل في الممتنع (٥). وما كان هكذا فالمانع منه مبطل ، والقول به يعقل. فسقط هذا الاعتراض.

ثم نقول : لما كان الباري تعالى ـ بالبراهين الضرورية ـ خلافا لجميع خلقه من جميع الوجوه ـ كان فعله خلافا لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه ، وجميع خلقه لا يفعل إلا طباعا ، أو لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ـ فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك. وبالله التوفيق.

إفساد الاعتراض الخامس

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ويقال لمن قال إنّ ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو من أن يكون جسما أو عرضا إلى منتهى كلامهم :

__________________

وليس اختيارا.

(١) كالإنسان الذي قد يفعل الفعل وقد لا يفعله لأنه مختار.

(٢) كالملائكة والشياطين ، فالملائكة لا تفعل إلا الخير لأنها طبعت على ذلك ، والشياطين بالعكس.

(٣) فالله تعالى خلق الخلق لا لجلب منفعة ولا لدفع مضرة ولا ضرورة ، وإنما خلقه لحكمة اقتضتها مشيئته.

(٤) فيقال لهم : أوردوا استدلالكم على ذلك.

(٥) فمن يقول إنه ممتنع فليسق برهانه. وطالما أثبتنا أنه لم يفعل لجلب منفعة أو لدفع مضرة أو طبعا ، يبقى لدينا هذا الاحتمال الأخير ضرورة لأن التقسيم المنطقي عمّ جميع الاحتمالات فلم يبق احتمال آخر.

٢٥

إنّ هذه قسمة فاسدة بينة العوار (١) ، وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق (٢) ، وترك الفعل ليس طويلا ، ولا عريضا ، ولا عميقا (٣) ، فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ، والعرض هو المحمول في الجسم ، وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولا فليس عرضا ، فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ولا عرضا ، وإنما هو عدم ، والعدم ليس معنى ولا هو شيئا ، وترك الله تعالى للفعل ليس فعلا البتة بخلاف صفة خلقه ، لأن الترك من المخلوق للفعل فعل.

برهان ذلك : أن ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة ، كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون. وتارك الأكل ، لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضا ، أو في مباعدة بعضها بعضا ، وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول.

وكتارك القيام لا يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره.

فصحّ أن فعل الباري تعالى بخلاف فعل خلقه ، وأن تركه للفعل ليس فعلا أصلا. فبطل استدلالهم ، وبالله التوفيق.

البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ، ولم يبق لهم شغب أصلا بعون الله وتأييده ، فنحن مبتدئون بتأييده ـ عزوجل ـ في إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكن ، وتحقيق أن له محدثا لم يزل لا إله إلا هو.

برهان اوّل

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فنقول ـ وبالله التوفيق ـ إن كل شخص في العالم ، وكل عرض في شخص ، وكل زمان ، وكل ذلك متناه ذو أوّل نشاهد ذلك حسا وعيانا ، لأن تناهي الشخص ظاهر بمساحته بأول جرمه وآخره ، وأيضا بزمان وجوده.

__________________

(١) العوار (بضم العين) : العيب (المعجم الوسيط : ص ٦٣٦).

(٢) هذه هي الأبعاد الثلاثة التي يتكون منها الجسم : الطول ، والعرض ، والعمق. أما المسطحات فليس لها سوى بعدين ، وهما الطول والعرض.

(٣) لأن الفعل وترك الفعل من جنس آخر غير جنس الجسم ، كما سبق له أن ذكر ذلك.

٢٦

وتناهي الزمان موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي ، وفناء كل وقت بعد وجوده ، واستئناف آخر يأتي بعده ، إذ كل زمان نهايته الآن (١) ، وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي ، وما بعده ابتداء للمستقبل ، وهكذا أبدا يفنى زمان ويأتي آخر.

وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ، ذات أوائل كما قدمنا.

وكل جملة أشخاص فهي مركبة من أشخاص متناهية بعددها ، وذوات أوائل كما قدمنا ، وكل مركب من أجزاء متناهية ذات أوائل فليس هو شيئا غير أجزائه ، إذ الكل ليس هو شيئا غير الأجزاء التي ينحل إليها ، وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل ، فالجمل كلها بلا شك متناهية ذات أوائل ، والعالم كله إنما هو أشخاصه ، ومكانه ، وأزمانها ، ومحمولاتها ، ليس العالم كله شيئا غير ما ذكرناه ، فالعالم كله متناه ذو أول ولا بدّ.

فإن كانت أجزاؤه كلها متناهية ذات أول بالمشاهدة والحس ، وكان هو غير ذي أول. وقد أثبتنا بالضرورة والعقل والحس أنه ليس شيئا غير أجزائه فهو إذا ذو أوّل ، لا ذو أوّل ، وهذا عين المحال.

ويجب من ذلك أيضا أن لأجزائه أوائل محسوسة ، وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول ، فأجزاؤه إذن «لها أول ليس لها أول» وهذا محال وتخليط (٢).

فصحّ بالضرورة أن للعالم أولا ، إذ كل أجزائه لها أول ، وليس هو شيئا غير أجزائه. وبالله تعالى التوفيق.

برهان ثان

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : كل موجود بالفعل فقد حصره العدد ، وأحصته طبيعته.

ومعنى الطبيعة وحدّها : هو أن تقول : الطبيعة هي القوة التي تكون في الشيء ، فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه.

وإن أوجزت قلت : هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه ، وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة ، إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر له ، إذ ليس

__________________

(١) قوله : «كل زمان نهايته الآن» لعل الصواب أن يقول : «كل زمان مضى نهايته الآن».

(٢) وهو التناقض بعينه.

٢٧

معنى الحصر والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصى والمحصور ، والعالم موجود بالفعل ، وكل محصور بالعدد محصى بالطبيعة فذو نهاية ، فالعالم كله ذو نهاية ، وسواء في كل ذلك ما وجد في مدة واحدة أو في مدد كثيرة إذ ليست تلك المدة إلّا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة ، فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشياء التي ركب منها ، فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول. فصحّ من كل ذلك أنّ ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل ، وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبدا ، لأن وقوع البعديّة فيه هو وجود نهاية له.

وما لا نهاية له فلا بعد له ، فعلى هذا لا يوجد شيء أبد الآبدين. والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية.

وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [سورة الرعد : ٨].

برهان ثالث

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه ، إذ معنى الزيادة إنّما هو أن نضيف إلى ذي النهاية شيئا من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته.

فإن كل الزمان لا أول له يكون به متناهيا في عدده الآن ، فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئا.

وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتد بالله (١) هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن لم يكن هذا صحيحا فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة في كل ثلاثين سنة ـ وزحل لم يزل يدور ـ دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غير خمسين دورة ـ والفلك لم يزل يدور ـ وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك. فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة ، وهذا محال لما قدمنا.

__________________

(١) هو آخر ملوك بني أمية بالأندلس أبو بكر المعتدّ بالله هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر. توفي سنة ٤٢٨ ه‍. انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (٩ / ٩٧).

٢٨

ولأن ما لا نهاية له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه ، فوجبت النهاية في الزمان من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها.

ويجب أيضا من ذلك : أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص (١) الإنس مضافة إلى أشخاص (٢) الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ، ولو كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أنّ ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له ، وهذا محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن.

وأيضا فلا شك في أنّ الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا.

ولا شك أيضا في أن الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كلّ للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ، ولما بعده إلى وقتنا هذا.

فلا يخلو الحكم في هذه القضية من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها :

إما أن يكون الزمان مذ كان موجودا إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة.

وإمّا أن يكون أقل منه.

وإمّا أن يكون مساويا له.

فإن كان الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا أقل من الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة فالكل أقل من الجزء ، والجزء أكثر من الكل ، وهذا هو الاختلاط وعين المحال. إذ لا يخيل على أحد أن الكل أكثر من الجزء ، وهذا ما لا شك فيه ببديهة العقل وضرورة الحس.

وإن كان مساويا له ، فالكل مساو للجزء ، وهذا عين المحال والتخليط.

وإن كان أكثر منه ، وهذا هو الذي لا شك فيه ، فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية.

ومعنى الجزء إنما هو أبعاض الشيء ، ومعنى الكل إنما هو جملة تلك الأبعاض فالكل والجزء واقعان في كلّ ذي أبعاض. والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها ومكانها ، فالعالم كل لأبعاضه ، وأبعاضه أجزاء له ، والنهاية ـ كما

__________________

(١) أشخاص الإنس وأشخاص الخيل : أي أفرادها واحدا واحدا.

(٢) أشخاص الإنس وأشخاص الخيل : أي أفرادها واحدا واحدا.

٢٩

قدمنا ـ لازمة لكل ذي كل ، وذي أجزاء. والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكنا ، أو متحركا ، ولو فارقه لم يكن الجرم موجودا ، ولا كان الزمان أيضا موجودا ، والجرم والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه. والزمان ذو أول ، فالجرم ذو أول ، وهذا مما لا انفكاك له البتة.

وأمّا ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئا ، فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ، ولا يوصف بشيء أصلا لأنه لا وجود له بعد. فإذا وجد لزمه حينئذ ما لزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه ، من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات.

وأيضا فلا شك في أن ما وقع ووجد من الزمان إلى يومنا هذا مساو لما هو من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوسا. وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان. والمساوي لا يقع إلا في ذي نهاية ، فالزمان متناه ضرورة.

وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني (١) في هذا البرهان ، فأراد أن يعكسه على بقاء الباري عزوجل (٢) ووجودنا إياه. فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط ، لأن الباري تعالى ليس في زمان ، ولا له مدة ولا فناء لأن الزمان إنما هو حركة كلّ ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان ، أو مدة بقائه ساكنا في مكان واحد. والباري تعالى ليس متحركا ولا ساكنا ، فلا شك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا فناء ، ولا هو في مكان أصلا ، وليس هو جرما ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، ولا عددا ، ولا جنسا ، ولا نوعا ، ولا فصلا ، ولا شخصا ، ولا متحركا ، ولا ساكنا ، وإنما هو تعالى حق في ذاته ، موجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره ، واحد لا واحد في العالم سواه ، مخترع للموجودات كلها دونه ، لا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه. وبالله تعالى التوفيق.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [سورة فاطر : ١].

__________________

(١) ثابت بن محمد الجرجاني العدوي الأندلسي أبو الفتوح. نحوي أديب عالم بالمنطق. رحل إلى الأندلس وقتل بالمغرب لليلتين بقيتا من المحرم سنة ٤٣١ ه‍. من آثاره : شرح الجمل في النحو للزجاجي. انظر إنباه الرواة (١ / ٢٦٣ ، ٢٦٤) وبغية الوعاة (ص ٢١٠) وكشف الظنون (ص ٦٠٤).

(٢) أي يريد أن ينقل هذا الدليل على محدودية الزمان إلى الله تعالى.

٣٠

برهان رابع

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له ، فالإحصاء منّا له بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه ، إذ لو أحصي ذلك كله لكان له نهاية ضرورة ، فإذن لا سبيل إليه.

فكذلك أيضا هو محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى يبلغا إلينا ، وإذا كان ذلك محالا فالعدد والطبيعة إذن لم يبلغا إلينا ، وقد تيقّنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك. فإذا قد أحصى العدد والطبيعة كلّ ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا ، فكذلك الإحصاء منا إلى أوّلية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك.

وإذ ذلك كذلك فللعالم أوّل ضرورة. وبالله تعالى التوفيق.

برهان خامس

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ، ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان ، وهكذا أبدا. ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان. ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث. ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود.

وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان ، وثان بعد أوّل.

وفي صحّة هذا وجوب أوّل ضرورة. وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل ، وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن : ٢٨].

وأيضا فالآخر والأوّل من باب المضاف ، فالآخر آخر للأول ، والأول أوّل للآخر. ولو لم يكن أوّل لم يكن آخر.

ويومنا هذا بما فيه ، آخر لكل موجود قبله ، إذ ما لم يأت بعد فليس شيئا ، ولا وقع عليه بعد شيء من الأوصاف فله أول ضرورة.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو : محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمه‌الله تعالى : أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين ، وهو : «عبد الله بن عبد الله بن شنيف» فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال له ابن عقبة : إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا الوجه ، ولكن على أنّ الله تعالى ينشئ لكل ذلك بقاء محدودا ، وحركات حادثة ،

٣١

ولذّات مترادفة أبدا وقتا بعد وقت ، إلّا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك ، وإذا ثبت الأوّل فغير ممتنع تمادي الزمان حينا بعد حين أبدا بلا نهاية ، وهذا مثل العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عدّ أي شيء أبدا ، فالعدد له أول ضرورة ، يعرف ذلك بالحس والمشاهدة ، وهو قولنا واحد فإنّ هذا مبدأ العدد الذي لا عدد قبله ، ثم الأعداد يمكن فيها الزيادة أبد الأبد لا إلى غاية ، لكن كلما خرج منه جزء إلى حدّ الوجود وجد ، فالفعل فله نهاية ، وهكذا أبدا سرمدا. وبالله تعالى التوفيق.

فانقطع الشنيفي ، ولم يكن عنده إلّا الشغب.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد قال بعض أهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة وجود موجودات لا أوائل لها : أتقولون إن الله تعالى يوفي أهل الجنة ما وعدهم من النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك؟

فإن قلتم : إنه تعال يوفيهم إياه. دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ، ولا فرق.

وإن قلتم : إنه تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد والكذب ، وهو كفر عندكم.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق. وهي منفسخة من وجهين :

أحدهما : أن تعلق المرء بما يقول خصمه ضعف ، وإنما يلزم المرء أن يخلّص قوله مجردا ، ولا أسوة له في تناقض خصمه ، بل لعل خصمه لا يقول ذلك.

الثاني : أن المسئول بها إن كان جهميّا (١) سقط عنه هذا السؤال المذكور.

__________________

(١) الجهمية : هم أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال وأنكر الاستطاعات كلها وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان ، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال : زالت الشمس ودارت الرحى ، من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به. وزعم أيضا أن علم الله تعالى حادث وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حيّ أو عالم أو مريد ، وقال : لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء وموجود وحيّ وعالم ومريد ونحو ذلك. ووصفه بأنه قادر وموجد وفاعل وخالق ومحيي ومميت ، لأن هذا الأوصاف مختصة به وحده. وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية ولم يسم الله تعالى متكلما به. انظر الفرق بين الفرق للبغدادي (ص ١٥٨ ، ١٥٩).

٣٢

وأمّا نحن فعلينا بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ إنّ من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يؤبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب ، فيموّهون بها على الجهّال مما يبنون عليها.

وهذا الاعتراض من هذا الباب.

وذلك أنهم أرادوا إلزامنا بأن الله عزوجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيما لا نهاية له ، وهذا خطأ وكذب ، وما وعدهم الله عزوجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ، ولو وعدهم بذلك لكان ذلك النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى ، وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له. وكل ما ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية ، وما لم يخرج إلى حدّ الفعل فهو عدم بعد ، ولا يقع عليه عدد ولا صفة ، وهكذا أبدا. فقد ظهر أن لفظة «يوفيهم» هي الشغيبة المفسدة التي موّهوا بها ، فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة وصحت القضية. وبالله التوفيق.

فإن قال قائل : فإن الله عزوجل يقول : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [سورة هود : ١٠٩]

قلنا : صدق الله تعالى وهذا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إمّا أن يكون أراد بذلك نصيبهم من الجزاء ، أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة.

فإن كان عنى ـ عزوجل ـ بذلك نصيبهم من الجزاء والنعيم فهو صحيح ، لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين وهكذا أبدا. وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار ، فهذا صحيح ، لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة ، وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء بلا زيادة فيها. وقد قال ـ عزوجل ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء : ١٧٣]. وقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر : ١٠].

وهاتان الآيتان تبينان أن الأجر المستوفى هو كل ما يعطونه من مساحة الجنة ، وكل ما خرج إلى الوجود من النعيم ، ثم لا يزال تعالى يزيدهم من فضله كما قال تعالى : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فهذا لا يستوفى أبدا لأنه لا نهاية له ، ولا كل ، ولو استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة ، إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفي فلا زيادة فيه ، وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد.

٣٣

والله تعالى قد نص على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه ، وأن ما لا نهاية له فلا يستوفى أبدا.

فقد ثبت بكل ما ذكرنا أن العالم ذو أول ، وإذا كان ذا أول فلا بدّ ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها ، وهي :

١ ـ إما أن يكون أحدث ذاته.

٢ ـ وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره ، وبغير أن يحدث هو نفسه.

٣ ـ وإما أن يكون أحدثه غيره.

فإن كان هو أحدث ذاته ، فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي :

١ ـ إمّا أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة.

٢ ـ أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة.

٣ ـ أو أحدثها وكلاهما موجود.

٤ ـ أو أحدثها وكلاهما معدوم.

وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها.

لأن الشيء ، وذاته هي هو ، وهو هي.

وكلّ ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته.

وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس.

فهذا وجه قد بطل.

ثم نقول : إن كل ما خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته ، أو يخرجه غيره. فهو أيضا محال ، لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ، ولا حال أصلا هناك.

فإذا لا سبيل إلى خروجه ، وخروجه مشاهد ممكن. فحال الخروج غير حال اللاخروج ، وحال الخروج هي علّة كونه. وهذا لازم في تلك الحال ، أعني أن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت نفسها ، أو أخرجها غيرها ، أو خرجت بغير هذين الوجهين ، وهكذا في كل حال. فإن تمادي الكلام يوجب ألا نهاية. ولا نهاية في العالم من مبدئه باطل ممتنع محال بما قدمنا.

فإذا قد بطل أن يخرج العالم بنفسه ، وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره ، فقد ثبت الوجه الثالث ضرورة ، إذ لم يبق غيره البتة فلا بدّ من صحته ، وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود وبالله تعالى التوفيق.

٣٤

ادلة أخرى على حدوث العالم

وأيضا فإن الفلك بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية ، وحركة دورية ، في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه ، والأثر مع المؤثّر من باب المضاف فإن لم يكن أثر لم يكن مؤثّر ، وإن لم يكن مؤثّر لم يكن أثر ، فوجب بذلك أنه لا بد لهذه الآثار الظاهرة من مؤثر أثّرها ، ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر ، لأنه هو المؤثّر فيه ، والمؤثّر فيه مع المؤثّر والأثر من باب المضاف أيضا ، ومعنى قولنا أنّ المؤثّر والأثر والمؤثّر فيه من باب المضاف إنما هو أنّ الأثر والمؤثّر فيه يقتضيان مؤثّرا ولا بد.

ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الإضافة فلا بدّ ضرورة من مؤثّر ليس مؤثّرا فيه ، وليس هو شيئا مما في العالم ، فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى.

فصحّ بهذا أنّ العالم كلّه محدث ، وأنّ له محدثا هو غيره.

هذا إلى ما نراه ونشاهده بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشك فيها ذو عقل.

ومن بعض ذلك : تراكيب الأفلاك وتداخلها ، ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ، ثم أفلاك تداويرها ، والبون بين حركة أفلاك التداوير ، والأفلاك الحاملة لها ، ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ، ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب ، وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك ، فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة.

فبالضرورة نعلم أن لها محركا على هذه الوجوه المختلفة.

ثم تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدّبة في المقعّرة ، وتركيب العضل على تلك المداخل ، والشدّ على ذلك بالعصب والعروق.

صناعة ظاهرة لا شك فيها ، لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط.

ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ، ووبره ، وشعره ، وظفره ، وقشره ، على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه ، كأصباغ الحجل ، والشفانين (اليمام) ، والسّمان ، والبزاة ، وكثير من الطير والسلاحف ، والحشرات والسمك ، لا يختلف تنقيطه البتة ، ولا تكون أصباغه موضوعة إلّا وضعا واحدا كأذناب الطواويس ـ وفي السمك والجراد والحشرات ـ نوعا واحدا كالذي يصوّره المصور بيننا. ثم منها ما يأتي مختلفا كأصباغ الدّجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان.

٣٥

فبالضرورة والحس نعلم أنّ لذلك صانعا مختارا يفعل ذلك كله كما شاء ، ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبدا عمّا شاء من ذلك ، وليس يمكن البتة في حسّ العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطا لا تفاوت فيه من فعل الطبيعة ، ولا بد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك.

ومن درى ما الطبيعة ، علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط ، وبالضرورة يعلم أن لها واضعا ، ومرتّبا ، وصانعا ، لأنها لا تقوم بنفسها ، وإنما هي محمولة على ذي الطبيعة.

ومنها ما يرى في ليف النخل ، والدّوم من النسج المصنوع يقينا بنيرين (١) وسدى (٢) كالذي يصنعه النسّاج ، ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط ، وليس هذا البتة من فعل طبيعة ، ولا بنسج ناسج ، ولا بنّاء ، ولا صانع أصباغ مرتبة. بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة (٣) لكنه قادر على ما يشاء.

هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله (٤) يقينا ، كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين. فصحّ أنه خالق أوّل واحد حقّ لا يشبه شيئا من خلقه البتة لا إله إلّا هو الواحد الأول الخالق عزوجل.

القسم الثالث

باب الكلام على من قال : إن العالم لم يزل (٥) ،

وله مع ذلك فاعل لم يزل

قال «أبو محمد» : (رضي الله عنه) : قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين التي قدمنا هذه المقالة. ولكن بقي لهم اعتراض وجب إيراده تقصّيا لكلّ ما موّهوا به.

__________________

(١) مثنى نير ، وهو لحمة الثوب (المعجم الوسيط : ص ٩٦٦).

(٢) السدى في الثوب : خلاف اللحمة ، وهو ما يمدّ طولا في النسيج. الواحدة : سداة. ويجمع على أسداء وأسدية. المرجع السابق (ص ٤٢٤).

(٣) أي غير ذي طبيعة مخلوقة.

(٤) أول العقل : هو البديهيات والمسلّمات.

(٥) ومنهم أصحاب نظرية الفيض.

٣٦

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : اعتمد أهل هذه المقالة على أن قالوا : إنّ علة فعل الباري تعالى لما فعل إنما هو : جوده ، وحكمته ، وقدرته ، وهو تعالى لم يزل جوادا حكيما قادرا. فالعالم لم يزل ، إذ علته لم تزل.

وهذا فاسد البتة بالأدلة التي قدمنا التي لا تضطر إلى المعرفة والتيقن بحدوث العالم.

ثم نقول : إنه إنما يلزم هذا من أقر بهذه المقدمة أعني أن للعالم علة ، وأما نحن فإنّا نقول : إنه لا علّة لتكوين الله عزوجل كلّ ما كوّنه ، وأنه لا شيء غير الخالق وخلقه ، ثم نقول على علم هؤلاء قولا كافيا إن شاء الله تعالى :

وهو أن المفعول (١) هو المتنقل من العدم إلى الوجود ، بمعنى من ليس ، إلى شيء ، فهذا هو المحدث.

ومعنى المحدث : هو ما لم يكن ثم كان.

وهم يقولون : إنه الذي لم يزل ، وهذا هو خلاف المعقول ، لأن الذي لم يكن ثم كان هو غير الذي لم يزل ، فالعالم إذن هو غير نفسه ، وهذا هو عين المحال ، وبالله تعالى التوفيق.

فإن قال لنا قائل :

لما كان الباري تعالى غير فاعل على قولكم ثم صار فاعلا ، فقد لحقته استحالة ، وتعالى الله عن ذلك.

قلنا له وبالله التوفيق : هذا السؤال راجع عليكم إذ صححتموه فهو لكم لازم ، لا لنا لأنا لا نصححه ، وذلك أنه إن كان عندكم الفعل منه بعد أن كان غير فاعل يوجب الاستحالة على الفاعل تعالى ، فإنّ فعله لما أحدث من الأعراض عندكم بعد أن كان غير محدث لها ، وإعدامه ما أعدم منها بعد أن كان غير معدم لها موجب عليه الاستحالة.

فأجيبوا عن سؤالكم الذي صححتموه ، ولا جواب لكم إلا بإفساده.

وأمّا نحن فنقول : إنّ الاستحالة ليست ما ذكرتم. وإنما معنى الاستحالة : أنه

__________________

(١) المفعول هو الذي لا بدّ من وجود فاعل له يوقع الفعل عليه ، وهو المحدث كما سيأتي أو المخلوق.

٣٧

حدوث شيء في المستحيل لم يكن فيه قبل ذلك ثم صار فيه مستحيلا عن صفته المحمولة عليه إلى غيرها.

وهذا المعنى منفي عن الله تعالى ، أي أنه تعالى يجل عن أن يكون حاملا لصفة فيه. بل بذاته لم يفعل إن كان غير فاعل ، وبذاته فعل إن فعل ، ولا علة لما فعل ، ولا علّة لما لم يفعل.

وأيضا : فإنّ الذي لم يزل هو الذي لا فاعل له ، ولا مخرج له من عدم إلى وجود ، فلو كان العالم لم يزل لكان لا مخرج له ولا فاعل له.

وقد أقرّ أهل هذه المقالة بأنّ العالم لم يزل ، وأن له فاعلا لم يزل يفعل وهذا عين المحال والتخليط والفساد. وبالله تعالى التوفيق.

القسم الرابع

باب الكلام على من قال إن للعالم خالقا لم يزل ، وإن النفس والمكان المطلق

الذي هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل

موجودة ، وأنها غير محدثة

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : والنفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه ، حامل لأعراضه لا متحرك ، ولا منقسم ، ولا متمكن أي لا في مكان.

وقد ناظرني قوم من أهل هذا الرأي ، ورأيته كالغالب على ملحدي أهل زماننا ، فألزمتهم إلزامات لم ينفكوا عنها ، أظهرت بطلان قولهم بعون الله تعالى وقوّته. ولم نر واحدا ممن تكلم قبلنا ذكر هذه الفرقة ، فجمعت ما ناظرتهم به وأضفت إليه ما وجبت إضافته إليه مما فيه تزييف قولهم. وما توفيقنا إلّا بالله تعالى.

وهذا الزمان والمكان عندهم هما غير الزمان والمكان المعهودين عندنا لأن المكان المعهود عندنا : هو المحيط بالمتمكّن فيه من جهاته أو من بعضها.

وهو ينقسم قسمين :

إمّا مكان يتشكل المتمكّن فيه بشكله كالبرى (١) ، أو الماء في الخابية ، أو ما أشبه ذلك.

__________________

(١) البرى : التراب (المعجم الوسيط : ص ٥٣).

٣٨

وإمّا مكان يتشكل هو بشكل المتمكّن فيه كالماء لما حلّ فيه من الأجسام ، وما أشبهه.

والزمان المعهود عندنا : هو مدة وجود الجرم ساكنا أو متحركا ، أو مدة وجود العرض في الجسم.

ويعمّه أن نقول : هو مدة وجود جرم الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات.

وهم يقولون : إنّ الزمان المطلق والمكان المطلق هما غير ما حدّدناه آنفا من الزمان والمكان. ويقولون : إنهما شيئان متغايران.

ولقد كان يكفي في بطلان قولهم إقرارهم بمكان غير ما يعهد ، وزمان غير ما يعهد بلا دليل على ذلك.

ولكن لا بدّ من إيراد البراهين على إبطال دعواهم في ذلك بحول الله وقوته.

فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق :

أخبرونا عن هذا الخلاء الذي أثبتم وقلتم إنه كان موجودا قبل حدوث الفلك وما فيه. هل بطل بحدوث الفلك ما كان منه في مكان الفلك قبل أن يحدث الفلك أو لم يبطل؟.

فإن قالوا : لم يبطل وبذلك أجابني بعضهم.

فيقال لهم : فإن كان لم يبطل ، فهل انتقل عن ذلك المكان بحدوث الفلك في ذلك المكان أو لم ينتقل؟

فإن قالوا : لم ينتقل ـ وهو قولهم ـ قيل لهم : فإذا لم يبطل ، ولا انتقل ، فأين حدث الفلك وقد كان في موضعه قبل حدوثه عندكم معنى ثابتا قائما بنفسه موجودا؟ وهل حدث الفلك في ذلك المكان المطلق الذي هو الخلاء أم في غيره؟

فإن كان حدث في غيره. فها هنا إذا مكان آخر غير الذي سميتموه خلاء.

وهو إمّا مع الذي ذكرتم في حيز واحد أم هو في حيّز آخر.

فإن كان معه في حيز واحد ، فالفلك فيه حدث ضرورة ، وقد قلتم إنه لم يحدث فيه. فهو إذا حادث فيه غير حادث فيه ، وهذا تناقض ومحال.

وإن كان في حيز آخر فقد أثبتم النهاية للخلاء ، إذ الحيز الآخر الذي حدث فيه

٣٩

الفلك ليس هو في ذلك الخلاء ، وهذا ينطوي فيه بالضرورة نهاية الخلاء الذي ذكرتم فهو متناه لا متناه ، وهذا تناقض وتخليط.

وإذا بطل أن يكون غير متناه ، وثبت أنه متناه ، فهو المكان المعروف المعهود المضاف إلى المتمكن فيه ، وهذا هو المكان الذي لا يعرف ذو عقل سواه.

وإن كان الفلك حدث فيه والفلك ملاء بلا شك ، ولم ينتقل الخلاء عندكم ولا بطل ، فالفلك إذا خلاء وملاء معا في مكان واحد. وهذا محال وتخليط.

فإن قالوا : بطل بحدوث الفلك ما كان منه في موضع الفلك قبل حدوث الفلك ، أو قالوا : انتقل. فقد أوجبوا له النهاية ضرورة. إمّا من طريق الوجود بالبطلان ، إذ لا يفسد ويبطل إلّا ما كان حادثا لا ما لم يزل. وإمّا من طريق المساحة بالنقلة ، إذ لو لم يجد أين ينتقل لم تكن له نقلة ، إذ معنى النقلة إنما هو تصيير الجرم إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك ، أو إلى صفة لم يكن عليها قبل ذلك.

ووجوده مكانا ينتقل إليه موجب أنه لم يكن في ذلك المكان الذي انتقل إليه قبل انتقاله إليه وهذا هو إثبات النهاية ضرورة فهذا هو الذي أبطلوا.

ويلزمهم في ذلك أيضا أن يكون متحيزا (١) ضرورة لأن الذي بطل منه هو غير الذي لم يبطل ، والذي انتقل هو غير الذي لم ينتقل.

وهو إذا كان كذلك ، فإمّا هو جسم ذو أجزاء ، وإمّا هو محمول في جسم فهو ينقسم بانقسام الجسم.

وقد أثبتنا النهاية للجسم في غير هذا المكان من كتابنا هذا بما فيه البيان الضروري ، والحمد لله رب العالمين.

وأيضا ، فإن كان لم يبطل : فالذي كان منه في موضع الفلك ثم لم يبطل ، ولا انتقل لحدوث الفلك فيه ، فهو والفلك إذا موجودان في حيز واحد معا ، فهو إذا ليس مكانا للفلك لأن المكان لا يكون مع المتمكن فيه في مكان واحد ، وهذا يعرف بأولية العقل. ولو كان ذلك لكان المكان مكانا لنفسه ، ولما كان واحدا منهما أولى بأن يكون مكانا للآخر من الآخر بذلك. ولا كان أحدهما أولى أيضا بأن يكون متمكنا في

__________________

(١) أي في حيّز ، أي جهة.

٤٠