الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

الطهارة أكثر من تقشف سائر اليهود ، أثبتوا نبوة موسى وهارون ويوشع بن نون عليهم‌السلام وأنكروا نبوة من بعدهم من الأنبياء ، إلا نبيا واحدا ، وقالوا : التوراة ما بشرت إلا بنبي واحد يأتي من بعد موسى ، يصدق ما بين يديه من التوراة ، ويحكم بحكمها ، ولا يخالفها البتة.

وظهر في السامرة رجل يقال له الألفان ، ادعى النبوة وزعم أنه هو الذي بشر به موسى عليه‌السلام ، وأنه هو الكوكب الدريّ الذي ورد في التوراة أنه يضيء ضوء القمر ، وكان ظهوره قبل المسيح عليه‌السلام ، بقريب من مائة سنة.

وافترقت السامرة إلى دوستانية وهم الألفانية ، وإلى كوستانية (١). والدوستانية معناها : الفرقة المتفرقة الكاذبة. والكوستانية معناها : الجماعة الصادقة. وهم يقرون بالآخرة ، والثواب والعقاب فيها ، والدوستانية تزعم أن الثواب والعقاب في الدنيا. وبين الفريقين اختلاف في الأحكام والشرائع.

وقبلة السامرة جبل يقال له كزيريم (٢) بين بيت المقدس ونابلس ، قالوا : إن الله تعالى أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس وهو الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام. فتحول داود إلى إيلياء (٣) وبنى البيت ثمة ، وخالف الأمر فظلم. والسامرة توجهوا إلى تلك القبلة دون سائر اليهود ، ولغتهم (٤) غير لغة اليهود ، وزعموا أن التوراة كانت بلسانهم وهي قريبة من العبرانية إلى السريانية.

فهذه أربع فرق هم الكبار. وانشعبت منهم الفرق إلى إحدى وسبعين فرقة.

وهم بأسرهم أجمعوا على أن التوراة بشارة بواحد بعد موسى. وإنما افتراقهم إما

__________________

(١) عند المقريزي كما ذكرنا في الهامش رقم ٥ (في الصفحة السابقة) أن السامرة صنفان : الكوشان والروشان.

(٢) كزيريم : جبل بظاهر نابلس اسمه كزيرم وهو مذكور في التوراة. وتعتقد اليهود أن الذبح كان عليه وعندهم أن الذبيح إسحاق عليه‌السلام. (معجم ٨ : ٢٣٣ و ٧ : ٢٤٩).

(٣) اسم مدينة بيت المقدس.

(٤) قال ابن حزم ١ : ١١٧ : «وبأيدي السامرة توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود يزعمون أنها المنزلة ويقطعون أن التي بأيدي اليهود محرفة مبدلة. واليهود يقولون إن التي بأيدي السامرة محرفة مبدلة».

٢٦١

في تعيين ذلك الواحد ، أو في الزيادة على ذلك الواحد. وذكر المشيحا وآثاره ظاهر في الأسفار ، وخروج واحد في آخر الزمان هو الكوكب المضيء الذي تشرق الأرض بنوره أيضا متفق عليه ، واليهود على انتظاره. والسبت يوم ذلك الرجل ، وهو يوم الاستواء بعد الخلق.

وقد اجتمعت اليهود عن آخرهم على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقيا على قفاه ، واضعا إحدى رجليه على الأخرى.

وقالت فرقة منهم إن ستة الأيام التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض هي ستة آلاف سنة. فإن يوما عند الله كألف سنة مما تعدون ، بالسير القمري. وذلك هو ما مضى من لدن آدم عليه‌السلام إلى يومنا هذا ، وبه يتم الخلق. ثم إذا بلغ الخلق إلى النهاية ابتداء الأمر. ومن ابتداء الأمر يكون الاستواء على العرش. والفراغ من الخلق. وليس ذلك أمرا كان ومضى ، بل هو في المستقبل إذا عددنا الأيام بالألوف.

الفصل الثاني

النصارى

النصارى (١) أمة المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته عليه‌السلام. وهو المبعوث حقا بعد موسى عليه‌السلام ، المبشر به في التوراة. وكانت له آيات ظاهرة. وبينات زاهرة ، ودلائل باهرة ، مثل إحياء الموتى (٢) ، وإبراء الأكمه (٣) والأبرص (٤) ، ونفس وجوده وفطرته آية كاملة على صدقه. وذلك حصوله من غير نطفة

__________________

(١) في اشتقاق هذا الاسم اختلاف. قال ابن عباس هو من ناصرة : قرية كان يسكنها عيسى فنسبوا إليها. وقيل سموا بذلك لتناصرهم أي نصرة بعضهم بعضا. وقيل إنما سموا بذلك لقوله من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله. (راجع اللسان مادة نصر ومجمع البيان ص ١٢٦).

(٢) إحياؤه الموتى بإذن الله تعالى والمحيي حقيقة هو الله جلّت قدرته لكنه أجرى الإحياء على يد المسيح ليكون ذلك آية نبوته ورسالته.

(٣) الأكمه : الأعمى. يولد عليه الإنسان وربما كان من مرض.

(٤) البرص : بياض يعتري الجلد ، وخص هذان بالذكر لأنهما عياءان ، تعذر شفاؤهما على يد الأطباء.

٢٦٢

سابقة. ونطقه البين من غير تعليم سالف. وجميع الأنبياء بلاغ وحيهم أربعون سنة. وقد أوحى الله تعالى إليه إنطاقا في المهد ، وأوحى إليه إبلاغا عند الثلاثين. وكانت مدة دعوته ثلاث سنين ، وثلاثة أشهر ، وثلاثة أيام.

فلما رفع إلى السماء اختلف الحواريون وغيرهم فيه. وإنما اختلافاتهم تعود إلى أمرين :

أحدهما : كيفية نزوله واتصاله بأمه ، وتجسد الكلمة.

والثاني : كيفية صعوده ، واتصاله بالملائكة وتوحد الكلمة.

أما الأول فإنهم قضوا بتجسد الكلمة ، ولهم في كيفية الاتحاد والجسد كلام : فمنهم من قال : أشرق على الجسد إشراق النور على الجسم المشف. ومنهم من قال : انطبع فيه انطباع النقش في الشمع ومنهم من قال : ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني. ومنهم من قال : تدرّع (١) اللاهوت بالناسوت. ومنهم من قال : ما زجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء ، والماء اللبن ، وأثبتوا لله تعالى أقانيم ثلاثة. قالوا : الباري تعالى جوهر واحد ، يعنون به القائم بالنفس ، لا التحيز والحجمية. فهو واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالأقنومية ، ويعنون بالأقانيم الصفات كالوجود والحياة والعلم وسموها : الأب والابن ، وروح القدس ، وإنما العلم تدرّع وتجسد دون سائر الأقانيم.

وقالوا في الصعود إنه قتل وصلب ، قتله اليهود حسدا وبغيا ، وإنكارا لنبوته ودرجته. ولكن القتل ما ورد على الجزء اللاهوتي. وإنما ورد على الجزء الناسوتي. قالوا : وكمال الشخص الإنساني في ثلاثة أشياء : نبوة ، وإمامة ، وملكة. وغيره من الأنبياء كانوا موصوفين بهذه الصفات الثلاث أو ببعضها. والمسيح عليه‌السلام درجته فوق ذلك لأنه الابن الوحيد فلا نظير له ، ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء ، وهو الذي به غفرت زلة آدم عليه‌السلام ، وهو الذي يحاسب الخلق.

__________________

(١) تدرع : تجسّد.

٢٦٣

ولهم في النزول اختلاف. فمنهم من يقول : ينزل قبل يوم القيامة كما قال أهل الإسلام. ومنهم من يقول : لا نزول له إلا يوم الحساب ، وهو بعد أن قتل وصلب نزل ورأى شخصه شمعون الصفا (١) ، وكلمه وأوصى إليه ، ثم فارق الدنيا وصعد إلى السماء. فكان وصيه شمعون الصفا وهو أفضل الحواريين علما وزهدا وأدبا ، غير أن فولوس شوّش أمره ، وصير نفسه شريكا له ، وغير أوضاع كلامه ، وخلطه بكلام الفلاسفة ووساوس خاطره.

ورأيت رسالة فولوس التي كتبها إلى اليونانيين ؛ إنكم تظنون أن مكان عيسى عليه‌السلام كمكان سائر الأنبياء وليس كذلك. بل إنما مثله مثل «ملكيز داق» وهو ملك السلام الذي كان إبراهيم عليه‌السلام يعطي إليه العشور. وكان يبارك على إبراهيم ويمسح رأسه. ومن العجب أنه نقل في الأناجيل أن الرب تعالى قال : إنك أنت الابن الوحيد ، ومن كان وحيدا كيف يمثل بواحد من البشر؟.

ثم إن أربعة من الحواريين اجتمعوا وجمع كل واحد منهم جمعا سماه الإنجيل (٢). وهم : متى (٣) ، ....................

__________________

(١) شمعون الصفا : ابن توما المعروف بسمعان القانوني نسبة إلى قانا الجليل أو جبل الجليل بالقرب من دمشق. وشمعون من حواريي المسيح وكان أستاذ مرقس الهاروني صاحب إنجيل مرقس ، ويقولون أن شمعون المذكور هو الذي ألّفه ثم محا اسمه من أوله ونسبه إلى تلميذه مرقس. (ابن حزم ٨ : ٢ وخلاصة تاريخ المسيحية ص ٥٨).

(٢) الأناجيل المعتبرة عند النصارى أربعة : إنجيل متى وإنجيل مرقس وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا وهي عمدتهم ومرجعهم وهي التي تعترف بها كنائسهم وتقرها فرقهم ، غير أنه كانت في العصور القديمة أناجيل أخرى أخذت بها بعض الفرق كإنجيل برنابا وإنجيل مرقيون وإنجيل السبعين وغيرها وهي تتخالف مع الأناجيل الأربعة التي لم تعرف قبل أواخر القرن الثاني وكتبت بعد المسيح. (محاضرات في النصرانية ص ٣٦ وتعليف شكيب أرسلان على ابن خلدون ١ : ٥٧).

(٣) متى : ويدعى لاوى بن حلفى من قانا الجليل وكان من العشارين «جباة العشور» للدولة الرومانية في كفر ناحوم من أعمال الجليل بفلسطين وما حولها وكان اليهود يحقرون تلك الوظيفة لظلم صاحبها وخضوعه لدولة أجنبيّة غير أن المسيح اختاره تلميذا من تلاميذه ولما صعد المسيح جال للتبشير في بلاد كثيرة وقد قتل بأثيوبيا سنة ٦٢ م وكتب إنجيله بالعبرية. (خلاصة تاريخ المسيحية ص ٥٢).

٢٦٤

ولوقا (١) ، ومرقس (٢) ، ويوحنا (٣). وخاتمة إنجيل متى أنه قال : إني أرسلكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم. فاذهبوا ودعوا الأمم باسم الأب. والابن ، وروح القدس.

وفاتحة إنجيل يوحنا : على القديم الأزلي قد كانت الكلمة ، وهو ذا الكلمة كانت عند الله ، والله هو كان الكلمة ، وكل كان بيده.

ثم افترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة ، وكبار فرقهم ثلاثة : الملكانية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، وانشعبت منها : الإليانية (٤) ، والبليارسية (٥) ، والمقدانوسية (٦) ،

__________________

(١) لوقا : ولد في أنطاكية ودرس الطب ومارسه بنجاح ورافق بولس في أسفاره وشركه في أعماله وهو كاتب سفر أعمال الرسل قتل في حكم نيرون سنة ٧٠ م وكتب إنجيله باليونانية. (خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص ٥٣).

(٢) مرقس : اسمه يوحنا ، ومرقس لقبه وهو أحد الإنجيليين الأربعة ولم يكن من الاثني عشر تلميذا ، وعلى يده دخلت الديانة المسيحية ديار مصر في القرن الأول وأصله من اليهود وكان من الذين قبلوا دعوة المسيح فاصطفاه وكان يتردد على بيته وفيه أكل الفصح مع تلاميذه وقد رافق مرقس بولس وبرنابا خاله إلى إيطاليا حوالي سنة ٤٥ وذهب معهما إلى قبرص ثم بعض جهات في آسيا الصغرى ثم قصد بمفرده شمال إفريقيا ، وفي منتصف القرن الأول قصد ديار مصر وكتب إنجيله باليونانية وقد أسس المدرسة اللّاهوتية بالإسكندرية وقد قتله الوثنيون سنة ٦١. (خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص ٦٢).

(٣) يوحنا : ولد في بيت صيدا من أعمال الجليل وكان المسيح يحبه وقد لبث يبشر بها حتى توفي شيخا. كتب إنجيله ورسائله الثلاث وسفر الرؤيا باللغة اليونانية. (خلاصة تاريخ المسيحية في مصر ص ٥٣).

(٤) الأليانية : نسبة إلى أليان الذي ظهر قبل مجمع نيقيه وقال أن مريم لم تحبل بالمسيح تسعة أشهر وإنما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في الميزاب لأن الكلمة دخلت في أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعته. (محاضرات في النصرانية ص ١٥٠).

(٥) البليارسية : محرفة عن البابليدوسية شيعة بابليدوس الذي كان قبل مجمع نيقيه وكان يقول إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية. (محاضرات في النصرانية ص ١٥٠).

(٦) بعد مجمع نيقيه كان أول فرقة ظهرت فرقة مقدونيوس أنكرت أن يكون روح القدس إلها. وكان مقدونيوس بطريركا على القسطنطينية في عهد قسطنطين بن قسطنطين الثاني وكان يقول إن روح القدس مخلوقة. وقد عقد الأساقفة مجمع القسطنطينية سنة ٣٨١ ه‍ وحكموا ببطلان مذهبهم. (محاضرات في النصرانية ص ١٥٢).

٢٦٥

والسبالية (١) والبوطينوسية (٢) والبولية (٣) ، إلى سائر الفرق.

١ ـ الملكانية (٤)

أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها. ومعظم الروم ملكانية. قالوا : إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح ، وتدرعت بناسوته. ويعنون بالكلمة : أقنوم العلم. ويعنون بروح القدس : أقنوم الحياة. ولا يسمون العلم قبل تدرعه ابنا ، بل المسيح مع ما تدرع به ابن. فقال بعضهم : إن الكلمة مازجت جسد المسيح كما يمازج الخمر أو الماء اللبن.

وصرحت الملكانية بأن الجوهر غير الأقانيم ، وذلك كالموصوف والصفة وعن هذا صرحوا بإثبات التثليث ، وأخبر عنهم القرآن : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (٥) وقالت الملكانية : إن المسيح ناسوت كلي لا جزئيّ ، وهو قديم أزلي ، من قديم أزلي. وقد ولدت مريم عليها‌السلام إلها أزليا. والقتل والصلب وقع على

__________________

(١) السبالية أو السابليوسية نسبة إلى سابليوس من قساوسة مصر في القرن الثالث الذي أظهر عقيدته بأن الله أعطى الناموس لبني إسرائيل بصفته أبا وصار إنسانا في العهد الجديد بصفته ابنا وحلّ في الرسل بصفته روح القدس والذي اتحد بالإنسان جزء من الأب كالذي حلّ بالرسل فقاومه ديوناسيوس البطريرك ونفاه ومن تبعه من مصر فذهبوا إلى رومية حيث عقد مجمعها ورفض تعاليمه. (تاريخ الكنيسة ١ : ١٧٠).

(٢) النوءتوسية : وقد حرفت إلى البوطينوس نسبة إلى نوءتوس من قساوسة القرن الثالث من أزمير. ذهب إلى أن الله هو الأب. قد اتحد بالإنسان الذي هو المسيح فدعا بالابن وبه ولد وتألم. (تاريخ الكنيسة ١ : ١٧٠).

(٣) البولية أو البولسية نسبة لبولس الشمشاطي أو السميساطي نسبة إلى سميساط. مدينة على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم يسكنها الأرمن ويقال للبولية البوليقانيون. وقد ذهب بولس وكان من قساوسة القرن الثالث إلى أن الله جوهر قديم وأحد وأقنوم واحد ...». (تاريخ الكنيسة ١ : ١٦٢ و ١٧٠ وابن حزم ١ : ٤٨).

(٤) وقيل لها الملكائية نسبة إلى ملك الروم وهم يقولون إن الله اسم لثلاثة معان فهو واحد ثلاثة وثلاثة واحد. وو قالوا إن اتحاد الله تعالى بعيسى كان باقيا حالة صلبه. (المقريزي ٤ : ٤٠٨ واعتقادات ص ٥٤).

(٥) سورة المائدة : الآية ٧٣.

٢٦٦

الناسوت واللاهوت معا ، وأطلقوا لفظ الأبوة والنبوة على الله عزوجل وعلى المسيح لما وجدوا في الإنجيل حيث قال : إنك أنت الابن الوحيد ، وحيث قال له شمعون الصفا : إنك ابن الله حقا.

ولعل ذلك من مجاز اللغة ، كما يقال لطلاب الدنيا أبناء الدنيا ، ولطلاب الآخرة أبناء الآخرة. وقد قال المسيح عليه‌السلام للحواريين (١) : «أنا أقول لكم ، أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم ، وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء ، الذي تشرق شمسه على الصالحين والفجرة ، وينزل قطره على الأبرار والأئمة ، وتكونوا تامين كما أن أباكم الذي في السماء تام» وقال : «انظروا صدقاتكم فلا تعطوها قدام الناس لتراءوهم فلا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء» وقال حين كان يصلب «أذهب إلى أبي وأبيكم».

ولما قال أريوس (٢) : القديم هو الله ، والمسيح هو مخلوق ، اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في بلد قسطنطينية (٣) بمحضر من ملكهم ، وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا ، واتفقوا على هذه الكلمة اعتقادا ودعوة ، وذلك قولهم :

«نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء ، وصانع ما يرى وما لا يرى ، وبالابن الواحد يسوع المسيح ، ابن الله الواحد ، بكر الخلائق كلها ، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها ، وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم ، وخلق كل شيء من أجلنا ، ومن أجل معشر الناس ، ومن أجل خلاصنا ، نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا ، وحبل به ، وولد من مريم البتول (٤) ،

__________________

(١) الحواريون : هم أصحاب عيسى عليه‌السلام وكانوا اثني عشر رجلا واختلف في تسميتهم بذلك.

(٢) أريوس : هو أكبر تلاميذ مار بطرس بطريك الإسكندرية ومن كهنة الإسكندرية ومن خرّيجي المدرسة اللّاهوتية واسع الاطلاع غزير المادة في العلوم الدينية. (ابن خلدون ١ : ٣٢٠ وخلاصة تاريخ المسيحية بمصر ص ٨١).

(٣) قسطنطينيّة : ويقال قسنطينة بإسقاط ياء النسبة عمرها قسطنطين ملك الروم فسميت باسمه ثم صارت عاصمة الخلافة العثمانية قبل زوال الخلافة.

(٤) المنقطعة عن الرجال.

٢٦٧

وقتل وصلب أيام فيلاطوس ودفن ، ثم قام في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه. وهو مستعد للمجيء تارة أخرى بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه. وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا. وبجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية (١) ، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة أبد الآبدين».

هذا هو الاتفاق الأول على هذه الكلمات ، وفيه إشارة إلى حشر الأبدان.

وفي النصارى من قال بحشر الأرواح دون الأبدان ، وقال إن عاقبة الأشرار في القيامة غم وحزن الجهل. وعاقبة الأخيار : سرور وفرح العلم. وأنكروا أن يكون في الجنة نكاح وأكل وشرب.

وقال مار إسحاق (٢) منهم : إن الله تعالى وعد المطيعين وتوعد العاصين. ولا يجوز أن يخلف الوعد لأنه لا يليق بالكريم ، ولكن يخلف الوعيد ، فلا يعذب العصاة ، ويرجع الخلق إلى سرور وسعادة ونعيم. وعمم هذا الكل ؛ إذ العقاب الأبدي لا يليق بالجواد الحق تعالى.

٢ ـ النّسطوريّة

أصحاب نسطور (٣) الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون ، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه. وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة. قال : إن الله تعالى واحد ، ذو أقانيم ثلاثة : الوجود ، والعلم ، والحياة. وهذه الأقانيم ليست زائدة على

__________________

(١) الجثلقة : الحكمة ومنه الجاثليق صاحب الصلاة. ثم صار هو رئيس النصارى في بلاد الإسلام بمدينة السلام وهو المعروف الآن بالقنثل كقنفذ. (التاج ٦ : ٣٠٥).

(٢) مار إسحاق أو إسحاق الكبير ويلقب بالبرني قديس وبطريرك أرمني أصله من الرّها ولد ونشأ بأنطاكية وقيل بالقسطنطينية أخذ عن زينوب تلميذ أفرام القديس السورياني وقيل عن القديس أفراس نفسه توفي سنة ٤٤١ ه‍. (دائرة المعارف للبستاني ٣ : ٤٥٨).

(٣) وقيل إنهم ينسبون إلى نسطوريوس البطرك بالقسطنطينية الذي كان يقول إن مريم لم تلد إلها وإنما ولدت إنسانا وإنما اتحد به في المشيئة لا في الذات وليس هو إلها حقيقة بل بالموهبة. (ابن خلدون ١ : ٢٢٤).

٢٦٨

الذات ، ولا هي هو. واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه‌السلام ، لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية ، ولا على طريق الظهور به كما قالت اليعقوبية ، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة ، وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم :

وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في أحوال أبي هاشم (١) من المعتزلة ، فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء واحد ، ويعني بقوله واحد ، يعني الإله. قال هو واحد بالجوهر ، أي ليس هو مركبا من جنسين بل هو بسيط وواحد. ويعني بالحياة والعلم أقنومين جوهرين ، أي أصلين مبدأين للعالم. ثم فسر العلم بالنطق ، والكلمة ، ويرجع منتهى كلامه إلى إثبات كونه تعالى موجودا ، حيا ، ناطقا كما تقول الفلاسفة في حد الإنسان ، إلا أن هذه المعاني تتغاير في الإنسان لكونه جوهرا مركبا ، وهو جوهر بسيط غير مركب.

وبعضهم يثبت لله تعالى صفات أخر بمنزلة القدرة والإرادة ونحوهما. ولم يجعلوها أقانيم كما جعلوا الحياة والعلم أقنومين.

ومنهم من أطلق القول بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة : حي ، ناطق ، إله ، وزعم الباقون أن اسم الإله لا يطلق على كل واحد من الأقانيم.

وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب ، وإنما تجسد واتحد بجسد المسيح حين ولد. والحدوث راجع إلى الجسد والناسوت ، فهو إله وإنسان اتحدا ، وهما جوهران ، أقنومان ، طبيعتان : جوهر قديم ، وجوهر محدث ، إله تام وإنسان تام. ولم يبطل الاتحاد قدم القديم ، ولا حدوث المحدث ، لكنهما صارا مسيحا واحدا ، طبيعة واحدة. وربما بدلوا العبارة فوضع مكان الجوهر : الطبيعة ، ومكان الأقنوم : الشخص.

وأما قولهم في القتل والصلب فيخالف قول الملكانية واليعقوبية. قالوا إن القتل وقع على المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته ، لأن الإله لا تحله الآلام.

__________________

(١) أبو هاشم الجبائي تقدمت ترجمته.

٢٦٩

وبوطينوس ، وبولس الشمشاطي يقولان : إن الإله واحد. وإن المسيح ابتدأ من مريمعليها‌السلام ، وإنه عبد صالح مخلوق ؛ إلا أن الله تعالى شرفه وكرمه لطاعته وسماه ابنا على التبني ، لا على الولادة والاتحاد.

ومن النسطورية قوم يقال لهم المصلين ، قالوا في المسيح مثل ما قال نسطور ، إلا أنهم قالوا : إذا اجتهد الرجل في العبادة ، وترك التغذي باللحم ، والدسم ، ورفض الشهوات الحيوانية ، والنفسانية ، تصفى جوهره حتى يبلغ ملكوت السماوات ويرى الله تعالى جهرة ، وينكشف له ما في الغيب فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

ومن النسطورية من ينفي التشبيه ؛ ويثبت القول بالقدر ، خيره وشره من العبد كما قالت القدرية.

٣ ـ اليعقوبية (١)

أصحاب يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة كما ذكرنا ، إلا أنهم قالوا : انقلبت الكلمة لحما ودما ، فصار الإله هو المسيح. وهو الظاهر بجسده ، بل هو هو. وعنهم أخبرنا القرآن الكريم : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (٢).

فمنهم من قال : إن المسيح هو الله تعالى.

ومنهم من قال : ظهر اللاهوت بالناسوت ، فصار ناسوت المسيح مظهر الجوهر ، لا على طريق حلول جزء فيه ، ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة ، بل صار هو هو. وهذا كما يقال : ظهر الملك بصورة إنسان ، أو ظهر الشيطان بصورة حيوان. وكما أخبر التنزيل عن جبريل عليه‌السلام (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (٣).

__________________

(١) اليعقوبية ينسبون إلى يعقوب البرذعاني وكان راهبا بالقسطنطينية وقيل إنهم أهل مذهب ديسقورس. قال ابن العميد وإنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب .. وقيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فتسبوا إليه. (ابن خلدون ١ : ٢٢٥ وابن حزم ١ : ٤٩).

(٢) سورة المائدة : الآية ٧٢.

(٣) سورة مريم : الآية ١٧.

٢٧٠

وزعم أكثر اليعقوبية أن المسيح جوهر واحد ، أقنوم واحد ؛ إلا أنه من جوهرين. وربما قالوا طبيعة واحدة من طبيعتين. فجوهر الإله القديم ؛ وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركيبا كما تركبت النفس والبدن فصارا جوهرا واحدا ، أقنوما واحدا ، وهو إنسان كله وإله كله. فيقال : الإنسان صار إلها ، ولا ينعكس فلا يقال : الإله صار إنسانا. كالفحمة تطرح في النار فيقال : صارت الفحمة نارا ، ولا يقال صارت النار فحمة ، وهي في الحقيقة لا نار مطلقة ، ولا فحمة مطلقة ، بل هي جمرة. وزعموا أن الكلمة اتحدت بالإنسان الجزئي لا الكلي. وربما عبروا عن الاتحاد بالامتزاج والادراع (١) ، والحلول كحلول صورة الإنسان في المرآة المجلوة.

* * *

وأجمع أصحاب التثليث كلهم على أن القديم لا يجوز أن يتحد بالمحدث ، إلا أن الأقنوم الثاني الذي هو الكلمة اتحدت دون سائر الأقانيم.

وأجمعوا كلهم على أن المسيح عليه‌السلام ولد من مريم عليها‌السلام ، وقتل وصلب.

ثم اختلفوا في كيفية ذلك. فقالت الملكانية واليعقوبية : إن الذي ولد من مريم هو الإله. فالملكانية لما اعتقدت أن المسيح ناسوت كلي أزلي ، قالوا : إن مريم إنسان جزئي. والجزئيّ لا يلد الكلي ، وإنما ولده الأقنوم القديم. واليعقوبية لما اعتقدت أن المسيح هو جوهر من جوهرين ، وهو إله ، وهو المولود ، قالوا : إن مريم ولدت إلها ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وكذلك قالوا في القتل والصلب : إنه وقع على الجوهر الذي هو من جوهرين ، قالوا : ولو وقع على أحدهما لبطل الاتحاد.

وزعم بعضهم أنا نثبت وجهين للجوهر القديم : فالمسيح قديم من وجه ، محدث من وجه.

__________________

(١) مأخوذ من قولهم : أدرع فلان الليل ، دخل في ظلمته بمعنى أحاطت به.

٢٧١

وزعم قوم من اليعقوبية أن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا ، ولكنها مرت بها كالماء بالميزاب ، وما ظهر بها من شخص المسيح في الأعين فهو كالخيال والصورة في المرآة وإلا فما كان جسما متجسّما كثيفا في الحقيقة. وكذلك القتل والصلب إنما وقع على الخيال والحسبان ، وهؤلاء يقال لهم الإليانية ، وهم قوم بالشام ، واليمن ، وأرمينية ، قالوا : وإنما صلب الإله من أجلنا حتى يخلصنا. وزعم بعضهم أن الكلمة كانت تداخل جسم المسيح عليه‌السلام أحيانا ، فتصدر عنه الآيات ، من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص. وتفارقه في بعض الأوقات فترد عليه الآلام والأوجاع.

ومنهم بليارس وأصحابه ، حكى عنه أنه كان يقول : إذا صار الناس إلى الملكوت الأعلى أكلوا ألف سنة ، وشربوا ، وناكحوا ، ثم صاروا إلى النعم التي وعدهم آريوس ، وكلها لذة ، وراحة ، وسرور وحبور ، لا أكل فيها ولا شرب ولا نكاح.

وزعم مقدانيوس (١) أن الجوهر القديم أقنومان فحسب : آب ، وابن ، والروح مخلوق.

وزعم سباليوس أن القديم جوهر واحد ، أقنوم واحد ، له ثلاث خواص ، واتحد بكليته بجسد عيسى ابن مريم عليهما‌السلام.

وزعم آريوس أن الله واحد ، سماه أبا ، وأن المسيح كلمة الله وابنه على طريق الاصطفاء ، وهو مخلوق قبل خلق العالم ، وهو خالق الأشياء. وزعم أن لله تعالى روحا مخلوقة أكبر من سائر الأرواح وأنها واسطة الأب والابن ، تؤدي إليه الوحي. وزعم أن المسيح ابتدأ جوهرا ، لطيفا ، روحانيا ، خالصا ، غير مركب ، ولا ممزوج بشيء من الطبائع الأربع ، وإنما تدرع بالطبائع الأربع عند الاتحاد بالجسم المأخوذ من مريم.

وهذا آريوس قبل الفرق الثلاث ، فتبرءوا منه لمخالفتهم إياه في المذهب.

__________________

(١) هو ممن تأثر بآراء أريوس وقد رقي كرسي البطريركية بالقسطنطينية بعد ما نزل بولس بطريركها ، الشرعي بأمر قسطنطين القيصر وقد ذهب إلى أن الروح القدس أثر إلهي منتشر في الكون يمتاز عن الله وأن روح القدس مخلوق فهو ممّن يعتنقون التوحيد. (تاريخ الكنيسة ١ : ٢٥٣ وابن خلدون ١ : ٢٢٤).

٢٧٢

الباب الثالث

من له شبهة كتاب

قد بينا كيفية تحقيق الكتاب ، وميزنا بين حقيقة الكتاب وشبهة الكتاب ، وأن الصحف التي كانت لإبراهيم عليه‌السلام كانت شبهة كتاب. وفيها مناهج علمية ، ومسالك عملية.

أما العمليات فتقرير كيفية الخلق والإبداع ، وتسوية المخلوقات على سنّة نظام وقوام تحصل منها حكمته الأزلية ، وتنفذ فيها مشيئته السرمدية (١). ثم تقرير التقدير والهداية عليها ، ليتقدر كل نوع وصنف بقدره المحكوم المحتوم ، ويقبل هدايته السارية في العالم بقدر استعداده المعلوم ، والعلم كل العلم لا يعدو هذين النوعين ، وذلك قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) وقال عزوجل خبرا عن إبراهيم عليه‌السلام : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٣) وخبرا عن موسى عليه‌السلام. (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٤).

وأما العمليات ، فتزكية النفوس عن درن الشبهات ، وذكر الله تعالى بإقامة العبادات ، ورفض الشهوات الدنيوية ، وإيثار السعادات الأخروية ، ولن يحصل البلوغ

__________________

(١) السرمدية : الدائمة.

(٢) سورة الأعلى : الآيات ١ ـ ٣.

(٣) سورة الشعراء : الآية ٧٨.

(٤) سورة طه : الآية ٥٠.

٢٧٣

إلى كمال المعاد إلا بإقامة هذين الركنين ، أعني الطهارة ، والشهادة والعمل كل العمل لا يعدو هذين النوعين ، وذلك قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١).

ثم قال عز من قائل : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (٢) فبين أن الذي اشتملت عليه الصحف هو الذي اشتملت عليه هذه السورة. وبالحقيقة هذا هو الإعجاز الحقيقي.

المجوس (٣) وأصحاب الاثنين ، والمانوية ، وسائر فرقهم

المجوسية : يقال لها الدين الأكبر ، والملة العظمى ، إذ كانت دعوة الأنبياء عليهم‌السلام بعد إبراهيم الخليل عليه‌السلام لم تكن في العموم كالدعوة الخليلية ، ولم يثبت لها من القوة والشوكة ، والملك ، والسيف ، مثل الملة الحنيفية ، إذ كانت ملوك العجم كلها على ملة إبراهيم عليه‌السلام ، وجميع من كان في زمان كل واحد منهم من الرعايا في البلاد على أديان ملوكهم ، وكان لملوكهم مرجع هو : «موبذ موبذان» (٤) يعني أعلم العلماء ، وأقدم الحكماء ، يصدرون عن أمره ولا يخالفونه ، ولا يرجعون إلا إلى رأيه ، ويعظمونه تعظيم السلاطين لخلفاء الوقت.

وكانت دعوة بني إسرائيل أكثرها في بلاد الشام وما وراءها من المغرب. وقل ما سرى ذلك إلى بلاد العجم.

وكانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل عليه‌السلام راجعة إلى صنفين اثنين.

__________________

(١) و (٢) سورة الأعلى : الآيات ١٤ ـ ١٩.

(٣) هم عبدة النيران القائلون إن للعالم أصلين : نور وظلمة. قال قتادة : الأديان خمسة أربعة للشيطان وواحد للرحمن. وقيل : المجوس في الأصل النجوس لتدينهم باستعمال النجاسات. والمجوس أقدم الطوائف وأصلهم من بلاد فارس وقد نبغوا في علم النجوم. (القرطبي ١٢ : ٢٣ وابن خلدون ١ : ٢١٥).

(٤) الموبذان : فقيه الفرس وحاكم المجوس كقاضي القضاة بالنسبة للمسلمين والموبذ القاضي.

٢٧٤

أحدهما : الصابئة (١) ، والثاني : الحنفاء (٢).

* فالصابئة : كانت تقول ، إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ، ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط ، لكن ذلك المتوسط يجب أن يكون روحانيا لا جسمانيا ، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها ، وقربها من رب الأرباب. والجسماني بشر مثلنا : يأكل مما نأكل ، ويشرب مما نشرب ، يماثلنا في المادة والصورة. قالوا : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (٣).

* والحنفاء : كانت تقول : إنا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات ، يماثلنا من حيث البشرية ، ويمايزنا من حيث الروحانية ، فيتلقى الوحي بطرف الروحانية ، ويلقي إلى نوع الإنسان بطرف البشرية ، وذلك قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (٤) وقال عز ذكره : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٥).

* * *

ثم لما لم يتطرق للصابئة الاقتصار على الروحانيات البحتة ، والتقرب إليها بأعيانها ، والتلقي عنها بذواتها ، فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السيارات السبع (٦) ،

__________________

(١) الصابئون : جمع صابئ وهو من انتقل إلى دين آخر. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره سمي في اللغة صابئا. كانوا يعبدون النجوم. (راجع مجمع البيان ١ : ١٢٦ والقرطبي ١ : ٣٨٠ وابن خلدون ١ : ١١٦).

(٢) الحنفاء : جمع حنيف. والحنيف المسلم. قال أبو عبيدة : في قوله عزوجل : قل ملة إبراهيم حنيفا. قال : من كان على دين إبراهيم فهو حنيف عند العرب. وكان عبدة الأوثان في الجاهلية يقولون نحن حنفاء على دين إبراهيم. فلما جاء الإسلام سموا المسلم حنيفا فمن مال إلى دين الحق واعتزل الأصنام وعبد الله عزوجل فهو الحنيف. (قاموس ابن خلدون ص ٥١).

(٣) سورة المؤمنون : الآية ٣٤.

(٤) سورة الكهف : الآية ١١٠.

(٥) سورة الإسراء : الآية ٩٣.

(٦) السيارات هي الكواكب التي تدور حول الشمس أو حول نفسها كالشمس. وكان عبادها يعبدون ـ

٢٧٥

وبعض الثوابت (١). فصابئة النبط والفرس والروم : مفزعها السيارات ، وصابئة الهند : مفزعها الثوابت.

وسنذكر مذاهبهم على التفصيل ، على قدر الإمكان ، بتوفيق الله تعالى ، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تغني عنهم شيئا. والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب ، والثانية هم عبدة الأصنام.

ولما كان الخليل عليه‌السلام مكلفا بكسر المذهبين على الفرقتين ، وتقرير الحنيفية السمحة السهلة ، احتج على عبدة الأصنام قولا وفعلا ، كسرا من حيث القول ، وكسرا من حيث الفعل. فقال لأبيه آزر : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٢) الآيات حتى بلغ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) (٣) وذلك إلزام من حيث الفعل ، وإفحام من حيث الكسر. ففرغ من ذلك كما قال الله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٤).

وابتدأ بإبطال مذاهب عبدة الكواكب على صيغة الموافقة كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) أي كما آتيناه الحجة كذلك

__________________

ـ السيارات السبع وهي زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد. ولكن علم الفلك يذهب إلى أن الكواكب هي التي تدور حول الشمس وهي ثمانية : نبتون وأورانوس وزحل والمشتري والمريخ والأرض والزهرة وعطارد وبين المريخ والمشتري سيارات صغيرة كثيرة العدد أطلق عليها اسم النجيمات. (بسائط علم الفلك ص ٤٨ وعقائد آل محمد ص ٢٣).

(١) الثوابت : هي النجوم ، وكل نجم منها شمس كبيرة مثل شمسنا أو أكبر منها مرارا. (بسائط علم الفلك ص ٧٦).

(٢) سورة مريم : الآية ٤٢.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٥٨.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٨٣.

(٥) سورة الأنعام : الآية ٧٥.

٢٧٦

نريه المحجة ، فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ ، والمخالفة في النهاية ، ليكون الإلزام أبلغ ، والإفحام أقوى. وإلا فإبراهيم الخليل عليه‌السلام لم يكن في قوله : (هذا رَبِّي) (١) مشركا ، كما لم يكن في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (٢) كاذبا. وسوق الكلام من جهة الإلزام غير سوقه على جهة الالتزام ، فلما أظهر الحجة ، وبين المحجة ، وقرر الحنيفية التي هي الملة الكبرى ، والشريعة العظمى ، وذلك هو الدين القيم.

وكان الأنبياء من أولاده كلهم يقررون الحنيفيّة ، وبالخصوص صاحب شرعنا محمد صلوات الله عليه ، كان في تقريرها قد بلغ النهاية القصوى ، وأصاب المرمى وأصمى (٣). ومن العجب أن التوحيد من أخص أركان الحنيفية ، ولهذا يقترن نفي الشرك بكل موضع ذكر الحنيفية : (حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤) ، (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)(٥).

ثم إن التثنية اختصت بالمجوس حتى أثبتوا أصلين اثنين ، مدبّرين قديمين ، يقتسمان الخير والشر ، والنفع والضر ، والصلاح والفساد ، يسمون أحدهما : النور والآخر الظلمة. وبالفارسية : يزدان ، وأهرمن ، ولهم في ذلك تفصيل مذهب.

ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين اثنتين :

إحداهما : بيان سبب امتزاج النور بالظلمة.

والثانية : بيان سبب خلاص النور من الظلمة ، وجعلوا الامتزاج مبدأ ، والخلاص معادا.

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٧٦.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٦٣.

(٣) أصمى المرء الصيد : رماه فقتله فكان مكانه وهو يراه ، وأصله من السرعة والخفة.

(٤) سورة آل عمران : الآية ٦٧.

(٥) سورة الحج : الآية ٣١.

٢٧٧

الفصل الأول

المجوس

أثبتوا أصلين كما ذكرنا ، إلا أن المجوس الأصلية زعموا أن الأصلين لا يجوز أن يكونا قديمين أزليين ، بل النور أزليّ ، والظلمة محدثة. ثم لهم اختلاف في سبب حدوثها ، أمن النور حدثت؟ والنور لا يحدث شرا جزئيا ، فكيف يحدث أصل الشر؟ أم من شيء آخر؟ ولا شيء يشرك النور في الإحداث والقدم؟ وبهذا يظهر خبط المجوس ..

وهؤلاء يقولون : المبدأ الأول من الأشخاص : كيومرث (١) ، وربما يقولون زروان الكبير ، والنبي الثاني : زردشت. والكيومرثية يقولون : كيومرث هو آدم عليه‌السلام وتفسير كيومرث هو : الحي الناطق. وقد ورد في تواريخ الهند والعجم أن كيومرث هو آدم عليه‌السلام ، ويخالفهم سائر أصحاب التواريخ.

١ ـ الكيومرثيّة

أصحاب المقدم الأول كيومرث. أثبتوا أصلين : يزدان ، وأهرمن. وقالوا : يزدان أزلي قديم ، وأهرمن محدث مخلوق. وقالوا : إن سبب خلق أهرمن أن يزدان فكر في نفسه أنه لو كان لي منازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة كانت رديئة غير مناسبة لطبيعة النور فحدث الظلام من هذه الفكرة. وسمي : أهرمن. وكان مطبوعا على الشر ، والفتنة والفساد ، والفسق والضرر والإضرار. فخرج على النور ، وخالفه طبيعة وفعلا. وجرت محاربة بين عسكر النور ، وعسكر الظلمة. ثم إن الملائكة توسطوا فصالحوا على أن يكون العالم السفلي خالصا لأهرمن سبعة آلاف سنة. ثم يخلى العالم ويسلمه إلى

__________________

(١) كيومرث ، أو جيومرت : أول من ملك العالم وكان قد سخر الله له جميع الجن والإنس وخصه من عنايته بمزيد القوة والشهامة وروعة الجلالة وبهاء المنظر وهو أول من لبس جلود السباع وكان كل يوم يحضر الجن والإنس ببابه ويصطفون صفوفا على رسم الخدمة له. ومعنى كيومرث عند الفرس ابن الطين ، والفرس كلّهم متفقون على أن كيومرث هو آدم الذي هو أول الخليفة. (الشاهنامه ١ : ١٣ وابن خلدون ١ : ٢٢٧).

٢٧٨

النور. والذين كانوا في الدنيا قبل الصلح أبادهم وأهلكهم. ثم بدأ برجل يقال له كيومرث ، وحيوان يقال له ثور فقتلهما. فنبت من مسقط ذلك الرجل ريباس ، وخرج من أصل ريباس رجل يسمى : ميشة ، وامرأة تسمى : ميشانة ؛ وهما أبوا البشر ، ونبت من مسقط الثور : الأنعام ، وسائر الحيوانات.

وزعموا أن النور خيّر الناس ، وهم أرواح بلا أجساد ، بين أن يرفعهم عن مواضع أهرمن ، وبين أن يلبسهم الأجساد فيحاربون أهرمن. فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهرمن ، على أن تكون لهم النصرة من عند النور. والظفر بجنود أهرمن ، وحسن العاقبة. وعند الظفر به وإهلاك جنوده تكون القيامة.

فذاك سبب الامتزاج وهذا سبب الخلاص.

٢ ـ الزّروانية (١)

قالوا : إن النور أبدع أشخاصا من نور كلها روحانية ؛ نورانية ، ربانية ، ولكن الشخص الأعظم الذي اسمه زروان شك في شيء من الأشياء ، فحدث أهرمن الشيطان ، يعني إبليس من ذلك الشك.

وقال بعضهم لا ، بل إن زروان الكبير قام فزمزم (٢) تسعة آلاف وتسعمائة وتسعا وتسعين سنة ليكون له ابن فلم يكن. ثم حدث نفسه وفكر ، وقال : لعل هذا العلم ليس بشيء ، فحدث أهرمن من ذلك الهم الواحد. وحدث هرمز من ذلك العلم ، فكانا جميعا في بطن واحد. وكان هرمز أقرب من باب الخروج ، فاحتال أهرمن الشيطان حتى شق بطن أمه فخرج قبله وأخذ الدنيا.

__________________

(١) في سوسنة سليمان ص ٤ ودائرة المعارف ٨ : ٥٨٠ «الرزوانية أصحاب رزوان الكبير هو الزرادشتية والثنوية أصحاب الاثنين الأزليين. ورزوان كان خصما لبني إسرائيل أيام سليمان بن داود عليه‌السلام».

(٢) زمزم الشيء : سمع صوته من بعيد وله دويّ. وزمزم العلوج تراطنوا. والزمزمة عند المجوس : التراطن عند الأكل وهم صموت لا يستعملون اللسان ولا الشفة في كلامهم لكنه صوت تديره في خياشيمها وحلوقها فيفهم بعضها عن بعض. (راجع اللسان مادة زمم).

٢٧٩

وقيل : إنه لما مثل بين يدي زروان فأبصره ورأى ما فيه من الخبث والشرارة (١) والفساد، أبغضه ولعنه وطرده ، فمضى واستولى على الدنيا. وأما هرمز فبقي زمانا لا يدله عليه ، وهو الذي اتخذه قوم ربا وعبدوه لما وجدوا فيه من الخير والطهارة والصلاح ، وحسن الأخلاق.

وزعم بعض الزروانية أنه لم يزل كان مع الله شيء رديء ، إما فكرة رديئة ، وإما عفونة رديئة ، وذلك هو مصدر الشيطان ، وزعموا أن الدنيا كانت سليمة من الشرور والآفات والفتن ، وكان أهلها في خير محض ، ونعيم خالص ، فلما حدث أهرمن حدثت الشرور والآفات والفتن والمحن. وكان بمعزل عن السماء فاحتال حتى خرق السماء وصعد.

وقال بعضهم : كان هو في السماء والأرض خالية عنه ، فاحتال حتى خرق السماء ونزل إلى الأرض بجنوده كلها فهرب النور بملائكته وأتبعه الشيطان حتى حاصره في جنته ، وحاربه ثلاثة آلاف سنة ، لا يصل الشيطان إلى الرب تعالى. ثم توسط الملائكة وتصالحا على أن يكون إبليس وجنوده في قرار الأرض تسعة آلاف سنة ، بالثلاثة آلاف التي قاتله فيها ، ثم يخرج إلى موضعه. ورأى الرب تعالى عن قولهم ، الصلاح في احتمال المكروه من إبليس وجنوده ، وأن لا ينقض الشرط حتى تنقضي المدة المضروبة للصلح. فالناس في البلايا والفتن والخزايا والمحن إلى انقضاء المدة ، ثم يعودون إلى النعيم الأول ، وشرط إبليس عليه أن يمكنه من أشياء يفعلها ويطلقه في أفعال رديئة يباشرها. فلما فرغا من الشرط أشهد عليهما عدلين ، ورفعا سيفيهما إليهما وقالا لهما : من نكث فاقتلاه بهذا السيف.

ولست أظن عاقلا يعتقد هذا الرأي القائل ، ويرى هذا الاعتقاد المضمحل الباطل. ولعله كان رمزا إلى ما يتصوره في العقل. ومن عرف الله سبحانه وتعالى بجلاله وكبريائه ، لم يسمح بهذه الترهات عقله ولم يسمع مثل هذه الترهات سمعه.

__________________

(١) أي الاتصاف بالشرّ.

٢٨٠