منازل الآخرة والمطالب الفاخرة

الشيخ عباس القمي

منازل الآخرة والمطالب الفاخرة

المؤلف:

الشيخ عباس القمي


المحقق: السيد ياسين الموسوي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-223-9
الصفحات: ٣٠٨

من مواقف القيامة المهولة

موقف الميزان ووزن الأعمال

قال الله تعالى في أوائل سورة الاعراف :

( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (١) فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) (٢).

وقال تعالى في سورة القارعة :

( الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ) (٣).

__________________

(١) قال المؤلّف عليه الرحمة في الحاشية :

(قال المفسرون : انّ السبب في ذكر الله تعالى الميزان بصيغة الجمع ذلك لأن لكل نوع من أنواع الطاعات ميزان فيقام لكل منها هناك ميزان ، وكذلك انّه جمع موزون يعني وَزن اعماله).

(٢) سورة الاعراف : الآية ٨ و ٩.

(٣) سورة القارعة : وقد ترجم المؤلف في المتن الآيات الشريفة ، ولم يذكر من السورة المباركة الّا قوله تعالى (القارعة ما القارعة ... الى آخر الآيات) هكذا اثباتها في المتن.

فارتأينا أن نثبت السورة المباركة وننقل ما أورده في تفسير معاني الآيات الشريفة القارعة : يعني القيامة لانّها تقرع القلوب بالفزع والخوف.

يوم يكون الناس كالفراشات المبثوثة ، وتكو الجبال مثل القطن الذى ندف ونفش.

٢٠١

* واعلم أن لا يوجد عمل لأجل تثقيل ميزان الأعمال مثل الصلوات على محمّد وآله صلوات الله عليهم أجمعين ، ومثل حسن الخلق.

وأنا اُزيِّن الكتاب بذكر روايات هنا في فضل الصلوات ، وثلاث روايات مع عدّة حكايات في حُسن الخُلُق.

أما الأخبار في فضل الصلوات

* الأول : روى الشيخ الكليني رحمه‌الله بسند معتبر عن الامام محمّد الباقر أو الامام الصادق عليها‌السلام.

قال :

« ما في الميزان شيء أثقل من الصلاة على محمّد وآل محمّد وانّ الرجل لتوضع أعماله في الميزان فتميل به فَيُخرِج صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة عليه فيضعها في ميزانه فيرجح به (١).

* الثاني : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« أنا عند الميزان يوم القيامة ، فمن ثقلت سيئاته على حسناته جئت بالصلاة عليّ حتّى أثقل بها حسناته » (٢).

__________________

فأما الذين جاؤوا بموازين ثقيلة ـ يعني حسناتهم وخيراتهم ـ فهم في عيشة راضية.

وأما الذين جاؤوا بموازين خفيفة ، فانّ مأواهم الهاوية. وما ادراك ما الهاوية : تلك نار حامية وحارقة جداً.

(١) رواه الكليني في الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٤ ، باسناده عن علي بن ابراهيم عن أبه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن محمّد بن مسلم عن احدهما عليهما‌السلام ... والحديث صحيح السند. وأما توقف المؤلّف رحمه‌الله في القطع بصحته فناشىء من تصحيح (ابراهيم بن هاشم) أبو (علي بن ابراهيم) كما هو ديدن بعض الاجلة من الماضين والذين قالوا بحسنه لعدم وجود توثيق له في كتب الرجال ولكن الصحيح انّ توثيق علي بن ابراهيم في تفسيره لكل من يروي عنهمخ يكفي في اثبات الصحة.

(٢) رواه الصدوق في ثواب الأعمال : ص ١٨٦ ، (ثواب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، ح ١ ، وفي : جامع الأخبار للشعيري : ص ٦١ الفصل ٢٨طبعة النجف ، ونقله في البحار : ج ٧ ، ص ٣٠٤ ، ح ٧٢ ، وفي : ج ٩٤ ، ص ٥٦ ، ح ٣١ ، وفي ج ٩٤ ، ص ٦٥ ، ح ٥٢.

٢٠٢

* الثالث : روى الشيخ الصدوق رَحمَة اللهُ عن الامام الرضا عليه‌السلام انّه قال :

« مَن لم يقدر على ما يُكَفِّر به ذنوبه فليكثرمن الصلاة على محمّد وآله ، فانّها تهدم الذنوب هداماً » (١).

* الرابع : روي في دعوات الراوندي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« مَن صلّى عليّ كل يوم ثلاث مرّات ، وفي كل ليلة ثلاث مرّات حبّاً لي وشوقاً لي كان حقّاً على الله عزّوجلّ أن يغفر له ذيوبه تلك الليلة وذلك اليوم » (٢).

* الخامس : وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال :

« رأيت فيما يرى النائم عمي حمزة بن عبد المطلب وأخي جعفر بن أبي طالب وبين ايديهما طبق من نبق فأكلا ساعة ، فتحول النبق عنباً فكلا ساعة ، فتحول العنب لهما رطباً ، فأكلا ساعة ، فدوت منهما ، فقلت لهما : بأبي أنتما أي الأعمال وجدتما أفضل؟ » (٣)

قالا : فديناك بالآباء والامهات وجدنا أفضل الأعمال الصلاة عليك ، وسقي الماء ، وحب علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال :

* السادس : وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

« مَن صلّى عليّ في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب » (٤).

* السابع : روى الشيخ الكليني عن الامام الصادق عليه‌السلام انّه قال :

« اذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاكثروا الصلاة عليه فانّه مَن صلّّى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة واحدة صلّى الله عليه ألف صلاة في ألف صفّ من الملائكة ولم يبق

__________________

(١) رواه الصدوق في الأمالي : ص ٦٨ ، المجلس ١٧ ، ح ٤٤٤ ، ورواه في عيون اخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ ، ص ٢٩٤ ، باب ، ٢٨ ، ح ٢٨ ، ونقله المجلسي في البحار : ج ٩٤ ، ٤٧ ، ح ٢ ، وفي : ج ٩٤ ، ص ٦٣ ، ح ٥٢.

(٢) الدعوات للراوندي : ص ٨٩ ، الباب ، ٢٢٤ (صلوات النبي والأئمة) ح ٢٢٦.

(٣) الدعوات القطب الراوندي : ص ٩٠ ، باب ٢٢٤ (صلوات النبي والائمة) ح ٢٢٧.

(٤) منية المريد : ص ١٧٨ ، الباب ٤ (في آداب الكتابة والكتب التي هي آله العلم) ، المسألة ١٣ ، ونقله في البحار ، ج ٩٤ ، ص ٧١ ، ح ٦٥.

٢٠٣

شيء مما خلق اله الاّ صلى على العبد لصلاة الله عليه ، وصلاة ملائكته. فمن لم يرغب في ثذا فهو جاهل مغرور قد برئ الله منه ورسوله وأهل بيته » (١).

يقول الفقير : روى الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن الامام الصادق عليه‌السلام في معنى « انّ الله وملائكته يصلون على النبي » الآية ، انّه عليه‌السلام قال :

« الصلاة من الله عزّ وجلّ رحمة ومن الملائكة تزكية ومن الناس دعاء » (٢). وروي في هذا الكتاب أن الراوي قال : فكيف نصلي على محمّد وآله؟

قال : « تقولون : صلوات الله وصلوات ملائكته وانبيائه ورسله وجميع خلقه على محمّد وآل محمّد والسلام عليه وعليهم ورحمه‌الله وبركاته ».

قال : فقلت : فما ثواب مَ ، الذيوب والله كهيئة يوم ولدته امه » (٣).

* الثامن : روى الشيخ أبو الفتوح الرازي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال :

« اسري بي ليلة المعراج الى السماء فرأيت ملكاً له ألف يد ، لكل يد ألف اصبع وهو يحسب ويعد بتلك الأصابع فقلت لبرائيل : مَن هذا الملك ، وما الذي يحسبه؟

قال جبرائيل : هذا ملك موكل على قطر المطر يحفظها كم قطرة تنزل من السماء الى الأرض.

فقلت للملك : هل تعلم مذ خلق الله الدنيا كم قطرة نزلت من السماء الى الأرض؟

فقال : يا رسول الله! فوالله الذي بعثك بالحقّ الى خلقه غير انّي اعلم كم قطرة نزلت من السماء الى الأرض اعلم تفصيلاً كم قطرة نزلت على البحر ، وكم قطرة نزلت في الرن وكم قطرة نزلت في العمران ، وكم قطرة نزلت في البستان ، وكم قطرة

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٢.

(٢) معاني الأخبار للشيخ الصدوق : ص ٣٦٨ ، الطبعة الحديثة.

(٣) معاني الأخبار للشيخ الصدوق : ص ٣٦٨.

٢٠٤

نزلت في السبخة ، وكم قطرة نزلت في القبور.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فتعجبت من حفظه وتذكره حسابه.

فقال : يارسول الله! حساب لا أقدر عليه بما عندي من الحفظ والتذكر والأيدي والأصابع.

فقال : أي حساب هو؟ فقال : قوم من امتك يحضرون مجمعاً فيذكر فيه اسمك عندهم فيصلون عليك فأنا لا أقدر على حصر ثوابهم » (١).

* التاسع : روى الشيخ الكليني في ذيل هذه الصلوات التي تقرأ عصر يوم الجمعة :

( اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الاوصياء المرضيين بأفضل صلواتك وبارك عليهم بأفضل بركاتك والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته ).

انّ مَن قالها سبع مرّات ردّ الله عليه من كل عبد حسنة ، وكان عمله في ذلك اليوم مقبولاً ، وجاء يوم القيامة وبين عينيه نورٌ) (٢).

* العاشر : وروي : ( مَن قال بعد صلاة الفجر ، وبعد صلاة الظهر اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجل فرجهم ، لم يمت حتّى يدرك القائم من آل محمّد عليهم‌السلام ) (٣).

__________________

(١) روى الشيخ أبو الفتوح الرازي ، ج ٤ ، ص ٤٤٣ وهو باللغة الفارسية ، وذكره النوري رضي‌الله‌عنه عنه في المستدرك ، ج ٥ ، باب ٣٥ ، ص ٣٥٥ ، ح ٦٠٧٢ ، الطبعة الحديثة ، ويبدو انّه قام بترجمته حين نقله للحديث.

(٢) أقول رواه ثقة الاسلام الكليني في فروع الكافي : ج ٣ ، ص ٤٢٩.

وروى أيضاً في حديث قبلة : (اذ صَليت يوم الجمعة فقل ... ـ ثمّ ذكر الصلاة المذكورة ـ فانّه مَ ، قالها في دبر العصر كتب الله له مائة الف حسنة ومحا عنه مائة ألف سيئة وقضى بها مائة ألف حاجة ورفع له بها مائة ألف درجة.

(٣) جنة الأمان الواقية ، الشيخ الكفعمي : ص ٦٥ ـ ٦٦ ، الطبعة الحجرية ـ ونقله عنه في البحار ـ ج ٨٦ ، ص ٧٧ ، ح ١١ ، وفي سفينة البحار للقمّي ، ج ٥ ، ص ١٧٠ ، الطبعة الحديثة ، وفي ، ج ٢ ، ص ٤٩ ، الطبعة الحجرية.

٢٠٥

و أما الروايات التي وردت في حُسن الخُلق

*الرواية الاُولى : روي عن انس بن مالك انّه قال :

« كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعليه برد غليظ الحاشية ، فجبذه اعرابي بردائه جبذة شديدة حتّى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال :

يا محمّد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذين عندك ، فانّك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك.

فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال المال مال الله ، وأنا عبده.

ثمّ قال : ويقاد منك يا اعرابي ما فعلت بي.

قال : لا. قال : ولم؟

قال : لانّك لا تكافئ بالسيئة السيئة.

فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أمر أن يحمل له على بعير شعير ، وعلى الآخر تمر (١). يقول المؤلّف : انّ ذكري لهذه الروايات في هذا المقام انّما هو للتبرك والتيمن وليس لبيان حسن خلق الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أئمة الهدى عليهم‌السلام ، وذلك لانّ الذي يذكّر الله تعالى في القرآن الكريم بخلقه العظيم ، ويكتب علماء القريقين كتباً في سيرته وخصاله الحميدة ومع ذلك فلم يحصوا معشار عشره .. حينئذٍ فما اكتبه هنا في هذا الباب انّما يعدّ تسامحاً.

ولقد أجاد من قال :

محمدٌ سيد الكونين والثقلين

والفريقين من عرب ومن عجمِ

فاق النبيين في خلق وفى خلقٍ ٌ

ولم يدانوه في علم ولا كرمِ

وكلهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفامن الدّيمِ

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ، ص ٤١٢ ، والرواية عامية تجدها في : الوفا بأحوال المصطفى : ج ٢ ، ص ٤٢١ ، وفي كتاب أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآدابه ، لابين حيان الصبهاني : ص ٨٠ ، ونقله المؤلّف في كحل البصر في سيرة سيد البشر : ص ٥٩ عن القاضي عياض في كتابه (الشفاء).

٢٠٦

وهو الذي تم معناه وصورتُهُ

ثمّ اصطفاه حبيباً بارئُ النسم

منزهٌ عن شريكٍ في محاسنهِ

فجوهر الحسن فيه غيرُ منقسمِ

فمبلغ العلم فيه انّه بشٌر

وانّه خير خلق الله كلهم (١)

* الرواية الثانية : روي عن عصام بن المصطلق انّه قال :

دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي عليهما‌السلام فاعجبني سمته ورواؤه ، وأثار من الحسد ماكان يخفيه صدري لأبيه من البفض ، فقلت له : أنت ابن أبي تراب؟

فقال : نعم.

فبالغت في شتمه وشتم أبيه ..

فنظر اليّ نظرة عاطف رؤوف ، ثمّ قال :

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم.

( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ) (٢).

ثمّ قال لي : خفّض عليك ، استغفر الله لي ولك ، انّك لو استعنتنا لا عناك ، ولو استرفدتنا لرفدناك ، ولو استرشد تنا لرشدناك.

قال عصام : فتوسم مني الندم على ما فرط مني.

فقال : ( قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (٣) أمن أهل الشام أنت؟

قلت : نعم.

فقال : ( شنشنة اعرفها من اخزم ) (٤) حيّانا الله وايّاك ، انبسط إلينا في حوائجك ،

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ، ص ٤١١.

(٢) سورة الاعراف : الآيات ١٩٩ ـ ٢٠٢.

(٣) سورة يوسف : الآية ٩٢.

(٤) قال ابن الاثير في النهاية ج ٢ ، ص ٥٠٤ : (الشنشنة : السجية والطبيعة. وقيل القطعة المضغة من اللحم. وهو مثل ، وأول مَن قاله أبو اخزم الطائي وذلك : انّ اخزم كان عاقلاً لأبيه ، فمات

٢٠٧

وما يعرض لك تجدني عند أفضل ظنّك إن شاء الله تعالى.

قال عصام : فضاقت عليّ الأرض بما رحبت وودتُ لو ساخت بي ، ثمّ سللتُ منه لواذاً (١) وما على الأرض أحبّ إليّ منه ومن أبيه (٢).

يقول المؤلّف : يقل صاحب الكشاف في ذيل الآية الشريفة : ( لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) (٣) التي تمثل بها سيّد الشهداء رواية في حسن خلق يوسف الصديق ، من المناسب ذكرها هنا ، والرواية هي :

(انّ اخوته لما عرفوه وارسلوا إليه : انّك تدعونا الى طعامك بكرةً وعشياً ، ونحن نستحي منك لما فرط (٤) منا فيك.

فقال يوسف : انّ أهل مصر وإن ملكتُ فيهم ، فانّهم ينظرون اليّ بالعين الاُولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنّكم اخوتي وانّي من حفدة ابراهيم (٥).

* وروي أيضاً انّه لما اجتمع يعقوب مع يوسف عليهما‌السلام قال :

« يا بني حدثني بخبرك؟

فقال له : يا ابت لا تسألني عمّا فعل بي اخوتي ، واسألني عمّا فعل الله بي » (٦).

* الرواية الثالثة : روى الشيخ المفيد وغيره :

« انّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه‌السلام ، ويسبه اذا رآه ، ويشتم علياً فقال بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا

__________________

وترك بنين عقوا جدهم وضربوه وادموه فقال :

انّ بنيّ زمَّلوني بالدم

شِنشِنَةٌ أعرِفُها من أَخزَمِ

(١) ويستخدم (لواذاً) لشدة الاستخفاء والاستتار.

(٢) سفينة البحار : ج ١ ، ص ٤٢١. وفي : ج ٢ ، ص ٧٠٥ ، الطبعة الحديثة.

(٣) سورة يوسف : الآية ٩٢.

(٤) في سفينة البحار للمؤلف بدل (لما فرّطنا قبل).

(٥) تفسير الكشاف للزمخشري : ج ٢ ، ص ٥٠٣ ، طبعة مصر.

(٦) سفينة البحار : ج ١ ، ص ٤١٢ الطبعة الحجرية. وفي ج ٢ ، ص ٦٨٣ ، الطبعة الحديثة.

٢٠٨

الفاجر. فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي ، وزجرهم ، وسأل عن العمري ، فذكر انّه يزرع بناحية من نواحي المدينة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره ، فصاح به العمري : لا توطئ زرعنا.

فتوطاه عليه‌السلام بالحمار حتّى وصل إليه ، ونزل ، وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه وقال له : « كم غرمت على زرعك هذا؟

قال : مائة دينار.

قال : فكم ترجو أن تصيب؟

قال : لست أعلم الغيب.

قال له : انّما قلت : كم ترجو أن يجيئك فيه؟

قال : ارجو أن يجيء مائتا دينار.

قال : فاخرج له أبو الحسن عليه‌السلام صرة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال : هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك فيه ما ترجو.

قال : فقام العمري فقبل رأسه ، وسأله أن يصفح عن فاطه.

فتبسم إليه أبو الحسن ، وانصرف.

قال : وراح الى المسجد ، فوجد العمري جالساً ، فلمّا نظر إليه ، قال « الله اعلم حيث يجعل رسالته ».

قالك فوثب أصحابه إليه ، فقالوا له : ما قضيتك قد كنت تقول غير هذا؟!

قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلتُ الآن.

وجعل يدعو لآبي الحسن عليه‌السلام فخاصموه وخاصمهم ، فلمّا رجع أبو الحسن الى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : ايّما كان خيراً ، ما أردتم ، أم ما أردت؟! انّني أصلحت أمره بالمقدار الذين عرفتم وكفيت به شرَّه » (١).

__________________

(١) البحار : ج ٤٨ ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣. ورواه الشيخ المفيد في الارشاد : ص ٢٩٧ ، اعلام الورى ، الطبرسي : ص ٣١٦ ، ٣٠٧.

٢٠٩

وأما الحكايات في حُسن الخُلق

* حكاية :

حكي انّ مالك الأشتر رحمه‌الله كان مجتازاً بسوق وعليه قيسص خام ، وعمامة منه ، فرآه بعض السوقة فأزرى بزيّه ، فرماه ببندقة تهاوناً به ، فمضى ولم يلتفت.

فقيل له : ويلك أتعرف لمن رميت؟!

فقال : لا.

فقيل له : هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فاتعد الرجل ، ومضى إليه ، وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلي فلما انفتل انكب الرجل على قدميه يقبلهما.

فقال : ما هذا الأمر؟

فقال : اعتذر إليك بما صنعت.

فقال : لا بأس عليك ، والله ما دخلت المسجد إلاّ لاستغفر لك (١).

يقول المؤلّف :

انظر كيف كسب هذا الرجل الأخلاق من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فمع انّه من اُمراء جيش أمير امير المؤمنين ، وكان شجاعاً ، وشديد الشوكة وانّ شجاعته بلغت درجة بحيث قال ابن أبي الحديد :

(لو انّ انساناً يقسم انّ الله تعالى ما خلق في العربي ولا في العجم أشجع منه إلاّ استاذه علي بن أبي طالب عليه‌السلام لمّا خشيت عليه الاثم ، ولله درّ القائل ، وقد سئل عن الأشتر :

ما أقول في رجل هزمت حياته أهل الشام ، وهزم موته أهل العراق.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في حقه : كان الأشتر لي كما كنت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ، ص ٦٨٦ ، ورواه المجلسي رحمه‌الله في البحار : ج ٤٢ ، ص ١٥٧ ، ورواه الشيخ ورام بن أبي فراس في تنبيه الخواطر ونزهة النواظر : ج ١ ، ص ٢ ، طبعة قم.

(٢) سفينة البحار : للمؤلف رحمه‌الله : ج ١ ، ص ٦٨٧ ، الطبعة الحجرية ، شرح نهج البلاغة ـ لا بن أبي الحديد : ج ٢ ، ص ٢١٤ تحقيق محمّد أبي الفضل ابراهيم.

٢١٠

وقال لأصحابه :

« وليت فيكم مثله اثنان ، بل ليت فيكم مثله واحد يرى في عدوي مثل رأيه » (١).

وتُعلَم شدة شوكته على الأعداء بالتأمّل في هذه الأشعار المروية عنه رحمه‌الله :

بَقيتُ وفري (٢) وانحرَفتُ عَنِ العُلى

وَلَقَيتُ أضيافي بوجه عَبُوسٍ

إن لَم اَشُنّ على ابن هِندٍ غارة

لَم تُخلِ يوماً مِن نِهابِ نُفُوسٍ

خَيلاً كاَمثالِ السَّعالى شُزَّباً

تَغدو بِبيضٍ في الكَريهَةِ شُوسٍ

حَمِىَ الحَديدُ علَيهِمُ فَكاَنَّهُ

وَمضانُ بَرقٍ أو شعاع شُمُوسٍ (٣)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد : ج ٢ ، باب ٣٥ ص ٢٤٠. سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٨٧ ، الطبعة الحجرية.

أقول : قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ١٥ ، ص ٩٨ (وكان فارساً شجاعاً رئيساً من أكابر الشيعة وعظمائها شديد التحقيق بولاء أمير المؤمنين عليِ عليه السلام ونصره ... الخ)

وفي شرح انهج قال أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد جاءه نعي الأشتر عليه‌السلام :

(مالِكٌ ، وما مالكٌ ، والله لو كان جبلاً لكان فِنداً ، ولو كان حَجَراً لكان صَلداً لا يرتقيه الحافِر ولا يوفي عليه الطائر). راجع شرح نثج البلاغة ـ لا بن أبي الحديد : ج ٦ ، ص ٧٧ ، تحقيق محمّد أبي الفضل ابراهيم.

ومن كتاب له عليه‌السلام الى أهل مصر وقد ولّى عليهم الأشتر :

(أما بعد فقد بعثت إليكم عبداً من عباد الله لاينام أيام الخوف ، ولا نيكل عن الاعداء ساعات الروع ، أشدَّ على الفجار من حريق النار وهو مالك بن الحارث أخو مذحج فاسمعوا له واطيعوا أمره فيما طابق الحقّ فانّه سيف من سيوف الله لا كليل الظبَّة ولا نابي الضربة .. الخ). نهج البلاغة : ج ٣ ، ص ٦٣ ، شرح محمّد عبده ، وفي شرح نهج البلاغة ـ لا بن أبي الحديد : ج ١٦ ، ص ١٥٦.

(٢) قال المؤلّف رحمه‌الله في الحاشية (الوفر معناه التمكن وكثرة المال).

(٣) سفينة البحار : ج ١ ، ص ٦٨٧ الطبعة الحجرية ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ الطبعة الحديثة ، وقد نقله عن كتاب (أنوار الربيع) للسيّد علي خان ، وهي موجودة فيه في ج ٣ ، ص ٢١٠ ، وفي الأمالي ، لأبي علي القالي : ج ١ ، ص ٨٦ ، وفي المناقب للموفق الخوارزمي : ص ١٥٨ ، وغيرها.

٢١١

وبالجملة فمع هذه الجلالة والشجاعة والشدة والشوكة يصل به حسن خلقه الى أن يهينه رجل سوقي ويستهزئ به ، فلا يظهر في جاله أي تغيير وتبدل ، بل يذهب لاى المسجد ويصلي ، ويدعو ويستغفر له.

واذا تلاحظ جيداً فانّ هذه الشجاعة التي عنده وغلبه هوى أعلى مرتبة من شجاعة البدنية ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« أشجع الناس من غلب هواه » (١).

* حكاية :

نقل الشيخ المرحوم في خاتمة المستدر في ترجمة سلطان العلماء والمحقّقين وأفضل الحكماء والمتكلمين ، والوزير الأعظم ، استاذ مَن تأخر وتقدم ، ذي الفيض القدسي ، حضرة الخواجة نصير الطوسي قدس‌سرهم :

انّ ورقة حضرت إليه من شخص ، من جملة ما فيها : ياكلب ابن الكلب.

(فكان الجواب أما قوله : ياكذا ، فليس بصحيح لأن الكلب من ذوات الأربع ، وهو نابح ، طويل الأظفار.

وأما أنا فمنتصب القامة ، بادي البشرة ، عريض الأظفار ، ناطق ، ضاحك فهذه الفصول والخواص غير الفصول والخواص) (٢).

وبهذا النحو أجاب ورقته ، وأرداه في غياهب جب مهانته.

يقول المؤلّف : انّ هذا الخلق الشريف من المحقق الجليل ليس ببدع ممّن قال في حقّه آية الله العلاّمة الحلي رضوان الله عليه :

( وكان هذا الشيخ أفضل أهل عصره في العلوم العقلية والنقلية ، وله مصنفات كثيرة في العلوم الحكمية والأحكام الشريعة على مذهب الامامية وكان أشرف

__________________

(١) أقول : رواه الصدوق بإسناده عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « قال امير المؤمنين عليه‌السلام ( اشجع ... الحديث ) معاني الأخبار : ص ١٩٥ ، باب (معنى الغايات) ، ح ١ ، ورواه في الأمالي : المجلس ٦ ، ص ٢٧ ، ح ٤ ، ونقله في البحار : ج ٧٠ ، ص ٧٦ ، ح ٥ ، وفي : ج ٧٧ ، ص ١١٤ ، ح ٢.

(٢) مستجرك الوسائل للمحدّث النوري : ج ٣ ، ص ٤٦٤ الطبعة الحجرية.

٢١٢

مَن شاهدناه في الأخلاق نور الله مضجعه ) (١).

يقول هذا الفقير : من المناسب هنا الاستشهاد بهذا الشعر :

هر بوى كه از مشگ وقر نفل شنوى

كل طيب شممته من المسك والقر نفل

از دولت آن زلف چو سنبل شنوى

فانما ومن اريج تلك الغرة التي هي كالسنبل (٢)

وقد تعلم الخواجة هذا الخلق لعمله بارشادات وتوجيهات الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم. ألَم تسمع انّ أمير المؤمني عليه‌السلام سنمع رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يرد عليه. فناداه أمير المؤمنين عليه‌السلام مهلاً ياقنبراً! دع شاتمك مهاناً ترضي الرحمان ، وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك ، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم ، ولا اسخط الشيطان بمثل الصمت ، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه (٣).

وبالجملة فانّ المخالف والمؤالف مدحوا الخواجة واثنوا عليه ، قال جرجي زيدان في (آداب اللغة العربية) في ترجمته :

( انّه قد جمع في خزانة كتبه ما ينوف على اربعمائة ألف مجلّدن وانّه أقام المنجمين والفلاسفة ، ووقف عليهم الاوقلغ ، فزهى العلم في بلاد المغول على يد هذا الفارس كأنه قبة منيرة في ظلمة مدلهمة ).

وقد ترجمت لهذا العظيم في كتاب الفوائد الرضوية في تراجم علماء الامامية) بمقدار ما يناسب ذلك الكتاب.

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ، ٤٢٣.

(٢) يمثل الشعر الفارسي لغرة المعشوق والمحبوب بالسنبل أما لجماله أو لأنّ السنبل نوع من النباتات التي فيها رائحة طيبة.

(٣) رواه الشيخ المفيد في الأمالي : ص ٧٧ طبعة النجف الأشرف ، ورواه عنه المجلسي في البحار : ج ٧١ ، ص ٤٢٤.

٢١٣

وانّ اصله من ( وشاره ) مِن ناحية ( جهرود ) عشرة فراسخ من قم ، ولكن ولادته المباركة كانت في طوس في الحادي عشر من جمادي الاُولى سنة ٥٩٧ ( خمسمائة وسبعة وتسعين ).

وكانت وفاته في آخر يوم الاثنين السابع عشر من ذي الحجّة سنة ٦٧٢ في بقعة الكاظمية المنورة سلام الله على ساكِنَيها ، ودفن هناك وكتب على لوح مزاره ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ).

وقد نظم بعضهم تاريخ وفاته وقال :

نصير ملّت ودين بادشاه كشور فضل

يگانه اي كه چه او مادر زمانه نزاد

به سال ششصد وهفتاد ودوبه ذي الحجة

به روز هيجدهم در گذشت در بغداد (١)

يعني : نصير الملة والدين ملك دولة الفصل ، ووحيد ام الزمان الذي ولد فيه. توفي بغداد سنة اثنين وسبعين وستمائة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة.

*حكاية :

نقل انّه في أتحد الأيّام التي كان شيخ لافقهاء العظام المرحوم الحاجّ الشيخ جعفر خاحب ( كشف الغطاء ) موجوداً في ( اصفهان ) انّه قسم مرّة حقوقاً شرعية على الفقراء قبل شروعه بالصلاة.

فعند انتهائه من تلك الصلاة ، وقيامه للصلاة الاُخرى جاءَه أحد السادات الفقراء ـ الذين اخبروا بالأمر ـ بين الصلاتين ، وقال له : اعطني من مال جدي.

فقال له : لقد جئت متأخراً ، ولا يوجد عندي الآن شيء لا عطيك منه.

فغضب ذلك السيّد ، وبصق على لحية الشيخ المباركة.

فقام الشيخ من المحراب ، ورفع طرف ردائه وأخذ يدور في صفوف الجماعة

__________________

(١) وقد ذكر المؤلّف رحمه‌الله في كتابه الفوائد الرضوية : ص ٦٠٤ عن نخبة المقال في تاريخ وفاة الخواجة نصير الدين الطوسي :

ثم نصير جده الحسن

العالم النحرير قدوة الزمن

ميلاده يا حرز من لا حرزله

وبعد داع قد أجاب سائله

٢١٤

وهو يقول :

( من كان يحترم شيبة الشيخ فليساعد هذا السيّد ).

فملأ الناس طرف ثوبه بالأموال ، ثمّ اعطاها الشيخ للسيّد.

وبعد ذلك توجه لصلاة العصر.

فتأمّل ف يهذا الخلق الشريف بأي محل بلغ العظيم الذي كان رئيساً للمسلمين ، وحجّة الاسلام ، وفقيه أهل البيت عليهم‌السلام وقد وصلت فقاهته الى درجة بحيث انّه ألَّف كتاب (كشف الغطاء) في السفر ، ونقل عنه أنه كان يقول :

لو مسحتم كل الكتب الفقهية فانّي استطيع أن اكتب من الطهارة الى الديات.

وكان جميع أولاده فقهاءاً وعلماءاً اجلة.

يقول شيخنا ثقة الاسلام النوري رحمة الله عليه في أحواله :

(وان تأملت في مواظبته للسنن والآداب وعباداته ، ومناجاته في الأسحار ، ومخاطبته لنفسه بقوله : كنت جعيفراً ، ثمّ صرت جعفراً ، ثمّ الشيخ جعفر ، ثمّ شيخ العراق ، ثمّ رئيس الاسلام ، وبكائه تذلله ، لرايته من الذين وصفهم أمير المؤمنين عليه‌السلام من أصحابه للأحنف بن قيس) (١)

* يقول الفقير : هذا حديث طويل في ذكر أوصاف أصحاب قاله للأحنف بعد قتاله أهل الجمل ، ومن جملة فقراته :

(فلو رأيتهم في ليلتهم وقد نامت العيون وهدأت الأصوات وسكنت الحركات من الطير في الوكور وقد نهتهم (٢) هول يوم القيامة والوعيد عن الرقاد كما قال سبحانه : ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ) (٣) فاستيقظوا لها فزعين ، وقاموا الى صلاتهم معوّلين باكين تارة واُخرى مسبّحين يبكون

__________________

(١) خاتمة المستدرك : ج ٣ ، ص ٣٩٨ ، الطبعة الحجرية.

(٢) علّق المؤلّف في الترجمة ما تعريبه : ( يعني : منعتهم ) ، وفي البحار : ( نبههم ) وفي : ج ٦٨ ، ص ١٧١ ، ح ٣١ ( منههم ) وفي نسخة بدل ( نبههم خوف ).

(٣) سورة الاعراف : الآية : ٩٧.

٢١٥

في محاريبهم ويرنّون ، يصطفون ليلةً مظلمة بهماء يبكون ، فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافهم محنيةً (١) ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلاتهم ، قد اشتدت أعوالهم ونحيبهم وزفيرهم ، اذا زفروا خِلتَ النار قد أخذت منهم الى حلاقيمهم ، واذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفّدت في اعناقهم ، فلو رأنتهم في نهارهم اذن لرأيت قوماً ( يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ) (٢) ويقولون للناس حسناً ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ) (٣) ، ( وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) (٤) قد قيدوا أقدامهم من التهمات ، وابكموا السنتهم أن يتكلموا في أعراض الناس ، وسجّموا أسماعهم أن يلجها خوض خائض ، وكحلوا أبصارهم بغض البصر عن المعاصي ، وانتحوا دار السلام التي من دخلها كان آمناً من الريب والأحزان) (٥)

* أقول : ويناسب هنا نقل كلام من راهب عظيم الشأن وهو مانقل عن قثم الزاهد قال : رأيت راهباً على باب بيت المقدسس كالواله فقلتُ له أوصني فقال : كن كرجل احتوشته الشباع فهو خائفٌ مذعورٌ يخافُ أن يسهو فتفترسه ويلهو فتنهشهُ ، فليله ليل مخافة اذا أمن فيه المفترون ، ونهاره نهار حزن اذا فرح البطالون).

ثمّ انّه ولى وتركني فقلت له : زدني.

فقال : إنّ الظمئان يقنع بيسير الماء (٦).

*حكاية :

نقل انّ كافي الكفاة الصاحب بن عباد :

(استدعى في بعض الأيّام شراباً ، فاحضروا قدحاً ، فلما أراد أن يشربه ، قال بعض خواصه : لا تشربه ، فانّه مسموم.

__________________

(١) في نسخة بدل (منحنية).

(٢) سورة الفرقان : الآية ٦٣.

(٣) سورة الفرقان : الآية ٦٣.

(٤) سورة الفرقان : الآية ٧٢.

(٥) أقول : رواه الصدوق في صفات الشيعة : ص ١٢٠ ـ ١٢١ ، ونقله عن المجلسي في البحار : ج ٧ ، ص ٢٢٠ ، ح ١٣٢ ، وفي : ج ٦٨ ، ص ١٧١ ، ح ٣١.

(٦) كشكول الشيخ البهائي : ج ١ ، ص ٩٩.

٢١٦

وكان الغلام الذي ناوله واقفاً.

فقال للمحذّر : ما الشاهد على صحّة قولك؟

قال : تجربه في الذي ناولك إيّاه.

قال : لا استجيز ذلك ، ولا استحله.

قال : فجربه في دجاجة.

قال : التمثيل بالحيوان لا يجوز.

وردّ القدح ، وأمر بقلبه ، وقال للغلام انصرف عنّي ، ولا تدخل داري ، وأمر باقرار جارية وجراية عليه ، وقال : لا يدفع اليقين بالشك ، والعقوبة بقطع الرزق نذالة) (١).

يقول المؤلّف : الصاحب بن عباد من وزراء آل بويه ، وكان ملجأً للعامّة والخاصّة ، ومرجعاً للامة والدولة ، ومن بنت شرف وعزة. وكان في الآداب والفضل والكمال وعلوم العربية اعجوبة الدهر ، ووحيد عصره.

يحكى انّه لمّا جلس للاملاء حضر عنده خلق كثير ، وكان المستملي الواحد لايقول بالاملاء حتّى انضاف إليه ستة ، كل يبلغ صاحبه. يعني يوصل كلامه الى الناس (٢).

وكانت كتب اللغة التي عنده تحتاج الى ستين جَمَلاً لنقلها.

وكانت للعلويين ، والسادة والعلماء ، والفضلاء عنده محل منيع ، ومرتبة رفيعة. وكان يدعو للعلماء ويشجعهم على التصنيف والتأليف.

وقد ألف لأجله الشيخ الفاضل الخبير ، والماهر الحسن بن محمّد القمّي (تاريخ قم).

__________________

(١) سفينة البحار : ج ٢ ، ص ١٤.

(٢) يقصد أنه من كثرة الازدحام لايسمع الجميع كلامه ، فيوصل الأول الأقرب إليه الذي يسمع كلامه الى الجماعة التي خلفه ، فينقل ذلك عن الأول الى الجماعة الاُخرى التي لم تسمع الجماعة الاُولى وهكذا. وهذا يدل على شدة الازدحام بحيث لم يصل كلام المتكلم إليهم.

٢١٧

كما صنف لأحله الشيخ الأجل رئيس المحدّثين الصدوق رحمة الله عليه كتاب (عيون أخبار الرضا).

وجمع من أجله الثعالبي (يتيمة الدهر).

وانّ كثرة احسانه ، وافضاله على الفقهاء ، والعلماء ، والسادات ، والشعراء ، معروفة.

وكان يرسل في كل سنة خمسة آلاف أشرفي الى بغداد الى العلماء هناك.

وكان لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحدٌ كائناً من كان ، فيخرج من داره إلاّ بعد الافطار عنده.

وكانت داره لا تخلو في ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها.

وكانت صلاته وصدقاته ، وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة.

وقد انشد أشعاراً كثيرةً في مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ومثالب اعدائه.

وكانت وفاته في ٢٤ صفر سنة ٣٨٥ في الري.

وحملت جنازته الى اصفهان وقبره مزار معروف في اصفهان.

* * *

٢١٨

من مواقف القيامة المهولة

موقف الحساب

قال الله تعالى في سورة الانبياء :

( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ) (١).

وقال تعالى في سورة الطلاق :

( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) (٢).

ومن المناسب أن نذكر عدّة من الأخبار تبركاً :

* الأول : روى الشيخ الصدوق رحمة الله عليه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع :

عن عمره فيما أفناه.

وشبابه فيما أبلاه.

وعن ماله من أين كسبه ، وفيما انفقه.

وعن حبنا أهل البيت) (٣).

__________________

(١) سورة الانبياء : الآية ١.

(٢) سورة لاطلاق : الآية ٨ ـ ١٠.

(٣) البحارك ج ٧ : ص ٢٥٨ ، ح ١ ، وفي ج ٣٦ ، ص ٧٩ ، ح ٥ ، وفي ج ٧١ ، ص ١٨٠ ، ح ٣٣ وفي الخصال للشيخ الصدوق : ص ٢٥٣ ، الأمالي للصدوق : ص ٤٢ ، المجلس ١٠ ، ح ٩.

٢١٩

* الثاني : روى الشيخ الطوسي رحمه‌الله عن الامام محمّد الباقر عليه‌السلام انّه قالك

(أول ما يحاسب به العبد الصلاة ، فان قبلت قبل ما سواها) (١).

* الثالث : روى الشيخ الصدوق عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال :

(يؤتى يوم القيامة بصاحب الدَّين يشكو الوحشة فإن كانت له حسنات أخذَ منها لصاحب الدَّين ... وإن لم تكن له حسنات اُلقي عليه من سيئات صاحب الدَّين (٢).

* الرابع : روى الشيخ الكليني عن الامام علي بن الحسين عليه‌السلام :

(انّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ونَشرُ الدواوين لأهل الاسلام) (٣).

* الخامس : روى الشيخ الصدوق عن الامام الصادق عليه‌السلام :

« اذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلا هما من أهل الجنة : فقير في الدنيا ، وغني في الدنيا.

فيقول الفقير : يا ربّ على ما اوقف ، فوعزتك انّك لتعلم انّك لم تولني ولاية فأعدل فيها أو أجور ، ولم ترزقني مالاً فاؤدي منه حقاً أو امنع ، ولا كان رزقي يأتيني منها إلاّ كفافاً على ما علمت وقدرت لي.

فيقول الله جلّ جلاله : صدق عبدي خلوّا عنه يدخل الجنة.

ويبقى الآخر حتّى يسيل منه العرق مالو شربه أربعون بعيراً لكفاها ، لم يدخل الجنة.

فيقول له الفقير : ما حبسك؟

__________________

(١) البحار : ج ٧ ، ص ٢٦٧ ، وفي التهذيب للشيخ الطوسي : ج ٢ ، ص ٢٣٩ ، رقم الحديث العام (٩٦٤) رقم الحديث الخاص (١٥).

(٢) علل الشرائع للشيخ الصدوق : ص ٥٢٨ ، الباب : ٣١٢ ، ح ٦ ، البحار : ج ٧ ، ص ٢٧٤.

(٣) رواه الشيخ الكليني في الكافي الشريف : الروضة : ج ٨ : ص ٧٤ ـ ٧٥ ورواه المجلسي في البحار ج ٧ : ٢٥٠.

٢٢٠