الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

* القاعدة الثانية : القول بالقدر : وإنما سلكوا في ذلك مسلك معبد (١) الجهني وغيلان الدمشقي (٢). وقرر واصل بن عطاء هذه القاعدة أكثر مما كان يقرر قاعدة الصفات. فقال إن البارى تعالى حكيم عارف ، لا يجوز أن يضاف إليه شرّ ولا ظلم. ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر. ويحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه. فالعبد هو الفاعل للخير والشرّ ، والإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية. هو المجازى على فعله والله تعالى أقدره على ذلك كله. وأفعال العباد محصورة في الحركات ، والسكنات ، والاعتمادات والنظر ، والعلم. قال : ويستحيل أن يخاطب العبد بأفعل وهو لا يمكنه أن يفعل. ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة ، واستدل بآيات على هذه الكلمات(٣).

ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان وقد سأله عن القول بالقدر والجبر. فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية واستدلّ فيها بآيات من الكتاب ودلائل من العقل. ولعلّها لواصل بن عطاء ، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في القدر خيره وشره من الله تعالى ، فإن هذه الكلمات كالمجمع عليها عندهم. والعجب أنه حمل هذا اللفظ الوارد في الخبر على البلاء والعافية ، والشدّة والرخاء ، والمرض والشفاء ، والموت والحياة ، إلى غير ذلك من أفعال الله تعالى ، دون الخير والشر ، والحسن والقبيح الصادرين من اكتساب العباد ، وكذلك أورده جماعة من المعتزلة في المقالات عن أصحابهم.

* * *

* القاعدة الثالثة : القول بالمنزلة بين المنزلتين. والسبب فيه أن دخل واحد على الحسن البصري فقال : يا إمام الدين ، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر. والكبير عندهم كفر يخرج به عن الملة ، وهم وعيدية الخوارج.

__________________

(١) تقدمت ترجمته.

(٢) تقدمت ترجمته ، وقد أخذ القول بنفي القدر عن معبد الجهني.

(٣) ذهب في هذا مذهب القدرية في أن الله تعالى غير خالق لأكساب العباد ولا لشيء من أعمال الحيوان والناس هم الذين يقدرون أكسابهم. والقدرية من أقدم الفرق والمعتزلة وريثتها.

٦١

وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر. ولا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأمة. فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادا؟

فتفكر الحسن في ذلك ، وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقا ، ولا كافر مطلقا ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، : لا مؤمن ولا كافر. ثم قام واعتزل إلى أسطوانة (١) من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن. فقال الحسن : اعتزل عنا واصل. فسمّي هو وأصحابه معتزلة(٢).

ووجه تقريره أنّه قال : إن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا ما اجتمعت سمي المرء مؤمنا وهو اسم مدح. والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح ، فلا يسمى مؤمنا وليس هو بكافر مطلقا أيضا ، لأن الشهادة وسائر أعمال الخير موجودة فيه ، لا وجه لإنكارها ، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير

__________________

(١) الأسطوانة : العمود أو السارية.

(٢) هل هذا أول استعمال لهذه الكلمة؟ وهل هذا أول إطلاق لها؟ وهل كان واصل وأصحابه أول فرقة تسمّت بها؟ أم أن هذه الكلمة كانت تطلق قبل هذا على غير واصل وأصحابه؟ وإنها كانت تطلق في هذا العصر على جماعة من المسلمين؟

تشير بعض المراجع التاريخية القديمة ، إلى أن هذه التسمية كانت تطلق على الجماعة الذين اعتزلوا فريقي المحاربين من أنصار الإمام علي ومعاوية ، وأنهم آثروا البعد عن الفريقين تجنبا لإثارة نار الفتن وإشعالها بين المسلمين. فهذا أبو الفداء يذكر في تاريخه (أخبار أبي الفداء ١ : ١٨٠) عند كلامه على الحوادث الخاصة بالسنة الخامسة والثلاثين من الهجرة ، بعض الأشخاص الذين لم يريدوا مبايعة الإمام علي مع أنهم ليسوا من شيعة عثمان ، ثم يقول عنهم : «وسموا هؤلاء (المعتزلة) لاعتزالهم بيعة علي». ونرى أيضا صاحب «الأغاني» عند كلامه على أيمن بن عبد خريم «ج ٢٠ ص ٣٢١ طبعة دار الكتب العلمية شرح عبد الأمير علي مهنا» ، يقول : وكان أيمن يتشيّع وكان أبوه أحد من اعتزل حرب الجمل وصفّين وما بعدهما من الأحداث فلم يحضرها.

وفي تاريخ الطبري ما يشير إلى ما أشار إليه كل من أبي الفداء وصاحب الأغاني من أن هذه التسمية باسم (المعتزلة) كانت تطلق على الجماعة التي اعتزلت الفريقين المتحاربين من المسلمين. فهو عند ذكره لحوادث السنة السادسة والثلاثين من الهجرة إن «قيس بن سعد كتب إلى علي يقول : إن قبلي رجالا معتزلين ، قد سألوني أن أكفّ عنهم وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس». وهذا الإطلاق لهذه الكلمة كان كما هو واضح إطلاقا سياسيا.

٦٢

توبة ، فهو من أهل النار خالد فيها ، إذ ليس في الآخرة إلّا فريقان : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، لكنه يخفف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفار.

وتابعه على ذلك عمرو بن عبيد (١) بعد أن كان موافقا في القدر ، وإنكار الصفات.

* * *

* القاعدة الرابعة : قوله في الفريقين من أصحاب الجمل (٢) ، وأصحاب صفين (٣) إن أحدهما مخطئ لا بعينه. وكذلك قوله في عثمان وقاتليه وخاذليه ، قال : إن أحد الفريقين فاسق لا محالة ، كما أن أحد المتلاعنين فاسق لا محالة ، لكن لا بعينه. وقد عرفت قوله في الفاسق ، وأقل درجات الفريقين أنه لا تقبل شهادتهما كما لا تقبل شهادة المتلاعنين. فلا يجوز قبول شهادة عليّ ، وطلحة ، والزبير على باقة بقل. وجوّز أن يكون عثمان وعليّ على الخطأ. هذا قوله ، وهو رئيس المعتزلة ومبدأ الطريقة في أعلام الصحابة ، وأئمة العترة (٤).

ووافقه عمرو بن عبيد على مذهبه ، وزاد عليه في تفسيق الفريقين لا بعينه بأن قال : لو شهد رجلان من أحد الفريقين مثل عليّ ورجل من عسكره ، أو طلحة والزبير لم تقبل شهادتهما ، وفيه تفسيق الفريقين وكونهما من أهل النار. وكان عمرو بن عبيد من رواة الحديث ، معروفا بالزهد ، وواصل مشهورا بالفضل والأدب عندهم (٥).

__________________

(١) تقدمت ترجمته.

(٢) هم : عائشة وطلحة والزبير. ووقعة الجمل كانت سنة ٣٦.

(٣) هما : معاوية وعمرو بن العاص ، بدأ القتال في هذه المعركة في صفر سنة ٣٧.

(٤) عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقرباؤه من ولد وغيره. وهنا آل بيته.

(٥) يلاحظ أنه على الرغم من مكانة عمرو بن عبيد عند الحكام فإنه لم يكن يعمل على نشر مبادئ المعتزلة. أما واصل فإنه رغم الظروف التي لم تؤاته ، ورغم عدم ملائمة الحالة السياسية لنشر آراء المعتزلة لتحامل الحكام الأمويين على كل من يدعو لرأي يخالف مبادئ القرآن الصريحة ، إنه رغم هذا كان واصل دائبا في الدعاية لأصول المعتزلة حتى كان له في كل الأقطار رسل لنشر هذه الأصول في الدولة الإسلامية من الصين إلى مراكش. ويظهر أن سبب هذا هو أن عمرا لم يكن يؤمن بمبادئ المعتزلة كلّ الإيمان حتى أننا نرى أن واصلا قد فارق أستاذه لرأيه في صاحب الكبيرة وبقي عمرو على رأي أستاذه حتى جادله واصل وأقنعه فانضمّ إلى رأيه. (العقد الفريد ج ٢ ص ٣٨٦ ـ ٣٨٧). وهناك فرق آخر ـ

٦٣

٢ ـ الهذيليّة

أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف ، شيخ المعتزلة ، ومقدم الطائفة ، ومقرر الطريقة ، والمناظر عليها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل ، عن واصل بن عطاء. ويقال أخذ واصل عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية. ويقال أخذه عن أبي الحسن بن أبي الحسن البصري. وإنما انفرد عن أصحابه بعشر قواعد :

الأولى : أن الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه ذاته (١). قادر بقدرة ، وقدرته ذاته. حيّ بحياة ، وحياته ذاته. وإنما اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثرة فيها بوجه ، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته ، بل هي ذاته ، وترجع إلى السلوب (٢) أو اللوازم (٣) كما سيأتي.

والفرق بين قول القائل : عالم بذاته لا بعلم ، وبين قول القائل : عالم بعلم هو ذاته أن الأول نفى الصفة ، والثاني إثبات ذات هو بعينه صفة. أو إثبات صفة هي بعينها ذات. وإذا أثبت أبو الهذيل هذه الصفات وجوها للذات ، فهي بعينها أقانيم النصارى ، أو أحوال (٤) أبي هاشم.

__________________

ـ بين واصل وعمرو وهو أن الأول كان مشهورا بالجدل العقلي والقدرة على الكلام ، أما عمرو فيظهر أن شهرته برواية الحديث رغم طعن المحدثين في أمانته ـ كانت أكثر من شهرته بالعلوم العقلية والجدل فيها. ولكن مع هذا فإن واصل كان يتمسك بالنصوص أكثر من عمرو الذي كان يحب التحرر منها ولا يتورّع عن أن يخطّئ صحابيا أو ينقد آخر ويردّ روايته. قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٢ : ١٧٦ : «إن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حديث الحسن إن عثمان ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء العدّة؟ فقال : إن عثمان لم يكن صاحب سنّة». كان عمرو واعظا مؤثرا أكثر من زميله واصل. فبقدر ما كان الثاني جدلا كان الأول واعظا. ويظهر أنه كانت له شهرة في البصرة أكثر من زميله واصل».

(١) راجع «مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري ٢ : ٤٨٢.

(٢) السلوب جمل سلب وهو انتزاع النسبة. (راجع دستور العلماء ٢ : ١٧٨).

(٣) اللازم : ما يمتنع انفكاكه عن الشيء وهو نوعان : لازم الماهية ولازم الوجود.

(٤) راجع «الفرق بين الفرق» فقد جاء فيه ص ١١٧ : (... فأثبت الحال في ثلاثة مواضع :

أحدها : الموصوف الذي يكون موصوفا لنفسه ، فاستحقّ ذلك الوصف لحال كان عليها.

٦٤

الثانية : أنه أثبت إرادات (١) لا محل لها ، يكون الباري تعالى مريدا بها. ـ وهو أول من أحدث هذه المقالة ، وتابعه عليها المتأخرون.

الثالثة : قال في كلام الباري تعالى إن بعضه لا في محل وهو قوله : (كُنْ) وبعضه في محل الأمر ، والنهي ، والخبر والاستخبار. وكان أمر التكوين عنده غير أمر التكليف.

الرابعة : قوله في القدر مثل ما قاله أصحابه ، إلا أنه قدري الأولى جبريّ الآخرة. فإن مذهبه في حركات أهل الخلدين (٢) في الآخرة أنها كلها ضرورية لا قدرة للعباد عليها. وكلها مخلوقة للباري تعالى ؛ إذ لو كانت مكتسبة للعباد لكانوا مكلفين بها.

الخامسة : قوله إن حركات أهل الخلدين تنقطع ، وأنهم يسيرون إلى سكون دائم خمودا. وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة ، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار. وهذا قريب من مذهب جهم ، إذ حكم بفناء الجنة والنار (٣) ، وإنما التزم أبو الهذيل هذا المذهب لأنه لما ألزم في مسألة حدوث العالم ؛ أن الحوادث التي لا أول لها كالحوادث التي لا آخر لها ، إذ كل واحدة لا تتناهى ؛ قال :

__________________

ـ والثاني : الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصا بذلك المعنى لحال.

والثالث : ما يستحقّه لا لنفسه ولا لمعنى ، فيختصّ بذلك الوصف دون غيره عنده الحال).

(وزعم أن أحوال الباري عزوجل في معلوماته لا نهاية لها ، وكذلك أحواله في مقدوراته لا نهاية لها ، كما أن مقدوراته لا نهاية لها ... وقالوا له : هل أحوال الباري من عمل غيره أم هي هو؟ فأجاب : بأنها لا هي هو ولا غيره ...).

(١) جاء في «مقالات الإسلاميين» ١ : ١٨٩ : (أصحاب أبي الهذيل يزعمون أن إرادة الله غير مراده وغير أمره ، وأن إرادته لمفعولاته ليست بمخلوقة على الحقيقة ، بل هي مع قوله لها كوني خلق لها ، وإرادته للإيمان ليست بخلق له وهي غير الأمر به ، وإرادة الله قائمة لا في مكان).

وحول هذا الموضوع راجع المصدر نفسه ٢ : ٥١١ و ٥١٢ و ١ : ٥١٠.

(٢) الخلد : دوام البقاء في دار لا يخرج منها. ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها. وأهل الخلدين من يخلدون في الجنة ومن يخلدون في النار.

(٣) يريد بهذا القول بفناء مقدورات الله عزوجل حتى لا يكون بعد فناء مقدوراته قادرا على شيء.

٦٥

إني لا أقول بحركات لا تتناهى آخرا ، كما لا أقول بحركات لا تتناهى أولا ، بل يصيرون إلى سكون دائم. وكأنه ظن أن ما لزمه في الحركة لا يلزمه في السكون.

السادسة : قوله في الاستطاعة إنها عرض من الأعراض غير السلامة والصحة وفرق أفعال القلوب وأفعال الجوارح. فقال لا يصح وجود أفعال القلوب منه مع عدم القدرة فالاستطاعة معها في حال الفعل. وجوز ذلك في أفعال الجوارح وقال بتقدمها فيفعل بها في الحال الأولى وإن لم يوجد الفعل إلا في الحال الثانية ، قال «فحال يفعل» غير «حال فعل» ثم ما تولد من فعل العبد فهو فعله ، غير اللون والطعم والرائحة وكل ما لا يعرف كيفيته. وقال في الإدراك والعلم الحادثين في غيره عند إسماعه وتعليمه : إن الله تعالى يبدعهما فيه ، وليسا من أفعال العباد.

السابعة : قوله في المكلف قبل ورود السمع : إنه يجب عليه أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر ، وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبدا. ويعلم أيضا حسن الحسن وقبح القبيح ، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل ، والإعراض عن القبيح كالكذب والجور. وقال أيضا بطاعات لا يراد بها الله تعالى ، ولا يقصد بها التقرب إليه ؛ كالقصد إلى النظر الأول ، والنظر الأول فإنه لم يعرف الله بعد ، والفعل عباده. وقال في المكره : إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ، ويكون وزره موضوعا عنه.

الثامنة : قوله في الآجال والأرزاق : إن الرجل إن لم يقتل مات في ذلك الوقت ولا يجوز أن يزاد في العمر أو ينقص والأرزاق على وجهين :

أحدهما : ما خلق الله تعالى من الأمور المنتفع بها يجوز أن يقال : خلقها رزقا للعباد ، فعلى هذا من قال : إن أحدا أكل أو انتفع بما لم يخلقه الله رزقا فقد أخطأ لما فيه أن في الأجسام ما لم يخلقه الله تعالى.

والثاني : ما حكم الله به من هذه الأرزاق للعباد ، فما أحل منها فهو رزقه ، وما حرم فليس رزقا ، أي ليس مأمورا بتناوله.

٦٦

التاسعة : حكى الكعبي عنه أنه قال : إرادة الله غير المراد ، فإرادته لما خلق هي خلقه له ، وخلقه للشيء عنده غير الشيء ، بل الخلق عنده قول لا في محل. وقال إنه تعالى لم يزل سميعا بصيرا بمعنى سيسمع وسيبصر. وكذلك لم يزل غفورا ، رحيما ، محسنا ، خالقا ، رازقا ، مثيبا ، معاقبا ، مواليا ، معاديا ، آمرا ، ناهيا ، بمعنى أن ذلك سيكون منه.

العاشرة : حكى الكعبي عنه أنه قال : الحجة لا تقوم فيما غاب إلا بخبر عشرين (١) ؛ فيهم واحد من أهل الجنة أو أكثر. ولا تخلو الأرض عن جماعة هم أولياء الله معصومون ، لا يكذبون ، ولا يرتكبون الكبائر. فهم الحجة لا التواتر. إذ يجوز أن يكذب جماعة ممن لا يحصون عددا إذا لم يكونوا أولياء الله ، ولم يكن فيهم واحد معصوم.

وصحب أبا الهذيل : أبو يعقوب الشحام (٢) ، والآدمي وهما على مقالته ، وكان سنه مائة سنة ، توفي في أول خلافة المتوكل سنة خمس وثلاثين ومائتين.

٣ ـ النظّاميّة

أصحاب إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام (٣) ، قد طالع كثيرا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة ، وانفرد عن أصحابه بمسائل :

الأولى منها : أنه زاد على القول بالقدر خيره وشره منا قوله : إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي ؛ وليست هي مقدورة للباري تعالى ، خلافا لأصحابه فإنهم قضوا بأنه قادر عليها لكنه لا يفعلها لأنها قبيحة.

ومذهب النظام أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح ، وهو المانع من الإضافة

__________________

(١) استدلّ على أن العشرين حجة بقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ).

وهو لا يريد بهذا إلّا تعطيل الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية من فوائدها.

(٢) كان الشحام رئيس معتزلة البصرة في عصره. وقد عيّنه الواثق رئيسا لديوان الخراج وتوفي سنة ٢٦٧ ه‍.

(٣) تقدمت ترجمته سمي بالنظّام لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة.

٦٧

إليه فعلا ؛ ففي تجويز وقوع القبيح منه قبح أيضا ، فيجب أن يكون مانعا. ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم (١). وزاد أيضا على هذا الاختباط فقال : إنما يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده. ولا يقدر على أن يفعل بعباده في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم. هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا.

وأما أمور الآخرة فقال : لا يوصف الباري تعالى بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئا ، ولا على أن ينقص منه شيئا. وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة ولا أن يخرج أحدا من أهل الجنة وليس ذلك مقدورا له. وقد ألزم عليه أن يكون الباري تعالى مطبوعا مجبورا على ما يفعله. فإن القادر (٢) على الحقيقة من يتخير بين الفعل والترك. فأجاب إن الذي ألزمتموني في القدرة يلزمكم في الفعل ، فإن عندكم يستحيل أن يفعله وإن كان مقدورا ؛ فلا فرق ، وإنما أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجواد لا يجوز أن يدخر شيئا لا يفعله. فما أبدعه وأوجده هو المقدور ؛ ولو كان في علمه تعالى ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظاما وتركيبا وصلاحا لفعله.

الثانية : قوله في الإرادة : إن الباري تعالى ليس موصوفا بها على الحقيقة (٣).

__________________

(١) وقد أكفرته البصرية من المعتزلة في هذا القول وقالوا : إن القادر على العدل يجب أن يكون قادرا على الظلم ، والقادر على الصدق يجب أن يكون قادرا على الكذب ، وإن لم يفعل الظلم والكذب لقبحهما ولغناه عنهما ولعلمه بغناه عنهما لأن القدرة على الشيء يجب أن تكون قدرة على ضدّه .. ولزم في قوله أن الله تعالى لا يقدر على الظلم والكذب أنه لا يقدر على الصدق والعدل والقول بهذا كفر فما يؤدي إليه مثله. (راجع الفرق بين الفرق ص ١٣٤ طبعة دار المعرفة).

(٢) قال إبراهيم النظام : إن ما يقدر الله عليه من اللطف لا غاية له ولا كل. وإن ما فعل من اللطف لا شيء أصلح منه إلّا أن له عند الله سبحانه أمثالا ، ولكل مثل مثل ، ولا يقال يقدر على أصلح مما فعل أن يفعل ، ولا يقال يقدر على دون ما فعل أن يفعل لأن فعل ما دون نقص ، ولا يجوز على الله عزوجل فعل النقص. ولا يقال يقدر على ما هو أصلح ، لأن الله سبحانه لو قدر على ذلك ولم يفعل كان ذلك بخلا. (راجع مقالات الإسلاميين ٢ : ٥٧٦).

(٣) معتزلة البصريين وأهل السنة يخالفونه في هذا ، وهم يعتقدون أن الله عزوجل مريد على الحقيقة غير أن أهل السنة قالوا : إنه لم يزل مريدا بإرادة أزلية. ومعتزلة البصرة إنه مريد بإرادة حادثة لا في محل وهم وأهل السنة قد أكفروا من نفى إرادة الله عزوجل. (الفرق بين الفرق).

٦٨

فإذا وصف بها شرعا في أفعاله فالمراد بذلك أنه خالقها ومنشئها على حسب ما علم. وإذا وصف بكونه مريدا لأفعال العباد فالمعنيّ به أنه آمر بها وناه عنها. وعنه أخذ الكعبي مذهبه في الإرادة.

الثالثة : قوله إن أفعال العباد كلها حركات فحسب. والسكون حركة اعتماد. والعلوم والإرادات حركات النفس. ولم يرد بهذه الحركة حركة النقلة وإنما الحركة عنده مبدأ تغير ما ، كما قالت الفلاسفة من إثبات حركات في الكيف ، والكم ، والوضع ، والأين والمتى ... إلى أخواتها.

الرابعة : وافقهم أيضا في قولهم إن الإنسان في الحقيقة هو النفس والروح ، والبدن آلتها وقالبها. غير أنه تقاصر عن إدراك مذهبهم فمال إلى قول الطبيعيين منهم أن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب بأجزائه مداخلة المائية في الورد ، والدهنية في السمسم ، والسمنية في اللبن. وقال إن الروح هي التي لها قوة ، واستطاعة وحياة ومشيئة. وهي مستطيعة بنفسها ، والاستطاعة قبل الفعل.

الخامسة : حكى الكعبي عنه أنه قال : إن كل ما جاوز حد القدرة من الفعل فهو من فعل الله بإيجاب الخلقة : أي أن الله تعالى طبع الحجر طبعا ، وخلقه خلقة إذا دفعته اندفع ، وإذا بلغت قوة الدفع مبلغها عاد الحجر إلى مكانه طيعا. وله في الجواهر وأحكامها خبط ومذهب يخالف المتكلمين والفلاسفة.

السادسة : وافق الفلاسفة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ (١). وأحدث القول بالطفرة لما ألزم مشي نملة على صخرة من طرف إلى طرف أنها قطعت

__________________

(١) إنه يقول بانقسام كل جزء لا إلى نهاية وفي ضمن قوله ، إحالة كون الله تعالى محيطا بآخر العالم عالما بها ، والله تعالى يقول : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ، وإلى ما يلزم على هذا القول من قدم العالم ، وهذا مستحيل لا يقبله العقل وكلمة أبو الهذيل في أن أجزاء الجزء لا تتناهى فقال : لو كان كل جزء من الجسم لا نهاية له لكانت النملة إذا دبّت على البقلة لا تنتهي إلى طرفها فقال إنها تطفر بعضا وتقطع بعضا. وهذا منه كلام لا تقبله العقول لأن ما لا يتناهى كيف يمكن قطعه بالطفرة فصار قوله مثلا سائرا يضرب لكل من تكلّم بكلام لا تحقيق له ولا يتقرّر في العقل معناه. (راجع التبصير ص ٤٣).

٦٩

ما لا يتناهى ، فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ قال : تقطع بعضها بالمشي ، وبعضها بالطفرة (١). وشبه بحبل شد على خشبة معترضة وسط البئر ، طوله خمسون ذراعا ، وعليه دلو معلق. وحبل طوله خمسون ذراعا علق عليه معلاق (٢) ، فيجر به الحبل المتوسط ، فإن الدلو يصل إلى رأس البئر وقد قطع مائة ذراع بحبل طوله خمسون ذراعا في زمان واحد ، وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة. ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضا موازية لمسافة. فالإلزام لا يندفع عنه وإنما الفرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه.

السابعة : قال إن الجواهر مؤلفة من أعراض اجتمعت ، ووافق هشام بن الحكم في قوله إن الألوان والطعوم والروائح أجسام. فتارة يقضي بكون الأجسام أعراضا ، وتارة يقضي بكون الأعراض أجساما لا غير.

الثامنة : من مذهبه أن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن معادن ، ونباتا ، وحيوانا ، وإنسانا. ولم يتقدم خلق آدم عليه‌السلام خلق أولاده ؛ غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض. فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها في مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة وأكثر ميله أبدا إلى تقرير مذاهب الطبيعيين منهم دون الإلهيين.

التاسعة : قوله في إعجاز (٣) القرآن إنه من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ، ومن جهة صرف الدواعي عن المعارضة ، ومنع العرب عن الاهتمام به

__________________

(١) الطفرة : الوثبة والمراد هنا انتقال جسم من أجزاء المسافة إلى أجزاء أخرى منها من غير أن يحاذي ما بينهما من أجزائها. والنظّام ممّن قال بالطفرة.

(٢) المعلاق : ما يعلّق عليه الشيء.

(٣) قال النظام : «الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب ، فأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أن الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم. (راجع مقالات الإسلاميين ١ : ٢٢٥).

٧٠

جبرا وتعجيزا ، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما (١).

العاشرة : قوله في الإجماع إنه ليس بحجة في الشرع ، وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة ، وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم.

الحادية عشرة : ميله إلى الرفض ، ووقيعته في كبار الصحابة. قال : أولا : لا إمامة إلا بالنص والتعيين ظاهرا مكشوفا. وقد نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عليّ رضي الله عنه في مواضع ، وأظهره إظهارا لم يشتبه على الجماعة. إلا أن عمر كتم ذلك ، وهو الذي تولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة ، ونسبه إلى الشك يوم الحديبية في سؤاله الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ قال : نعم. قال عمر : فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال هذا شك وتردد في الدين ، ووجدان حرج في النفس مما قضى وحكم وزاد في الفرية فقال : إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها. وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين. وقال: تغريبه نصر بن الحجاج من المدينة إلى البصرة ، وإبداعه التراويح ، ونهيه عن متعة الحج ، ومصادرته العمال ، كل ذلك أحداث.

ثم وقع في أمير المؤمنين عثمان وذكر أحداثه من رده الحكم بن أمية إلى المدينة وهو طريد رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ونفيه أبا ذرّ إلى الربذة ، وهو صديق رسول الله. وتقليده الوليد بن عقبة الكوفة وهو من أفسد الناس ، ومعاوية الشام ، وعبد الله بن عامر البصرة. وتزويجه مروان بن الحكم ابنته ، وهم أفسدوا عليه أمره. وضربه عبد الله بن مسعود على إحضار المصحف ، وعلى القول الذي شاقه به كل ذلك أحداثه.

__________________

(١) هذا عناد منه لقوله تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ، وما عرضه إلّا إنكار نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي تحدى العرب بأن يعارضوه بمثله.

٧١

ثم زاد على خزيه ذلك بأن عاب عليا وعبد الله بن مسعود لقولهما : أقول فيها برأيي ، وكذب ابن مسعود في روايته : «السّعيد من سعد في بطن أمّه ، والشّقيّ من شقي في بطن أمّه» وفي روايته انشقاق القمر (١) ، وفي تشبيهه الجن بالزط. وقد أنكر الجن رأسا إلى غير ذلك من الوقيعة الفاحشة في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

الثانية عشرة : قوله في المفكر قبل ورود السمع إنه إذا كان عاقلا متمكنا من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال. وقال بتحسين العقل وتقبيحه في جميع ما يتصرف فيه من أفعال. وقال : لا بد من خاطرين ، أحدهما يأمر بالإقدام ، والآخر بالكف ليصح الاختيار.

الثالثة عشرة : قد تكلم في مسائل الوعد والوعيد ، وزعم أن من خان في مائة وتسعة وتسعين درهما بالسرقة أو الظلم لم يفسق بذلك حتى تبلغ خيانته نصاب الزكاة وهو مائتا درهم فصاعدا ، فحينئذ يفسق ، وكذلك في سائر نصب الزكاة. وقال في المعاد إن الفضل على الأطفال كالفضل على البهائم.

ووافقه الأسواري (٢) في جميع ما ذهب إليه ، وزاد عليه بأن قال إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على ما علم أنه لا يفعله ، ولا على ما أخبر أنه لا بفعله ، مع أن الإنسان قادر على ذلك ، لأن قدرة العبد صالحة للضدين. ومن المعلوم أن أحد الضدين واقع في المعلوم أنه سيوجد دون الثاني. والخطاب لا ينقطع عن أبي لهب وإن أخبر الرب تعالى بأنه سيصلى نارا ذات لهب.

ووافقه أبو جعفر الإسكافي (٣) وأصحابه من المعتزلة ، وزاد عليه بأن قال : إن

__________________

(١) أنكر انشقاق القمر مع ذكر الله تعالى في كتابه : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ..) ولما رأى المشركون انشقاقه زعموا أن ذلك واقع بسحر.

(٢) هو عمرو بن فائد الأسواري يكنى أبا علي. كان يذهب إلى القدر والاعتزال ولا يقيم الحديث ، وكان منقطعا إلى محمد بن سليمان أمير البصرة وأخذ عن عمرو بن عبيد وله معه مناظرات. توفي بعد المائتين سنة. (راجع لسان الميزان ٤ : ٣٧٢).

(٣) «زعم أن الله تعالى يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين. ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء.

فخرج عن قول النظام بأنه لا يقدر على الظلم والكذب ، وخرج عن قول من قال من أسلافه إنه يقدر ـ

٧٢

الله تعالى لا يقدر على ظلم العقلاء ، وإنما يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين.

وكذلك الجعفران : جعفر (١) بن مبشر ، وجعفر (٢) بن حرب ، وافقاه وما زاد عليه إلا أن جعفر بن مبشر قال : في فساق الأمة من هو شر من الزنادقة والمجوس. وزعم أن إجماع الصحابة على حد شارب الخمر كان خطأ ، إذ المعتبر في الحدود : النص والتوقيف (٣). وزعم أن سارق الحبة الواحدة فاسق منخلع من الإيمان.

وكان محمد بن شبيب ، وأبو شمر ، وموسى بن عمران من أصحاب النظام إلا أنهم خالفوه في الوعيد ، وفي المنزلة بين المنزلتين ، وقالوا : صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان إلا بمجرد ارتكاب الكبيرة. وكان ابن مبشر يقول في الوعيد : إن استحقاق العقاب والخلود في النار بالفكر يعرف قبل ورود السمع. وسائر أصحابه يقولون : التخليد لا يعرف إلا بالسمع.

ومن أصحاب النظام : الفضل الحدثي ، وأحمد بن خابط. قال الراوندي : إنهما كانا يزعمان أن للخلق خالقين : أحدهما : قديم وهو الباري تعالى. والثاني

__________________

ـ على الظلم والكذب ولكنه لا يفعلهما لعلمه بقبحهما وغناه عنهما. وجعل بين القولين منزلة فزعم أنه إنما يقدر على ظلم من لا عقل له ولا يقدر على ظلم العقلاء وأكفره أسلافه في ذلك ، وأكفرهم هو في خلافه ...». (راجع عبد القاهر ص ١٠٢).

(١) هو جعفر بن مبشر بن أحمد الثقفي : متكلّم ، من كبار المعتزلة. له آراء انفرد بها. مولده ووفاته ببغداد. توفي سنة ٢٣٤ ه‍ / ٨٤٨ م. (راجع تاريخ بغداد ٧ : ١٦٢).

(٢) هو جعفر بن حرب الهمداني. من أئمة المعتزلة ، من أهل بغداد. كان له اختصاص بالواثق العباسي ، قال المسعودي : وإلى أبيه يضاف شارع «باب حرب» في الجانب الغربي من مدينة السلام. كان يقول : أن بعض الجملة غير الجملة. وهذا يوجب عليه أن تكون الجملة غير نفسها إذا كان كل بعض منها غيرها. وكان يزعم أن الممنوع من الفعل قادر على الفعل وليس يقدر على شيء. هكذا حكى عنه الكعبي في مقالاته. توفي سنة ٢٣٦ ه‍ / ٨٥٠ م. (راجع تاريخ بغداد ٧ : ١٦٢).

(٣) شارك ببدعته هذه نجدات الخوارج في إنكارها حدّ الخمر وقد أجمع فقهاء الأمة على تكفير من أنكر حسّه الخمر النيء وإنما اختلفوا في حدّ شارب النبيذ إذا لم يسكر منه ، فإن سكر فعليه الحدّ عند فريقي الرأي والحديث.

٧٣

محدث وهو المسيح عليه‌السلام لقوله تعالى : (إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (١) وكذبه الكعبي في رواية الحدثي خاصة لحسن اعتقاده فيه.

٤ ـ الخابطيّة والحدثيّة

الخابطية : أصحاب أحمد بن خابط (٢) ، وكذلك الحدثية أصحاب الفضل الحدثي (٣) ، كانا من أصحاب النظام وطالعا كتب الفلاسفة أيضا ، وضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع :

البدعة الأولى : إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه‌السلام موافقة للنصارى على اعتقادهم أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة ، وهو المراد بقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٤) وهو الذي يأتي في ظلل من الغمام ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) (٥) وهو المراد بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تعالى خلق آدم على صورة الرّحمن» وبقوله : «يضع الجبّار قدمه في النّار» وزعم أحمد بن خابط (٦) أن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة كما قالت النصارى.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ١١٠.

(٢) توفي أحمد بن خابط سنة ٢٣٢ ه‍.

(٣) توفي الفضل الحدثي سنة ٢٥٧ ه‍ منسوب إلى الحديثة وهي بلدة على شاطئ الفرات.

(٤) سورة الفجر : الآية ٢٢.

(٥) في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) سورة البقرة : الآية ٢١٠.

(٦) قال البغدادي في «الفرق بين الفرق» ص ٢٧٧ ، طبعة دار المعرفة ما يلي : «إن ابن خابط وفضلا الحدثي زعما أن للخلق ربّين وخالقين ، أحدهما قديم وهو الله سبحانه ، والآخر مخلوق وهو عيسى ابن مريم وزعما أن المسيح ابن الله على معنى دون الولادة ، وزعما أيضا أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة وهو الذي عناه الله بقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا). وهو الذي يأتي (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ، وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.) وهو الذي خلق آدم على صورة نفسه وذلك تأويل ما روى أن الله تعالى خلق آدم على صورته وزعم أنه هو الذي عناه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر». وهو الذي عناه بقوله : «إن الله تعالى خلق العقل فقال له : أقبل ، ـ

٧٤

البدعة الثانية : القول بالتناسخ (١) زعما أن الله تعالى أبدع خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار التي هم فيها اليوم وخلق فيهم معرفته والعلم به ، وأسبغ عليهم نعمه. ولا يجوز أن يكون أول ما يخلقه إلا عاقلا ناظرا معتبرا وابتدأهم بتكليف شكره. فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به ، وعصاه بعضهم في جميع ذلك. وأطاعه بعضهم في البعض دون البعض ، فمن أطاعه في الكل أقره في دار النعيم التي ابتدأهم فيها ومن عصاه في الكل أخرجه من تلك الدار إلى دار العذاب وهي النار ومن أطاعه في البعض وعصاه في البعض أخرجه إلى دار الدنيا فألبسه هذه الأجسام الكثيفة. وابتلاه بالبأساء والضراء. والشدة والرخاء ، والآلام واللذات على صور مختلفة من صور الناس وسائر الحيوانات على قدر ذنوبهم. فمن كانت معصيته أقل وطاعته أكثر كانت صورته أحسن ، وآلامه أقل ، ومن كانت ذنوبه أكثر كانت صورته أقبح ، وآلامه أكثر ثم لا يزال يكون الحيوان في الدنيا كرّة بعد كرّة ، وصورة بعد أخرى ، ما دامت معه ذنوبه وطاعاته ، وهذا عين القول بالتناسخ.

وكان في زمانهما شيخ المعتزلة أحمد بن أيوب بن مانوس (٢) ، وهو أيضا من تلامذة النظام. وقال أيضا مثل ما قال أحمد بن خابط في التناسخ ، وخلق البرية

__________________

ـ فأقبل ، وقال له : أدبر ، فأدبر. فقال : ما خلقت خلقا أكرم منك وبك أعطي وبك آخذ» وقالا : إن المسيح تدرّع جسدا ، وكان قبل التدرّع عقلا.

قال عبد القاهر : قد شارك هذان الكافران الثنوية والمجوس في دعوى خالقين وقولهما شرّ من قولهم ...».

(١) قال بالتناسخ قوم من الفلاسفة قبل الإسلام. وكان سقراط من جملتهم. وفي الإسلام فريق من القدرية وفريق من غلاة الروافض وما في الثنوي ، إذ ذكر أن أرواح الصديقين إذا خرجت من أبدانهم اتصلت بعمود الصبح إلى أن تبلغ النور الذي فوق الفلك. ويكونون في السرور دائما. أما أرواح أهل الضلال فإنها تتناسخ في أجسام الحيوان من حيوان إلى آخر حتى تصفو فتصل إلى النور الذي فوق الفلك. (راجع التبصير ص ٨٠). (وراجع كتاب البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة» ص ٢٤).

(٢) في «التبصير» أحمد بن بانوش (ص ٨٠) وفي «الفرق بين الفرق» أنه أحمد بن أيوب بن بانوش (ص ٢٧٥) وهو ليس بمرضي عنه. (راجع لسان الميزان أول ص ١٣٩).

٧٥

دفعة واحدة ، إلا أنه قال : متى صارت التوبة إلى البهيمية ارتفعت التكاليف أيضا ، وصارت التوبتان. عالم الجزاء.

ومن مذهبهما أن الديار خمس :

داران للثواب ، إحداهما فيها أكل وشرب وبعال (١) ، وجنات وأنهار.

والثانية : دار فوق هذه الدار ليس فيها أكل ولا شرب ولا بعال ، بل ملاذ روحانية وروح وريحان ، غير جسمانية.

والثالثة : دار العقاب المحض ، وهي نار جهنم ، ليس فيها ترتيب ، بل هي على نمط التساوي.

والرابعة : دار الابتداء التي خلق الخلق فيها قبل أن يهبطوا إلى دار الدنيا ، وهي الجنة الأولى.

والخامسة : دار الابتلاء ، وهي التي كلف الخلق فيها بعد أن اجترحوا في الأولى ، وهذا التكوين والتكرير لا يزال في الدنيا حتى يمتلئ المكيالان : مكيال الخير ، ومكيال الشر. فإذا امتلأ مكيال الخير صار العمل كله طاعة ، والمطيع خيّرا خالصا ، فينقل إلى الجنة ، ولم يلبث طرفة عين ، فإن مطل الغنى ظلم. وفي الحديث : «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه».

وإذا امتلأ مكيال الشر صار العمل كله معصية ، والعاصي شريرا محضا ، فينقل إلى النار. ولم يلبث طرفة عين ، وذلك قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢).

البدعة الثالثة : حملهما كل ما ورد في الخبر من رؤية الباري تعالى مثل قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة ، كما ترون القمر ليلة البدر ،

__________________

(١) البعال : الجماع وملاعبة الرجل أهله كالتباعل والمباعلة.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٣٤.

٧٦

لا تضامون في رؤيته» على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع ، وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات. وإياه عنى النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : «أوّل ما خلق الله تعالى العقل ، فقال له : أقبل ، فأقبل. ثمّ قال له : أدبر ، فأدبر. فقال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ، بك أعزّ ، وبك أذلّ ، وبك أعطي ، وبك أمنع» فهو الذي يظهر يوم القيامة وترتفع الحجب بينه وبين الصور التي فاضت منه ، فيرونه كمثل القمر ليلة البدر. فأما واهب العقل فلا يرى البتة ، ولا يشبّه إلا مبدع بمبدع.

وقال ابن خابط : إن كل نوع من أنواع الحيوانات أمة على حيالها لقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (١) وفي كل أمة رسول من نوعه لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢).

ولهما طريقة أخرى في التناسخ ، وكأنهما مزجا كلام التناسخية ، والفلاسفة ، والمعتزلة بعضها (٣) ببعض.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٣٨.

(٢) سورة فاطر : الآية ٢٤.

(٣) قالا : إن الله خلق الخلق في أبدان صحيحة وعقول تامة في دار ليست دار الدنيا ، وخلق لهم معرفته وأتمّ عليهم نعمته وأمرهم بشكره. والإنسان هو الروح لا قالبه المشاهد ، والروح عالم قادر والحيوان كلّه جنس واحد وجميعها في محل التكليف فمن أطاعه أقرّه ومن عصاه أخرجه إلى النار ، ومن عصاه ، في البعض وأطاعه في البعض بعثه إلى دار الدنيا وألبسه هذه القوالب ، وابتلاه تارة بالشدّة وتارة بالراحة وتارة بالألم وتارة باللذة ، وجعل قوما في صورة الناس وقوفا في صورة الطيور ، وقوفا في صورة السباع ، وقوفا في صورة الدواب ، وقوفا في صورة الحشرات ودرجاتهم على قدر معاصيهم. فمن كانت معصيته أقلّ فصورته في الدنيا أحسن أو أكثر. فقالب روحه أقبح ، والروح لا يزال في دنياه ينتقل من قالب إلى قالب على قدر طاعته أو معصيته ، من قوالب الناس والدواب حتى تتمخّض طاعاته فينتقل إلى دار النعيم ، أو معاصيه ، فإلى دار الجحيم. (راجع التبصير ص ٨٠ و ٨١ والفرق بين الفرق طبعة دار المعرفة ص ٢٧٤ و ٢٧٥).

٧٧

٥ ـ البشرية

أصحاب بشر (١) بن المعتمر. كان من أفضل علماء المعتزلة ، وهو الذي أحدث القول بالتولد (٢) وأفرط فيه. وانفرد عن أصحابه بمسائل ست :

الأولى منها : إنه زعم أن اللون والطعم والرائحة والإدراكات كلها من السمع ، والرؤية يجوز أن تحصل متولدة من فعل العبد ، إذا كانت أسبابها من فعله. وإنما أخذ هذا من قول الطبيعيين ، إلا أنهم لا يفرقون بين المتولد والمباشر بالقدرة. وربما لا يثبتون القدرة على منهاج المتكلمين. وقوة الفعل وقوة الانفعال غير القدرة التي يثبتها المتكلم.

الثانية : قوله : إن الاستطاعة هي سلامة البنية ، وصحة الجوارح ، وتخليتها من الآفات ، وقال : لا أقول : يفعل بها في الحالة الأولى ، ولا في الحالة الثانية ، لكني أقول : الإنسان يفعل ، والفعل لا يكون إلا في الثانية.

الثالثة : قوله : إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل ، ولو فعل ذلك كان ظالما إياه. إلا أنه لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه ، بل يقال : لو فعل ذلك كان الطفل بالغا عاقلا ، عاصيا بمعصية ارتكبها ، مستحقا للعقاب. وهذا كلام متناقض.

الرابعة : حكى الكعبي عنه أنه قال (٣) : إرادة الله تعالى فعل من أفعاله ، وهي على وجهين : صفة ذات ، وصفة فعل. فأما صفة الذات فهي أن الله تعالى لم يزل مريدا لجميع أفعاله ، ولجميع الطاعات من عباده فإنه حكيم ولا يجوز أن يعلم الحكيم صلاحا وخيرا ولا يريده. وأما صفة الفعل فإن أراد بها فعل نفسه في حال

__________________

(١) تقدمت ترجمته.

(٢) قوله هذا مخالف لإجماع المسلمين فأهل السنّة لا يقولون بالتولد أصلا فالحوادث كلّها لا بدّ لها من محدث صانع ، والمعتزلة يقولون به ولا يفرطون.

(٣) «قال بشر بن المعتمر ومن ذهب مذهبه : إرادة الله غير الله. والإرادة على ضربين : إرادة وصف بها ، وهي فعل من فعله. وإرادة وصف بها في ذاته. وإن إرادته الموصوف بها في ذاته غير لا حقة بمعاصي خلقه. وجوّز وقوعها على سائر الأشياء». (راجع مقالات الإسلاميين ١ : ٥١٣).

٧٨

إحداثه فهي خلقه له ، وهي قبل الخلق لأن ما به يكون الشيء لا يجوز أن يكون معه. وإن أراد بها فعل عباده فهي الأمر به.

الخامسة : قال : إن عند الله تعالى لطفا (١) لو أتى به لآمن جميع من في الأرض إيمانا يستحقون عليه الثواب ، استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه. وليس على الله تعالى أن يفعل ذلك بعباده ولا يجب عليه رعاية الأصلح لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح ، فما من أصلح إلا وفوقه أصلح ، وإنما عليه أن يمكن العبد بالقدرة والاستطاعة ويزيح العلل بالدعوة والرسالة ؛ والمفكر قبل ورود السمع يعلم الباري تعالى بالنظر والاستدلال ، وإذا كان مختارا في فعله فيستغنى عن الخاطرين لأن الخاطرين لا يكونان من قبل الله تعالى ، وإنما هما من قبل الشيطان ، والمفكر الأول لم يتقدمه شيطان يخطر الشك بباله ، ولو تقدم فالكلام في الشيطان كالكلام فيه.

السادسة : قال : من تاب عن كبيرة ثم راجعها عاد استحقاقه العقوبة الأولى ، فإنه قبل توبته بشرط أن لا يعود (٢).

٦ ـ المعمّرية (٣)

أصحاب معمّر (٤) بن عباد السلمي ، وهو من أعظم القدرية فرية في تدقيق

__________________

(١) «قال بشر : إن ما يقدر الله عليه من اللطف لا غاية له ولا نهاية. وعند الله من اللطف ما هو أصلح ممّا فعل ولم يفعله. ولو فعله بالخلق آمنوا طوعا لا كرها. وقد فعل بهم لطفا يقدرون به على ما كلفهم. وقد خالفه المعتزلة كلهم كما ذكر الأشعري. (راجع مقالات الإسلاميين ١ : ٥٧٤).

(٢) هذا منه قول بخلاف إجماع المسلمين لأن المعتزلة وإن قالوا بمنزلة بين المنزلتين وإن الفاسق يخلد في النار فإنهم لا يقولون أنه يعاقب في النار على ما تاب منه من الذنوب والأفعال. (راجع التبصير ص ٤٦).

(٣) انظر في شأن هذه الفرقة : «التبصير» ص ٤٥ «والفرق بين الفرق» ص ١٥١.

(٤) هو أبو عمرو : معمر بن عباد السلمي. قال ابن المرتضى : كان عالما عدلا وتفرد بمذاهب ، وكان بشر بن المعتمر وهشام بن عمرو وأبو الحسن المدائني من تلامذته ، ثم حكى أن الرشيد وجه به إلى ملك السند ليناظره ، وأن ملك السند دسّ له من سمّه في الطريق فمات ، توفي سنة ٢١٥ ه‍ / ٨٣٠ م. (راجع خطط المقريزي ٢ : ٣٤٧ ولسان الميزان ٦ : ٧١).

٧٩

القول بنفي الصفات ، ونفي القدر خيره وشره من الله تعالى ، والتكفير والتضليل على ذلك وانفرد عن أصحابه بمسائل :

منها أنه قال : إن الله تعالى لم يخلق شيئا غير الأجسام (١) ، فأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام ، إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق ، والشمس التي تحدث الحرارة والقمر الذي يحدث التلوين. وإما اختيارا كالحيوان يحدث الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ومن العجب أن حدوث الجسم وفناءه عنده عرضان ، فكيف يقول إنهما من فعل الأجسام؟ وإذا لم يحدث الباري تعالى عرضا فلم يحدث الجسم وفناءه؟ فإن الحدوث عرض ، فيلزمه أن لا يكون لله تعالى فعل أصلا ، ثم ألزم أن كلام الباري تعالى إما عرض أو جسم ؛ فإن قال هو عرض فقد أحدثه الباري ، فإن المتكلم على أصله هو من فعل الكلام. أو يلزمه أن لا يكون لله تعالى كلام هو عرض. وإن قال : هو جسم فقد أبطل قوله إنه أحدثه في محل ، فإن الجسم لا يقوم بالجسم ، فإذا لم يقل هو بإثبات الصفات الأزلية ، ولا قال بخلق الأعراض ؛ فلا يكون لله تعالى كلام يتكلم به على مقتضى مذهبه ، وإذا لم يكن له كلام لم يكن آمرا ناهيا ، وإذا لم يكن أمر ونهى لم تكن شريعة أصلا ، فأدى مذهبه إلى خزي عظيم.

ومنها أنه قال إن الأعراض لا تتناهى (٢) في كل نوع ، وقال كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام ، وذلك يؤدي إلى التسلسل (٣) ، وعن هذه

__________________

(١) هذا خلاف قوله تعالى : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) وخلاف قوله تعالى في صفة نفسه : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). (راجع مقالات الإسلاميين في شأن هذه القضية ٢ : ٥٤٨).

(٢) قوله بحدوث أعراض لا نهاية لها يؤدّيه إلى القول بأن الجسم أقدر من الله لأن الله عنده أنه خلق غير الأجسام ، وهي محصورة عندنا وعنده ، والجسم إذا فعل عرضا فقد فعل معه ما لا نهاية له من الأعراض ومن خلق ما لا نهاية له ينبغي أن يكون أقدر ممّا يخلق إلّا متناهيا في العدد. (راجع الفرق بين الفرق ص ١٥٣).

(٣) في قوله إلحاد من وجهين : أحدهما قوله بحوادث لا نهاية لها ، وهذا يوجب وجود حوادث لا يحصيها الله تعالى وذلك عناد لقوله : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً). والثاني أنه يؤدي إلى القول بأن الإنسان أقدر من الله تعالى. (راجع الفرق بين الفرق ص ١٥٣).

٨٠