الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [سورة الأعراف : ١١٣ ـ ١٢٢].

وإذ يقول تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه : ٦٦]. فأخبر عزوجل أن الذي عمل موسى حق ، وأن عصاه صارت ثعبانا على الحقيقة بقوله تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [سورة الأعراف : ١٠٧ ، والشعراء : ٣٢].

فصح أنه تبين ذلك لكل من رآه يقينا. وأخبر أن الذي عمل السحرة إنما هو إفك وتخييل وكيد ، وهذا هو الحق الذي تشهد به العقول ، لا في الكتاب المبدّل المحرّف ، فصح أن فعل السحرة حيلة مموهة لا حقيقة لها ، وهذا الذي يصححه البرهان ، إذ لا يحيل الطبائع إلّا خالقها ، شهادة لرسله وأنبيائه ، وفرقا بين الصدق والكذب ، لا قولهم عمل السحرة مثل ما عمل موسى في وقت تكليفه برهانا على صدق قوله ، وعند تحديه لهم على أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين وهو كاذب ، فأتوا بمثله ، فانظروا النتيجة يرحمكم الله.

هذه سوأة تشهد شهادة قاطعة صادقة بأن صانع ذلك الكتاب الملعون المكذوب الذي يسمونه «الحماش» ويدّعون أنه توراة موسى عليه‌السلام إنما كان زنديقا مستخفا بالباري تعالى ورسله وكتبه ، وحاش لموسى عليه‌السلام منه ، وأنهم إلى الآن يزعمون أن إحالة الطبائع وقلب الأجناس عن صفاتها الذاتية إلى أجناس أخر ، واختراع الأمور في المعجزات البينية يقدر على ذلك بالرّقى والصناعات. واعلموا أنّ من صدّق بهذا فهو مبطل للنبوة بلا مرية ، لا فرق بين النبي وغيره إلّا في هذا الباب ، فإذا أمكن لغير النبي فلم يبق إلّا دعوى لا برهان عليها ، ونعوذ بالله من الضلال.

ولقد شاهدناهم متفقين إلى اليوم على أن رجلا من علمائهم ببغداد دخل من بغداد إلى قرطبة في يوم واحد ، وأنبت قرنين في رأس رجل من بني الاسكندراني كان ساكنا بقرب دار اليهود عند فندق الحرقة كان يؤذي يهود تلك الجهة ويسخر منهم ، وهذه كذبة وفضيحة لا نظير لها ، والموضع مشهور عندنا بقرطبة داخل المدينة ، وبنو عبد الواحد بن يزيد الإسكندري من بيئة رفيعة مشهورة أدركنا آخرهم. كانت فيهم وزارة وعمالة ليس فيهم مغمور ولا خفيّ إلى أن بادوا ما عرف قط أحد منهم ولا من جيرانهم هذه الأحموقة المختلقة.

والقوم بالجملة أكذب البرية ، أسلافهم وأخلافهم ، وعلى كثرة ما شاهدنا منهم ، ما رأيت فيهم قط متحريا إلّا رجلين فقط.

١٨١

فصل

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وفي قصة قلب الماء دما فضيحة أخرى ظاهرة الكذب وهي : أن في نص الكلام الذي يزعمونه التوراة : «ثم قال السيد لموسى : قل لهارون مدّ يدك بالعصا على مياه مصر ، وأنهارها وأوديتها ، ومروجها ، وجناتها ، لتعود دما ، وتصير ماء في آنية التراب والخشب دما. ففعل موسى وهارون كل ما أمرهما به السيد» إلى قوله «وصار الماء في جميع أرض مصر دما. ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم ، واشتد قلب فرعون ، ولم يسمع لهما على حال ، ثم انصرف فرعون ودخل بيته ولم يوجه قلبه إلى هذا أيضا ، وحفر جميع المصريين حوالي النهر ليصيبوا الماء منها لأنهم لا يقدرون على شرب الماء من النهر».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا نص كتابهم فأخبر أن كلّ ماء كان بمصر في أنهارها وأوديتها ، ومروجها وجناتها ، وأواني الخشب والتراب ، والماء كله في جميع أرض مصر صار دما. فأي ماء بقي حتى تقلبه السحرة دما ، كما فعل موسى وهارون؟ أبى الله إلا فضيحة الكذابين وخزيهم.

فإن قالوا : قلبوا ماء الآبار التي حفرها المصريون حول النهر. قلنا لهم : فكيف عاش الناس بلا ماء أصلا؟ أليست هذه فضائح مرددة؟ وهل يخفى أن هذا من توليد ضعيف العقل أو زنديق مستخف لا يبالي بما أتى به من الكذب؟ ونعوذ بالله من الضلال.

فصل

ذكر بعض المعجزات لموسى

وبعد ذلك ذكر أن الله تعالى أمر موسى أن يقول لفرعون : «ستكون يدي على مكسبك الذي لك في الفحوص (١) وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك بوباء شديد ، ويظهر السيد أعجوبة فيما يملكه بنو إسرائيل ، ووقّت السيد لذلك وقتا ، وقال غدا يفعل السيد هذا في الأرض ، ففعل السيد ذلك في يوم آخر ، وماتت جميع دواب المصريين ، ولم يمت لبني إسرائيل دابة فاشتد قلب فرعون ولم يأذن لهم».

__________________

(١) يقال : فحص الأرض : حفرها (المعجم الوسيط : ص ٦٧٥) والفحوص : الحفر أو المخابئ ، ويريد : مخابئ الكنوز.

١٨٢

ثم ذكر بعد ذلك أمر الله تعالى موسى بأن يأخذ ما حملت الكف من رماد الكانون (١) ويلقيه إلى السماء بين يدي فرعون ليصير غبارا في جميع أرض مصر فيكون في الآدميين والأنعام خراجات ونفاطات (٢) ، فأخذ رمادا من كانون ووقف بين يدي فرعون ورماه موسى إلى السماء وصارت منه نفاطات في الآدميين والأنعام ، ولم تقدر السحرة على الوقوف عند موسى لما كان أصابهم من ألم النفاطات ، وكان مثل ذلك في جميع أرض مصر والسحرة ، فشدّد الله قلب فرعون ، ولم يسمع لهما على حال ما عهد السيّد إلى موسى.

وبعد ذلك قال : إن الله أمر موسى أن يقول لفرعون : غدا هذا الوقت أمطر بردا كثيرا جدّا لم ينزل مثله على مصر من اليوم الذي أسست فيه إلى هذا الوقت ، فابعث واجمع أنعامك وكل من تملكه في الفدّان ، فكل ما أدركه البرد في الفدان ولم يدخل البيوت يموت فمن خاف وعيد السيد من عبيد فرعون أدخل عبيده وأنعامه في البيوت ، ومن استهان بوعيد السيد أبقى عبيده وأنعامه في الفدّان.

وقال السيد لموسى : مدّ يدك إلى السماء لينزل البرد في جميع أرض مصر فمدّ موسى يده بالعصا ، فأتى السيّد بالرّعد والبرد المختلف على الأرض ، ثم أمطر السيّد البرد في جميع أرض مصر مخلوطا بنار ، ولم ينزل بعظمة في تلك الأرض من حين سكن ذلك الجنس فأهلك البرد في جميع أرض مصر كلّ ما ظهر به في الفدادين من الآدميين والأنعام وجميع عشبهما ، وكسر جميع شجرها ، ولم ينزل منه بشيء في أرض قوص حيث كان بنو إسرائيل.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : تأمّلوا هذا الكذب الهجين اللائح. ذكر أولا أنّ موسى أتى بالوباء وأخبر عن الله تعالى أنه قال لفرعون سأهلك مكسبك الذي في الفحوص ، وخيلك وحميرك وجمالك ، وبقرك ، وأغنامك فعمّم جميع الناس ، ما أدخل في البيوت وما لم يدخل ، يعم جميع الحيوان صنفا صنفا ، ثم أخبر : أن جميع دواب المصريين ماتت ولم تمت لبني إسرائيل ولا دابة. ثم ذكر أمر «النفاطات» ثم ذكر أمر «البرد» ، وأن موسى أنذر فرعون عن الله تعالى ، وأمره بإدخال أنعامه في البيوت وأن ما أدرك البرد منها في الفحص يهلك.

__________________

(١) الكانون : الموقد (المرجع السابق : ص ٨٠١).

(٢) الخراجات : جمع خراج ، وهو ما يخرج بالبدن من القروح. والنفّاطات : جمع نفّاطة ، وهي البثرة مملوءة ماء. انظر المعجم الوسيط (ص ٢٢٤ ، و ٩٤١).

١٨٣

فليت شعري!! أي دابة بقيت لفرعون وأهل مصر ، وقد ذكر أن الوباء أهلك جميعها؟؟ وأين الإبل والحمير والخيل والغنم والبقر؟ أليس هذا عجبا!! وليس يمكن أن يقول : إنّ دواب بني إسرائيل هلكت آخرا إذ سلمت أولا ، لأنه قد بيّن أنه لم يقع من البرد شيء في أرض «قوص» حيث سكنى بني إسرائيل ، ولم يكن بين آية وآية بإقرارهم وقت يمكن فيه جلب أنعام إليهم من بلد آخر ، لأنه لم يكن بين الآية والآية إلّا يوم أو يومان أو قريب من ذلك ، ومصر واسعة الأعمال ، ولا تتصل بشيء من العمائر ، بل بين جميع انتهاء أقطارها من كل جهة وبين أقرب العمائر إليها مسيرة أيام كثيرة ، كالشام وبلاد الغرب ، وأرض النوبة والسودان ، وإفريقية ، فظهر كذب من عمل ذلك الكتاب المبدّل المحرّف المفترى الذي يزعمونه التوراة وحاش لله من ذلك ، والحمد لله على السلامة من مثل عملهم وضلالهم كثيرا.

فصل

اضطراب التوراة في ذكر مدة بقاء بني إسرائيل بمصر

وبعد ذلك قال : «وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربعمائة وثلاثين سنة ، فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك اليوم معكسر السيد من أرض مصر».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذه فضيحة الدهر ، وشهرة الأبد ، وقاصمة الظهر ، يقول هاهنا : إنّ مسكن بني إسرائيل بمصر أربعمائة سنة وثلاثون سنة ، وقد ذكر قبل : أن «فاهاث» بن «لاوي» دخل مصر مع جده «يعقوب» ومع أبيه «لاوي» ومع سائر أعمامه وبني أعمامه ، وأن عمر «فاهاث» بن «لاوي» المذكور كان مائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة. وأن «عمران بن فاهاث بن لاوي» المذكور كان عمره مائة سنة وسبعا وثلاثين سنة. وأن «موسى بن عمران بن فاهاث بن لاوي» المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة.

هذا كله منصوص كما نذكره في الكتاب الذي يزعمون أنه التوراة ، فهبك أن «فاهاث» دخل مصر ابن شهر أو أقل ، وأن «عمران» ابنه ولد بعد موته ، وأن «موسى بن عمران» ولد بعد موت أبيه ليس يجتمع من كل ذلك إلا ثلاثمائة عام وخمسون عاما فقط. فأين الثمانون عاما الباقية من جملة أربعمائة سنة وثلاثين سنة؟

فإن قالوا : نضيف إلى ذلك مدة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته ، قلنا : قد بيّن في التوراة أنه كان إذ دخلها ابن سبع عشرة سنة ، وأنه كان إذ دخلها أبوه

١٨٤

وإخوته ابن تسع وثلاثين سنة ، فإذن كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين وعشرين سنة ، ضمها إلى ثلاثمائة سنة وخمسين سنة يقوم من الجمع بلا شك ثلاثمائة واثنان وسبعون سنة. أين الثماني والخمسون الباقية من أربعمائة وثلاثين سنة؟ هذه شهرة لا نظير لها ، وكذب لا يخفى على أحد ، وباطل نقطع بأنه لا يمكن البتة أن يعتقده أحد في رأسه شيء من دماغ صحيح ، لأنه لا يمكن أن يكذب الله تعالى في دقيقة ، ولا أن يكذب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامدا ولا مخطئا في دقيقة فيقره الله تعالى على ذلك ، فكيف؟ ولا بد أن يسقط من هذه المدة سنّ «فاهاث» إذ ولد له «عمران» وسنّ «عمران» إذ ولد له «موسى» عليه‌السلام ، والصحيح الذي يخرّج على نصوص كتبهم : أنّ مدة بني إسرائيل مذ دخل «يعقوب» وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع «موسى» عليه‌السلام ، لم تكن إلا مائتي عام وسبعة عشر عاما ، فهذه كذبة في مائتي عام وثلاثة عشر عاما ، ولو لم يكن في توراتهم إلّا هذه الكذبة وحدها لكفت في أنها موضوعة مبدلة من حمار في جهله ، أو مستخف سخر بهم ولا بد.

فصل

التوراة المحرفة تصف الإله بألفاظ لا تليق

وبعد ذلك قال : وعند ذلك مجد «موسى» و «بنو إسرائيل» بهذه السورة ، وقالوا : مجد بنا السيد فإنه يعظم ويشرف ، وأغرق في البحر الفرس وراكبه ، قوّتي ومديحي للسيّد الذي صار لي مسلما ، هذا إلهي أمجده ، وإله أبي أعظمه ، السيد قاتل كالرجل القادر.

وفي السفر الخامس : «اعلموا أن السيّد إلهكم الذي هو نار أكول».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذه سوأة من السوءات لتشبيه الله عزوجل بالرجل القادر ، ويخبر بأنه نار ، هذه مصيبة لا تجبر ، ولقد قال بعضهم : أليس الله تعالى يقول عندكم : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة النور : آية ٣٥].

قلت : بلى. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سأله «أبو ذرّ» : هل رأيت ربك؟. فقال : «نور أنّى أراه» (١).

__________________

(١) رواه مسلم في الإيمان (حديث ٢٩١) والترمذي في تفسير سورة ٥٣ باب ٧ ، وأحمد في المسند (٥ / ١٥٧ ، ١٧١ ، ١٧٥).

١٨٥

وهذا بيّن ظاهر أنه لم يعن النور المرئي ، لكن نور لا يرى. فلاح أن معنى «نور السماوات والأرض» إذا ثبت ، أنه ليس هو النور المرئي الملون ، أنّه الهادي لأهلهما فقط. وأن النور اسم من أسماء الله تعالى فقط.

وأما قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) إلى قوله : (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) [سورة النور : آية ٣٥].

فإنه شبه نوره الذي يهدي به أولياءه بالمصباح الذي ذكر ، فإنه شبه مخلوقا بمخلوق.

وبيان ذلك : قوله تعالى متصلا بالكلام المذكور في الآية نفسها :

(نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة النور : ٣٥].

فصحح ما قلناه يقينا من أنه تعالى إنما عنى بنوره هداه للمؤمنين فقط ، وهذا أصح تشبيه يكون ، لأن نور هداه في ظلمة الكفر كالمصباح في ظلمة الليل.

فصل

وصف التوراة للمنّ النازل من السماء

ثم وصف المنّ النازل عليهم من السماء فقال : وكان أبيض شبيها بزريعة الكزبر ومذاقه كمذاق السميذ المعسل ، ثم قال في السفر الرابع :

«كان المنّ شبيها بزريعة الكزبر ، ولونه إلى الصّفرة ، وكان طعمه كطعم الخبز المعجون بالزيت».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا تناقض في الصفة واللّون والطعم ، وإحدى الصفتين تكذّب الأخرى بلا شك.

فصل

تجسيم التوراة للإله ووصفه بصفات البشر

وبعد ذلك قال : إنّ الله عزوجل قال لبني إسرائيل : لقد رأيتموني كلكم من السماء ، فلا تتخذوا معي آلهة الفضة. ثم قال بعد ذلك : ثم صعد «موسى» و «هارون» و «ناداب» و «أبيهو» وسبعون رجلا من المشايخ ونظروا إلى إله إسرائيل ، وتحت رجليه كلبنة من زمرد فيروزي ، وكسماء صافية ، ولم يمدّ الرّبّ يده إلى خيار بني إسرائيل الذين نظروا إلى الله ، وأكلوا وشربوا وقال بمقربة من ذلك : «وكان منظر عظمة السيد

١٨٦

كنار آكلة في قرن الجبل يراه جماعة من بني إسرائيل».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا تجسيم لا شك فيه ، وتشبيه لا خفاء به ، وليس هذا كقول الله تعالى :

(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢].

ولا كقوله تعالى :

(إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة : ٢١٠].

ولا كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة في ثلث اللّيل الباقي إلى سماء الدنيا» (١) ، لأن هذا كله على ظاهره بلا تكلف تأويل ، إنما هي أفعال يفعلها الله عزوجل تسمّى مجيئا وإتيانا وتنزلا. ولا مثل قوله تعالى :

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح : ١٠](وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن : ٢٧].

وسائر ما في القرآن من مثل هذا ، فكله ليس بمعنى الجارحة ، لكن على وجوه ظاهرة في اللغة قد بيناها في غير هذا المكان ، عمدتها أن كل ذلك خبر عن الله تعالى لا يرجع بشيء من ذلك إلى سواه أصلا ، ثم كيف يجتمع ما ذكرنا عن توراتهم مع قوله في السفر الخامس : «كلمكم الله من وسط اللهيب فسمعتم صوته ، ولم تروا له شخصا».

وهاتان قضيتان تكذب كلّ واحدة منهما الأخرى ولا بد.

فصل

التوراة تتهم هارون عليه‌السلام بصناعة العجل

وبعد ذلك قال : فلما أطال موسى المقام اجتمع بنو إسرائيل إلى «هارون» وقالوا :

__________________

(١) لفظ الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له». رواه البخاري في التهجد باب ١٤ ، والدعوات باب ١٤ ، والتوحيد باب ٣٥. ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (حديث ١٦٨ ، ١٦٩ ، ١٧٠). وأبو داود في السنّة باب ١٩. والترمذي في الصلاة باب ٢١١ ، والدعوات باب ٧٨. وابن ماجة في الإقامة باب ١٨٢. والدارمي في الصلاة باب ١٦٨. ومالك في القرآن وابن ماجة في الإقامة باب ١٨٢. والدارمي في الصلاة باب ١٦٨. ومالك في القرآن (حديث ٣٠). وأحمد في المسند (٢ / ٢٦٤ ، ٢٦٧ ، ٢٨٢ ، ٤١٠ ، ٤٨٧ ، ٥٠٤).

١٨٧

قم واعمل لنا إلها يتقدمنا ، فإننا لا ندري ما أصاب موسى الرجل الذي أخرجنا من مصر. فقال لهم هارون : اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم وأولادكم وبناتكم ، وائتوني بها. ففعلوا ما أمرهم به وأتوه بالأقراط ، فلمّا قبضها هارون أفرغها وعمل لهم منها عجلا ، وقال : هذا إلهكم يا بني إسرائيل الذي أخرجكم من مصر فلما بصر بها هارون بنى مذبحا بين يدي العجل ، وبرح مسمعا : غدا عيد السيد ، فلما قاموا صباحا قربوا له قربانا ، وأهدوا له هدايا ، وقعدت العامة تأكل وتشرب وقاموا للّعب.

ثم ذكر إقبال موسى ، وأنه لما تدانى من المعسكر بصر بالعجل وجماعات تتغنى. وبعد ذلك ذكر أنه قال لهارون : ما ذا فعلت بك هذه الأمة إذ جعلتكم تذنبون ذنبا عظيما؟.

فقال له هارون : لا تغضب سيدي ، فإنك تعرف رأي هذه الأمة في الشر ، قالوا لي : اعمل لنا إلها يتقدمنا لأننا نجهل ما أصاب موسى الذي أخرجنا من مصر ، فقلت لهم : من كان عنده منكم ذهب فليقبل به إليّ وألقيته في النار ، وخرج لهم منه هذا العجل. فلما رأى «موسى» القوم قد تعرّوا ، وكان «هارون» قد عرّاهم بجهالة قلبه ، وصيّرهم بين يدي أعدائهم عراة.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا الفصل عفا على ما قبله وطم عليه ، أن يكون «هارون» وهو نبي مرسل يتعمد أن يعمل لقومه إلها يعبدونه من دون الله عزوجل وينادي عليه : «غدا عيد السيد» ويبني للعجل مذبحا ، ويساعدهم على تقريب القربان للعجل ، ثم يجردهم ويكشف أستاههم للرقص وللغناء أمام العجل إلا أن تكون أحق أستاه كشفت ، إن هذا لعجب!! نبي مرسل كافر مشرك يعمل لقومه إلها من دون الله ، أو يكون العجل ظهر من غير أن يتعمد «هارون» عمله؟ فهذه والله معجزة كمعجزات موسى ولا فرق. إلّا أنّ هذا هو الضلال والتلبيس ، والإشكال والتدليس المبعد عن الله تعالى ، إذ لو كان هذا لما كان موسى أولى بالتصديق من عابد العجل الملعون. أترى بعد استخفاف النذل الذي عمل لهم هذه الخرافة بالأنبياء عليهم‌السلام استخفافا؟ حاشا لله من هذا! أو ترون بعد حمق من يؤمن بأن هذا من عند «موسى» رسول الله وكليمه عن الله تعالى ـ حمقا؟! نحمد الله على العافية.

أين هذا الهوس البارد والكذب المفترى من نور الحق الذي يشهد له العقل بالصحة الذي جاء به «محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل حقا؟»

إذ يقول في هذه القصة نفسها ما لا يمكن سواه :

١٨٨

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) [سورة الأعراف : ١٤٨].

وقوله عزوجل :

(فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [سورة طه : ٨٨ ـ ٩٤].

وقوله : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) [الأعراف : ١٥٠].

فهذا هو الصدق حقا ، إنما عمل لهم العجل الكافر الضالّ السامري ، وأما «هارون» فنهاهم عنه جهده ، وأنهم عصوه ، وكادوا يقتلونه ، وقد تبين الصّبح لذي عينين ، ولاح صدق قوله تعالى من كذب الآفكين.

وأما «الخوار» فقد صح عن ابن عباس ما لا يجوز سواه ، وأنه إنما كان دويّ الريح تدخل من قبله وتخرج من دبره (١) ، وهذا هو الحق لأنه تعالى أخبر أنه لا يكلمهم ، ولو خار من عند نفسه لكان ضربا من الكلام ، ولكانت حياة فيه ، وهو محال ، إذ لا تكون معجزة ، ولا إحالة لغير نبي أصلا. وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) اختلف المفسرون في كيفية هذا الخوار ، وقد بيّن الفخر الرازي في تفسيره (٨ / ٦ ، ٧) هذه الاختلافات ، فقال : «قال قوم : كان قد أخذ كفّا من تراب حافر فرس جبريل عليه‌السلام فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحما ودما وظهر منه الخوار مرة واحدة ، فقال السامريّ : هذا إلهكم وإله موسى. وقال أكثر المفسرين من المعتزلة : إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص ، وكان قد وضع ذلك التمثال على مهبّ الريح ، فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ويظهر منه صوت مخصوص يشبه خوار العجل. وقال آخرون : إنه جعل ذلك التمثال أجوف وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار. قال صاحب هذا القول : والناس قد يفعلون الآن في هذه التصاوير التي يجرون فيها الماء على سبيل الفوارات ما يشبه ذلك ، فبهذا الطريق وغيره أظهر الصوت من ذلك التمثال».

١٨٩

فصل

الإله يستجيب لموسى في العفو عن بني إسرائيل

وفي خلال هذه الفصول ذكر أن الله عزوجل قال لموسى : دعني أغضب عليهم وأهلكهم ، وأقدمك على أمة عظيمة ، وأن موسى رغب إليه وقال له : تذكّر إبراهيم وإسرائيل وإسحاق عبيدك الذين خلقتهم بيدك ، وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى يكونوا كنجوم السماء ، وأورثتهم جميع هذه الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها ، فحنّ السيد ولم يتم ما كان أراد إنزاله من المكروه بأمته.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : في هذا الفصل عجائب.

أحدها : إخباره بأن الله تعالى لم يتم ما أراد إنزاله من المكروه بهم ، وكيف يجوز أن يريد الله عزوجل إهلاك قوم قد تقدّم وعده لهم بأمور ولم يتمها لهم بعد؟ وحاش لله من أن يريد إخلاف وعده فيريد الكذب.

وثانيها : نسبتهم البداء (١) إلى الله عزوجل ، وحاش لله من ذلك ، والعجب من إنكار من أنكر منهم النسخ بعد هذا ، ولا نكرة في النسخ لأنه فعل من أفعال الله أتبعه بفعل آخر من أفعاله مما قد سبق في علمه كونه كذلك ، وهذه صفة كل ما في العالم من أفعاله تعالى.

وأما البداء : فمن صفات من يهم بالشيء ثم يبدو له غيره ، وهذه صفة المخلوقين لا (٢) صفة من لم يزل ولا يخفى عليه شيء في المستأنف.

وثالثها : قوله فيها : «ويملكونها» ، وهذا كذب ظاهر ما ملكوها إلّا مدة ثم خرجوا عنها إلى الأبد ، والله تعالى لا يكذب ، ولا يخلف وعده.

فصل

طلب الإله لموسى أن يذهب وقومه لفلسطين

وبعد هذا ذكر أن الله تعالى قال لموسى : اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك التي أخرجت من مصر إلى الأرض التي وعدت بها مقسما «إبراهيم» و «إسحاق»

__________________

(١) انظر الحاشية (٢) صفحة ١٢٠.

(٢) في الأصل : «ولا» والسياق يقتضي حذف الواو.

١٩٠

و «يعقوب» لاورثها نسلهم ، وأبعث بين يديك ملكا لإخراج «الكنعانيين» ، و «الأموريين» ، و «الحيثيين» ، و «الفرزيين» ، و «الحويين» ، و «اليبوسيين» ـ تدخل في أرض تفيض لبنا وعسلا ، لست أنزل معكم لأنكم أمة قساة الرقاب لئلا تهلك بالطريق. فلما سمعت العامة هذا الوعيد الشديد عجبت ولم تأخذ زينتها ، فقال السيد لموسى : قل لبني إسرائيل أنتم أمة قد قست رقابكم سأنزل عليكم مرة وأهلككم ، فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعل بكم.

وبعد ذلك بفصول قال : «إن موسى قال لله تعالى : إن كنت سيدي عني راضيا فأنا أرغب إليك أن تذهب معنا».

وبعد ذلك : «إن الله تعالى قال لموسى : سأخرج بنفسي بين يديك».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : في هذا الفصل كذبتان وتشبيه محقق أما الكذبتان : فإحداهما قوله : إنه سيبعث بين يدي موسى ملكا لإخراج الأعداء ، وأما هو تعالى فليس ينزل معهم ثم نزل معهم ، وهذا كذب لا مخلص منه ، تعالى الله عن هذا ، وحاش له من أن يقول سأفعل ثم لا يفعل ، وأن يقول لا أفعل ثم يفعل.

والثانية قوله : «إني سأنزل لكم مرة وأهلككم» ثم لم يفعل. حاش لله من هذا.

وأما التشبيه المحقق : فامتناعه من أن ينزل بنفسه ، واقتصاره على أن يبعث ملكا لنصرتهم ، ثم أجاب إلى النزول معهم ، وهذا لا يسوغ فيه ما يسوغ في حديث التنزيل من أنه فعل بفعله تعالى ، لأنه لو كان هذا لكان إرسال الملك أقوى ما يوجد في العالم ، فإذ (١) قد بطل فقد صح أنه نزول نقلة ولا بد.

فصل

ادعاء التوراة أن الله وعد موسى أن يراه من ظهره لا من وجهه

وفي خلال هذه الفصول قال : وكان السيد يكلم «موسى» مواجهة فما بفم كما يكلم المرء صديقه ، وأن موسى رغب إلى الله تعالى أن يراه ، وأن الله تعالى قال له : سأدخلك في حجر ، وأحفظك بيميني حتى أجتاز ثم أرفع يدي وتبصر ورائي لأنك لا تقدر أن ترى وجهي.

__________________

(١) كانت في الأصل : «فإذا» والصواب ما أثبتناه.

١٩١

ففي هذين الفصلين تشبيه شنيع قبيح جدا من إثبات آخر بخلاف الوجه وهذا ما لا مخرج منه.

فصل

وفي السفر الثالث : أن الباري تعالى قال له : من ضاجع امرأة عمه أو خاله ، أو كشف عورة بنته فيحملان جميعا ذنوبهما ويموتان من غير أولاد.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : كنا ذكرنا أننا لا نخرّج عليهم من توراتهم كلاما لا يفهم معناه ، إذ للقائل أن يقول : قد أصاب الله به ما أراد ، لكن هذا المكان لم يتخلف فيه وعدنا ، لأنها شريعة مكلّفة ملزمة ، ومن المحال أن يكلّف الله الناس عملا لا يفهمونه ولا يعقلون معنى الأمر به.

فصل

وفي السفر الرابع : ذكر أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر ، القادرين على القتال خاصة ـ من كان ابن عشرين سنة فصاعدا ـ كانوا ستمائة ألف مقاتل وثلاثة آلاف مقاتل وخمسمائة مقاتل ، وخمسين مقاتلا ، وأنه لا يدخل في هذا العدد من كان له أقل من عشرين ولا من لا يطيق القتال ، ولا النساء جملة ، وأن عددهم إذ دخلوا الأرض المقدسة ستمائة ألف رجل ، وألف رجل ، وسبعمائة رجل وثلاثون رجلا. لم يعدّ فيهم من له أقل من عشرين سنة ، وأن على هؤلاء قسمت الأرض المغنومة ، وعلى النساء وعلى من كان دون العشرين أيضا.

وفي كتبهم : أن «داود» عليه‌السلام أحصى في أيامه بني إسرائيل فوجد بني «يهوذا» خاصة : خمسمائة ألف مقاتل. ووجد التسعة الأسباط الباقية ـ حاش بني لاوي ، وبني بنيامين فلم يحصهما ـ ألف ألف مقاتل غير ثلاثين ألفا سوى النساء ، وسوى من لا يقدر على القتال من صبي أو شيخ أو معذور ، وكل هؤلاء ، إنما كانوا في «فلسطين» و «الأردن» وبعض عمل «الغور» فقط. والبلد المذكور بحالته كما كان لم يزد بالاتساع ولا نقص.

وفي كتبهم أيضا : أن إبيا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه‌السلام قتل من العشرة الأسباط من بني إسرائيل خمسمائة ألف رجل. وأن ابنه «انتيا بن إبيا» كان معه من بني يهوذا خاصة ثلاثمائة ألف مقاتل ومن بني بنيامين خاصة اثنين وخمسين ألف مقاتل.

١٩٢

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : البلد المذكور باق لم ينقص ولا صغرت أرضه. وحدّه بإقرارهم في الجنوب «غزة» و «عسقلان» و «رفح» وطرف من جبال الشراة ـ بلد «عيسو» ، ولا خلاف بينهم في أنهم لم يملكوا قط قرية فما فوقها من هذه البلاد ، وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين مرة لبني إسرائيل ومرارا عليهم. وحد ذلك البلد في الغرب : البحر الشامي. وحدّه في الشمال : «صور» و «صيدا» وأعمال «دمشق» التي لا يختلفون في أنهم لم يملكوا قط منها مضرب وتد ، وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين لهم ، فمرة عليهم ومرة لهم ، وفي أكثر ذلك يملكون بني إسرائيل ويسومونهم سوء العذاب ، ومرة يخرج بنو إسرائيل عن ملكهم فقط ، وحدّ البلد المذكور في الشرق بلاد «موآب» و «عمون» وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال ، ولا خلاف بينهم في أن نصّ توراتهم أن الله تعالى قال لموسى وبني إسرائيل : «إلى هنا لا تحاربوا بني «عيسو» ، ولا «بني موآب» ، ولا «بني عمون» فإني لم أورثكم من بلادهم وطأة قدم فما فوقها ، لأني قد ورثت بني عيسو ، وبني لوط هذه البلاد ، كما ورثت بني إسرائيل تلك التي وعدتم بها» ، وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها يحاربونهم ، فمرة يملكهم «بنو عمون» و «بنو موآب» ، ومرة يخرجون عن رقهم فقط ، وطول بلاد بني إسرائيل المذكورة بمساحة الحلفاء المحققة من «عقبة أفيق» ، وهي على أربعة وخمسين ميلا من دمشق إلى طبرية ، ثمانية أميال ، وهي «جبل أفرايم» إلى الطور اثني عشر ميلا ، إلى «اللجون» اثني عشر ميلا ، إلى «علمين» عندهما ينقطع عمل الأردن ، ومبدأ عمل فلسطين ميل واحد ، إلى الرملة نحو أربعين ميلا ، إلى عسقلان ثمانية عشر ميلا. وموضع الرملة هو كان آخر عمل بني إسرائيل. فذلك ثلاثة وسبعون ميلا. وعرضه من البحر الشامي إلى أول عمل جبل الشراة ، وأول عمل موآب ، وأول عمل «عمان» ، نحو ذلك أيضا. وعمل صغير شرقي الأردن يسمى «الغور» فيه مدينة «بيسان» يكون أقل من ثلاثين ميلا في ثلاثين ميلا ولا يزيد ، وكان هذا العمل الذي بشرقي الأردن بزعمهم وقع لبني رؤوبين و «بني جاد» ونصف بني منسى بن يوسف عليه‌السلام ، لأنه كان يصلح لرعي المواشي وكان هؤلاء أصحاب بقر وغنم.

فاعجبوا لهذا الكذب الفاحش المفضوح ، وهذا المحال الممتنع أن تكون المسافة المذكورة تقسم أرضها على عدد يكون أبناء العشرين منهم فصاعدا خاصة أزيد من ستمائة ألف فأين من دون العشرين؟ وأين النساء؟ والكل بزعمهم أخذ سهمه من الأرض المذكورة ليعيش من زرعها وثمرتها ، واعلموا أنه لا يمكن البتة أن يكون في

١٩٣

المساحة المذكورة تكون مساحة كل قرية ميلا في ميل ، مزارعها ومشاجرها إلا ستة آلاف قرية ومائتي قرية ، هذا على أن يكون جميع العمل المذكور عمرانا متصلا ، لا مرج فيه ولا شجر ، ولا أرض محجرة لا تعمر ، ولا أرض مرملة كذلك ، ولا سبخة ملح كذلك ، وهذا محال أن يكون. فعلى هذا يقع لكل قرية من الرجال المذكورين مائة رجل أو نحو ذلك ، سوى من هو دون العشرين منهم ، وسوى النساء ، ولا سبيل البتة على هذا أن يدركوا فيها المعاش ، وهذا كذب لا خفاء به ، لا سيما إذ بلغوا ألف ألف مقاتل وخمسمائة مقاتل ، سوى من لا يقاتل ، وسوى النساء.

أين هذا الكذب البارد من الحق الواضح في قوله تعالى حاكيا عن فرعون أنه قال إذ تبع بني إسرائيل (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [سورة الشعراء : ٥٤].

هذا الذي لا يجوز غيره ، ولا يمكن سواه أصلا.

وكذبة أخرى : وهي أنهم ذكروا في كتاب «يوشع» : أن البلد المذكور كان فيه من المدن في سهم بني يهوذا مائة مدينة وأربعة مدن ، وفي سهم بني شمعون سبع عشرة مدينة ، وفي سهم بني بنيامين ثمان وعشرون مدينة ، وفي سهم بني زبلون اثنتا عشرة مدينة ، وفي سهم بني نفتالي تسع عشرة مدينة. وفي سهم بني دان ثماني عشرة مدينة فذلك مائتا مدينة واثنتان وست وثلاثون مدينة. قال في الكتاب المذكور : «سوى قراها» لا يحصيها إلا الله عزوجل.

وذكر فيه أنه وقع لنصف «بني منسى» بن يوسف بشرقي الأردن «باشان» (١) وعملها ، وأن مدائنهم المحصنة ستون مدينة سوى قراها لا يحصيها إلا الله. فالمجتمع من هذه المدن المذكورة ثلاثمائة مدينة غير أربع مدن ، ولم يذكر عدد مدائن بني «رؤوبين» ولا عدد مدائن بني عاد ، ولا عدد مدائن نصف بني منسّى الذي بغرب الأردن ، ولا مدائن بني أفرايم.

وهذه الأسباط التي لم تذكر مدنها تقع على ما توجبه توراتهم في الربع من جميع بني إسرائيل ، يقع لهم على هذا الحساب نحو مائة مدينة. إذا ضمت إلى العدد الذي ذكرنا فتمام الجميع نحو أربعمائة مدينة. فاعجبوا لهذه الشهرة (٢) أن تكون البقعة

__________________

(١) في مراصد الاطلاع (ص ١٥٣) : «باشان : من قرى هراة».

(٢) الشهرة : ظهور الشيء في شنعة (المعجم الوسيط : ص ٤٩٨).

١٩٤

التي قد ذكرنا مساحتها على قتلها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن. وقد ذكر أن نصف سبط بني منسى الذين وقعوا بشرقي الأردن ، ووقع في خطهم ستون مدينة كانوا ستة وعشرين ألف رجل مقاتلين كلهم ليس فيهم ابن أقل من عشرين سنة ، والعمل باق إلى اليوم لعله اثني عشر ميلا في مثلها ، ما رأيت أقل حياء من الذي كتب لهم تلك الكتب المرذولة ، وسخم (١) بها وجوههم. ونعوذ بالله من الضلال.

فصل

ويتصل بهذا الفصل فصل آخر هو أشنع منه في شهرة الكذب وشنعة المحال ، وظهور التوليد ، وبشاعة الافتعال :

ذكر في صدر السفر الثاني إذ ذكر خروج بني إسرائيل عن مصر مع موسى عليه‌السلام : أن الله تعالى أمر موسى أن يعد بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر بسنة واحدة ، وشهر واحد فقط ، فعدّ جميع قبائلهم فقال : هؤلاء أكابر البيوت في قبائلهم : «حنوك» و «فلو» و «حصرون» و «كرمى» وهم بنو «رؤوبين» بكر ولد «إسرائيل» ، هذه قبائل «رؤوبين».

وذكر في أول السفر الرابع : أن مقدّمهم كان «اليصور بن شديئور» ، وأن عددهم كان ستة وأربعين ألف رجل ، لم يعدّ فيهم من له أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق الحرب.

وذكر في صدر السفر الثاني فقال : «وبنو شمعون» «يموئيل» و «يامين» و «أوهد» و «ياكين» و «صوحر» و «شأول» ابن الكنعانية. هذه قبائل شمعون.

وذكر في أول السفر الرابع : أن مقدّمهم كان شلوميئيل بن صوريشداي. وأن عددهم كان تسعة وخمسين ألف رجل ، لم يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة ، ولا من لا يطيق الحرب.

وقال في صدر السفر الثاني : هذه تسمية بني لاوي في قبائلهم «جرشون» و «قهاث» و «مراري» و «ابنا جرشون» و «لبنى» و «شمعي» في قبائلهم ، و «بنو قهاث» : «عمرام» و «يصهار» و «حبرون» و «عزيئيل». وابنا مراري : «محلى» و «موشى». هذه أنساب بني لاوي في قبائلهم. فتزوج «عمران» «يوكابد» عمته ، فولدت له «موسى» و «هارون»

__________________

(١) التسخيم : التسويد.

١٩٥

وبنو يصهار : «قورح» و «نافج» و «ذكرى» وبنو قورح : «أشير» و «القانة» و «أبياساف». وبنو عزيئيل : «ميشائيل» و «الصافان» ، و «سترى». فتزوج «هارون» إلى «يشيع» بنت «عميناداب» أخت نخشون ، فولدت له «ناداب» و «أبيهوا» و «العازار» و «إيثامار» فتزوج «العازار» بن هارون في بنات بني «فوطيئيل» فولدت «فيحاس».

وقال في صدر السفر الرابع : فكلم السيد موسى في غار سينا ، وقال له : عدّ بني لاوي في بيوت آبائهم وأهاليهم ، فكل ذكر ابن شهر فصاعدا حسبهم موسى كما عهد إليه السيد فوجد ولد «لاوي» على أسمائهم مسمين : «جرشون» و «قهاث» و «مراري». وولد جرشون «لبني» و «شمعي». وولد «قهاث» «عمرام» و «يصهار» و «عزيئيل». وولد مراري : «محلى» و «موشى». وأنه عدّ عامة ذكور بني «جرشون» ابن شهر فصاعدا فكانوا ستة آلاف وخمسمائة ، كانوا في ساقة القبة في الغرب تحت أيدي «الياساف» ابن «لايل». وبعد ذلك ذكر أنه حسب ألفي رجل وستمائة رجل وثلاثين رجلا. ثم قال : هذه نسبة «قهاث» خرج منه رهط «عمرام» و «يصهار» و «حبرون» و «عزيئيل» فحسب من كان منهم ذكرا ابن شهر فصاعدا ، فوجدهم ثمانية آلاف رجل وستمائة ذكر مقدّمهم «لصافان» بن «عزيئيل» المذكور. وأمرهم أن يكونوا في جنوب القبة ، حاش موسى و «هارون» وأولادهما ، فإنهم يكونون أمام القبة في الشرق ، وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة إلى ابن خمسين سنة فقط فوجدهم ألفي رجل وسبعمائة رجل وخمسين رجلا. وذكر أنه حسب بني مراري «محلى» و «موشى» بني مراري ومن كان منهم ابن شهر فصاعدا من الذكور فوجدهم ستة آلاف ومائتين مقدّمهم : «صوريئيل» بن «أبيحايل» وأمرهم أن يكونوا في شمال القبة ، وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى خمسين سنة فوجدهم ثلاثة آلاف رجل ، ومائتي رجل. وبعد أن ذكر من كان من بني لاوي ابن شهر فصاعدا من الذكور كما أوردنا قال : فجميع اللاويين الذين حسب موسى وهارون من كل ذكر من ابن شهر فصاعدا اثنان وعشرون ألفا.

وأن السيد أوحى إلى موسى : احسب بكور ذكور ولد إسرائيل المذكور من ابن شهر فصاعدا ، وتأخذ لي اللاويين عن بكور جميع ولد إسرائيل فعدّ موسى بكور ولد بني إسرائيل الذكور من ابن شهر فصاعدا فوجدهم اثنين وعشرين ألفا ، ومائتين وثلاثة وسبعين. فقال السيد لموسى : خذ «بني لاوي» عن بكور ذكور ولد إسرائيل ليكون «بني لاوي» لي ، وعن المائتين والثلاثة والسبعين الزائدين عن عدد بني لاوي ، تأخذ عن

١٩٦

كل واحد خمسة أثقال بوزن الهيكل ، فأخذ موسى دراهم الزائدين فبلغت ألفا وثلاثمائة وخمسة وستين ثقلا ، وأعطاها لهارون وولده على ما عهد عليه السيد.

ثم ذكر في سفر «يوشع» أن «العازار بن هارون» بنفسه أتى إلى «يوشع بن نون» إذ فتحت الأرض المقدسة ، وكلمه في أن يعطي «بني لاوي» مدائن للسكنى ففعل. وأنه وقع لبني هارون خاصة ثلاثة عشرة مدينة من مدائن بني «يهوذا» و «بنيامين» و «شمعون». وأنه وقع لسائر بني «قاهاث» بن «لاوي» عشر مدائن من مدائن بني دان وبني أفرايم ، ونصف سبط منسى الذين مع سائر الأسباط ، وأنه وقع لبني جرشون بن لاوي ثلاث عشرة مدينة من مدائن «يساخر» ، و «أشار» ، و «نفتالي» ونصف سبط «منسى» الذي بشرق الأردن. وأنه وقع لبني مراري بن لاوي اثنتي عشرة مدينة من مدائن بني زابلون ، وبني رؤوبين ، وجاد بن يعقوب بشرقي الأردن فذلك لبني لاوي ثمان وأربعون مدينة.

وذكر في السفر الرابع : أنه أحصى أيضا بني جاد بن يعقوب الرجال خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب فوجدهم خمسة وأربعين ألف رجل وخمسين رجلا ، مقدمهم «ألياساف بن رعوئيل» وأنه أحصى بني «يهوذا» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب خاصة فوجدهم أربعة وسبعين ألفا وستمائة رجل ، وقد ذكر قبل وبعد أن هذا العدد كله إنما هم من ولد «شيلة» ، و «فارص» و «زارح» بني يهوذا فقط ، مقدمهم «نحشون» بن عميناداب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إسرائيل.

وأنه أحصى بني يساكر الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب خاصة ، فوجدهم أربعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل ، مقدمهم «نثنائيل بن صوغر» ، وأنه أحصى «بني زبلون» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب خاصة فوجدهم سبعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل ، مقدمهم «ألباب بن حيلون» ، وأنه حسب بني «يوسف» عليه‌السلام الذكور خاصة ، من كان منهم ابن عشرين فصاعدا المبارزين للحرب خاصة ، فوجدهم اثنين وسبعين ألف رجل وسبعمائة رجل منهم من ولد «أفرايم بن يوسف» أربعون ألف رجل ، وخمسمائة رجل ، ومقدمهم «اليشمع بن عميهود» ومن ولد «منسى» بن يوسف اثنان وثلاثون ألف رجل ، ومائتا رجل ، مقدمهم «جملئيل بن فدهصور» ، وأنه حسب بني «بنيامين» الذكور خاصة ، من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب

١٩٧

خاصة فكانوا خمسة وثلاثين ألف رجل ، وأربعمائة رجل مقدّمهم «أبيدن بن جدعوني». وأنه حسب «بني دان» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعدا من المبارزين للحرب خاصة فكانوا : اثنين وستين ألف رجل وسبعمائة رجل ، مقدمهم «أخيعزر بن عميشداي» وكلهم من ولد «حوشم بن دان» وأنه حسب «بني أشير» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعدا من المبارزين للحرب خاصة ، فوجدهم واحدا وأربعين ألف رجل وخمسمائة رجل ، مقدمهم «فجعيئيل بن عكران» وأنه حسب «بني نفتالي» من كان منهم من الذكور خاصة ابن عشرين فصاعدا المبارزين للحرب خاصة ، فوجدهم ثلاثة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل ، مقدمهم «أخيرع بن عينن» وأن هذا الحساب كان بعد عام واحد وشهر واحد من خروجهم من مصر حاش قسمة المدائن المذكورة وأنها بعد دخولهم فلسطين والأردن.

فليتأمل كل ذي تمييز صحيح من الخاصة والعامة هذا الكذب الفاحش الذي لا خفاء به ، والمحال الممتنع ، والجهل المفرط الموجب كل ذلك ضرورة أنها كتب محرفة مبدّلة من تحريف فاسق سخر بهم ، وأنها لا يمكن البتة أن تكون من عند الله ، ولا من عند نبي ، ولا من عمل صادق اللهجة.

فمن ذلك إخباره : بأن رجال «بني دان» كانوا إذ خرجوا من مصر اثنين وسبعين ألفا وسبعمائة رجل ، لم يعد فيهم من كان منهم ابن أقل من عشرين سنة ، ولا من لا يطيق البروز للحرب ، ولا النساء ، وأنهم كلهم راجعون إلى «حوشيم بن دان» وحده. ولم يكن «لدان» بإقرارهم ولد غير «حوشيم» مع قرب أنسابهم من «حوشيم» ، لأن في نصّ توراتهم : أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه‌السلام : أن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام ، فاضبطوا هذا يظهر لكم الكذب علانية لا خفاء به ، وأن «بني يهوذا» كانوا أربعة وسبعين ألفا وستمائة رجل ، ليس غيرهم. وفي الحياة يومئذ رئيسهم : «نحشون» بن عميناداب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا. وأن «بني يوسف» عليه‌السلام : كانوا اثنين وسبعين ألف رجل ، وسبعمائة رجل ، ليس يعد فهم من له أقل من عشرين سنة وكلهم راجع إلى «أفرايم» و «منسى» لم يعقب ليوسف غيرهما ، وفيهم يومئذ في الحياة «صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن منسى بن يوسف» عليه‌السلام.

وقد ذكر أيضا في توراتهم أولاد «أفرايم» فلم يجعل له إلا ثلاثة ذكور ، ولم يجعل «لمنسى» إلا ولدين. وذكر أولاد «جلعاد» المذكور ابن «منسى» ولم يجعل له إلا ستة ذكور فقط ، فاجعلوا «لمنسى» و «أفرايم» أقصى ما يمكن أن يكون للرجل من

١٩٨

الأولاد ، ثم لجلعاد وإخوته وبني عمه مثل ذلك. ثم «لحافر» وطبقته مثل ذلك. وانظروا هل يمكن أن يبلغ ذلك ثلث هذا العدد. والأمر في ولد «دان» أفحش من سائر ما في ولد إخوته ، وإن كان الكذب في كل ذلك فاحشا ، لأن البضع والسبعين ألف رجل وزيادة لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة ، يرجعون إلى ثلاثة من ولد «يهوذا» ، واثنين من ولد «يوسف» وأما الاثنان وستون ألف رجل ونيف لا يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة ، فإنما يرجع إلى واحد فقط لم يكن «لدان» غيره بلا خلاف منهم ، فكيف إذا أضيف إلى هذا العدد من له أقل من عشرين سنة من الرجال؟ والأغلب أنهم قريب من عدد المتجاوزين عشرين سنة أو أقل بيسير ، وجميع النساء والأغلب أنهن في عدد الرجال أو قريبا من ذلك ، فيجتمع من ولد «حوشيم بن دان» وحده في مدى مائتي عام وسبعة عشر عاما نحو مائة ألف وستين ألف إنسان.

هذا المحال الممتنع الذي لم يكن قط في العالم على حسب بنيته ورتبته.

ويجتمع من ولد «يوسف» عليه‌السلام على هذا أرجح من مائتي ألف إنسان ومن ولد «يهوذا» نحو ذلك ، وليس يمكنهم أن يقولوا إن الطبقات من الولادات كانت كثيرة جدا لوجهين :

أحدهما : قوله في توراتهم إن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام.

والثاني : أن الذي ذكر أنسابهم من «بني لاوي» ، و «بني يهوذا» ، و «بني يوسف» و «بني رؤوبين» كانوا متقاربين في التعداد «كموسى» و «هارون» و «مريم» بني «عمران بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل». و «اليصافان بن عزيئيل بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل». وقورح وإخوته «بنو يصهار بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل». و «نحشون وإخوته بنو عميناداب بن آرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إسرائيل». و «أحار بن كرمى بن سيداي بن شيلة بن يهوذا بن إسرائيل». و «دابان» و «أبيرام» ابنا «الباب بن ملوكن بن روبان بن إسرائيل» وإخوتهم ، وأولادهم وأولاد أولادهم ، هذا نص ذكر أنسابهم في توراتهم ، فوضح أن الأمر متقارب في تعدادهم ، وظهر بهذا عظيم الكذب الفاحش في الأعداد التي ذكروا ، ولا يمكنهم البتة أن يقولوا : إنه كان لإسرائيل غير من سمينا من الأولاد الاثني عشر ، ولا أنه كان لأولاد إسرائيل المذكورين غير من سمينا من الأولاد ، وعددهم واحد وخمسون رجلا فقط ، «لبنامين» عشرة ، و «لجادا» سبعة ، و «لشمعون» ستة و «لرءوبين» و «أشير» و «يساخر» و «نفتالي» لكل واحد منهم أربعة أربعة. و «ليهوذا» و «لاوي» و «زبلون» لكل واحد منهم ثلاثة ثلاثة. و «ليوسف» ولدان اثنان.

١٩٩

فيا للناس!! كيف يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلا فقط في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاما فقط أزيد من ألفي ألف إنسان؟

هذا غاية المحال الممتنع ، لأنه نص في توراتهم : أنه انتسل منهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف رجل كلهم لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة. ولعلّ من دون العشرين عاما منهم يقاربون هذا العدد. ثم النساء ولعلهن نحو هذا العدد. فاعجبوا لهذه الفضائح. وقد رام بعض من صككت وجهه من علمائهم بهذه الفضيحة أن يلوذ بهذا الشغب. فقلت : دع عنك هذا التمويه فقد سدّت عليك توراتك كل المذاهب ، لأن فيها ـ بعلمك ـ حيث ذكر خروجهم من مصر ، وحيث ذكر دخولهم إلى الشام ، وحيث ذكر قسمة الأرض عليهم في سفر «يوشع» ذكر أفخاذ قبائلهم ، وتسمية أسباطهم اسما اسما ، فلم يزد على من سمينا ولا واحدا.

فلو كان ما تقول ، لكانت أيضا قد كذبت في هذا الموضع إذ ذكرت بزعمك هذا ، قسمة الأرض ، ورتبة الجيوش ، وأعداد الأسباط بخلاف ما تزعم. فلا بدّ فيها من الكذب المتيقن كيفما تصرفت الحال ، فسكت خاسئا.

فإن قيل : ألم يقل «يعقوب» إذ عرض عليه «يوسف» ابنه «أفرايم» و «منسى» فقال له «يعقوب» : «أفرايم» و «منسى» يكونان لي ، وينسبان إليّ ، ومن ولد لك بعدهما ينسبان إليك؟

قلنا : لا يخلو «يوسف» عليه‌السلام من أن لا يكون له ولد غيرهما ممّن أعقب خاصة ، كما نقول نحن ، وتشهد به نصوص توراتكم ، وجميع كتبكم ، أو يكون ليوسف ولد أعقب غير أفرايم و «منسى» ، فلو كان ذلك فكتبكم كلها كاذبة أولها عن آخرها من التوراة فما وراءها. لأنه في كل مكان ذكر فيه رتبة معكسر الأسباط سبطا سبطا وعددهم إذ خرجوا من مصر ، وعددهم إذ دخلوا الشام ، وعددهم إذ أهدوا الكباش والعجول وحقاق الذهب ، وعددهم إذ وقفوا على الجبلين للبركة واللعنة ، وعددهم إذ نقشت أسماؤهم في الفصوص المرتبة على صدر هارون في أزيد من ألف موضع في سائر كتبهم. ولم يذكر ليوسف إلا سبطين فقط ، سبط «منسّى» ، وسبط «أفرايم» فبطل الاعتراض بذلك الكلام المذكور. وبالله التوفيق.

وقد علم كل من يميز من الرجال والنساء أن الكثرة الخارجة من الأولاد لم توجد في العالم لصعوبة الأمر في تربية أطفال الناس ولكون الإسقاط في الحوامل ، ولإبطاء حمل المرأة بين بطن وبطن ، ولكثرة الموت في الأطفال.

٢٠٠