الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

له مسكة عقل ، فإذ لا شك في هذا فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق ، وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك. فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء. فإذ قد صح هذا فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث ، وليس في العالم شيء إلا وهو دال بما فيه من دلائل الصنعة ، واقتضائه صانعا لا يشبه شيئا مما خلق تعالى ، على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص. وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس ، كما قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤].

فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد لله تعالى بلا شك. وهذا المعنى حق لا ينكره موحد.

فإن كان قولنا هذا متّفقا على صحته وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت قولنا ، وانتفى قول من خالفنا بظنه الكاذب.

وأيضا فإن الله تعالى يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] والكافر الدّهري شيء ، لا يشك في أنه شيء ، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة. فصح ضرورة أن الكافر يسبح إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى ، وأن تسبيحه ليس هو قوله سبحان الله وبحمده بلا شك ، ولكنه تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق. وهذا يقين لا شك فيه. فصح بما ذكرنا أن لفظة التسبيح هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا.

وأما السجود الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : آية رقم ١٥].

فقد علمنا أن السجود المعهود عندنا في الشريعة واللغة هو وضع الجبهة واليدين والركبتين ، والرجلين ، والأنف في الأرض بنية التقرب بذلك إلى الله تعالى.

هذا ما لا يشك فيه مسلم ، وكذلك نعلم ضرورة لا شك فيها أن الحمير والهوام والخشب والحشيش والكفار لا تفعل ذلك ، لا سيما من ليس له هذه الأعضاء. وقد نص تعالى على صحة ما قلنا ، وأخبر تعالى أن في الناس من لا يسجد له السجود المعهود عندنا بقوله تعالى : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [سورة فصلت : الآيتان ٣٧ و ٣٨].

١٠١

فأخبر تعالى أن في الناس من يستكبر عن السجود له فلا يسجد ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : آية ١٥].

فبين تعالى أن السجود كرها غير السجود بالطوع الذي هو السجود المعهود عندنا. وإذ قد أخبر الله تعالى بهذا وصح أيضا بالعيان ، فقد علمنا بالضرورة أن السجود الذي أخبر الله تعالى أنه يسجده له من في السموات والأرض هو غير السجود الذي يفعله المؤمنون طوعا ، ويستكبر عنه بعض الناس ، ويمتنع منه أكثر الخلق. هذا مما لا يشك فيه مسلم ، فإذ هو كذلك بلا شك فواجب علينا أن نطلب معنى هذا السجود ما هو؟ ففعلنا فوجدناه مبينا بلا إشكال في آيتين من كتاب الله وهما قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [سورة الرعد : ١٥]. وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) [سورة النحل : ٤٨].

فبين تعالى في هاتين الآيتين بيانا لا إشكال فيه : أن ميل الفيء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذي ظل هو معنى السجود المذكور في الآية ، لا السجود المعهود عندنا. وصح بهذا أن لفظة السجود هي من الأسماء المشتركة التي تقع على نوعين فأكثر. وأما قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل بها القرآن إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك ، واللسان والشفتين والأضراس بهواء يصل إلى أذن السامع فيفهم به مرادات القائل ، فإذ لا شك في هذا فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق فلا يكون منه القول المعهود منا. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل ، فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان فكل قول ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته فإنه ليس هو القول المعهود عندنا ، لكنه معنى آخر فإذ هذا كما ذكرنا فبالضرورة قد صح أن معنى قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) إنما هو الجري على نفاذ حكمه عزوجل فيهما وتصريفه لهما. وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات والأرض والجبال (١) وإباية كل واحد منها وإشفاقها فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك.

وهذا نص قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)

__________________

(١) في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) سورة الأحزاب : الآية ٧٢.

١٠٢

[سورة الكهف : ٥١] فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق وأن له مبدأ لا يشبهه البتة ، فأراد معرفة كيف كان فقد دخل في قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [سورة النور : آية ١٥].

إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة إلّا وقد جعل فيها تمييزا لما عرض عليها ، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها ، فلما أبتها وأشفقت منها سلبها ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة. هذا ما يقتضيه كلامه عزوجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك. وأمّا ما كان بعد ابتداء الخلق فمعروف الكيفيات قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الأنعام : ١١٥].

فصح أنه لا تبديل لما رتبه الله تعالى مما أجرى عليه خلائقه ، حاشا ما أحال فيه الرتب والطبائع للأنبياء عليهم‌السلام. فإن اعترضوا أيضا بقول الله تعالى يصف الحجارة : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة البقرة : ٧٤].

فقد علمنا بالضرورة أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء آية : ١٥].

فإذ لا شك في هذا فإن القول المذكور منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه :

إحداها أن يكون الضمير في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) الآية.

فذكر تعالى : أن من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية الله تعالى. وهذا أمر يشاهد بالعيان فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى ويخشى العاصي.

وقد أخبر عزوجل أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم. وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر تعالى أن (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [سورة التوبة آية : ٩٧]. فهذا وجه ظاهر متيقّن الصحة.

والوجه الثاني : أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره كما قلنا في قوله تعالى عزوجل حاكيا عن السماء والأرض : (قالَتا أَتَيْنا

١٠٣

طائِعِينَ). وقد بيّن جل وعز ذلك موصولا بهذا اللفظ فقال جل وعزّ : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [سورة فصلت : آية رقم ١٢] فبين الله تعالى بيانا رفع كل إشكال : أن تلك الطاعة من السماوات والأرض إنما هي تصرفه لها ، وقضاؤه تعالى إياهن سبع سماوات ، ووحيه في كل سماء أمرها ، فصح قولنا نصّا جليا ببيان الله تعالى لذلك والحمد لله رب العالمين.

وصح بهذا أن إباية السماوات والأرض والجبال من قبول الأمانة إنما هو لما ركبها الله تعالى عليه من الجمادية وعدم التمييز ، وقد علم كل ذي عقل امتناع قبول ما هذه صفته للشرائع والأوامر والنواهي ، وقد ذم الله تعالى من (يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [سورة البقرة ١٧١].

ولا يحل لمسلم أن ينسب إلى الله تعالى فعلا ذمه.

والوجه الثالث : أن يكون الله تعالى عنى بقوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : الجبل الذي صار دكّا ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله كليمه عليه‌السلام الرؤية ، فذلك الجبل من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه من خشية الله تعالى.

وهذه معجزة وآية وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة. ويكون «يهبط» بمعنى «هبط» كما قال الله عزوجل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة الأنفال : آية ٣٠].

ومعناه بلا شك : وإذ مكر.

وبين قوله تعالى مصدقا إبراهيم خليله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [سورة مريم : آية ٤٢].

وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) [سورة الزمر : آية ٤٣] ما هي عليه من الجمادية وعدم التمييز.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فصح بهذا صحة لا مجال للشك فيها أن الحجارة لا تعقل لأنها التي كانوا يعبدون مما يعقل.

وأما سائر ما كانوا يعبدون من الملائكة ، والمسيح وأمه عليهما‌السلام ، ومن الجن فكل هؤلاء عاقلون مميزون ، فلم يبق إلا الحجارة فصح بالنص أنها لا تعقل ، وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة وبالمشاهدة ، فقد انتفى عنها النطق والتمييز والخشية المعهودة كل ذلك عندنا وصحّ أن هذه الألفاظ واقعة على معان غير المعهودة عندنا وهذا نص قولنا «والحمد لله رب العالمين».

١٠٤

وأما الأحاديث المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع جبل كذا فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف لا يصح شيء منها من طريق الإسناد ولا يصح شيء من ذلك أصلا.

ويكفي من التطويل في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما يستجاز روايته مما يقارب الصحة.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وكل من يخالفنا في هذا فإنه إذا أقر لنا أن القول المذكور في الآيات التي تلونا ، والسجود والخشية ليس شيء منه على الصفة المعهودة بيننا ، فقد وافقنا أحب أو كره ، وهم كلهم مقرون بذلك ، وقد جاء ذلك في أشعار العرب :

قال الشاعر (١) :

يشكو إليّ جملي طول السّرى (٢)

وقال آخر :

فقالت له العينان سمعا وطاعة (٣)

وقال الراعي :

قلق الفئوس إذا أردن نصولا (٤)

ومن هذا الباب قوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) [سورة الكهف : آية ٧٧].

وهذا بلا شك غير الإرادة المعهودة من الحيوان. فصح قولنا بالنص والضرورة ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) صوابه الراجز.

(٢) هذا بيت من الرجز وبعده : «صبر جميل فكلانا مبتلى» وهو للملبد بن حرملة في شرح أبيات سيبويه (١ / ٣١٧) وبلا نسبة في أمالي المرتضى (١ / ١٠٧) وشرح الأشموني (١ / ١٠٦) وكتاب سيبويه (١ / ٣٢١) ولسان العرب (١٤ / ٤٤٠ ـ شكا). وفيه شاهد نحويّ ، وهو رفع «صبر» على الابتداء ، أي : وصبر جميل أمثل ، أو على الخبر ، أي : أمرك صبر جميل.

(٣) صدر بيت ، وعجزه :

وإن كنت قد حملت ما لم أحمل

(٤) هذا عجز بيت للراعي النميري ، وصدره :

في مهمه قلقت به هاماتها

وهو في ديوانه (ص ٢٢٢) ولسان العرب (٣ / ١٨٩ ـ رود).

١٠٥

وأما قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوم يقتص للشاة الجمّاء من الشاة القرناء» (١) فقد قال الله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [سورة الأنعام : ٣٨]. وقال تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [سورة التكوير : آية رقم ٥].

فصح أنها تحشر بلا شك ، ويسلط الله تعالى ما يشاء من خلقه على من يشاء فإذا سلط القرناء على الجماء في الدنيا فله تعالى أن يسلط الجماء على القرناء في الآخرة يوم القيامة. ولم يأت نص ولا إجماع ولا دليل عقل ولا دليل خبر على أن المواشي متعبدة بشريعة. وهذا مما نقرّ به ونقول : يفعل الله ما يشاء ، ولا علم لنا إلا ما علمنا. وبالله تعالى التوفيق.

الرد على من زعم أن الأنبياء عليهم‌السلام

ليسوا أنبياء اليوم ولا الرسل اليوم رسلا

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو الآن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية.

وأخبرني «سليمان بن خلف الباجي» (٢) وهو من مقدميهم اليوم «أن محمد بن الحسن بن فورك» (٣) الأصبهاني على هذه المسألة قتله بالسم «محمود بن سبكتكين» (٤) صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه‌الله.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام إلى يوم القيامة ، وإنما حملهم على

__________________

(١) تقدم تخريجه ص ١٠٦ حاشية ٤.

(٢) من كبار فقهاء المالكية. ولد في باجة بالأندلس ، وتوفي بالمرية سنة ٤٧٤ ه‍. له شرح موطأ مالك وشرح المدونة له ، والتعديل والتجريح لمن روى عنه البخاري في الصحيح. انظر الأعلام للزركلي (٣ / ١٨٦).

(٣) عالم بالأصول والكلام من فقهاء الشافعية ، قتله محمود بن سبكتكين بالسم لقوله إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان رسولا في حياته فقط (الأعلام : ٦ / ٣١٢).

(٤) هو فاتح الهند وأحد كبار القادة المسلمين ، امتدّ حكمه من أقاصي الهند إلى نيسابور. ولد سنة ٣٦١ ه‍ ، وتوفي سنة ٤٢١ ه‍ (الأعلام : ٨ / ٤٨).

١٠٦

هذا قولهم الفاسد إن الروح عرض ، والعرض يفنى أبدا ، ويحدث ولا يبقى وقتين ، فروح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندهم قد فنيت وبطلت ، ولا روح له الآن عند الله تعالى. وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته عندهم بذلك ورسالته.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا تردد فيه ، ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عزوجل به ، ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرّات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى أصواتهم ، وقد قرنه الله تعالى بذكره : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الأذان كذبا ، ويكون من أمر به كاذبا وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب ، فالأذان كذب على قولهم ، وهذا كفر مجرد ، وكذلك ما اتفق عليه جميع أهل الإسلام بلا خلاف من أحد منهم من تلقين موتاهم : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإنه باطل على قول هؤلاء ، وكذلك ما عمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة قتاله الأمة ، وأمره عن الله عزوجل بأن يعمل به بعده أبدا ، وأجمع على القول به والعمل جميع أهل الإسلام من أول الإسلام إلى آخره ، ومن شرق الأرض إلى غربها ، إنسهم وجنهم بيقين مقطوع به دون مخالف فيما تخرج به الدماء من التحليل إلى التحريم ، أو إلى الحقن بالجزية من أن يعرض على أهل الكفر أن يقولوا : لا إله إلّا الله محمد رسول الله ، فيجب على قول هؤلاء المخذولين أن هذا باطل وكذب ، وإنما كان يجب أن يكلفوا أن يقولوا محمد كان رسول الله ، وكذلك قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء : ١٦٤].

وكذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [سورة المائدة : ١٠٩].

وقوله تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [سورة الزمر : ٦٩].

فسماهم الله رسلا وقد ماتوا ، وسماهم نبيين ورسلا وهم في القيامة ، وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصلّ فرضا أو نافلة : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فلو لم يكن روحه عليه‌السلام موجودا قائما لكان السلام على العدم هذرا.

١٠٧

فإن قالوا : كيف يكون ميتا رسول الله؟ وإنما الرسول هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة.

قيل لهم : نعم يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولا لله تعالى أبدا ، لأنه حاصل على مرتبة جلالة لا يحطّه عنها شيء أبدا ولا يسقط عنه هذا الاسم أبدا.

ولو كان ما قلتم لوجب ألا يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إلى أهل اليمن في حياته لأنه لم يكلمهم ولا شافههم.

ويلزم أيضا أن لا يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس ، فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن رسول الله. وهذا حمق مشوب بكفر ، وخلاف للإجماع المتيقن ، ونعوذ بالله من الخذلان.

وأيضا فإن خبر الإسراء الذي ذكره الله عزوجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر ، وأحد أعلام النبوة ذكر فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى الأنبياء عليهم‌السلام في سماء سماء فهل رأى إلّا أرواحهم التي هي أنفسهم؟! ومن كذّب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان. وهذه براهين لا محيد عنها.

وقد صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه أخبر أن لله ملائكة يبلّغونه منّا السلام ، وأنه من رآه في النوم فقد رآه حقا (١) ، ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون : «إن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهم لسن الآن أمهات المؤمنين ، لكنهن كن أمهات المؤمنين».

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا ضلال بحت وحماقة محضة ، ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء التي ولدته ، وأبوه الذي ولده أباه ، ولا أمه ، إلّا في حين الولادة والحمل من الأم فقط ، وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك ، وهذا من السخف الذي لا يرضى به لنفسه ذو مسكة (٢).

فإن قالوا : أتقولون إن عمر أمير المؤمنين أو عثمان أيضا كذلك؟

قلنا لهم : لا ، وهذا إجماع لأنه لا يكون أمير المؤمنين إلّا من يكون الائتمار

__________________

(١) حديث : «من رآني في المنام فقد رآني» رواه البخاري في العلم باب ٣٨ ، والتعبير باب ١٠. ومسلم في الرؤيا حديث ١١. وأبو داود في الأدب باب ٨٨. والترمذي في الرؤيا باب ٤ و ٧. وابن ماجة في الرؤيا باب ٢. والدارمي في الرؤيا باب ٤. وأحمد في المسند (٢ / ٢٣٢ ، ٢٦١ ، ٣٤٢ ، ١٠ ، ٤١١ ، ٤٢٥ ، ٤٦٣ ، ٤٦٩ ، ٤٧٢ ، ٥ / ٣٠٦ ، ٦ / ٣٩٤).

(٢) المسكة : العقل الوافر والرأي (المعجم الوسيط : ص ٨٦٩ ، ٨٧٠).

١٠٨

بأمره واجب ، وليس هذا لأحد بعد موته إلّا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط.

فبطل أن يكون لهم فيها متعلق. وبالله تعالى التوفيق.

الكلام على من قال بتناسخ الأرواح

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين : فذهبت الفرقة الواحدة إلى أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر ، وإن لم تكن من نوع الأجساد التي فارقت. وهذا قول «أحمد بن حابط» تلميذ النظام و «أحمد بن نانوس» (١) تلميذ أحمد بن حابط و «أبي مسلم الخراساني» و «محمد بن زكريا الرازي» الطبيب ، صرّح بذلك في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي (٢) ، وهو قول القرامطة من الإسماعيلية ، وغالية الرافضة الذين رفضوا الإسلام جملة ، لا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ومنهم النضرية والمحمدية وانقسمت النضرية على فرق تزيد على خمس عشر فرقة ، أولها : السبابية ، وكل هذه الفرق تقول بألوهية على رضي الله عنه ، وسنذكر في الكلام على الشيعة طرفا من أمرهم ، وقد صرح بهذا محمد بن زكريا الرازي في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي ، فقد قال في بعض كتبه : لو لا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجسام المتصوّرة بالصور البهيمية إلى الأجساد المتصوّرة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء من الحيوان البتة. وقد ادّعى بعضهم : أن النسخ لا يكون إلا في الأنفس فقط ، فنجد الإنسان يتخلق بأخلاق غير نوع الإنسان ، قال : فهذا هو النسخ.

والمسخ : هو تغيير الصورة ونفسها معا ، والنسخ هو تغيير النفس عن أخلاقها فقط ، ولهم في هذا خباط كثير لا يحصى ، وبالله تعالى التوفيق.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذه كما ترى دعاوى وخرافات بلا دليل.

وذهب هؤلاء إلى أن التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب ، قالوا : فالفاسق المسيء الأعمال تنتقل روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار ، والمسخرة المؤلمة الممتهنة بالذبح.

__________________

(١) أحمد بن أيوب بن نانوس : كان من تلاميذ إبراهيم بن سيّار النظّام ثم صار من أتباع أحمد بن حابط. انظر الوافي بالوفيات للصفدي (٦ / ٢٦١).

(٢) سماه إسماعيل باشا البغدادي في هدية العارفين (٢ / ٢٨) : الحاصل في العلم الإلهي.

١٠٩

واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها شرّا لا خير فيها ، فقال بعضهم : أرواح هذه الطبقة هي الشياطين. وقال «أحمد بن حابط» : إنها تنتقل إلى جهنم فتعذّب بالنّار أبد الأبد.

واختلفوا في الذي كانت أفاعيله كلها خيرا لا شرّ فيها ، فقال بعضهم : أرواح هذه الطبقة هي الملائكة. وقال «أحمد بن حابط» : إنها لا شك أنها تنتقل إلى الجنة فتنعم فيها أبد الأبد. واحتجت هذه الطائفة المرتسمة بالإسلام أعني «أحمد بن حابط» و «أحمد بن نانوس» بقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار : آية رقم ٦ ـ ٨].

وبقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [سورة الشورى : آية رقم ١١].

واحتج من هذه الطائفة من لا يقول بالإسلام بأن قالوا : إن النفس لا تتناهى ، والعالم لا يتناهى لأمده ، فالنفس متنقلة أبدا ، وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير نوعها.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وذهبت الفرقة الثانية إلى أن منعت انتقال الأرواح إلى غير أنواع أجسادها التي فارقت ، وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيء من الشرائع ، وهم من الدهرية. وحجتهم هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها ، القائلة إنه لا تناهي للعالم فوجب أن تردد النفس في الأجساد أبدا. قالوا : ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلّقها به.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : أما الفرقة المرتسمة باسم الإسلام فيكفي من الردّ عليهم إجماع جميع أهل الإسلام على تكفيرهم ، وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بغير هذا ، وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا يقع إلّا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعم قبل يوم القيامة ، ثم بالجنة أو بالنّار في موقف الحشر فقط ، إذا جمعت أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها.

وأما احتجاجهم بالآيتين فكفى من بطلان قولهم أيضا ما ذكرناه من الإجماع وأن الأمّة كلها مجمعون بلا خلاف على أن المراد بهاتين الآيتين غير ما ذكر هؤلاء الملحدون ، وأن المراد بقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أنها الصورة التي ركّب الإنسان عليها من طول أو قصر ، أو حسن أو قبح ، أو بياض أو سواد ، وما أشبه ذلك.

١١٠

وأما الآية الأخرى فإنّ معناها أن الله تعالى امتنّ علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجا نتولّد منها ، ثم امتنّ علينا بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج ، ثم أخبر تعالى أنه يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا فتبيّن ذلك بيانا ظاهرا لا خفاء به أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا ، إنما هي أنفسنا ، ثم فرّق بين أنفسنا وبين الأنعام ، فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد فيها غير أنفسنا ، ويكفي من هذا أن قولهم إنما هو دعوى بلا برهان ، وإنّما رتبوه على أصلهم في العدل فأخرجوا هذا الوجه لما شاهدوه من إيلام الحيوان ، وكل قول لم يوجبه برهان فهو باطل ، ولم يأتي هذا القول قط عن أحد من الأنبياء. وهؤلاء القوم مقرّون بالأنبياء عليهم‌السلام فلاح يقينا فساد قولهم.

وأما الفرقة الثانية القائلة بالدّهر ، فإننا نقول وبالله التوفيق :

إنه يكفي من فساد قولهم هذا أنّه دعوى بلا برهان لا عقلي ولا حسي ، وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا شك فيه ، لكننا لا نقنع بهذا بل نبيّن عليهم بيانا لائحا ضروريا بحول الله وقوته ، فنقول وبالله تعالى نستعين :

إن الله تعالى خلق الأنواع والأجناس ، ورتب الأنواع تحت الأجناس ، وفصل كل نوع من النوع الآخر بفصله الخاص له الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهذه الفصول المذكورة لأنواع الحيوان إنما هي لأنفسها التي هي أرواحها ، فنفس الإنسان حية ناطقة ، ونفس الحيوان حية غير ناطقة هذا هو طبيعة كل نفس وجوهرها الذي لا يمكن استحالته عنه ، فلا سبيل إلى أن يصير غير الناطق ناطقا ، ولا الناطق غير ناطق ، ولو جاز هذا لبطلت المشاهدات ، وما أوجبه الحس وبديهة العقل والضرورة من انقسام الأشياء على حدودها.

وأما الفرقة الثالثة التي قالت : إن الأرواح تنتقل إلى أجساد نوعها ، فيبطل قولهم بحول الله تعالى وقوّته بطلانا ضروريّا بكل ما كتبناه في إثبات حدوث العالم ووجوب الابتداء له والنهاية من أوله. وبما كتبناه في إثبات النبوة ، وأن جميع النبوات وردت بخلاف قولهم ، وببرهان ضروري عليهم ، وهو أنه ليس في العالم كله شيئان يشتبهان بجميع أعراضهما اشتباها تامّا من كل وجه ، يعلم هذا من تدبّر اختلاف الصور ، واختلاف الهيئات ، وتباين الأخلاق ، وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما لا في كلها ، ولو لم يكن ما قلنا ما فرّق أحد بينهما البتة.

وقد علمنا بالمشاهدة أن كل من يتكرر عليه ذلك الشيئان المشتبهان تكررا

١١١

كثيرا متصلا أنه لا بد أن يفصل بينهما ، وأن يميّز أحدهما عن الثاني ، وأن يجد في كل واحد منهما أشياء بان بها عن الآخر ، لا يشبهه فيها ـ فصحّ بهذا أنه لا سبيل إلى وجود شخصين يتفقان في أخلاقهما كلها حتى لا يكون بينهما فرق في شيء منها ، وقد علمنا بيقين أن الأخلاق محمولة في النفس ، فصح بهذا أن نفس كل ذي نفس من الأجساد من أيّ نوع كانت غير النفس التي في غيره من الأجساد كلها ضرورة.

وقال أيضا بعض من ذهب إلى التناسخ من الحاملين ذلك على سبيل الجزاء : إن الله تعالى عدل حكيم رحيم كريم ، فإذ هو كذلك ، فمحال أن يعذّب من لا ذنب له ، قال : فلما وجدناه تعالى يقطع أجسام الصبيان الذين لا ذنب لهم بالجدري والقروح ويأمر بذبح بعض الحيوان الذي لا ذنب له ، وبطبخه وأكله ، ويسلط بعضها على بعض فيقطعه ويأكله ، ولا ذنب له ، علمنا أنه تعالى لم يفعل ذلك إلّا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب فركبت في هذه الأجساد لتعذّب فيها.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد تكلمنا على إبطال هذا الأصل الفاسد في غير هذا المكان في باب الكلام على «البراهمة» في كتابنا هذا بما يكفي ، وقد ردّدنا الكلام أيضا في بيان بطلانه في غير ما موضع من كتابنا ، وفي باب الكلام على من أبطل القدر من المعتزلة في كتابنا هذا ، والحمد لله رب العالمين.

ويكفي من بطلان هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم : إن طردتم هذا الأصل وقعتم في مثل ما أنكرتم ولا فرق ، وهو أن الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه ، وقد كان قادرا على أن يطهر كل نفس خلقها ولا يعرضها للفتن ، ويلطف بها ألطافا فيصلحها بها ، حتى تستحق كلّها إحسانه والخلود في النعيم ، وما كان ذلك ينقض شيئا من ملكه ، فإن كان عاجزا عن ذلك فهذه صفة نقص ، ويلزم حاملها أن يكون من أجل نقصه محدثا مخلوقا ، فإن طردوا هذا الأصل خرجوا إلى قول المانوية في أن للأشياء فاعلين. وقد تقدّم إبطالنا لقولهم وبالله تعالى التوفيق.

وبينا أن الذي لا آمر فوقه ولا مرتب عليه فإن كل ما يفعله فهو حق وحكمة ، وإذ قد تعلق هؤلاء القوم بالشريعة فحكم الشريعة أن كل قول لم يأتي عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية ، فإذ لم يأتي عن أحد من الأنبياء عليهم‌السلام القول بتناسخ الأرواح فقد صار قولهم به خرافة وكذبا وباطلا. وبالله تعالى التوفيق.

١١٢

فصل في الكلام على

من أنكر الشرائع من المنتمين إلى الفلسفة بزعمهم

وهم أبعد الناس عن العلم بها جملة

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : نبين في هذا الفصل بحول الله تعالى وقوته وجوب صحة الشرائع على ما توجبه أصول الفلاسفة على الحقيقة أولهم عن آخرهم على اختلاف أقوالهم في غير ذلك إن شاء الله تعالى.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها ، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس ، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد ، وحسن السياسة والرّعية ، وهذا نفسه لا غيره هو الغرض في الشريعة ، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد العلماء بالفلسفة ، ولا بين أحد من العلماء بالشريعة ، فيقال لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة ، وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها :

أليست الفلسفة بإجماع من الفلاسفة مبينة للفضائل من الرذائل؟ موقفة على البراهين المفرّقة بين الحق والباطل؟ فلا بد من بلى ضرورة. فيقال له أليس الفلاسفة كلهم قد قالوا : صلاح العالم بشيئين : أحدهما باطن والآخر ظاهر؟ فالباطن : هو استعمال النفس للشرائع الزاجرة عن تظالم الناس وعن القبائح. والظاهر : هو التحصين بالأسوار ، واتخاذ السلاح لدفع العدو الذي يريد ظلم الناس والإفساد ، ثم أضافوا إلى إصلاح النفوس بما ذكرنا إصلاح الأجساد بالطب؟ فلا بدّ من بلى ضرورة. فيقال لهم : فهل صلاح العالم وانكفاف الناس عن القتل الذي فيه فناء الخلق ، وعن الزنى الذي فيه فساد النسل وخراب المواريث ، وعن الظلم الذي فيه الضرر على الأنفس والأموال وخراب الأرض ، وعن الرذائل من البغي والحسد والكذب والجبن والبخل والنميمة والغش والخيانة وسائر الرذائل إلّا بشرائع زاجرة للناس عن كل ذلك؟ فلا بد من نعم ضرورة ، وإلّا وجب الإهمال الذي فيه فساد كل ما ذكرنا ، فإذا لا بدّ من ذلك ، ولو لا ذلك لفسد العالم كله ، ولفسدت العلوم كلها ، ولكان الإنسان قد بطلت فضيلة الفهم والنطق والعقل الذي فيه صار كالبهائم ، فلا تخلو تلك الشرائع من أحد وجهين :

إمّا أن تكون صحاحا من عند الله عزوجل الذي هو خالق العالم ومدبره كما يقول أصحاب الشرائع.

١١٣

وإمّا أن تكون موضوعة باتفاق من أفاضل الحكماء لسياسة الناس بها وكفّهم عن التظالم والرذائل.

فإن كانت موضوعة كما يقول هؤلاء المخاذيل ، فقد تيقنا أن ما ألزموا الناس من ذلك كذب لا أصل له ، وزور مختلق ، وإيجاب لما لا يجب ، وباطل لا حقيقة له ، ووعيد ووعد كلاهما كذب ، فإن كان ذلك كذلك فقد صار الكذب هو أرذل الرذائل وأعظم الشر لا يتم صلاح العالم الذي هو الغرض من طلب الفضائل إلا به ، وإذ ذلك كذلك ، فقد صار الحق باطلا ، والصدق رذيلة وصار الباطل حقا وصدقا ، والكذب فضيلة ، وصار لا قوام للعالم أصلا إلا بالباطل ، وصار الكذب نتيجة الحق ، وصار الباطل ثمرة الصدق ، وصار الغرور والغش والخديعة فضائل ونصيحة ، وهذا أعظم ما يكون من المحال والممتنع والخلف (١) الذي لا مدخل له في العقل ، فإن قالوا إنه لو كشف السرّ في ذلك إلى العامة لم ترغب في الفضائل ، فوجب لذلك أن يؤتى بما ترهبه وتتقيه ، فاضطرّ في ذلك إلى الكذب لهم كما يفعل بالصبيان ، وكما أبحتم أنتم في شرائعكم كذب الرجل لامرأته ليستصلحها بذلك ، وفي دفاع الظالم على سبيل التقية ، وفي الحرب كذلك فيلزمكم في هذا ما ألزمتموه إيانا من أن الكذب صار حقا وفضيلة.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : فيقال لهم وبالله التوفيق :

أما نحن فقولنا : إنه ليس ـ كما ذكرتم ـ قبيحا ، إذ أباحه الله عزوجل الذي لا حسن إلّا ما حسّن وما أمر به ، ولا قبيح إلا ما قبّح وما نهى عنه ، ولا آمر فوقه ، فلا يلزمنا ما أردتم إلزامنا إياه.

ثم أيضا على أصولكم فإنه ليس ما ذكرتم معارضة ، ولا ما شبهتم به مشبها لما شبهتموه به ، لأننا إنما أبحنا الكذب في الوجوه التي ذكرتم للضرورة الدافعة إلى ذلك بالنص الوارد علينا بذلك كما جاز بالنص عند الضرورة دفع القتل عن النفس بقتل المريد لقتلها ، ولو أمكننا كفّ الصبي والمرأة بغير ذلك لما جاز أصلا فإذا ارتفعت الضرورة وجب الرجوع إلى استعمال الصدق على كل حال ، ولو لا النص لم نبح شيئا من ذلك ولا حرمناه ، وأنتم فيما تدعونه من مداراة الناس كلهم مبتدئون لاختيار

__________________

(١) الخلف (بضم الخاء) في علم الفلسفة : المحال الذي ينافي المنطق ويخالف المعقول (المعجم الوسيط : ص ٢٥١).

١١٤

الكذب دون أن يأمركم به من يسقط عنكم اللّوم بطاعته ، فأنتم لا عذر لكم على خلاف حكمنا في ذلك.

ثم أنتم لا تخلون من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إما أن تطووا هذا السر عن كل أحد فتصيرون إلى ما ألزمناكم من أن قطع الصدق جملة فضيلة ، وأن الكذب على الجملة حق واجب ، وهذا هو الذي ألزمناكم ضرورة.

وإمّا أن تبوحوا بذلك لمن وثقتم به فهذا إن قلتم به يوجب ضرورة كشف سركم في ذلك ، لأنه لا يجوز البتة أن ينكتم أصلا على كثرة العارفين به ، هذا أمر يعلم بالضرورة ، أن الشيء إذا كثر العارفون به فبالضرورة لا بد من انتشاره ، فإن كنتم تقولون إن طيّه واجب إلا عمن يوثق به ، وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به فقد رجعتم إلى وجوب كشفه ، لأن كشفه البتة هو نتيجة كشفه إلى خاص دون عام ، وفي كشفه بطلان ما دبرتموه صلاحا ، فقد بطل حكمكم بالضرورة ، لا سيما والقائلون بهذا القول مجدون في كشف سرهم هذا إلى الخاص والعام ، فقد أبطلوا علّتهم جملة وتناقضوا أقبح تناقض ، وعلى كل ذلك فقد صار الباطل والكذب لا يتم الخير والفضائل البتة في شيء من الأشياء إلّا بهما ، وهذا خلاف الفلسفة جملة.

وأيضا فإن كانت الشرائع موضوعة فليس ما وضعه واضع ما بأحق بأن يتّبع ممّا وضعه واضع آخر ، هذا أمر يعلم بالضرورة.

وقد علمنا بموجب العقل وضرورته أن الحق لا يكون من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلّا في واحد ، وسائرها باطل. فإذ لا شك في هذا فأي تلك الموضوعات هو الحق أم أيها هو الباطل؟ ولا سبيل إلى أن يأتوا بما يحق منها شيئا دون سائرها أصلا ، فإذ لا دليل على صحة شيء منها بعينه فقد صارت كلها باطلة ، إذ ما لا دليل على صحته فهو باطل ، وليس لأحد أن يأخذ بقول ويترك غيره بلا دليل فبطل بهذا بطلانا ضروريا كل ما تعلقوا به والحمد لله رب العالمين ، وبطل بهذا البرهان الضروري ما توهمه هؤلاء الجهال المجانين ، وصح يقينا أن الشرائع صحاح من عند منشئ العالم ومدبره الذي يريد بقاءه إلى الوقت الذي سبق في علمه تعالى أنه يبقيه إليه كما هو ، وإذ ذلك كذلك ضرورة لا يخلو الحكم في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما :

إمّا أن تكون الشرائع كلها حقا ـ قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) ـ وقد رأيت منهم من يذهب إلى هذا.

١١٥

وإمّا أن يكون بعضها حقا وسائرها باطلا. لا بدّ من أحد هذين الوجهين ضرورة.

فإن كانت كلها حقا ، فهذا محال لا سبيل إليه ، لأنه لا شريعة منها إلّا وهي تكذب سائرها ، وتخبر بأنها باطل وكفر وضلال وإلحاد.

فوجدنا هذا المخذول الذي أراد بزعمه موافقة جميع الشرائع ، قد حصل على خلاف جميعها أولها عن آخرها ، وحصل على تكذيب جميع الشرائع له كلها بلا خلاف ، وعلى تكذيبه هو لجميعها ، وما كان هكذا وهو يقول إنها كلها حق ، وهي كلها مكذبة له وهو مصدق لها كلها فقد شهد على نفسه بالكذب وبطلان قوله ، وصحّ باليقين أنه كاذب فيه.

وأيضا فإن كل شريعة فهي مضادّة في أحكامها لغيرها ، تحرّم هذه ما تحلّ هذه ، وتوجب هذه ما تسقط هذه ، ومن المحال الفاسد أن يكون الشيء وضده حقا معا في وقت واحد حراما حلالا في حين واحد على إنسان واحد ووجه واحد ، واجبا غير واجب كذلك ، وهذا أمر يعلمه باطلا كل ذي حسّ سليم ، وليس في العقل تحريم شيء مما جاء فيها تحريمه ، ولا إيجاب شيء مما جاء فيها إيجابه ، فبطل أن يرجح بما في العقل ، إذ كل ذلك في حدّ الممكن في العقل ، فإذ قد بطل هذا الوجه ضرورة فقد وجبت صحة الوجه الآخر ضرورة ، وهو أن في الشرائع شريعة واحدة صحيحة عند الله عزوجل ، وأن سائر الشرائع كلها باطل. فإذ ذلك كذلك ففرض على كل ذي حس طلب تلك الشريعة ، واطّراح كل شريعة دون ذلك وإن جلت ، حتى يوقف عليها بالبراهين الصحاح ، إذ بها يكون صلاح النفس في الأبد ، وبجهلها يكون هلاك النفس في الأبد.

فالحمد لله الذي وفّقنا لتلك الشريعة ، ووقفنا عليها ، وهدانا إلى طريقها وعرفناها ، حمدا كثيرا طيبا كما هو أهله. ونحن نسأله تعالى أن يثبتنا عليها حتى نلقاه ونحن من أهلها وحملتها آمين يا رب العالمين. وصلّى الله على محمد خاتم النبيين ، وسلم تسليما كثيرا.

فمن نازعنا في هذا القول وادعاه لنفسه فنحن في ميدان النظر وحمل الأقوال على السير بالبراهين ، فسنزيف (١) الباطل والدعاوى التي لا دليل عليها حيثما كانت ، وبيد من كانت ، ويلوح الحق ثابتا حيثما كان وبيد من كان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

__________________

(١) زيّف قوله أو رأيه : فنّده وأظهر باطله (المعجم الوسيط : ص ٤٠٩).

١١٦

الكلام على اليهود وعلى من أنكر التثليث من النصارى

ومذهب الصابئين وعلى من أقر بنبوة زرادشت

من المجوس ، وأنكر من سواه من الأنبياء عليهم‌السلام

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : إن أهل هذه الملّة يعني اليهود ، وأهل هذه النحلة يعني من أنكر التثليث من النصارى موافقون لنا في الإقرار بالتّوحيد ، ثم بالنبوة وبآيات الأنبياء عليهم‌السلام ، وبنزول الكتب من عند الله عزوجل ، إلّا أنهم فارقونا في بعض الأنبياء عليهم‌السلام دون بعض. وكذلك وافقتنا الصابئة والمجوس على الإقرار ببعض الأنبياء دون بعض. فأمّا اليهود فإنهم افترقوا على خمس فرق وهي :

١ ـ السّامريّة : وهم يقولون إنّ مدينة القدس هي : «نابلس» وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلا ، ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ، ولا يعظمونه ولهم توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود ، ويبطلون كل نبوّة كانت في بني إسرائيل بعد موسى عليه‌السلام وبعد «يوشع» عليه‌السلام ، فيكذبون بنبوة «شمعون» و «داود» و «سليمان» و «إشعيا» و «اليسع» و «إلياس» و «عاموص» ، و «حبقوق» و «زكريا» و «إرميا» وغيرهم ، ولا يقرون بالبعث البتة. وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها.

٢ ـ والصدوقية : ونسبوا إلى رجل يقال له «صدوق» وهم يقولون من بين سائر اليهود إن العزير هو ابن الله (١) تعالى الله عن ذلك. وكانوا بجهة اليمن.

٣ ـ والعنانية : وهم أصحاب «عانان» الداودي اليهودي ، وتسميهم اليهود القرّائين والمين ، وقولهم إنهم لا يتعدون شرائع التوراة ، وما جاء في كتب الأنبياء عليهم‌السلام ، ويتبرءون من قول الأحبار ، ويكذبونهم ، وهذه الفرقة بالعراق ومصر والشام ، وهم من الأندلس «بطليطلة» (٢) و «طلبيرة» (٣).

__________________

(١) وهم الذين قال فيهم جلّ وعلا : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠].

(٢) طليطلة : ضبطه الحميدي بضم الطاءين وفتح اللامين ، قال : وأكثر ما سمعناه من المغاربة بضمّ الأولى وفتح الثانية : مدينة كبيرة ذات خصائص محمودة بالأندلس ، يتصل عملها بعمل وادي الحجارة ، وكانت قاعدة ملوك القرطبيين وموضع قرارهم ، وهي على شاطئ نهر باجة وعليها قنطرة يعجز الواصف عن وصفها (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع : ص ٨٩٢).

(٣) طلبيرة (بفتح أوله وثانيه وكسر الباء الموحّدة ثم ياء مثناة من تحت وراء) : مدينة بالأندلس من أعمال طليطلة قديمة على نهر تاجه (مراصد الاطلاع : ص ٨٩٠).

١١٧

٤ ـ والربانية : وهم الأشعثية ، وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم وهم جمهور اليهود.

٥ ـ والعيسوية : وهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني ، رجل من اليهود كان بأصبهان وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى ، وهم يقولون بنبوة عيسى ابن مريم ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقولون : إن عيسى بعثه الله عزوجل إلى بني إسرائيل على ما جاء في الإنجيل ، وأنه أحد أنبياء بني إسرائيل. ويقولون إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل عليهم‌السلام ، وإلى سائر العرب ، كما كان أيوب نبيا في «بني عيص» وكما كان «بلعام» نبيا في «بني موآب» بإقرار من جميع فرق اليهود.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد لقيت من ينحو إلى هذا المذاهب من خواص اليهود كثيرا ، وقرأت في تاريخ لهم جمعه رجل هاروني (١) كان قديما فيهم ، ومن كبارهم وأئمتهم ، وممن عصبت به ثلث بلدهم ، وثلث حروبهم ، وثلث جيوشهم أيام حرب «طيطوس» وخراب البيت ، وكان له في تلك الحروب آثار عظيمة. وكان قد أدرك أمر المسيح عليه‌السلام ، واسمه يوسف بن هارون ، فذكر ملوكهم وحروبهم إلى أن وصل إلى قتل «يحيى بن زكريا» عليه‌السلام فذكره أجمل ذكر ، وعظّم شأنه ، وأنه قتل ظلما لقوله الحق ، وذكر أمر «المعمودية» ذكرا حسنا ، لم ينكرها ولا أبطلها ، ثم قال في ذكره لذلك الملك «هردوس بن هردوس» : وقبل هذا الملك من حكماء بني إسرائيل وخيارهم جماعة ، ولم يذكر من شأن المسيح ابن مريم عليهما‌السلام أكثر من هذا.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وإنما ذكرت هذا الكلام لأري أن هذا المذهب كان فيهم ظاهرا ، فاشيا في أئمتهم من حينئذ إلى الآن ، ثم انقسم اليهود جملة على قسمين :

قسم أبطل النسخ ولم يجعلوه ممكنا.

والقسم الثاني أجازوه ، إلّا أنهم قالوا لم يقع.

وعمدة من أبطل النسخ أن قالوا : إن الله عزوجل يستحيل منه أن يأمر بالأمر ثم ينهى عنه ، ولو كان كذلك لعاد الحق باطلا ، والطاعة معصية ، والباطل حقا ، والمعصية طاعة.

__________________

(١) نسبة إلى هارون النبي عليه‌السلام.

١١٨

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : لا نعلم لهم حجة غير هذه ، وهي من أضعف ما يكون من التمويه الذي لا يقوم على ساق ، لأن من تدبّر أفعال الله كلّها ، وجميع أحكامه وآثاره تعالى في هذا العالم تيقن بطلان قولهم هذا ، لأن الله تعالى يحيي ثم يميت ثم يحيي ، وينقل الدولة من قوم أعزّة فيذلهم ، إلى قوم أذلّة فيعزّهم ، ويمنح من شاء ما شاء من الأخلاق الحسنة والقبيحة ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء : ٢٣].

ثم نقول لهم وبالله التوفيق : ما تقولون فيمن كان قبلكم من الأمم المقبول دخولها فيكم إذا غزوكم؟ أليس دماؤهم لكم حلالا ، وقتلهم حقا وفرضا وطاعة؟ فلا بدّ من بلى.

فنقول لهم : فإن دخلوا في شريعتكم أليس قد حرمت دماؤهم ، وصار عندكم قتلهم حراما وباطلا ومعصية بعد أن كان فرضا وحقا وطاعة؟

فلا بدّ من بلى.

ثم إن عدوا في السبت وعملوا أليس قد عاد قتلهم فرضا بعد أن كان حراما؟ فلا بدّ من بلى.

فهذا إقرار ظاهر منهم ببطلان قولهم ، وإثبات منهم لما أنكروه من أن الحق يعود باطلا ، والأمر يعود نهيا ، وأن الطاعة تعود معصية ، وهكذا القول في جميع شرائعهم ، لأنها إنما هي أوامر في وقت محدود بعمل محدود ، فإذا خرج ذلك الوقت عاد ذلك الأمر منهيا عنه ، كالعمل هو عندهم مباح في الجمعة محرم يوم السبت ، ثم يعود مباحا يوم الأحد ، وكالصيام والقرابين وسائر الشرائع كلها ، وهذا بعينه هو نسخ الشرائع الذي أبوه وامتنعوا منه ، إذ ليس معنى النسخ إلا أن يأمر الله عزوجل بأن يعمل عمل ما ، مدة ما ، ثم ينهى عنه بعد انقضاء تلك المدة ، ولا فرق في شيء من العقول بين أن يعرف الله تعالى ، ويخير عباده بما يريد أن يأمرهم به قبل أن يأمرهم به ، ثم بأنه سينهى عنه بعد ذلك ، وبين ألّا يعرفهم به إذ ليس عليه تعالى شرط أن يعرف عباده بما يريد أن يأمرهم قبل أن يأتي الوقت الذي يريد إلزامهم فيه الشريعة. وأيضا فإن جميعهم مقر بأن شريعة يعقوب عليه‌السلام كانت غير شريعة موسى عليه‌السلام ، وأن يعقوب تزوج «ليّا» و «راحيل» ابنتي «لابان» وجمعهما معا في عصمته ، وهذا حرام في شريعة موسى عليه‌السلام.

هذا مع قولهم : إن أم موسى عليه‌السلام كانت عمة أبيه أخت جدّه ، وهي

١١٩

«يوحانذا» بنت «لاوي» وهذا في شريعة «موسى» حرام ، ولا فرق في العقول بين شيء أحلّه الله تعالى ثم حرّمه ، وبين شيء حرّمه الله ثم أحلّه.

والمفرق بين هذين مكابر للعيان ، مجاهر بالقحة (١) ، ولو قلب عليه قالب كلامه ما كان بينهما فرق ، وفي توراتهم أن الله تعالى افترض عليهم بالوحي إلى موسى عليه‌السلام ، وأوهم موسى بذلك في نص توراتهم : ألّا يتركوا من الأمم السبعة الذين كانوا سكانا في فلسطين والأردن أحدا أصلا إلا قتلوه ثم إنه لما اختدعتهم الأمة التي يقال لها «عباوون» : وهي إحدى تلك الأمم التي افترض عليهم قتلهم واستئصالهم ، فتحيّلوا عليهم ، وأظهروا لهم أنهم أتوا من بلاد بعيدة حتى عاهدوهم ، فلما عرفوا بعد ذلك أنهم من السكان في الأرض التي أمروا بقتل أهلها حرّم الله عزوجل عليهم قتلهم على لسان «يوشع» النبي بنص كتاب «يوشع» عندهم ، فأبقوهم ينقلون الماء والحطب إلى مكان التقديس ، وهذا هو النسخ الذي أنكروا بلا كلفة.

وفي توراتهم «البداء» (٢) الذي هو أشدّ من النسخ ، وذلك أنّ فيها : أن الله تعالى قال لموسى عليه‌السلام : سأهلك هذه الأمة ، وأقدمك على أمة أخرى عظيمة ، فلم يزل موسى يرغب إلى الله تعالى في أن لا يفعل ذلك حتى أجابه وأمسك عنهم ، وهذا هو «البداء» بعينه ، والكذب المنفيان عن الله تعالى ، لأنه ذكر أن الله تعالى أخبر أنه سيهلكهم ، ويقدمه على غيرهم ثم لم يفعل فهذا هو الكذب بعينه تعالى الله عنه. وفي سفر «إشعيا» أن الله تعالى سيرتب في آخر الزمان من الفرس خدّاما لبيته.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وهذا هو النسخ بعينه لأن التوراة موجبة أن لا يخدم في البيت المقدس أحد غير «بني لاوي» بن يعقوب على حسب مراتبهم في الخدمة. فعلى أيّ وجه أنزلوا هذا القول من «إشعيا»؟. فهو نسخ لما في التوراة على كل حال ، وأما في الحقيقة فهو إنذار بالملة الإسلامية التي صار فيها الفرس والعرب

__________________

(١) القحة : قلّة الحياء والاجتراء على اقتراف القبائح (المعجم الوسيط : ص ١٠٤٨).

(٢) البداء : يطلق في لغة العرب على معنيين متقاربين : أحدهما الظهور بعد الخفاء ، ومنه قول الله سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) [الزمر : ٤٧]. (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) [الجاثية : ٣٣] ، ومنه قولهم : بدا لنا سور المدينة. والآخر : نشأة رأي جديد لم يكن موجودا ، قال في القاموس : «وبدا له في الأمر بدوّا وبداء وبداة : أي نشأ له فيه رأي». ومنه قول الله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف : ٣٥] : أي نشأ لهم في يوسف رأي جديد ، هو أن يسجن سجنا وقتيّا. وذانك معنيان متقاربان للبداء ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى لما يلزمهما من سبق الجهل وحدوث العلم ، والجهل والحدوث عليه محالان.

١٢٠