الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

وأقرب من هذا ما حكاه أبو حامد الزوزني أن المجوس زعمت أن إبليس كان لم يزل في الظلمة والجو خلاء بمعزل عن سلطان الله ، ثم لم يزل يزحف ويقرب بحيله حتى رأى النور فوثب وثبة فصار في سلطان الله في النور ، وأدخل معه هذه الآفات والشرور ، فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة فوقع فيها ، وصار متعلقا بها لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه ، فهو محبوس في هذا العالم ، مضطرب في الجسم ، يرمى بالآفات والمحن والفتن إلى خلق الله تعالى. فمن أحياه الله رماه بالموت ، ومن أصحه رماه بالسقم ، ومن سره رماه بالحزن ، فلا يزال كذلك إلى يوم القيامة. وفي كل يوم ينقص سلطانه حتى لا يبقى له قوة. فإذا كانت القيامة ذهب سلطانه وخمدت نيرانه ، وزالت قوته ، واضمحلت قدرته فيطرحه في الجو ، والجو ظلمة ليس لها حد ولا منتهى. ثم يجمع الله تعالى أهل الأديان فيحاسبهم ويجازيهم على طاعة الشيطان وعصيانه.

وأما المسخية فقالت إن النور كان وحده نورا محضا ، ثم انمسخ بعضه فصار ظلمة. وكذلك الخرمدينية (١) ، قالوا بأصلين ، ولهم ميل إلى التناسخ والحلول ، وهم لا يقولون بأحكام وحلال وحرام.

ولقد كان في كل أمة من الأمم قوم مثل الإباحية ، والمزدكية ، والزنادقة ، والقرامطة ، كان تشويش ذلك الدين منهم ، وفتنة الناس مقصورة عليهم.

٣ ـ الزّردشتيّة

أولئك أصحاب زردشت بن يورشب الذي ظهر في زمان كشتاسب (٢) بن لهراسب(٣) الملك. وأبوه كان من أذربيجان ، وأمه من الري واسمها : دغدوية.

__________________

(١) الخرمدينية : لفظة أعجمية وهي عبارة عمّا يستلذ ويشتهي وترتاح به الأنفس. وهو لقب للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين ظهروا في أيام قباذ وأباحوا النساء وأحلّوا كل محظور في الشرائع. (عقائد آل محمد ص ٢٥).

(٢) كشتاسب ، ويقال كشتاسف. ويقول ابن الأثير بشتاسب بن لهراسب ابتنى بفارس مدينة فسا ورتب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كل واحد منهم مملكته على قدر مرتبته وقد اصطلح مع ملك الترك. قتله رستم الشديد بسجستان. (ابن الأثير ١ : ١٠٦).

(٣) ملك الفرس وكان محمود السيرة. قيل إنه ولى ابنه كشتاسب على الملك وانقطع للعبادة. (ابن خلدون ١ : ٢٣٨).

٢٨١

زعموا أن لهم أنبياء وملوكا ، أولهم كيومرث. وكان أول من ملك الأرض ، وكان مقامه باصطخر (١). وبعده أوشهنك (٢) بن فراوك ، ونزل أرض الهند ، وكانت له دعوة ثمة ، وبعده طمهورث (٣) ، وظهرت الصابئة في أول سنة من ملكه. وبعده أخوه جم (٤) الملك ، ثم بعده أنبياء وملوك منهم منوجهر (٥) ، ونزل بابل وأقام بها. وزعموا أن موسى عليه‌السلام ظهر في زمانه ، حتى انتهى الملك إلى كشتاسب بن لهراسب ، وظهر في زمانه زردشت الحكيم.

وزعموا أن الله عزوجل خلق من وقت ما في الصحف الأولى ، والكتاب الأعلى من ملكوته خلقا روحانيا. فلما مضت ثلاثة آلاف سنة أنفذ مشيئته في صورة من نور متلألئ على تركيب صورة الإنسان ، وأحفّ به سبعين من الملائكة المكرمين ، وخلق الشمس والقمر والكواكب والأرض ، وبني آدم غير متحركة ثلاثة آلاف سنة ثم جعل روح زردشت في شجرة أنشأها في أعلى عليين. وأحف بها سبعين من الملائكة المكرمين ، وغرسها في قلة جبل من جبال أذربيجان يعرف باسمو يذخر.

ثم مازج شبح زردشت بلبن بقرة فشربه أبو زردشت فصار نطفة ثم مضغة في رحم أمه ، فقصدها الشيطان وعيرها ، فسمعت أمه نداء من السماء فيه دلالة على برئها فبرئت ، ثم لما ولد ضحك ضحكة تبينها من حضر. فاحتالوا على زردشت حتى وضعوه بين مدرجة البقر ، ومدرجة الخيل ، ومدرجة الذئب ، فكان ينهض كل واحد

__________________

(١) اصطخر : بلدة بفارس. قيل : كان أول من أنشأها اصطخر بن طهمورث ملك الفرس. وطهمورث عند الفرس بمنزلة آدم. (معجم البلدان ١ : ٢١١).

(٢) يلقب ببشداد ومعناه النور. وقيل معناه أول حاكم بالعدل وتزعم الفرس أنه بعد آدم بمائتي سنة وكان ملكه أربعين سنة. وتقول الفرس إنه ملك الهند. (ابن خلدون ١ : ٢٢٩).

(٣) قال ابن الكلبي إنه أول ملوك بابل وكان محمودا في ملكه. (ابن خلدون ١ : ٢٢٩).

(٤) جم وهو جمشيد وجم هو القمر وشيد هو الشعاع. استقام أمره ثم بطر النعمة. (ابن خلدون ١ : ٢٣٠).

(٥) منوجهر : سماه ابن خلدون منوشهر الملك ابن منشحر بن ايرج من نسل أفريدون. ثار عليه افراسياب ملك الترك فغلبه على بابل وملكها. (ابن خلدون ٢٣٢).

٢٨٢

منهم لحمايته من جنسه ، ونشأ بعد ذلك إلى أن بلغ ثلاثين سنة فبعثه الله تعالى نبيا ورسولا إلى الخلق ، فدعا كشتاسب الملك ، فأجابه إلى دينه ، وكان دينه : عبادة الله ، والكفر بالشيطان ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتناب الخبائث.

وقال : النور والظلمة أصلان متضادان ، وكذلك يزدان وأهرمن ، وهما مبدأ موجودات العالم ، وحصلت التراكيب من امتزاجهما ، وحدثت الصور من التراكيب المختلفة ، والباري تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما ، وهو واحد لا شريك له ولا ضد ، ولا ند ، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة ، كما قالت الزروانية. لكن الخير والشر والصلاح والفساد ، والطهارة ، والخبث ، إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة ، ولو لم يمتزجا لما كان وجود العالم ، وهما يتقاومان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة والخير الشر ، ثم يتخلص الخير إلى عالمه ، والشر ينحط إلى عالمه ، وذلك هو سبب الخلاص ، والباري تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها في التراكيب ، وربما جعل النور أصلا ، وقال : وجوده وجود حقيقي ، وأما الظلمة فتبع كالظل بالنسبة إلى الشخص ، فإنه يرى أنه موجود ، وليس بموجود حقيقة ، فأبدع النور وحصل الظلام تبعا ، لأن من ضرورة الوجود التضاد ، فوجوده ضروري واقع في الخلق لا بالقصد الأول ، كما ذكرنا في الشخص والظل.

وله كتاب قد صنفه ، وقيل إن ذلك أنزل عليه وهو «زند أوستا» يقسم العالم قسمين : مينة ، وكيتي ، يعني الروحاني والجسماني ، أو الروح والشخص ، وكما قسم الخلق إلى عالمين ، يقول إن ما في العالم ينقسم قسمين : بخشش وكنش ، يريد به : التقدير والفعل وكل واحد مقدر على الثاني ، ثم يتكلم في موارد التكليف وهي حركات الإنسان ، فيقسمها ثلاثة أقسام : منش ، وكويش ، وكنش ، يعني بذلك : الاعتقاد والقول والعمل ، وبالثلاثة يتم التكليف ، فإذا قصر الإنسان فيها خرج عن الدين والطاعة ، وإذا جرى في هذه الحركات على مقتضى الأمر والشريعة فاز الفوز الأكبر.

وتدعى الزردشتية له معجزات كثيرة ، منها : دخول قوائم فرس كشتاسب في بطنه وكان زردشت في الحبس ، فأطلقه فانطلقت قوائم الفرس ، ومنها أنه مرّ على أعمى

٢٨٣

بالدينور ، فقال : خذوا حشيشة ، وصفها لهم واعصروا ماءها في عينه فإنه يبصر ، ففعلوا فأبصر الأعمى.

وهذا من جملة معرفته بخاصية الحشيش ، وليس من المعجزات في شيء.

ومن المجوس الزردشتية صنف يقال لهم السيسانية ، والبه آفريدية (١) ، رئيسهم رجل يقال له سيسان من رستاق (٢) نيسابور ، من ناحية يقال لها خواف ، خرج في أيام أبي مسلم صاحب الدولة ، وكان زمزميا (٣) في الأصل يعبد النيران ، ثم ترك ذلك ودعا المجوس إلى ترك الزمزمة ورفض عبادة النيران. ووضع لهم كتابا ، وأمرهم فيه بإرسال الشعور ، وحرم عليهم الأمهات والبنات والأخوات ، وحرم عليهم الخمر ، وأمرهم باستقبال الشمس عند السجود على ركبة واحدة ، وهم يتخذون الرباطات ، ويتبادلون الأموال ، ولا يأكلون الميتة ، ولا يذبحون الحيوان حتى يهرم ، وهم أعدى خلق الله للمجوس الزمازمة. ثم إن موبذ (٤) المجوس رفعه إلى أبي مسلم فقتله على باب الجامع بنيسابور. وقال أصحابه : إنه صعد إلى السماء على برذون أصفر ، وإنه سينزل على البرذون فينتقم من أعدائه. وهؤلاء قد أقروا بنبوة زردشت ، وعظموا الملوك الذين يعظمهم زردشت.

ومما أخبر به زردشت في كتاب زند أوستا أنه قال : سيظهر في آخر الزمان رجل اسمه «أشيزريكا» ومعناه : الرجل العالم ، يزين العالم بالدين والعدل ، ثم يظهر في زمانه «بتياره» فيوقع الآفة في أمره وملكه عشرين سنة ، ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا

__________________

(١) نسبة إلى بهافريد وكان قد ظهر في صدر الدولة العباسية وقبل ظهور أبي العباس من قرية يقال لها روى من ابر شهر وهو مجوسي كان يصلي الصلوات الخمس بلا سجود متياسر عن القبلة ، تكهن ودعا المجوس إلى مذهبه فاستجاب له خلق كثير فوجه إليه أبو مسلم شبيب بن داح وعبد الله بن سعيد فعرضا عليه الإسلام وأسلم ، ثم لم يقبل إسلامه لتكهنه فقتل وعلى مذهبه بخراسان جماعة إلى هذا الوقت.

(فهرست ابن النديم ص ٤٨٢).

(٢) رستاق : كلمة معربة ، بمعنى الناحية التي هي طرف الإقليم.

(٣) الزمزمة : صوت المجوس عند الأكل ويكون من الخياشيم.

(٤) موبذ المجوس ، كقاضي القضاة عند المسلمين. والموبذ القاضي.

٢٨٤

على أهل العالم ، ويحيي العدل ، ويميت الجور ، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأول ، وتنقاد له الملوك ، وتتيسر له الأمور ، وينصر الدين والحق ، ويحصل في زمانه الأمن والدعة وسكون الفتن وزوال المحن.

مقالة زردشت في المبادئ (١)

وقد أورد الجيهاني إحدى مقالات زردشت في المبادئ ، وهي :

إن دين زردشت هو الدعوة إلى دين مارسيان. وأن معبوده أورمزد. والملائكة المتوسطون في رسالاته إليه : بهمن ، وأرديبهشت ، وشهريور ، وإسفندارمز ، وخرداد ، ومرداد. وقد رآهم زردشت واستفاد منهم العلوم ، وجرت مساءلات بينه وبين أورمزد من غير توسط.

أولها : قال زردشت : ما الشيء الذي كان ويكون ، وهو الآن موجود؟.

قال أورمزد : أنا والدين والكلام. أما الدين فعمل أورمزد وكلامه وإيمانه. وأما الكلام فكلامه. والدين أفضل من الكلام ؛ إذ العمل أفضل من القول. وأول من أبدع من الملائكة بهمن ، وعلمه الدين ، وخصه بموضع النور مكانا ، وأقنعه بذاته ذاتا. فالمبادئ على هذا الرأي ثلاثة :

السؤال الثاني : قال : لم لم تخلق الأشياء كلها في زمان غير متناه؟ إذ قد جعلت الزمان نصفين : نصفه متناه ، ونصفه غير متناه ، فلو خلقتها في زمان غير متناه : كان لا يستحيل شيء منها.

قال أورمزد : فإن كان لا يمكن أن تفنى ثمّ آفات الأثيم إبليس.

السؤال الثالث : قال : مما ذا خلقت هذا العالم؟.

قال أورمزد : خلقت جميع هذا العالم من نفسي. أما أنفس الأبرار فمن شعر

__________________

(١) نقلناها عن طبعة محمد فتح الله بدران ، حيث أثبت فضيلته أنها ثابتة في خمسة مخطوطات أصول للكتاب. (راجع ص ٩٥٧ الطبعة الأولى طبعة الأزهر).

٢٨٥

رأسي. وأما السماء فمن أم رأسي. والظفر والمعاضد فمن جبهتي ، والشمس فمن عيني ، والقمر فمن أنفي ، والكواكب فمن لساني ، وسروس وسائر الملائكة فمن أذني ، والأرض فمن عصب رجلي. وأريت هذا الدين أولا كيومرث فشعر به وحفظه من غير تعلم ولا مدارسة.

قال زردشت : فلما ذا أريت هذا الدين كيومرث بالوهم؟ وألقيته إليّ بالقول؟.

قال أورمزد : لأنك تحتاج أن تتعلم هذا الدين وتعلمه غيرك. وكيومرث لم يجد من يقبله ، فأمسك عن التكلم ، وهذا خير لك ، لأني أقول وأنت تسمع ، وأنت تقول والناس يسمعون ويقبلون.

فقال زردشت لأورمزد : هل أريت هذا الدين أحدا قبلي غير كيومرث؟.

قال : بلى! رأيت هذا الدين «جم» خمسين نجما مخمسا ؛ من أجل إنكاره الضحاك.

قال : إذا كنت عالما أنه لا يقبله ، فلما ذا أريته؟ قال : لو لم أره لما صار إليك وقد أريته أيضا أفريدون ، وكيكاوس ، وكيقباد ، وكشتاسب.

قال زردشت : خلقك العالم ، وترويجك الدين لأي شيء؟.

قال : لأن فناء العفريت الأثيم لا يمكن إلا بخلق العالم وترويج الدين ، ولو لم يتروج أمر الدين لما أمكن أن تتروج أمور العالم.

فلما أخذ زردشت الدين من أورمزد الوهاب واستحكمه وعمل به ، وزمزم في بيت أبيه عليه ، غاظ ذلك كون الأثيم وأقلقه ؛ إذ كان شريرا ممتلئا موتا وظلمة وبلاء ومحنة ، فدعا بشياطينه ، وأسماؤهم : بري ديوانياخ ، ودويهمان زوش ، ونومر بفنارديو ، وأمرهم جميعا بالمسير إلى زردشت وقتله. فعلم زردشت بذلك ، فقرأ وزمزم ، وأراق الماء على يدي مارسيان ، فانهزموا عنه مقهورين. وجرت محاربات أخرى فهزمهم زردشت بإحدى وعشرين آية من كتابه أوستا ، وتوارت الشياطين عن الناس.

٢٨٦

ولما بلغ زردشت مبلغ الكمال بأربعين سنة ، وتمت له المخاطبات في سبع عودات إلى أورمزد ، أكمل فيها معرفة شرائع دين الله وفرائضه وسننه ، أمره الله بالمسير إلى كشتاسب الملك ، وإظهار ذكر الله واسمه. فنفذ لأمر الله ودعا ملكين كانا بذلك الصقع يقال لهما : فوربماراي ، وبيويدست ، فدعاهما إلى دين الله والكفر بالشيطان ، وفعل الخير ، واجتناب الشر ، فلم يقبلا قوله ، وأخذتهما العزة بالإثم. فجاءتهما ريح فحملتهما من الأرض ، ووقفت بهما في الهواء ، واجتمع الناس ينظرون إليهما ، فغشيهما الطير من كل ناحية ، وأتوا على لحومهما ، وسقطت عظامهما على الأرض.

ولما بلغ كشتاسب لقي منه كل ما أنبأه به أورمزد من الحبس والبلاء ، حتى حدث أمر الفرس الذي دخلت قوائمه في باطن بدنه ، حتى لم ير أثرها في جسده ، واستبهم حاله على الناس وخيروا. وأخرجه كشتاسب من الحبس وسأله الحال ، فقال : تلك آية من آيات صدقي الذي أخبرني به إلهي وخالقي ، وشارطهم على الإيمان به إن هو دعا وأخرج قوائم الفرس وشرطوا ، ودعا باسم الله ، فخرجت قوائم الفرس كما كانت. فآمن به كشتاسب. وأمر بجمع علماء أهل زمانه من بابل ، وإيران شهر ، وأمرهم بمحاورة زردشت فناظروه فاعترفوا له بالفضيلة.

قال : ومما جاء به زردشت المصطفى من دين مارسيان أن إلهه أورمزد لم يزل ولم يزل معه شيء سماه : أسنى أسنه ، وهو شيء مضيء حوله وهو فوق. وأن إبليس لم يزل معه شيء سماه : أستا أستاه ، وهو مظلم حوله ، وهو أسفل.

وأول ما خلق الله من الملائكة بهمن ، ثم أرديبهشت ، ثم شهريور ، ثم إسفندارمز ، ثم خرداد ، ثم مرداد. وخلق بعضهم من بعض كما يؤخذ السراج من السراج من غير أن ينقص من الأول شيء ، وقال لهم : من ربكم وخالقكم؟ فقالوا : أنت ربنا وخالقنا. وعلم أورمزد أن إبليس سيتحرك من ظلمته ، فأعلم بذلك الملائكة ، وبدأ بإعداد ما يورطه ، ويدفع شره وأذاه عن عالمه ، ويبطل إرادته. فخلق السماء في خمسة وأربعين يوما ، وسمي كاهينازى شورم. ومعناه : ظهور ضمائر أهل الدنيا ، إلى سائر الكاهينازات المذكورات عندهم ، وخلق الأرض في خمسة وأربعين يوما.

٢٨٧

وأول من ابتعثه أورمزد إلى الأرض : كيومرث ، وقد كان يستنشق النسيم ثلاثة آلاف سنة ، ثم أخرجه في قامة ثلاثة رجال. ولما أن جاء وقت تحريك إبليس في ظلمته ، ارتفع ورأى النور ، وطمع في الاستيلاء على «أسنى أورمزد» وتصييره مظلما. ودخل السماء يكيد ثمّ لكيومرث ثلاثين سنة ، وصارت نطفته ثلاثة أقسام : قسم أمر الله الأرض أن تحفظه. وقسم أمر سروس الملك أن يحفظه. وثلث اختطفته الشياطين.

وأمر أورمزد بسد الثقوب التي صعد منها إبليس ، فبقي داخل السماء منقطعا عن أصله وقوته ، فانتصب لمنابذة أورمزد ، ورام الصعود إلى الجنان ، فدفعه عن ذلك قدر ثلاثة آلاف سنة ، ثم أعلمه أنه يسعى في الباطل والخسار ، ويروم ما لا يقدر عليه. واتفق الأمر بينهما على أن يبقى إبليس وجنوده في قرار الضوء تسعة آلاف سنة ، ويروى سبعة آلاف سنة ، ثم يبطل ، ويحتمل خلقه الأذى في هذه السنين ، ويصبرون عليه وعلى ما ينالهم من الفقر ، والبلاء والموت وسائر الآفات ، ليعوضهم منها الحياة الدائمة في الجنان.

واشترط إبليس لنفسه وشياطينه ثمانية عشر شرطا :

الأول منها : أن تصير معيشة خلقه من خلق الله. والثاني : أن يكون ممن خلقه على خلق الله. والثالث : أن يسلط خلقه على خلق الله. والرابع : أن يخلط جوهر خلقه بجوهر خلق الله. والخامس : أن يصير له السبيل إلى أن يأخذ الطين الذي في خلق الله.

والسادس : أن يصير له من النور الذي في خلق الله ما يريد. والسابع : أن يصير له من الرياح التي في خلق الله حاجته. والثامن : أن يصير له من الرطوبة التي في خلق الله. والتاسع : أن يصير له من النار التي في خلق الله. والعاشر : أن يصير له من المودة والمصاهرة التي في خلق الله ليخلط الأشرار بالأخيار. والحادي عشر : أن يصير له من العقل والبصر الذي في خلق الله ليعرف خلقه مسالك المنافع والمضار ، والثاني عشر : أن يصير له من العدل الذي في خلق الله ليجعل للأشرار فيه نصيبا ، والثالث

٢٨٨

عشر : أن تخفى على الناس معرفة عمل الصالحين والأشرار إلى يوم القيامة والحساب ، والرابع عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يبلغ بأهل بيت الشرارة والخبث غاية الغنى والدرجات ، ويصيرهم عند الناس صالحين. والخامس عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يجعل كذب الأشرار مقبولا على الأخيار. والسادس عشر : أن يصير له السبيل إلى أن يعمر من أهل الدنيا من أراد من خلقه ألف سنة ، أو ثلاثة آلاف سنة ، ويصيرهم أغنياء أقوياء قادرين على ما يريدون ، وأن يلهم الناس حتى يكونوا بإعطاء الأشرار أسخى منهم بإعطاء الأخيار وأطيب نفسا. والسابع عشر : أن يصير له السبيل إلى إفناء أهل بيت الصالحين ، حتى لا يعرف منهم أحد بعد ثلاثمائة وخمسين سنة ، والثامن عشر : أن يملك أمر من يحيي الأموات ، ويبقي الأخيار ، وينفي الأشرار إلى يوم القيامة.

فتمت البيعة وأقاما عليها ، ودفعا سيفيهما إلى عدلين ، على أن يقتلا من رجع عن شرطه. وأمر الله تعالى الشمس والقمر والكواكب أن تجري لمعرفة الأيام والشهور والأعوام التي جعلها عدة الإنظار والإمهال.

ومما نص عليه زردشت أن للعالم قوة إلهية ؛ وهي المدبرة لجميع ما في العالم ، المنتيهة مبادئها إلى كمالاتها ، وهذه القوة تسمى مشاسبند ، وهي على لسان الصابئة : المدبر الأقرب ، وعلى لسان الفلاسفة : العقل الفعالي. ومنه الفيض الإلهي ، والعناية الربانية. وعلى لسان المانوية : الأرواح الطيبة ، وعلى لسان العرب : الملائكة ، وعلى لسان الشرع والكتاب الإلهي : الروح (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) (١).

وأثبت غيره : منشأه ، ومنشئية ، ويعني بهما آدم وحواء في العالم الجسماني ، والعقل والنفس في العالم الروحاني.

__________________

(١) سورة القدر : الآية ٤.

٢٨٩

الفصل الثاني

الثنوية

هؤلاء هم أصحاب الاثنين الأزليين : يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس ، فإنهم قالوا بحدوث الظلام ، وذكروا سبب حدوثه.

وهؤلاء قالوا بتساويهما في القدم ، واختلافهما في الجوهر والطبع والفعل والحيز ، والمكان والأجناس والأبدان والأرواح.

١ ـ المانوية

أصحاب ماني (١) بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور (٢) بن أردشير ، وقتله بهرام (٣) بن هرمز بن سابور ، وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام. أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية ، وكان يقول بنبوة المسيح عليه‌السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه‌السلام.

حكى محمد (٤) بن هارون المعروف بأبي عيسى الوراق ، وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم : أن الحكيم ماني زعم أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين. أحدهما نور ، والآخر ظلمة ، وأنهما أزليان لم يزالا ، ولن يزالا ، وأنكر وجود شيء إلا من أصل قديم ، وزعم أنهما لم يزالا قويين حساسين ، دراكين سميعين بصيرين ، وهما مع ذلك في النفس ، والصورة ، والفعل ، والتدبير ، متضادان ، وفي الحيز متحاذيان تحاذي الشخص والظل.

وإنما تتبين جواهرهما وأفعالهما في هذا الجدول :

__________________

(١) ماني بن فتق بابك ، الثنوي الزنديق صاحب القول بالنور والظلمة ظهر أيام سابور بن أردشير ملك الفرس ، فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه. (راجع ترجمته عند ابن خلدون ١ : ٢٥٦ وفهرست ابن النديم ص ٤٥٦).

(٢) ملك بعد أبيه وأفاض العطاء. هلك لثلاثين من ملكه. (ابن خلدون ١ : ٢٥٣).

(٣) بهرام بن هرمز : ولي بعد أبيه. كان حليما حسن السيرة واقتدى بآبائه. هلك بهرام لثلاث سنين وثلاثة أشهر من دولته. (ابن خلدون ١ : ٢٥٦).

(٤) محمد بن هارون الوراق أبو عيسى : له تصانيف على مذهب المعتزلة مات سنة ٢٤٧ ه‍. قال ابن النديم في الفهرست : كان من نظاري المعتزلة ثم خلط وعنه أخذ ابن الراوندي. (لسان الميزان ٥ : ٤١٢).

٢٩٠

النور

الظلمة

الجوهر

جوهره : حسن ، فاضل ، كريم ، صاف ، تقي ، طيب الريح ، حسن المنظر.

جوهرها : قبيح ، ناقص لئيم ، كدر ، خبيث ، متن الريح ، قبيح المنظر.

النفس

نفسه : خيرة ، كريمة ، حكيمة ، نافعة ، عالمة.

نفسها : شريرة ، لئيمة ، سفيهة ضارة ، جاهلة.

الفعل

فعله : الخير ، والصلاح ، والنفع ، والسرور ، والاتفاق.

فعلها : الشر ، والفساد ، والضرر ، والغم ، والتشويش ، والتغير والاختلاف.

الحيّز

جهته : جهة فوق. وأكثرهم على أنه مرتفع من ناحية الشمال ، وزعم بعضهم أنه بجنب الظلمة.

جهتها : جهة تحت. وأكثرهم على أنها منحطة من ناحية الجنوب ، وزعم بعضهم أنها بجنب النور.

الأجناس

أجناسه خمسة : أربعة منها أبدان والخامس روحه. فالأبدان هي : النار ، والنور ، والريح والماء ، وروحها : النسيم ، وهي تتحرك في هذه الأبدان.

أجناسها خمسة : أربعة منها أبدان والخامس روحها. فالأبدان هي : الحريق ، والظلمة ، والسموم ، والضباب وروحها الدخان وتدعى الهامة ، وهي تتحرك في هذه الأبدان.

الصفات

حية ، خيرة ، طاهرة ، زكية. وقال بعضهم : كون النور لم يزل على مثال هذا العالم: له أرض وجو. فأرض النور لم تزل لطيفة على غير صورة هذه الأرض ، بل هي على صورة جرم الشمس ، وشعاعها كشعاع الشمس. ورائحتها أطيب رائحة ، وألوانها ألوان قوس قزح.

ميتة ، شريرة ، نجسة ، دنسة. وقال بعضهم : كون الظلمة لم تزل على مثال هذا العالم : لها أرض وجو. فأرض الظلمة لم تزل كثيفة على غير صورة هذه الأرض ، بل هي أكثف وأصلب ورائحتها كريهة ، أنتن الروائح ، وألوانها ألوان السواد.

* * *

وقال بعضهم : لا شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع : أرض النور وهي خمسة. وهناك جسم آخر ألطف منه وهو الجو ، وهو نفس النور ، وجسم آخر وهو ألطف منه وهو النسيم ، وهو روح النور.

وقال بعضهم : لا شيء إلا الجسم والأجسام على ثلاثة أنواع : أرض الظلمة. وجسم آخر أظلم منه وهو الجو. وجسم آخر أظلم منه وهو السموم.

٢٩١

النور

الظلمة

قال : ولم يزل يولد النور ملائكة وآلهة ، وأولياء ، لا على سبيل المناكحة ، بل كما تتولد الحكمة من الحكيم ، والمنطق الطيب من الناطق.

قال : وملك ذلك العالم هو روحه ويجمع عالمه :

الخير ، والحمد ، والنور.

قال : ولم تزل تولد الظلمة شياطين وأراكنة (١) ، وعفاريت ، لا على سبيل المناكحة ، بل كما تتولد الحشرات من العفونات القذرة.

قال : وملك ذلك العالم هو روحه ويجمع عالمه :

الشر ، والذميمة ، والظلمة.

ثم اختلفت المانوية في المزاج وسببه ، والخلاص وسببه. قال بعضهم : إن النور والظلام امتزجا بالخبط والاتفاق ، لا بالقصد والاختيار. وقال أكثرهم : إن سبب المزاج أن أبدان الظلمة تشاغلت عن روحها بعض التشاغل ، فنظرت الروح فرأت النور ، فبعثت الأبدان على ممازجة النور ، فأجابتها لإسراعها إلى الشر ، فلما رأى ذلك ملك النور وجه إليها ملكا من ملائكته في خمسة أجناس من أجناسها الخمسة ، فاختلطت الخمسة النورية بالخمسة الظلامية ، فخالط الدخان النسيم ، وإنما الحياة والروح في هذا العالم من النسيم. والهلاك والآفات من الدخان ، وخالط الحريق النار ، والنور الظلمة ، والسموم الريح ، والضباب الماء. فما في العالم من منفعة وخير وبركة ، فمن أجناس النور ، وما فيه من مضرة وشر وفساد ، فمن أجناس الظلمة.

فلما رأى ملك النور هذا الامتزاج أمر ملكا من ملائكته فخلق هذا العالم على هذه الهيئة لتخلص أجناس النور من أجناس الظلمة وإنما سارت الشمس والقمر وسائر النجوم والكواكب لاستصفاء أجزاء النور من أجزاء الظلمة فالشمس تستصفي النور الذي امتزج بشياطين الحر ، والقمر يستصفي النور الذي امتزج بشياطين البرد. والنسيم الذي في الأرض لا يزال يرتفع لأن من شأنها الارتفاع إلى عالمها. وكذلك جميع أجزاء النور أبدا في الصعود والارتفاع. وأجزاء الظلمة أبدا في النزول والتسفل حتى

__________________

(١) الأراكنة : جمع أركون ، وهو الرئيس والدهقان المعظم ، والكلمة يونانية.

٢٩٢

تتخلص الأجزاء من الأجزاء ، ويبطل الامتزاج ، وتنحل التراكيب ، ويصل كل إلى كله وعالمه، وذلك هو القيامة والمعاد.

قال : ومما يعين في التخليص والتمييز ، ورفع أجزاء النور : التسبيح ، والتقديس ، والكلام الطيب ، وأعمال البر ، فترتفع بذلك الأجزاء النورية في عمود الصبح إلى فلك القمر ، ولا يزال القمر يقبل ذلك من أول الشهر إلى نصفه فيمتلئ فيصير بدرا. ثم يؤدي إلى الشمس إلى آخر الشهر ، وتدفع الشمس إلى نور فوقها ، فيسري ذلك في العالم إلى أن يصل إلى النور الأعلى الخالص. ولا يزال يفعل ذلك حتى لا يبقى من أجزاء النور شيء في هذا العالم إلا قدر يسير منعقد ، لا تقدر الشمس والقمر على استصفائه ، فعند ذلك يرتفع الملك الذي يحمل الأرض ، ويدع الملك الذي يجذب السماوات ، فيسقط الأعلى على الأسفل. ثم توقد نار حتى يضطرم الأعلى والأسفل ، ولا تزال تضطرم حتى يتحلل ما فيها من النور ، وتكون مدة الاضطرام ألفا وأربعمائة وثمانيا وستين سنة.

وذكر الحكيم ماني في باب الألف من الجبلة الأولى ؛ وفي أول الشابرقان : أن ملك عالم النور في كل أرضه لا يخلو منه شيء ، وأنه ظاهر باطن ، وأنه لا نهاية له إلا من حيث تنهى أرضه إلى أرض عدوه. وقال أيضا : إن ملك عالم النور في سرة أرضه. وذكر أن المزاج القديم هو امتزاج الحرارة ، والبرودة والرطوبة ، واليبوسة. والمزاج المحدث هو : الخير ، والشر.

وقد فرض (١) ماني على أصحابه العشر في الأموال كلها ، والصلوات (٢) الأربع في اليوم والليلة. والدعاء إلى الحق ، وترك الكذب ، والقتل ، والسرقة ، والزنا والبخل ، والسحر ، وعبادة الأوثان ، وأن يأتي على ذي روح ما يكره أن يؤتى إليه بمثله.

واعتقاده في الشرائع والأنبياء : أن أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة : آدم

__________________

(١) راجع هذه الفرائض في فهرست ابن النديم ص ٤٦٥.

(٢) راجع هذه الصلوات في فهرست ابن النديم ص ٤٦٥.

٢٩٣

أبو البشر. ثم بعث شيئا بعده ، ثم نوحا بعده ، ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام ، ثم بعث بالبددة (١) إلى أرض الهند ، وزردشت إلى أرض فارس ، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب. وبولس بعد المسيح إليهم. ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب.

* * *

وزعم أبو سعيد المانوي (٢) ؛ رئيس من رؤسائهم ، أن الذي مضى من المزاج إلى الوقت الذي هو فيه ، وهو سنة إحدى وسبعين ومائتين من الهجرة : أحد عشر ألفا وسبعمائة سنة ، وأن الذي بقي إلى وقت الخلاص : ثلاثمائة سنة.

وعلى مذهبه مدة المزاج اثنا عشر ألف سنة ، فيكون قد بقي من المدة خمسون سنة في زماننا هذا ، وهو إحدى وعشرون وخمسمائة هجرية.

فنحن في آخر المزاج وبدء الخلاص. فإلى الخلاص الكلي ، وانحلال التراكيب خمسون سنة!.

٢ ـ المزدكيّة

أصحاب مزدك (٣). ومزدك هو الذي ظهر في أيام قباذ (٤) والد أنوشروان ، ودعا قباذ إلى مذهبه فأجابه. واطلع أنوشروان (٥) على خزيه وافترائه فطلبه فوجده فقتله.

__________________

(١) البددة : جمع بد وقد اختلف الهنود فيه فزعمت طائفة أنه صورة الباري تعالى وقالت طائفة صورة رسوله إليهم. ثم اختلفوا هاهنا أيضا. ولكل طائفة منهم طريقة في عبادته. (فهرست ابن النديم ٤٨٧ ودائرة المعارف للبستاني ٦٥٩).

(٢) أبو علي سعيد المانوي من رؤساء المانوية في مذهبهم نشأ في الدولة العباسية. (فهرست ابن النديم ص ٤٧٣).

(٣) مزدك الزنديق كان إباحيا يقول باستباحة أموال الناس وإنها فيء والأشياء كلها ملك لله مشاع بين الناس. (راجع ابن خلدون ١ : ٢٦٣ وفهرست ابن النديم ص ٢٧٩).

(٤) قباذ بن فيروز ملك بعد أخيه وهلك لثلاث وأربعين من ملكه. (راجع ترجمته عند ابن خلدون ١ : ٢٦٣).

(٥) أنوشروان بن قباذ ملك بعد أبيه كان يلي الأصبهبذ وهي الرئاسة على الجنود. هلك لثمان وأربعين سنة من دولته. (راجع ترجمته عند ابن خلدون ١ : ٢٦٥).

٢٩٤

حكى الوراق أن قول المزدكية كقول كثير من المانوية في الكونين ، والأصلين. إلا أن مزدك كان يقول : إن النور يفعل بالقصد والاختيار. والظلمة تفعل على الخبط والاتفاق. والنور عالم حساس ، والظلام جاهل أعمى. وأن المزاج كان على الاتفاق والخبط ، لا بالقصد والاختيار ، وكذلك الخلاص إنّما يقع بالاتفاق دون الاختيار.

وكان مزدك ينهى الناس عن المخالفة والمباغضة والقتال. ولما كان أكثر ذلك إنما يقع بسبب النساء والأموال ، أحل النساء وأباح الأموال ، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ ، وحكى عنه أنه أمر بقتل الأنفس ليخلصها من الشر ومزاج الظلمة.

ومذهبه في الأصول والأركان أنها ثلاثة : الماء والأرض والنار. ولما اختلطت حدث عنها مدبر الخير ، ومدبر الشر ، فما كان من صفوها فهو مدبر الخير ، وما كان من كدرها فهو مدبر الشر.

وروى عنه : أن معبوده قاعد على كرسيه في العالم الأعلى ، على هيئة قعوده خسرو (١) في العالم الأسفل ، وبين يديه أربع قوى : قوة التمييز ، والفهم ، والحفظ ، والسرور ، كما بين يدي خسرو أربعة أشخاص : موبذ موبذان (٢) ، والهربذ (٣) الأكبر ، والأصبهبذ (٤) ، والرامشكر (٥). وتلك الأربع يدبرون أمر العالم بسبعة من ورائهم : سالار ، وبيشكار ، وبالون ، وبراون ، وكازران ، ودستور ، وكوذك. وهذه السبعة تدور في اثني عشر روحانيين : خواننده ، ودهنده ، وستاننده ، وبرنده خورنده ، ودونده ، وخيزنده ، وكشنده ، وزننده ، وكننده ، وآينده ، وشونده ، وباينده.

وكل إنسان اجتمعت له هذه القوى الأربع ، والسبع ، والاثنا عشر : صار ربانيا

__________________

(١) مات لستين سنة من ملكه. (راجع ترجمته عند ابن خلدون ١ : ٢٣٦).

(٢) الموبذان : فقيه الفرس وحاكم المجوس كقاضي القضاة عند المسلمين.

(٣) الهرابذة : فارسي معرّب ، وهم عظماء الملّة وعلماؤها أو خدم نار المجوس.

(٤) الأصبهبذ : رئيس الجنود.

(٥) الرامشكر : هو رئيس المعبد.

٢٩٥

في العالم السفلي ، وارتفع عنه التكليف. قال : وإن خسرو العالم الأعلى إنما يدبر بالحروف التي مجموعها الاسم الأعظم. ومن تصور من تلك الحروف شيئا انفتح له السر الأكبر. ومن حرم ذلك بقي في عمى الجهل والنسيان والبلادة ، والغم في مقابلة القوى الأربع الروحانية.

* * *

وهم فرق : الكوذكيّة ، وأبو مسلمية (١) ، والماهانية (٢) ، والأسبيد خامكية (٣) ، والكوذكيّة بنواحي الأهواز (٤) ، وفارس ، وشهرزور (٥). والأخر بنواحي سعد (٦) سمرقند ، والشاش (٧) ، وإيلاق (٨).

٣ ـ الدّيصانيّة (٩)

أصحاب ديصان. أثبتوا أصلين : نورا ، وظلاما. فالنور يفعل الخير قصدا واختيارا. والظلام يفعل الشر طبعا واضطرارا.

فما كان من خير ونفع ، وطيب ، وحسن ؛ فمن النور. وما كان من شر وضرر ، ونتن ، وقبح ؛ فمن الظلام. وزعموا أن النور : حي ، عالم ، قادر ، حساس ، دراك ،

__________________

(١) هم أصحاب أبي مسلم الخراساني يعتقدون بإمامته ويقولون إنه حي يرزق. (راجع فهرست ابن النديم ص ٤٧٥).

(٢) هم طائفة من المرقيونية يزعمون أن المعدل بين النور والظلمة هو المسيح. يخالفون المرقيونية في شيء ويوافقونهم في شيء فما يوافقون المرقيونية في جميع الأحوال إلّا في النكاح والذبائح ولا يعرف من أمرهم غير هذا. (فهرست ابن النديم ص ٤٧٥).

(٣) هم عبيد أسبذ. قال طرفة :

خذوا حذركم أهل المشقّر والصفا

عبيد اسبذ والقرض يجزي من القرض

كانوا من أهل البحرين يعبدون البراذين. (نوع من البغال). (المعرب ص ٣٨).

(٤) بين البصرة وفارس.

(٥) شهرزور : بين إربل وهمذان. (معجم البلدان ٣ : ٣٧٥).

(٦) سغد سمرقند : بين بخارى وسمرقند وقصبتها سمرقند. (معجم البلدان ٣ : ٢٢٢).

وسمرقند : بلد مشهور قيل إنه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر. (معجم البلدان ٣ : ٢٤٦).

(٧) الشاش : وراء النهر متاخمة لبلاد الترك. (معجم البلدان ٣ : ٣٠٨).

(٨) إيلاق : مدينة من بلاد الشاش.

(٩) راجع في شأن هذه الفرقة. (فهرست ابن النديم ص ٤٧٤).

٢٩٦

ومنه تكون الحركة والحياة. والظلام : ميت ، جاهل ، عاجز ، جماد ، موات ، لا فعل له ولا تمييز وزعموا أن الشر يقع منه طباعا وخرقا. وزعموا أن النور جنس واحد ، وكذلك الظلام جنس واحد ، وأن إدراك النور إدراك متفق ، فإن سمعه وبصره وسائر حواسه شيء واحد. فسمعه هو بصره ، وبصره هو حواسه. وإنما قيل سميع بصير لاختلاف التركيب ؛ لا لأنهما في نفسهما شيئان مختلفان. وزعموا أن اللون هو الطعم ، وهو الرائحة ، وهو المحسة ، وإنما وجدوه لونا لأن الظلمة خالطته ضربا من المخالطة ، ووجده طعما لأنها خالطته بخلاف ذلك الضرب ، وكذلك القول في لون الظلمة وطعمها ورائحتها ومحستها. وزعموا أن النور بياض كله ، وأن الظلام سواد كله ، وزعموا أن النور لم يزل يلقي الظلمة بأسفل صفحة منه ، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة منها.

واختلفوا في المزاج والخلاص ، فزعم بعضهم أن النور داخل الظلمة ، والظلمة تلقاه بخشونة وغلظ ، فتأذى بها ، وأحب أن يرققها ويلينها ، ثم يتخلص منها ، وليس ذلك لاختلاف جنسهما ، ولكن كما أن المنشار جنسه حديد ، وصفحته لينة ، وأسنانه خشنة ؛ فاللين في النور ، والخشونة في الظلمة ، وهما جنس واحد ، فتلطف النور بلينه حتى يدخل تلك الفرج ، فما أمكنه إلا بتلك الخشونة ، فلا يتصور الوصول إلى كمال وجود إلا بلين وخشونة.

وقال بعضهم : بل الظلام لما احتال حتى تشبث بالنور من أسفل صفحته ، فاجتهد النور حتى يتخلص منه ويدفعه عن نفسه ، فاعتمد عليه فلجج فيه ، وذلك بمنزلة الإنسان الذي يريد الخروج من وحل وقع فيه ، فيعتمد على رجله ليخرج فيزداد لجوجا فيه ، فاحتاج النور إلى زمان ليعالج التخلص منه والتفرد بعالمه.

وقال بعضهم : إن النور إنما دخل أجزاء الظلام اختيارا ليصلحها ويستخرج منها أجزاء صالحة لعالمه. فلما دخل تشبثت به زمانا فصار يفعل الجور والقبيح اضطرارا لا اختيارا ، ولو انفرد في عالمه ما كان يحصل منه إلا الخير المحض ، والحسن البحت. وفرق بين الفعل الاضطراري ، وبين الفعل الاختياري.

٢٩٧

٤ ـ المرقيونية (١)

أصحاب مرقيون : أثبتوا أصلين قديمين متضادين : أحدهما : النور ، والثاني : الظلمة. وأثبتوا أصلا ثالثا هو المعدل الجامع ، وهو سبب المزاج. فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع. وقالوا : إن الجامع دون النور في المرتبة ، وفوق الظلمة ، وحصل من الاجتماع والامتزاج هذا العالم.

ومنهم من يقول : الامتزاج إنما حصل بين الظلمة والمعدّل ، إذ هو أقرب منها. فامتزجت به لتطيب به ، وتلتذ بملاذه ، فبعث النور إلى العالم الممتزج روحا مسيحية ، وهو روح الله وابنه ، تحننا على المعدل الجامع السليم الواقع في شبكة الظلام الرجيم ، حتى يخلصه من حبائل الشياطين ، فمن اتبعه فلم يلامس النساء ، ولم يقرب الزهومات (٢) أفلت ونجا. ومن خالفه خسر وهلك.

قالوا : وإنما أثبتنا المعدل ، لأن النور الذي هو الله تعالى لا يجوز عليه مخالطة الشياطين ، وأيضا فإن الضدين يتنافران طبعا ، ويتمانعان ذاتا ونفسا ، فكيف يجوز اجتماعهما وامتزاجهما؟ فلا بد من معدل يكون بمنزلة دون النور وفوق الظلام فيقع الامتزاج منه ، وهذا على خلاف ما قالته المانوية ، وإن كان ديصان أقدم. وإنما أخذ ماني منه مذهبه ، وخالفه في المعدل ، وهو أيضا خلاف ما قال زردشت. فإنه يثبت التضاد بين النور والظلمة ، ويثبت المعدل كالحاكم على الخصمين ، الجامع بين المتضادين : لا يجوز أن يكون طبعه وجوهره من أحد الضدين ، وهو الله عزوجل الذي لا ضد له ولا ند.

وحكى محمد بن شبيل عن الديصانية أنهم زعموا أن المعدل هو الإنسان الحساس الدراك ، إذ هو ليس بنور محض ، ولا ظلام محض ، وحكى عنهم : أنهم

__________________

(١) هم أصحاب مرقيون وهم قبل الديصانية ، طائفة من النصارى. (راجع بشأنها فهرست ابن النديم ص ٤٧٤).

(٢) الزهومة : ريح لحم سمين منتن.

٢٩٨

يرون المناكحة وكل ما فيه منفعة لبدنه وروحه حراما. ويحترزون عن ذبح الحيوان لما فيه من الألم.

وحكى عن قوم من الثنوية أن النور والظلمة لم يزالا حيين ، إلا أن النور حساس عالم ، والظلام جاهل أعمى ، والنور يتحرك حركة مستوية مستقيمة ، والظلام يتحرك حركة عجرفية خرقاء معوجة. فبيناهما كذلك إذ هجم بعض هامات الظلام على حاشية من حواشي النور ، فابتلع النور منه قطعة على الجهل لا على القصد والعلم ، وذلك كالطفل الذي لا يفصل بين الجمرة والتمرة ، وكان ذلك سبب المزاج. ثم إن النور الأعظم دبر في الخلاص ، فبنى هذا العالم ليستخلص ما امتزج به من النور ، ولم يمكنه استخلاصه إلا بهذا التدبير.

٥ ـ الكينويّة والصّياميّة والتّناسخيّة منهم

حكى جماعة من المتكلمين أن الكينوية زعموا أن الأصول ثلاثة : النار ، والأرض والماء. وإنما حدثت الموجودات من هذه الأصول دون الأصلين اللذين أثبتهما الثنوية. قالوا : والنار بطبعها خيرة ، نورانية. والماء ضدها في الطبع ، فما كان من خير في هذا العالم فمن النار ، وما كان من شر فمن الماء ، والأرض متوسطة. وهؤلاء يتعصبون للنار شديدا من حيث إنها علوية ، نورانية ، لطيفة ، لا وجود إلا بها. ولا بقاء إلا بإمدادها ، والماء يخالفها في الطبع فيخالفها في الفعل ، والأرض متوسطة بينهما. فتركيب العالم من هذه الأصول.

والصيامية منهم أمسكوا عن طيبات الرزق ، وتجردوا لعبادة الله ، وتوجهوا في عباداتهم إلى النيران تعظيما لها وأمسكوا أيضا عن النكاح والذبائح.

والتناسخية منهم : قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد ، والانتقال من شخص إلى شخص (١). وما يلقي الإنسان من الراحة ، والتعب ، والدعة ، والنصب فمرتب على ما أسلفه من قبل ، وهو في بدن آخر جزاء على ذلك. والإنسان أبدا في أحد أمرين :

__________________

(١) راجع بشأنها نهاية الأرب ١ : ١٠٧.

٢٩٩

إما في فعل ، وإما في جزاء ، وما هو فيه : فإما مكافأة على عمل قدمه ، وإما عمل ينتظر المكافأة عليه. والجنة والنار في هذه الأبدان ، وأعلى عليين. درجة النبوة ، وأسفل السافلين : دركة الحية. فلا وجود أعلى من درجة الرسالة ، ولا وجود أسفل من دركة الحية. ومنهم من يقول : الدرجة الأعلى درجة الملائكة ، والأسفل دركة الشياطين.

ويخالفون بهذا المذهب سائر الثنوية ، فإنهم يعنون بأيام الخلاص. رجوع أجزاء النور إلى عالمه الشريف الحميد ، وبقاء أجزاء الظلام في عالمه الخسيس الذميم.

* * *

وأما بيوت النيران للمجوس :

فأول بيت بناه أفريدون (١) : بيت نار بطوس (٢) ، وآخر بمدينة بخارى (٣) ، هو بردسون (٤) ، واتخذ بهمن بيتا بسجستان (٥) يدعى كركو (٦). ولهم بيت نار آخر في نواحي بخارى ، يدعى قباذان ، وبيت نار يسمى كويسه (٧) ، بين فارس وأصبهان ، بناه كيخسرو (٨). وآخر بقومس (٩) يسمى جرير (١٠). وبيت نار يسمى كنكدر (١١) ؛ بناه

__________________

(١) هو الذي محا آثار ثمود. ومدّة عمر موسى عليه‌السلام مائة وعشرون ، منها عشرون في أيام افريدون.

وهو من ملوك الطبقة الأولى من الفرس. (ابن خلدون ١ : ٢٣١ وص ١٢٨).

(٢) طوس : مدينة بخراسان قريبة من نيسابور. (معجم البلدان ٤ : ٤٩).

(٣) بخارى : من أعظم مدن ما وراء النهر كانت قاعدة ملك السامانية. (معجم البلدان ١ : ٣٥٣).

(٤) لم نهتد إليها في المراجع التي بين يدينا. وهي في نهاية الأرب ١ : ١٠٧ : «بردسورة».

(٥) سجستان : قريبة من هراة. (معجم البلدان ٣ : ١٩٠).

(٦) في معجم البلدان ٤ : ٤٥٣ : كركوية : مدينة من نواحي سجستان فيها بيت نار معظم عند المجوس.

(٧) في نهاية الأرب ١ : ١٠٨ : وبيت آخر للنار يقال له كوسجة بناه كيخسرو الملك.

(٨) كيخسرو : تسنّم سرير الملك بالفرس فبسط على الناس ظل العدل والإحسان. اشتهر بالحروب والفتوح ثم ترهّب وتزهّد في الملك واستخلف مكانه كي هراسف. مات لستين سنة من ملكه. (الشاهنامه ١ : ١٩٩).

(٩) قومس : هي في ذيل جبال طبرستان قصبتها دامغان وهي بين الري ونيسابور. (معجم البلدان ٤ : ٤١٤).

(١٠) في نهاية الأرب ١ : ١٠٨ : وقد كان بقومس بيت نار معظم لا يدري من بناه يقال له حريش ويقال إن الإسكندر لما غلب عليها تركها ولم يطفئها.

(١١) في نهاية الأرب ١ : ١٠٨ وبيت نار آخر يسمى كنك دز بناه سياوش بن كاوس الجبار وذلك في زمن لبثه بشرق الصين مما يلي البركة.

٣٠٠