الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

وسائر الأجناس في المساجد ببيت المقدس وغيره ، التي هي بيوت الله تعالى.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وأمّا الطائفة التي أجازت إلّا أنها أخبرت أنه لم يكن فإنه يقال لهم ـ وبالله تعالى التوفيق ـ بأيّ شيء علمتم صحة نبوة موسى عليه‌السلام ، ووجوب طاعته؟

فلا سبيل إلى أن يأتوا بشيء غير إعلامه وبراهينه ، وأعلامه الظاهرة.

فيقال لهم ـ وبالله تعالى التوفيق ـ : إذا وجب تصديق موسى ، والطاعة لأمره لما ظهر من إحالة الطبائع على ما بيناه الكلام في بيان إثبات النبوات ، فلا فرق بينه وبين من أتى بمعجزات غيرها ، وبإحالة لطبائع أخر ، وبضرورة العقل يعلم كل ذي حس أن ما أوجبه لنوع فإنه واجب لأجزائه كلها. فإذا كانت إحالة الطبائع موجبة تصديق من ظهرت عليه فوجوب تصديق موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام واجب وجوبا مستويا ، ولا فرق بين شيء منه بالضرورة.

ويقال لهم : ما الفرق بينكم في تصديقكم بعض من ظهرت عليه المعجزات وتكذيبكم بعضهم؟ وبين من صدق من كذبتم ، وكذب من صدقتم كالمجوس المصدقين بنبوة «زرادشت» المكذبين بنبوة موسى ، وسائر أنبيائكم ، أو «المانوية» المصدقة بنبوة «عيسى» و «زرادشت» المكذبة بنبوة موسى ، أو «الصابئين» المكذبين بنبوة إبراهيم عليه‌السلام فمن دونه ، المصدقين بنبوة «إدريس» وغيره.

وكل هذه الفرق والملل تقول في «موسى» عليه‌السلام ، وفي سائر أنبيائكم أكثر مما تقولون أنتم في «عيسى» و «محمد» عليهما‌السلام ، تنطق بذلك تواريخهم وكتبهم ، وهي موجودة مشهورة. وأقرب ذلك إليكم «السامرية» الذين ينكرون نبوّة كل نبي لكم بعد موسى عليه‌السلام ، ولا سبيل إلى أن تأتوا على جميع من ذكرنا بفرق إلا أتوكم بمثله ، ولا أن تدّعوا عليهم دعوى إلّا ادعوا عليكم بمثلها ، ولا أن تطعنوا في نقلهم بشيء إلا أروكم في نقلكم مثله سواء بسواء.

وقد نبه الله تعالى على هذا البرهان بقوله تعالى :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [سورة العنكبوت : ٤٦].

فنص تعالى على أن طريق الإيمان بما آمنوا به من النبوة ، وطريق ما آمنا به نحن منها واحد ، وأنه لا فرق بين شيء من ذلك ، وأن الإيمان بالإله الباعث لموسى هو

١٢١

الإيمان بالإله الباعث لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأن طريق كل ذلك طريق واحدة ، لا فرق فيها. وبالله التوفيق.

وأما شغب من شغب منهم بأننا نؤمن بموسى ، وهم لا يؤمنون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو شغب ضعيف بارد لأنهم لا يخلون من أن يكونوا إنما صدّقوا بنبوة موسى من أجل تصديقنا نحن ، ولو لا ذلك لم يصدقوا به ، أو يكون إنما صدّقوا به لما أظهر من البرهان فقط.

فإن كانوا إنما صدّقوا به من أجل تصديقنا نحن فواجب عليهم أن يصدقوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل تصديقنا نحن به ، وإلا فقد تناقضوا.

وإن كان إنما صدّقوا به لما أظهر من الآيات فلا معنى لتصديق من صدّقه ولا لتكذيب من كذبه ، والحق حق صدقه الناس أو كذّبوه ، والباطل باطل صدّقه الناس أو كذبوه ، ولا يزيد الحق درجة في أنه حقّ إطباق الناس كلّهم على تصديقه ، ولا يزيد الباطل مرتبة في أنه باطل تكذيب الناس كلهم له.

ولا يظن ظانّ أننا في مناظرتنا من نناظره من أهل ملتنا المخالفين لنا في بعض أقوالنا بالإجماع قد نقضنا كلامنا في هذا المكان ، فليعلم أننا لم ننقضه لأن الإجماع حجة قد قام البرهان على صحتها في الفتيا في دين الإسلام. وما قام على صحته البرهان فهو حجة قاطعة على من خالفه ، وعلى من وافقه. وأمّا أن نحتج على مخالفنا بأنه موافق لنا في بعض ما نختلف فيه فليس حجة علينا ، فإن وجد لنا يوما من الأيام فإنما نخاطب به جاهلا نستكفّ تخليطه بذلك ، أو نبكته لنريه تناقضه فقط.

وأيضا فإنا إنما آمنا بنبوة «موسى» الذي أنذر بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالتوراة التي فيها الإنذار برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسمه ونسبه وصفة أصحابه رضي الله عنهم.

وهكذا نقول في «عيسى» والإنجيل حرفا حرفا ، لا بنبوة من لم ينذر بنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا نؤمن «بموسى» و «عيسى» اللذين لم ينذرا برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا نؤمن بتوراة ولا إنجيل ليس فيهما الإنذار برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبصفة أصحابه ، بل نكفر بكل ذلك ، ونبرأ منهم ، فلم نوافقهم قط على ما يدّعونه. فبطل شغبهم الضعيف وبالله تعالى التوفيق.

وجملة القول في هذا أن نقل اليهود والنصارى فاسد لما ذكرنا ، ونذكر إن شاء الله تعالى من عظيم المفتريات الداخلة في كتبهم المبينة أنها مفتعلة ، ونبيّن فساد نقلهم.

١٢٢

فإنما صدّقنا بنبوة موسى وعيسى عليهما‌السلام لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدّقهما وأخبرنا عنهما وعن أعلامهما ، ولو لا ذلك لما صدقنا بهما ولا قطعنا بصحتهما ، وكذلك نقول في «إلياس» و «اليسع» و «يونس» و «لوط» في ذلك.

كما أننا لا نقطع بصحة نبوة «سموال» و «حقاي» و «حبقوق» وسائر الأنبياء الذين عندهم كموسى وسائر من ذكرنا ولا فرق.

ولكن نقول «آمنا بالله وكتبه ورسله» فإن كان المذكورون أنبياء فنحن نؤمن بهم ، وإن لم يكونوا أنبياء فلا ندخل في أنبياء الله تعالى من ليس منهم بأخبار اليهود والنصارى الكاذبة التي لا أصل لها ، الراجعة إلى قوم كفار كاذبين ، وبالله تعالى نتأيد.

وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤].

وقال تعالى في الرسل : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [سورة غافر : ٧٨].

فنحن نؤمن بالأنبياء جملة ، ولا نسمي منهم إلّا من يسمي محمد (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ويقال لسائر فرق اليهود حاشا السامرية : ما الفرق بينكم وبين السامرية الذين كذبوا بنبوّة كل نبي صدقتم أنتم به بعد يوشع بمثل ما كذبتم أنتم به «عيسى» و «محمدا» صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ .. وهذا ما لا انفكاك منه بوجه من الوجوه.

فإن ادّعوا أن عيسى ومحمدا عليهما‌السلام لم يأتيا بالمعجزات بان كذبهم ومجاهرتهم ، إذ قد نقلت الكواف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه سقى العسكر في «تبوك» وهم ألوف كثيرة من قدح صغير نبع فيه الماء من بين أصابعه عليه‌السلام (٢). وفعل أيضا مثل ذلك بالحديبية ، وأنه أطعم عليه‌السلام في منزل «أبي طلحة» أهل الخندق حتى شبعوا (٣).

__________________

(١) أي من ينصّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شريعته.

(٢) تقدم هذا الحديث مع تخريجه أكثر من مرة.

(٣) روى البخاري في الأطعمة باب ٦ ، ومسلم في الأشربة حديث ١٤٢ ، ومالك في صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث ١٩ ، عن أنس بن مالك قال : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء؟ فقالت : نعم. فأخرجت أقراصا من شعير. ثم أخذت خمارا لها فلفّت الخبز ببعضه ثم دسّته تحت يدي وردّتني ببعضه. ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فذهبت به ، فوجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في المسجد ومعه الناس ، فقمت عليهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارسلك أبو طلحة؟» قال : فقلت : نعم. قال : «للطعام؟» فقلت : نعم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن معه : «قوموا». قال : فانطلق وانطلقت بين

١٢٣

وفي منزل «جابر» أيضا (١).

ورمى «هوازن» في جيش فعميت عيون جميعهم بتراب يده (٢) ، وفيها أنزل الله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال : ١٧].

__________________

أيديهم ، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم. فقالت : الله ورسوله أعلم. قال : فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو طلحة معه حتى دخلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلمي يا أم سليم ، ما عندك؟» فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففتّ وعصرت عليه أم سليم عكّة لها فآدمته. ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شاء الله أن يقول. ثم قال : «ائذن لعشرة بالدخول» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال : «ائذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال : «ائذن لعشرة» فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا. ثم قال : «ائذن لعشرة» حتى أكل القوم كلهم وشبعوا ، والقوم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا.

(١) روى البيهقي في دلائل النبوة (٣ / ٤١٦ ، ٤١٧) والبخاري في صحيحه (كتاب المغازي ، باب ٣١ غزوة الخندق ، حديث ٤١٠١) واللفظ له ، عن جابر بن عبد الله قال : إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة ، فجاءوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق ، فقال : «أنا نازل» ثم قام وبطنه معصوب بحجر. ولبثتا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ، فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل ـ أو أهيم ـ فقلت : يا رسول الله ائذن لي إلى البيت! فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت : عندي شعير وعناق. فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ، ثم جئت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي ، قد كادت أن تنضج ، فقلت : طعيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال : «كم هو؟» فذكرت له ، قال : «كثير طيّب» قال : «قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنّور حتى آتي» فقال : «قوموا» فقام المهاجرون والأنصار ، فلما دخل على امرأته قال : ويحك جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم ، قالت : هل سألك؟ قلت : نعم ، فقال : «ادخلوا ولا تضاغطوا» فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمّر البرمة والتنّور إذا أخذ منه ويقرّب إلى أصحابه ثم ينزع ، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقيّة ، قال : «كلي هذا وأهدي فإنّ الناس أصابتهم مجاعة».

(٢) روى مسلم في صحيحه (كتاب الجهاد والسير ، باب في غزوة حنين ، حديث ٨١) عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حنينا ، فلما واجهنا العدوّ تقدمت فأعلو ثنيّة ، فاستقبلني رجل من العدوّ فأرميه بسهم فتوارى عني ، فما دريت ما صنع. ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنيّة أخرى ، فالتقوا هم وصحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فولّى صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأرجع منهزما وعليّ بردتان متّزرا بإحداهما مرتديا بالأخرى ، فاستطلق إزاري ، فجمعتهما جميعا ومررت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهزما وهو على بغلته الشهباء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد رأى ابن الأكوع فزعا». فلما غشوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل عن البغلة ، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ، ثم استقبل به وجوههم فقال : «شاهت الوجوه» فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة ، فولّوا مدبرين ، فهزمهم الله عزوجل ، وقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنائمهم بين المسلمين.

١٢٤

وشق القمر إذ سأله قومه آية (١) فأنزل الله تعالى في ذلك :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) [سورة القمر : ١ ـ ٤].

وكذلك حنين الجذع (٢) الذي سمعه كل من حضره من الصحابة رضوان الله عليهم. ومن أبهر ذلك وأعظمه قوله لليهود الذي كانوا في وقته وهم زيادة على ألف بلا شك ، ولعلهم كانوا ألوفا وهم بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو أهدل ، وبنو قينقاع ، أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في تكذيبهم نبوته ، وأعلمهم أنهم لا يستطيعون ذلك أصلا ، فعجزوا عن ذلك أي عن تمني الموت ، وحيل بينهم وبين النطق بذلك ، وهذه قصة منصوصة في سورة الجمعة يقرأ بها كل يوم جمعة في جميع جوامع المسلمين من شرق الدنيا إلى غربها. وقد كان أسهل الأمور عليهم أن يكذبوا بأن يتمنوا الموت لو استطاعوا ، وهم يسمعونه يقول : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [سورة الجمعة : ٦ ، ٧].

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا أمر لا يدفعه إلّا وقاح جاهل مكابر للعيان ، لأن القرون والأعصار نقلت هذه الآيات جيلا جيلا يخاطبون بها. فكل أذعن وأقر ، ولم يمكن أحد دفعه.

ودعا عليه‌السلام من حيث مبعثه العرب كلهم ـ على فصاحة ألسنتهم ، وكثرة استعمالهم لأنواع البلاغة من الإطالة والإيجاز ، والتصرف في أفانين البلاغة ، والألفاظ المركبة على وجوه المعاني ـ إلى أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ثم ردّهم إلى سورة فعجزوا كلّهم عن ذلك على سعة بلادهم طولا وعرضا ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام بين أظهرهم ثلاثة وعشرين عاما ، يستسهلون قتله ، والتعرض لسفك دمائهم ، واسترقاق ذراريهم ، وقد أضربوا عمّا دعاهم إليه من المعارضة للقرآن جملة.

__________________

(١) روى البخاري في مناقب الأنصار (باب ٣٦ ، حديث ٣٨٦٨) عن أنس بن مالك رضي الله عنه : «أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقّتين حتى رأوا حراء بينهما».

وروى مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم (حديث ٤٣) عن ابن مسعود قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشقتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا» وفي لفظ (حديث ٥٤) :

انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقتين ، فستر الجبل فلقة وكانت فلقة فوق الجبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد». ورواه أحمد في المسند (١ / ٣٧٧).

(٢) تقدّم مع تخريجه أكثر من مرة.

١٢٥

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا لا يخفى على من له أقل فهم : أنه إنما حملهم على ذلك العجز عما كلفهم من ذلك وارتفاع القوة عنهم ، وأنه قد حيل بينهم وبين ذلك ، ثم عمر الدنيا من البلغاء الذين يتخللون بألسنتهم تخلل الباقر (١) ويطيلون في المعنى التافه إظهارا لاقتدارهم على الكلام ، جماعات لا بصائر لهم في دين الإسلام منذ أربعمائة عام وعشرين عاما ، فما منهم أحد يتكلّف معارضته إلا افتضح وسقط ، وصار مهزأة ومعيرة يتماجن به ، ويتطايب عليه ، منهم «مسيلمة» بن حبيب الحنفي ، لما رام ذلك لم ينطق لسانه إلا بما يضحك الثكلى ، وقد تعاطى بعضهم ذلك يوما في كلام جرى بيني وبينه ، فقلت له : اتق الله على نفسك ، فإن الله تعالى قد منحك من البيان والبلاغة نعمة سبقت بها ، وو الله لئن تعرضت لهذا الباب بإشارة ليسلبنك الله هذه النعمة ، وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة ، كما فعل بمن رام هذا من قبلك. فقال لي : صدقت والله. وأظهر الندم ، والإقرار بقبحه.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا الذي ذكرنا مشاهد ، وهي آية باقية إلى اليوم ، وإلى انقضاء الدنيا ، وسائر آيات الأنبياء عليهم‌السلام قد فنيت بفنائهم فلم يبق منها إلّا الخبر عنها فقط.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد ظنّ قوم أن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن إنما هو لكون القرآن أعلى طبقات البلاغة.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا خطأ شديد ، ولو كان ذلك وقد أبى الله عزوجل أن يكون لما كان حينئذ معجزة ، لأن هذه صفة كل باسق في طبقته والشيء الذي هو كذلك ، وإن كان قد بسق في وقت ما ، فلا يؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه بل ما يفوقه. ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أنّ الله عزوجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله ، ورفع عنهم القوة في ذلك جملة ، وهذا مثل لو قال قائل إنّي أمشي اليوم في هذا الطريق ، ثم لا يمكن أحد بعدي أن يمشي فيها ، وهو ليس بأقوى من سائر

__________________

(١) روى أبو داود في الأدب (باب ٨٦) وأحمد في المسند (٢ / ١٦٥ ، ١٨٧) عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلّل بلسانه كما تخلّل الباقرة بلسانها». قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث والأثر (٢ / ٧٣ ـ مادة خلل) : «هو الذي يتشدّق في الكلام ويفخّم به لسانه ويلفّه كما تلفّ البقرة الكلأ بلسانها لفّا».

١٢٦

الناس ، وأما لو كان العجز عن المشي لصعوبة الطريق وقوة هذا الماشي لما كانت آية ولا معجزة ، وقد بيّنا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس لأنّ فيه الأقسام التي في أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها وليس هذا من نوع بلاغة الناس المعهودة وقد روينا عن «أنيس» أخي أبي ذي الغفاري رضي الله عنهما : أنه سمع القرآن فقال : لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء ، وألسنة الشعراء ، فلم أجده يوافق ذلك ، أو كلاما هذا معناه. فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة المخلوقين ، وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله (١) ، ولنا في هذا رسالة مستقصاة كتبنا بها إلى «أبي عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد» (٢). وسنذكر منها هنا إن شاء الله تعالى ما فيه كفاية في كلامنا مع المعتزلة والأشعرية في خلق القرآن من ديواننا هذا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

__________________

(١) وجوه إعجاز القرآن عديدة. منها : لغته وأسلوبه ، وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على خصائص لم توجد في كلام على نحو ما وجدت في القرآن ، وهذا لا شك معجز ، خصوصا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدى به فأعجز أساطين الفصحاء وأعيا مقاويل البلغاء ، وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان. ومنها : طريقة تأليفه ، وبيان ذلك أن هذا القرآن لم ينزل جملة واحدة وإنما نزل مفرقا منجما على أكثر من عشرين عاما على حسب الوقائع والدواعي المتجددة ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال : ضعوه في مكان كذا من سورة كذا ، وهو بشر لا يدري ما ستجيء به الأيام. ثم مضى عمر طويل والرسول على هذا العهد ، وإذا القرآن كله بعد ذلك يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف وينسجم ولا يؤخذ عليه شيء من التخاذل والتفاوت ، بل كان من ضروب إعجازه ما فيه من انسجام ووحدة وترابط. ومنها : علومه ومعارفه ، فقد اشتمل القرآن على علوم ومعارف في هداية الخلق بلغت من نبالة القصد ونصاعة الحجة وحسن الأثر وعموم النفع مبلغا يستحيل على محمد ـ وهو رجل أمي نشأ بين الأميين ـ أن يأتي بها من عند نفسه ، بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة ومتشرعين وأخلاقيين أن يأتوا من تلقاء أنفسهم بمثلها. ومنها : وفاؤه بحاجات البشر ، فالقرآن الكريم جاء بهدايات تامة وكاملة تفي بحاجات البشر في كل عصر ومصر وفاء لا تظفر به في أيّ تشريع ولا في أيّ دين آخر. إلى وجوه أخرى قد يطول الكلام فيها فلتراجع في مظانّها. انظر : مناهل العرفان في علوم القرآن (٢ / ٣٥٤ وما بعدها).

(٢) هو أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان ابن ذي الوزارتين أحمد بن عبد الملك الأشجعي الأندلسي أبو عامر ابن شهيد القرطبي المالكي. ولد سنة ٣٨٢ ه‍ ، وتوفي سنة ٤٢٦ ه‍. من تصانيفه : الاستيعاب في فروع المالكية ، التوابع والزوابع ، حانوت العطار في الطب ، حل الدك وإيضاح الشك ، وغير ذلك (هدية العارفين : ١ / ٧٤).

١٢٧

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فإن قال قائل : إنّه منع المعارضون حينئذ من المعارضة أو عارضوا فستر ذلك. قيل له وبالله التوفيق : لو أمكن ما تقول لأمكن لغيرك أن يدّعي في آيات موسى عليه‌السلام مثل ذلك ، بل كان يكون أقرب إلى التلبيس ، لأن في توراتكم أن السحرة عملوا مثل ما عمل موسى عليه‌السلام حاشا البعوض خاصة فإنهم لم يطيقوه.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا هو الباطل والتبديل الظاهر ، لأن السحر لا يحيل عينا ولا يقلبها ، ولا يحيل طبيعة ، إنما هو حيل قد بينا الكلام فيها بعون الله تعالى في موضعه من هذا الكتاب وفي غيره.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا الاعتراض هو على سبيل إبطال الكواف لا سبيل من أقر بشيء منها ، ثم يقال كل من ولي الأمر بعده عليه‌السلام معروف ليس منهم أحد إلا وله أعداء يخرجون من عداوته إلى الغايات من الحنق والغيظ فأبو بكر وعمر تعاديهما «الرافضة» وتبلغ في عداوتهما وتكفيرهما أقصى الغايات. وما قال قط أحد مؤمن ولا كافر عدوّ لهما ولا وليّ : إن أحدا منهما أجبر أحدا على الإقرار بآيات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا على ستر شيء عورض به ، ولا قدر أن يقول هذا أيضا يهوديّ ولا نصراني.

وكذلك عثمان أيضا وعليّ تعاديهما الخوارج ، وتخرج في عداوتهما وتكفيرهما إلى أبعد الغايات ، ما قال قط قائل في أحدهما شيئا من هذا ، وحتّى لو رام أحد من الملوك ذلك لما قدر عليه ، لأنه لا يملك أيدي الناس ولا ألسنتهم ، يصنعون في منازلهم ما أحبّوا ، وينشرونه عند من يثقون به حتى ينتشر.

وهذا أمر لا يقدر على ضبطه والمنع منه أحد ، لا سيما مع انخراق الدنيا وسعة أقطارها من أقصى السند إلى أقصى الأندلس ، فلو أمكنت معارضته ما تأخر عن ذلك من له أدنى حظ من استطاعة عند نفسه على ذلك ممن لا بصيرة له في الإسلام في شرق الأرض وغربها. فإن قال قائل من اليهود : إن موسى عليه‌السلام قال لهم في التوراة : «لا تقبلوا من نبي أتاكم بغير هذه الشريعة وإن جاءكم بآيات».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : قلنا له وبالله تعالى التوفيق :

لا سبيل إلى أن يقول موسى عليه‌السلام هذا بوجه من الوجوه ، لأنه لو قال ذلك لكان مبطلا لنبوة نفسه ، وهذا كلام ينبغي أن يتدبّر ، وذلك أنه لو قال لهم : لا تصدقوا من دعاكم إلى غير شريعتي وإن جاء بآيات ، فإنه يلزمه إذا كانت الآيات لا

١٢٨

توجب تصديق غيره إذا أتى بها في شيء دعا إليه ، فهي غير موجبة تصديق موسى عليه‌السلام فيما أتى به ، إذ لا فرق بين معجزاته ومعجزات غيره ، إذ بالآيات صحّت الشرائع ، ولم تصح الآيات بالشرائع ، لأن تصديق الشريعة موجبة للآية ، والآية موجبة تصديق الشريعة ، ومن قال خلاف هذا ممن يدين بشريعة وبنبوة فهو عظيم المجاهرة بالباطل.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وأيضا فإن هذا القول المنسوب إلى موسى عليه‌السلام كذب موضوع ليس في التوراة شيء منه ، وإنما فيها : «من أتاكم يدّعي نبوّة وهو كاذب فلا تصدقوه» ، فإن قلتم من أين نعلم كذبه من صدقه؟ فانظروا فإذا قال عن الله شيئا ، ولم يكن كما قال فهو كاذب. هذا نص ما في التوراة فصح بهذا أنه إذا أخبر عن الله تعالى بشيء فكان كما قال فهو صادق ، وقد وجدنا كلّ ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غلبة الروم على كسرى ، وإنذاره بقتل الكذاب العنسي ، ويوم ذي قار ، وبخلع كسرى ، وبغير ذلك. فإن قالوا : إن في التوراة أن هذه الشريعة لازمة لكم في الأبد ، قلنا : هذا محال في التأويل ، لأنه كذلك أيضا فيها : أن هذه البلاد يسكنونها أبدا ، وقد رأيناهم بالعيان خرجوا عنها.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فإن قال قائل : فقد قال لكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نبي بعده. قيل لهم وبالله تعالى نتأيد : ليس هذا الكلام مما ادعيتموه على موسى عليه‌السلام ، لأننا قد علمنا من إخباره عليه‌السلام أنه لا سبيل إلى أن يظهر أحد آية بعده أبدا ، ولو جاز ظهورها لوجب تصديق من أظهرها ، ولكنا قد أيقنا أنه لا تظهر آية على أحد بعده عليه‌السلام بوجه من الوجوه.

فإن قال قائل : وكيف تقولون في «الدجال» وأنتم ترون أنه يظهر له عجائب؟

فالجواب وبالله تعالى التوفيق : أن المسلمين فيه على أقسام ، فأما «ضرار بن عمرو» (١)

__________________

(١) من رءوس المعتزلة وشيخ الضرارية ، من أقواله : يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارا لجواز ذلك على كل فرد منهم. ويقول : الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة وإن النار لا حرّ فيها ، ولا في الثلج برد ، ولا في العسل حلاوة ، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس. قال أحمد بن حنبل : شهدت على ضرار بن عمرو عند سعيد بن عبد الرحمن ، فأمر بضرب عنقه ، فهرب. انظر ترجمته في الفهرست لابن النديم (ص ٢١٤ ، ٢١٥) لسان الميزان (٣ / ٢٠٣) ميزان الاعتدال (٢ / ٢٣٨).

١٢٩

وسائر فرق الخوارج ، فإنهم ينفون أن يكون الدجال (١) جملة فكيف أن يكون له آية.

وأما سائر فوق المسلمين فلا ينفون ذلك. والعجائب المذكورة عنه إنما جاءت بنقل الآحاد.

وقال بعض أصحاب الكلام : إن الدّجال إنما يدّعي الربوبية ، ومدّعي الربوبية في نفس قوله بيان كذبه.

قالوا : فظهور الآية عليه ليس موجبا لضلال من له عقل.

وأمّا مدّعي النبوة فلا سبيل إلى ظهور الآيات عليه ، لأنه كان يكون ضلالا لكل ذي عقل.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وأما قولنا في هذا فهو أن العجائب الظاهرة من الدجال إنما هي حيل من نحو ما صنع سحرة فرعون ، ومن باب أعمال «الحلّاج» وأصحاب العجائب ، يدل على ذلك حديث «المغيرة بن شعبة» إذ قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن معه نهر ماء ونهر خبز ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو أهون على الله من ذلك (٢).

حدثنا «يونس بن عبد الله بن مغيث» حدثنا «أحمد بن عبد الرحيم» ، حدثنا «محمد بن عبد السلام الخشني» ، حدثنا «محمد بن بشار بندار» ، حدثنا «يحيى بن سعيد القطان» ، حدثنا «هشام بن حسان القردوسي» (٣) ، حدثنا «حميد بن هلال» عن «أبي الدّهماء» ، عن «عمران بن حصين» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سمع من أمتي بالدّجال فلينأ عنه ، فإن الرجل يأتيه وهو يحسبه مؤمنا فيتبعه مما يرى من الشبهات» (٤).

__________________

(١) أن يكون الدجال : أي أن يوجد. ف «يكون» فعل تامّ.

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند (٤ / ٢٤٦) بلفظ : عن المغيرة بن شعبة قال : ما سأل أحد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر مما سألت عنه ، فقال : إنه لا يضرّك. قال : قلت : إنهم يقولون معه نهر وكذا وكذا. قال : هو أهون على الله من ذاك.

(٣) كانت في الأصل «الفردوسي» بالفاء. والصواب ما أثبتناه «القردوسي» بالقاف. حدّث عن الحسن وابن سيرين وأخته حفصة بنت سيرين وأبي مجلز وعكرمة وغيرهم. وحدّث عنه ابن جريج وشبعة وسفيان والحمادان وغيرهم. توفي في أول صفر سنة ١٤٨ ه‍.

انظر ترجمته في تاريخ البخاري الكبير (٨ / ١٩٧) وتاريخ البخاري الصغير (٢ / ٨٥) والجرح والتعديل (٩ / ٥٤) وتذكرة الحفاظ (١ / ١٦٣) وسير أعلام النبلاء (٦ / ٣٥٥) وميزان الاعتدال (٤ / ٢٩٥) وتهذيب التهذيب (١١ / ٣٤) وشذرات الذهب (١ / ٢١٩).

(٤) أخرجه أبو داود في الملاحم (باب ١٤) وأحمد في المسند (٤ / ٤٣١ ، ٤٤١).

١٣٠

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وبهذا تتآلف الأحاديث. وقد بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث أن ما يظهر الدّجال من نهر ماء ونار وقتل إنسان وإحيائه ـ أنّ هذا حيل.

ولكلّ ذلك وجوه إذا طلبت وجدت. فقد تحيّل ببعض الأجساد المعدنية إذا أذيب أنه ماء ، وتحيّل بالنفط الكاذب أنه نار ، ويقتل إنسان ويغطى وآخر معه مخبوء فيظهر ليرى أنه قتل ثم أحيي كما فعل «الحسين بن منصور الحلاج» في الجدي الأبلق ، وكما فعل «الشريعي» و «النميري» بالبغلة ، وكما فعل «زيروب» بالزرزور.

وأنا أدري من يطعم الدجاج الزرنيخ فيخدّر ولا يشك في موتها ثم يصبّ في حلوقها الزيت فتقوم صحاحا.

وإنما كانت معجزة لو أحيا عظاما قد أرمّت ، فيظهر نبات اللحم عليها ، فهذه كانت تكون معجزة ظاهرة لا شك فيها ، ولا يقدر غير نبي عليها البتة يظهرها الله عزوجل على يديه آية له.

وقد رأينا الدّبر (١) يلقى في الماء حتى لا يشك أحد أنها ميتة ، ثم كنا نضعها للشمس فلا تلبث أن تقوم وتطير ، وقد بلغنا مثل ذلك في الذباب المسترخي في الماء إذا ذرّ عليه سحق الآجر الجديد.

وآيات الأنبياء عليهم‌السلام لا تكون من وراء حائط ، ولا في مكان بعينه ، ولا من تحت ستارة ، ولا تكون إلّا بادية مكشوفة.

وقد فضحت أنا حيلة «أبي محمد» المعروف بالمحرق في الكلام المسموع بحضرته ولا يرى المتكلم ، وسمت (٢) بعض أصحابه أن يسمعني ذلك في مكان آخر ، أو بحيث الفضاء دون بنيان ، فامتنع من ذلك ، فظهرت الحيلة ، وإنما هي قصبة مثقوبة توضع وراء الحائط على شق خفي ، ويتكلم الذي طرف القصبة على فيه على حين غفلة ممن في المسجد كلمات يسيرة ، الكلمتين والثلاث لا أكثر من ذلك ، فلا يشك

__________________

(١) الدبر (بكسر الدال وسكون الباء) : جماعة النحل والزنابير (المعجم الوسيط : ص ٢٦٩).

(٢) سام الشيء : لزمه ولم يبرح عنه. وسام فلانا الأمر : كلّفه إياه وألزمه به. وسام البائع السلعة : عرضها للبيع وذكر ثمنها (المعجم الوسيط : ص ٤٦٥). ويريد هنا أنه راهنه أو عرض عليه أو ما أشبه ذلك.

١٣١

من في البيت مع المحرّق الملعون في أن الكلام اندفع بحضرتهم. وكان المتكلم في ذلك «محمد بن عبد الله الكاتب» صاحبه.

فإن اعترض معترض بقول الله تعالى :

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [سورة الإسراء : ٥٩].

قيل له وبالله تعالى التوفيق : هذا يخرّج على وجهين ، أحدهما أنّ معنى قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) إنما هو على معنى التبكيت لمن قال ذلك ، وأورد تعالى كلامهم ، وحذف ألف الاستفهام ، وهذا موجود في كلام العرب كثيرا.

والثاني : أنه إنما عنى تعالى بذلك الآيات المشترطة في الرّقيّ إلى السماء وأن يكون معه ملك (١) ، وما أشبه هذا ، وليس على الله تعالى شرط لأحد.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : والقول الأول هو جوابنا ، لأن الله تعالى لا شيء يمنعه عما يريد.

وكذلك إن اعترض معترض بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء إلّا من قد أوتي ما على مثله آمن البشر ، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحي إليّ ، وإنّي لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة» (٢).

قيل له وبالله التوفيق : إنما عنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا القول آيته الكبرى الثابتة الباقية أبد الآباد التي هي أول معجزته حين بعث وهي القرآن ، لبقاء هذه الآية على الآباد. وإنما جعلها عليه‌السلام بخلاف سائر آيات الأنبياء عليهم‌السلام ، لأن تلك الآيات يستوي في معرفة إعجازها العالم والجاهل. وأما إعجاز القرآن فإنما يعرفه العلماء بلغة العرب ، ثم يعرفه سائر الناس بإخبار العلماء لهم بذلك. مع ما في التوراة من الإنذار

__________________

(١) وذلك في الشروط التي اشترطها الكفّار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليؤمنوا به ، قال تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) ـ الآيات : ٩٠ ـ ٩٣ سورة الزخرف.

(٢) رواه من حديث أبي هريرة البخاري في فضائل القرآن باب ١ ، والاعتصام بالكتاب والسنّة باب ١. ومسلم في الإيمان (حديث ٣٣٠ ، ٣٣١) وابن ماجة في الزهد باب ٣٦. وأحمد في المسند (٢ / ٣٤١ ، ٤٥١).

١٣٢

البيّن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله تعالى فيها : «سأقيم لبنى إسرائيل نبيّا من إخوتهم ، أجعل على لسانه كلامي فمن عصاه انتقمت منه».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ولم تكن هذه الصفة لغير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل. وقوله في السفر الخامس منها : «جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وسيناء هو موضع مبعث موسى عليه‌السلام بلا شك ، و «ساعير» هو موضع مبعث «عيسى» عليه‌السلام ، و «فاران» بلا شك هي مكة موضع مبعث «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم. بيان ذلك : أن «إبراهيم» عليه‌السلام أسكن «إسماعيل» «فاران» ، ولا خلاف بين أحد في أنه إنما أسكنه مكة. فهذا نصّ على مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والرؤيا التي فسرها «دانيال» في أمر الحجر الذي رأى الملك في نومه الذي دق الصنم الذي كان بعضه ذهبا ، وبعضه فضة ، وبعضه نحاسا ، وبعضه حديدا ، وبعضه فخارا ، وخلطه كله وطحنه وجعله شيئا واحدا ثم ربا (١) الحجر حتى ملأ الأرض ، ففسره «دانيال» : أنه نبي يجمع الأجناس ، ويبلغ ملك أمره ملء الآفاق ، فهل كان نبي قط غير «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع الأجناس كلها على اختلافها ، واختلاف لغاتها ، وأديانها ، وممالكها ، وبلادها ، فجعلهم جنسا واحدا ، ولغة واحدة ، وأمة واحدة ، ومملكة واحدة ، ودينا واحدا؟

فإن العرب ، والفرس ، والنبط ، والأكراد ، والترك ، والديلم ، والجبل ، والبربر ، والقبط ، ومن أسلم من الروم والهند والسودان ، على كثرتم كلهم ينطقون بلغة واحدة ، وبها يقرءون القرآن ، وقد صار كل من ذكرنا أمة واحدة والحمد لله رب العالمين. فصحت النبوة المذكورة بلا إشكال ، والحمد لله رب العالمين.

وكل ما ذكرنا في هذا الباب أنه يدخل على النصارى الذين يقولون بنبوة «عيسى» عليه‌السلام فقط من «الآريوسية» ، و «المقدونية» و «البولقانية» سواء بسواء مع ما في الإنجيل من دعاء المسيح عليه‌السلام في قوله : «اللهم ابعث البارقليط ليعلم الناس أن ابن البشر إنسان».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا غاية البيان لمن عقل ، لأن المسيح عليه‌السلام علم أنه سيغلو قومه فيه ، فيقولون : إنه الله ، وإنه ابن الله ، فدعا الله في أن يبعث الذي يبين للناس أنه ليس إلها ، ولا ابن إله ، وإنما هو إنسان ولد من امرأة من البشر.

__________________

(١) ربا : زاد.

١٣٣

فهل أتى بعده نبي يبين هذا إلا «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وهذا أمر لا يحيل بيانه على ذي حسّ سليم وإنصاف ، ونسأل الله إيزاع الشكر على ما وفق له من الهدى.

فإن قال قائل : فإن المجوس تصدّق بنبوة «زرادشت» ، وقوم من اليهود يصدقون بنبوة «أبي عيسى الأصبهاني» ، وقوم من كفرة الغالية يصدّقون بنبوة «بزيع الحائك» ، و «المغيرة بن أبي سعيد» ، و «بنان بن سمعان التميمي» وغيرهم من كلاب الغالية.

فالجواب وبالله تعالى التوفيق : أن أبا عيسى ، وبنان ، وبزيعا وسائر من تدّعي له الغالية بنبوة أو إلهية من خيار الناس وشرارهم ، لم تظهر لواحد منهم آية بوجه من الوجوه. والآيات لا تصح إلّا بنقل الكواف ، وكل هؤلاء كان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أخبر الذي جاءت البراهين بصدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه لا نبي بعده ، فقد صحّ البرهان ببطلان ما ادّعي لهؤلاء من النبوة. وأمّا «زرادشت» فقد قال كثير من المسلمين بنبوته.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن صحت عنه معجزة. قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤]. وقال عزوجل : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء : ١٦٤].

وقالوا : إن الذي ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم. وبرهان ذلك أن «المانية» تنسب إليه مقالتهم ، وأقوال هؤلاء كلهم متضادة لا سبيل إلى أن يقول بها قائل واحد صادق ولا كاذب في وقت واحد.

وكذا المسيح عليه المسيح عليه‌السلام ينسب إليه «الملكانية» قولهم في التثليث ، وتنسب إليه «النسطورية» قولهم أيضا ، وكذلك «اليعقوبية». وتنسب إليه «المانية» أيضا قولهم ، وكذلك «المرقيونية». وهذا برهان ظاهر على كذب جميعهم عليهما بلا شك.

وقد رامت الغالية مثل هذا في القرآن ، ولكن قد تولّى الله حفظه ، وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا مقصورين على رجال من أهلهما ، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف مضمون فيهما. وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كانا طول مدة دولتهم عند «الموبذ» (١) وعند ثلاثة وعشرين

__________________

(١) قال ابن الأثير في النهاية (٤ / ٣٦٩ ـ مادة موبذ) : «في حديث سطيح : فأرسل كسرى إلى الموبذان. الموبذان للمجوس : كقاضي القضاة للمسلمين ، والموبذ : كالقاضي».

١٣٤

«هربذا» (١) لكل «هربذ» سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من الهرابذة ولا من غيرهم ، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم. ثم دخل فيها الخرم بإحراق «الإسكندر» لكتابهم أيام غلبته «لدارا بن دارا» وهم مقرون بلا خلاف منهم أنه ذهب منه مقدار الثلث. ذكر ذلك «بشير الناسك» وغيره من علمائهم.

وكذلك التوراة ، إنما كانت طول مدة ملك بني إسرائيل عند «الكوهن الأكبر» الهاروني وحده ، لا ينكر ذلك منهم إلّا كذاب مجاهر.

وكذلك الإنجيل : إنما هي كتب أربعة مختلقة من تأليف أربعة رجال ، فأمكن في كل ذلك التبديل ، وقد نقلت كواف المجوس الآيات المعجزات عن زرادشت «كالصفر» (٢) الذي أفرغ وهو مذاب على صدره فلم يضره ، وقوائم الفرس التي غاصبت في بطنه فأخرجها. وغير ذلك.

وممن قال : إنّ المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب ، و «حذيفة» رضي الله عنهما ، و «سعيد بن المسيب» (٣) ، و «قتادة» (٤) ، و «أبو ثور» (٥) ، وجمهور أصحاب أهل

__________________

(١) الهربذ : مفرد الهرابذة ، فارسي معرب ، وهم عظماء الملة وعلماؤها ، أو خدم نار المجوس وهم قومة بيت النار. انظر الملل والنحل للشهرستاني (٢ / ٨٦).

(٢) الصفر : النحاس.

(٣) هو أبو محمد سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ القرشي المخزومي العائذي المدني المتوفى سنة ٩٣ أو ٩٤ أو ١٠٠ ه‍. أخرج له الستّة. قال ابن حجر في التقريب : اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل. وقال ابن المديني : لا أعلم في التابعين أوسع علما منه.

انظر تهذيب التهذيب (٣٤ / ٨٤) وتقريب التهذيب (١ / ٣٠٥) وخلاصة تهذيب الكمال (٤ / ٢٧٣) والجرح والتعديل (٤ / ٢٦٢) وتذكرة الحفاظ (١ / ٥٤) وحلية الأولياء (٢ / ١٦١) والوافي بالوفيات (٣ / ٢٦٢) وسير أعلام النبلاء (٤ / ٢١٧) وديوان الإسلام (١١٢ ، ٢٠٠٣).

(٤) هو أبو الخطاب قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سدوس السدوسي البصري المتوفى سنة ١٠٧ ه‍. ثقة ثبت ، أخرج له الستّة. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب (٨ / ٣٥١) وتقريب التهذيب (٢ / ١٢٣) وخلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٣٥٠) وتاريخ البخاري الكبير (٧ / ١٨٥) وتاريخ البخاري الصغير (١ / ٢٨٢) والجرح والتعديل (٧ / ٧٥٦) وميزان الاعتدال (٣ / ٣٨٥) ولسان الميزان (٧ / ٣٤١) وتاريخ الثقات (٣٨٩) وحلية الأولياء (٢ / ٣٣٣) وتراجم الأحبار (٣ / ٢٦٤) وسير أعلام النبلاء (٥ / ٢٦٩) والثقات (٥ / ٣٢٢) ومعرفة الثقات (١٥١٣) وطبقات ابن سعد (٩ / ١٥٦).

(٥) هو إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي صاحب الشافعي : تابعي ثقة من الطبقة العاشرة ، توفي سنة ٢٤٠ ه‍. أخرج له مسلم وأبو داود وابن ماجة. انظر ترجمته في تهذيب

١٣٥

الظاهر. وقد بينا البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى «الإيصال» (١) في كتاب الجهاد منه ، وفي كتاب الذبائح منه ، وفي كتاب النكاح منه ، والحمد لله رب العالمين ، ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجزية منهم وقد حرّم عزوجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ الجزية من غير كتابيّ.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وأما العيسوية من اليهود فإنه يقال لهم : إذا صدقتم الكافة في نقل القرآن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي نقل معجزاته ، وصحة نبوته فقد لزمكم الانقياد لما في القرآن من أنه عليه‌السلام بعث إلى الناس كافة بقوله تعالى فيه آمرا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [سورة الأعراف : ١٥٨].

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة آل عمران : ٨٥].

وقوله تعالى فيه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [سورة التوبة : ٢٩].

وما فيه من دعاء اليهود إلى ترك ما هم عليه ، والرجوع إلى شريعته عليه‌السلام وهذا ما لا مخلص منه. فإن اعترضوا بما في القرآن بما حرّم عليهم يعني اليهود وحضهم على التزام السبت ، فإنّما هو تبكيت لهم فيما سلف من أسلافهم الذي قفوا هم آثارهم ، يبين هذا نص القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليه‌السلام : «أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرّم عليهم» (٢) وهذا نصّ جليّ على

__________________

التهذيب (١ / ١١٨) وتقريب التهذيب (١ / ٣٥) وخلاصة تهذيب الكمال (١ / ٤٤) والكاشف (١ / ٨٠) وتاريخ البخاري الصغير (٢ / ٣٧٢) والجرح والتعديل (٢ / ٩٧) وميزان الاعتدال (١ / ٢٩) ولسان الميزان (٧ / ١٦٨) والمغني في الضعفاء (١ / ١٣) وتذكرة الحفاظ (٢ / ١٢ ، ٧٨) وسير أعلام النبلاء (١٢ / ٧٢) وطبقات الحفاظ (٢٢٣) وتاريخ بغداد (٦ / ٦٥) وشذرات الذهب (٢ / ٩٣) والعبر (١ / ٤٢١) والنجوم الزاهرة (٥ / ٣٠١).

(١) هو كتاب «الإيصال إلى الخصال الجامعة لمحصل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام» أورد فيه ابن حزم أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة في مسائل الفقه ودلائله (كشف الظنون : ص ٧٠٤ ، ٧٠٥).

(٢) نصّ الآية ٤٩ و ٥٠ من آل عمران : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) إلى قوله : (وَمُصَدِّقاً

١٣٦

نسخ شريعتهم وبطلانها ، ثم ما لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر من أنه عليه‌السلام حارب يهود بني إسرائيل من «بني قريظة» و «النضير» و «هذل» و «بني قينقاع» وقتلهم وسباهم ، وألزمهم الجزية ، وسمّاهم كفّارا إذا لم يرجعوا إلى الإسلام ، وقبل إسلام من أسلم منهم ، فلو لم يكن دينهم منسوخا ما حل له إجبارهم على تركه ، أو الجزية والصغار ، ولا جاز له قبول ترك ما ترك منهم بدين بني إسرائيل. ومن المحال الممتنع أن يكون عند العيسويين رسولا صادقا نبيا ، ثم يجور ويظلم ويبدل دين الحق. فوضح فساد قولهم وتناقضه بيقين لا إشكال فيه ، والحمد لله رب العالمين.

وهكذا يقال لمن أقر بنبوة بعض الأنبياء عليهم‌السلام من فرق الصابئين «كإدريس» وغيره ممن لا يوقن بصحة قولهم فيه «كعادمون» و «اسقلابيوس» و «أيلون» ، وغيرهم. وللمجوس المقتصرين على «زرادشت» فقط : أخبرونا بأي شيء صحت نبوة من تدّعون له النبوة؟ فليس هاهنا إلّا صحة ما أتوا به من المعجزات.

فيقال لهم : فإنّ النقل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معجزاته أقرب عهدا ، وأظهر صحة ، وأكثر عدد ناقلين ، وأدخل في الضرورة. ولا فرق ولا مخلص لهم من هذا أصلا ، لأنه نقل ونقل ، إلّا أنّ نقلنا أفشى وأظهر وأقوى انتشارا ، ومبدأ هذا مع ذهاب الصّابئين وانقطاعهم ، ورجوع نقلهم إلى من لا يقوم بهم حجة لقلتهم ولعلهم اليوم في جميع الأرض يبلغون أربعين ، وأما المجوس فإنهم معترفون مقرون بأن كتابهم الذي فيه دينهم أحرقه «الاسكندر» ، إذ قتل «دارا بن دارا» ، وأنه ذهب منه الثلثان وأكثر ، وأنه لم يبق منه إلا أقلّ من الثلث ، وأنّ الشرائع كانت فيما ذهب ، فإذ هذا صفة دينهم فقد بطل القول به جملة لذهاب جمهوره ، وإنّ الله تعالى لا يكلف أحدا ما لا يتكفل بحفظه حتى يبلغ إليه. وفي كتاب لهم اسمه «خذاي نامة» يعظمونه جدّا ـ أن «أنوشروان» الملك منع من أن يتعلم دينهم في شيء من البلاد إلّا في «أردشيرخره» و «فسا» من «دارابجرد» فقط ، وكان قبله لا يتعلّم إلا «باصطخر» فقط ، وكان لا يباح إلا لقوم خصائص. وكتابهم الذي بقي بعد ما أحرق «الإسكندر» ثلاثة وعشرين سفرا ـ فلهم ثلاثة وعشرون «هربذا» لكل «هربذ» سفر لا يتعداه إلى غيره. و «موبذ موبذان» يشرف على جميع تلك الأسفار. وما كان هكذا فمضمون تبديله وتحريفه. وكل نقل هكذا فهو فاسد لا يوجب القطع بصحته. هذا إلى ما في كتبهم التي لا يصح دينهم إلّا بالإيمان

__________________

لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).

١٣٧

بها من الكذب الظاهر ، كقولهم إن جرم الملك كان يركب إبليس حيث شاء. وأن مبدأ الناس من بقلة «الريباس» (١) وهي «الشرالية» وأنّ من ولادة «بيروان سياوش بن كيفاوش» من بني مدينة «كنكدر» (٢) بين السماء والأرض ، وأسكنها ثمانين ألف رجل من أهل البيوتات هم فيها إلى اليوم ، فإذا ظهر «بهرام هماوند» على البقرة ليرد ملكهم نزلت تلك المدينة إلى الأرض ، ونصروه وردّوا دينهم وملكهم.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وكل كتاب دوّن فيه الكذب فهو باطل موضوع ليس من عند الله عزوجل ، فظهر من فساد دين المجوس كالذي ظهر من فساد دين اليهود والنصارى سواء بسواء ، والحمد لله رب العالمين.

فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة في الكتاب الذي

تسميه اليهود التوراة ، وفي سائر كتبهم وفي الأناجيل

الأربعة يتيقّن بذلك تحريفها وتبديلها وأنها غير

الذي أنزل الله عزوجل

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : نذكر إن شاء الله تعالى ما في الكتب المذكورة من الكذب الذي لا يشك كل ذي مسكة تمييز في أنه كذب على الله تعالى وعلى الملائكة عليهم‌السلام وعلى الأنبياء عليهم‌السلام ، إلى أخبار أوردها لا يخفى الكذب فيها على أحد كما لا يخفى ضوء النهار على ذي بصر.

وقد كنا نعجب من إطباق النصارى على تلك الأقوال الفاسدة المتناقضة التي لا يخفى فسادها على أحد به رمق ، إلى أن وقفنا على ما بأيدي اليهود فرأينا أن سبيلهم وسبيل النصارى واحدة كشق الأبلمة (٣). وثبت بذلك عند كل منصف من المخالفين

__________________

(١) الريباس : بقلة ذات عساليج غضة حمراء إلى الخضرة ولها ورق كثير عريض مدوّر ، وطعم عساليجها حلو بحموضة. لا يوجد منه شيء بالمغرب ولا بالأندلس البتة. انظر الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار (١ / ٤٤٦).

(٢) كنكدر : اسم مدينة بناها كيخسرو في بلاد الصين وسكنها خلق كثير ، وقيل إن كنكدر هذه هي مدينة أنمو. انظر مروج الذهب للمسعودي (١ / ٢٣٢ ، ٢٣٣).

(٣) الإبلم والأبلم والأبلم والإبلمة والأبلمة : كل ذلك الخوصة. يقال : المال بيننا والأمر بيننا شقّ الإبلمة ، وبعضهم يقول : شقّ الأبلمة ، وهي الخوصة ، وذلك لأنها تؤخذ فتشقّ طولا على

١٣٨

صحة قولنا : إنّ كل من خالف دين الإسلام ، ونحلة السّنة ومذهب أصحاب الحديث ، فإنه عارف بضلال ما هو عليه ، إلّا أنهم بخذلان الله تعالى إياهم مكابرون لعقولهم ، مغلّبون لأهوائهم وظنونهم على يقينهم تقليدا لأسلافهم وعصبية واستدامة لرئاسة دنيوية. وهكذا وجدنا أكثر من شاهدناه من رؤسائهم.

فنحمد الله كثيرا على ما هدانا له من الإسلام ، ونحلة السنة ، واتباع الآثار الثابتة ، ونسأله تثبيتنا على ذلك ، وأن يجعلنا من الدّعاة إليه حتى يدعونا إلى رحمته ورضوانه عند لقائه آمين.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وليعلم كل من قرأ كتابنا هذا أننا لم نخرج من الكتب المذكورة شيئا يمكن أن يخرّج على وجه ما وإن دقّ وبعد ، فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له ، وكذلك أيضا لم نخرج منه كلاما لا يفهم معناه وإن كان ذلك موجودا فيها ، لأن للقائل أن يقول قد أصاب الله به ما أراد ، وإنما أخرجنا ما لا حيلة فيه ولا وجه أصلا إلا الدّعاوى الكاذبة التي لا دليل عليها أصلا لا محتملا ولا خفيا.

فصل

التوراة السامرية

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود ، يزعمون أنها المنزّلة ، ويقطعون أن التي بأيدي اليهود محرّفة مبدّلة. وسائر اليهود يقولون إنّ التي بأيدي السّامريّة محرّفة مبدّلة ، إلى آخره ، ولم يقع إلينا توراة السّامرية لأنّهم لا يستحلّون الخروج عن فلسطين والأردن أصلا ، إلّا أننا أتينا ببرهان ضروري على أن التوراة التي بأيدي السّامرية أيضا محرّفة مبدّلة مكذوبة عند ما ذكرنا في آخر هذه الفصول أسماء ملوك بني إسرائيل ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

__________________

السواء. وفي حديث السقيفة : الأمر بيننا وبينكم كقدّ الأبلمة ، أي خوصة المقل ، يقول : نحن وإياكم في الحكم سواء لا فضل لأمير على مأمور كالخوصة إذا شقّت باثنتين متساويتين. انظر لسان العرب (١٢ / ٥٣ ، ٥٤ ـ مادة بلم).

١٣٩

فصل

عدم الاختلاف في توراة اليهود

في أول ورقة من توراة اليهود التي عند ربّانيهم ، وعانانيهم (١) ، وعيسويهم حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها ـ لا يختلفون فيها على صفة واحدة ولو رام أحد أن يزيد فيها لفظة أو ينقص أخرى لافتضح عند جميعهم مبلغة ذلك إلى أحبارهم الذين كانوا أيام ملك الهارونية لهم قبل «الخراب الثاني» بدهر ، يذكرون أنها مبلغة ذلك من أولئك إلى عزرا الوراق الهاروني ، ففي صدرها قال الله تعالى :

«أصنع بناء كصورتنا كشبهنا».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ولو لم يقل إلا كصورتنا لكان له وجه حسن ومعنى صحيح ، وهو أن نضيف الصورة إلى الله تعالى إضافة الملك والخلق ، كما تقول هذا عمل الله ، وتقول للقرد والقبيح والحسن هذه صورة الله ، أي تصوير الله ، والصفة التي انفرد بملكها وخلقها ، لكن قوله «كشبهنا» منع التأويلات ، وسدّ المخارج ، وقطع السبل وأوجب شبه آدم لله عزوجل ولا بد ضرورة.

وهذا يعلم بطلانه ببديهة العقل ، إذ الشبه والمثل معناهما واحد ، وحاشا لله أن يكون له مثل أو شبيه.

فصل

الكلام عن الأنهر في التوراة

وبعد ذلك قال :

«ونهر يخرج من عدن فيسقي الجنان ، ومن ثمّ يفترق فيصير أربعة أرؤس ، اسم أحدها النيل ، وهو محيط بجميع بلاد زويلة (٢) الذي به الذّهب ، وذهب ذلك البلد

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : «عنانيهم» بدون ألف بعد العين : نسبة إلى العنانية من فرق اليهود. وقد تقدم كلام المصنف عليها.

(٢) زويلة (بالفتح ثم الكسر) : بلدان بالمغرب أحدهما زويلة السودان مقابل أجدابية في البر بين بلاد السودان افريقية ، والأخرى غير مشهورة في وسط الصحراء وهي أول حدود السودان. وقيل : الأخرى زويلة المهدية مدينة بإفريقية إلى جانب المهدية بينهما رمية سهم فقط. وزويلة

١٤٠