الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

وأما المجتهدون في الفروع فاختلفوا في الأحكام الشرعية من الحلال والحرام ، ومواقع الاختلاف مظانّ غلبات الظنون ، بحيث تصويب كل مجتهد فيها ، وإنما يبتني ذلك على أصل ، وهو أنا نبحث : هل لله تعالى حكم في كل حادثة أم لا؟.

فمن الأصوليين من صار إلى أن لا حكم لله تعالى في الوقائع المجتهد فيها حكما بعينه قبل الاجتهاد ، من جواز وحظر ، وحلال وحرام. وإنما حكمه تعالى ما أدى إليه اجتهاد المجتهد وأن هذا الحكم منوط بهذا السبب. فما لم يوجد السبب لم يثبت الحكم ؛ خصوصا على مذهب من قال : إن الجواز والحظر لا يرجعان إلى صفات في الذات ، وإنما هي راجعة إلى أقوال الشارع : افعل ، لا تفعل. وعلى هذا المذهب كل مجتهد مصيب في الحكم.

ومن الأصوليين من صار إلى أن الله تعالى في كل حادثة حكما بعينه ، قبل الاجتهاد من جواز وحظر ، بل وفي كل حركة يتحرك بها الإنسان حكم تكليف من تحليل وتحريم ، وإنما يرتاده المجتهد بالطلب والاجتهاد ، إذ الطلب لا بد له من مطلوب. والاجتهاد يجب أن يكون من شيء إلى شيء ، فالطلب المرسل لا يعقل ولهذا يتردد المجتهد بين النصوص والظواهر والعمومات ، وبين المسائل المجمع عليها ، فيطلب الرابطة المعنوية ، أو التقريب من حيث الأحكام والصور ، حتى يثبت في المجتهد فيه مثل ما يلفيه في المتفق عليه ، ولو لم يكن له مطلوب معين : كيف يصح منه الطلب على هذا الوجه؟ فعلى هذا المذهب : المصيب واحد من المجتهدين في الحكم المطلوب ، وإن كان الثاني معذورا نوع عذر إذ لم يقصر في الاجتهاد.

ثم : هل يتعين المصيب ، أم لا؟ فأكثرهم على أنه لا يتعين ، فالمصيب واحد لا بعينه. ومن الأصوليين من فصل الأمر فيه فقال : ينظر في المجتهد فيه ، فإن كانت مخالفة النص ظاهرة في واحد من المجتهدين ، فهو المخطئ بعينه خطأ لا يبلغ تضليلا. والمتمسك بالخبر الصحيح والنص الظاهر مصيب بعينه ، وإن لم تكن مخالفة النص ظاهرة فلم يكن مخطئا بعينه ، بل كل واحد منهما مصيب في اجتهاده ، وأحدهما مصيب في الحكم لا بعينه.

٢٤١

هذه جملة كافية في أحكام المجتهدين في نوعي : الأصول والفروع. والمسألة مشكلة والقضية معضلة.

٢ ـ حكم الاجتهاد والتقليد ، والمجتهد والمقلد

ثم الاجتهاد من فروض الكفايات ، لا من فروض الأعيان ، إذا اشتغل بتحصيله واحد سقط الفرض عن الجميع ، وإن قصر فيه أهل عصر عصوا بتركه ، وأشرفوا على خطر عظيم. فإن الأحكام الشرعية الاجتهادية إذا كانت مترتبة على الاجتهاد ، ترتب المسبب على السبب ، ولم يوجد السبب : كانت الأحكام عاطلة ، والآراء كلها قائلة ، فلا بد إذن من مجتهد.

وإذا اجتهد المجتهدان ، وأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر ، فلا يجوز لأحدهما تقليد الآخر ، وكذلك إذا اجتهد مجتهد واحد في حادثة ، وأدى اجتهاده إلى جواز أو حظر ، ثم حدثت تلك الحادثة بعينه في وقت آخر ، فلا يجوز له أن يأخذ باجتهاده الأول ، إذ يجوز أن يبدو له في الاجتهاد الثاني ما أغفله في الاجتهاد الأول.

وأما العامي فيجب عليه تقليد المجتهد ، وإنما مذهبه فيما يسأله : مذهب من يسأله عنه ، هذا هو الأصل. إلا أن علماء الفريقين لم يجوزوا أن يأخذ العامي الحنفي إلا بمذهب أبي حنيفة والعامي الشافعي إلا بمذهب الشافعي ، لأن الحكم بأن لا مذهب للعامي ، وأن مذهبه مذهب المفتي ، يؤدي إلى خلط وخبط ، فلهذا لم يجوزوا ذلك.

وإذا كان مجتهدان في بلد : اجتهد العامي فيهما حتى يختار الأفضل والأورع ويأخذ بفتواه. وإذا أفتى المفتي على مذهبه ، وحكم به قاض من القضاة على مقتضى فتواه ، ثبت الحكم على المذاهب كلها. وكان القضاء إذا اتصل بالفتوى ألزم الحكم كالقبض مثلا إذا اتصل بالعقد. ثم العامي بأي شيء يعرف أن المجتهد قد وصل إلى حد الاجتهاد؟ وكذلك المجتهد نفسه متى يعرف أنه قد استكمل شرائط الاجتهاد؟ ففيه نظر.

* * *

٢٤٢

ومن أصحاب الظاهر مثل داود الأصفهاني وغيره من لم يجوّز القياس والاجتهاد في الأحكام. وقال : الأصول هي : الكتاب والسنّة والإجماع فقط ، ومنع أن يكون القياس أصلا من الأصول. وقال : إن أول من قاس إبليس ، وظن أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنّة. ولم يدر أنه طلب حكم الشرع من مناهج الشرع ، ولم تنضبط قط شريعة من الشرائع إلا باقتران الاجتهاد بها ؛ لأن من ضرورة الانتشار في العالم الحكم بأن الاجتهاد معتبر. وقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم : كيف اجتهدوا وكم قاسوا خصوصا في مسائل المواريث من توريث الإخوة مع الجد وكيفية توريث الكلالة (١) ؛ وذلك مما لا يخفى على المتدبر لأحوالهم.

٣ ـ أصناف المجتهدين

ثم المجتهدون من أئمة الأمة محصورون في صنفين ، لا يعدوان إلى ثالث.

أصحاب الحديث ، وأصحاب الرأي :

* أصحاب الحديث : وهم أهل الحجاز ، هم أصحاب مالك بن أنس ، وأصحاب محمد (٢) بن إدريس الشافعي ، وأصحاب سفيان الثوري ، وأصحاب أحمد بن حنبل ، وأصحاب داود بن علي بن محمد الأصفهاني ، وإنما سموا أصحاب الحديث لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص ، ولا يرجعون إلى القياس الجليّ والخفيّ ما وجدوا خبرا أو أثرا.

__________________

(١) الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة. وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكلالة فقال : من مات وليس له ولد ولا والد.

وعند ما سئل أبو بكر عن الكلالة قال : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.

وقد اجتهد بعض الصحابة فورثوا الأخوة لأم واعتبروهم من الكلالة.

(٢) هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي القرشي أبو عبد الله كان كثير المناقب جمّ المفاخر. نشأ بمكة وقرأ في بغداد وخرج إلى مصر سنة ١٩٨ ه‍ ولم يزل بها إلى أن توفي في رجب سنة ٢٠٤ ه‍.

(ابن خلكان ص ٥٦٥).

٢٤٣

قال الشافعي : إذا وقد وجدتم لي مذهبا ، ووجدتم خبرا على خلاف مذهبي ، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر. ومن أصحابه : أبو إبراهيم إسماعيل (١) بن يحيى المزني ، والربيع (٢) بن سليمان الجيزي ، وحرملة (٣) بن يحيى النجيبي ، والربيع (٤) بن سليمان المرادي ، وأبو عقوب البويطي (٥) ، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني (٦) ، ومحمد بن عبد الله (٧) بن عبد الحكم المصري ، وأبو ثور (٨)

__________________

(١) إسماعيل بن يحيى المزني ، أبو إبراهيم : من أهل مصر. كان زاهدا عالما مجتهدا محجاجا. وهو إمام الشافعيين وأعرفهم بطرقه وفتاويه. صنف كتبا كثيرة في مذهب الإمام الشافعي منها الجامع الكبير. ثقة في الحديث. توفي سنة ٢٦٤ ه‍. (ابن خلكان ص ٨٨).

(٢) الربيع بن سليمان الأزدي بالولاء المصري الجيزي ، أبو محمد صاحب الإمام الشافعي ، كان قليل الرواية عنه. روى عن عبد الله بن الحكم كثيرا وكان ثقة. توفي سنة ٢٥٦ ه‍. (ابن خلكان ص ٢٣٠).

(٣) حرملة بن يحيى التجيبي الزميلي المصري ، أبو عبد الله : كان أكثر أصحاب الشافعي اختلافا إليه واقتباسا منه وكان حافظا للحديث وصنف المبسوط والمختصر وروى عنه مسلم فأكثر في صحيحه من ذكره توفي بمصر سنة ٢٤٣ ه‍. (ابن خلكان ص ٥٩).

(٤) الربيع بن سليمان المرادي بالولاء المؤذن المصري أبو محمد : وهو الذي روى أكثر كتب الشافعي وكان آخر من روى عنه بمصر. توفي سنة ٢٧٠ ه‍. (ابن خلكان ص ٢٢٩).

(٥) هو يوسف بن يحيى المصري البويطي أبو يعقوب ، صاحب الشافعي وكان واسطة عقد جماعته وأظهرهم نجابة. أريد على القول بخلق القرآن في أيام الواثق بالله فامتنع من الإجابة إلى ذلك فحبس ببغداد ولم يزل في السجن والقيد حتى مات. كان صالحا متنسكا. توفي سنة ٢٣١ ه‍. (ابن خلكان ٢ : ٤٥٧).

(٦) الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، أبو علي ، برع في الفقه والحديث وصنف فيهما كتبا. لزم الشافعي حتى تبحّر. وهو أحد رواة الأقوال القديمة عن الشافعي ورواتها أربعة : هو وأبو ثور وأحمد بن حنبل والكرابيسي ورواة الأقوال الجديدة ستة : المزني والربيع الجيري ، والربيع المرادي ، والبويطي ، وحرملة ، ويونس بن عبد الأعلى. توفي الزعفراني سنة ٢٦٠ ه‍. (ابن خلكان ١ : ١٦١).

(٧) محمد بن عبد الله بن الحكم المصري ، أبو عبد الله : سمع من ابن وهب وأشهب المالكيين ، فلما قدم الشافعي مصر صحبه وتفقه به وحمل في المحنة إلى بغداد فلم يجب إلى ما طلب منه فردّ إلى مصر حيث انتهت إليه الرئاسة توفي سنة ٢٦٨ ه‍ ودفن بجانب قبر الشافعي. (ابن خلكان ١ : ٥٧٨).

(٨) إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي الفقيه البغدادي. كان أحد الفقهاء الأعلام والثقات المأمونين في الدين. كان يتفقه أولا بالرأي حتى قدم الشافعي ببغداد فاختلف إليه ورجع عن مذهبه. قال الحاكم : كان فقيه أهل بغداد ومفتيهم في عصره. توفي سنة ٢٤٠ ه‍. (ابن خلكان ١ : ٣ وتهذيب التهذيب ١ : ١١٨).

٢٤٤

إبراهيم بن خالد الكلبي. وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهادا ، بل يتصرفون فيما نقل عنه ، توجيها ، واستنباطا ، ويصدرون عن رأيه جملة ، فلا يخالفونه البتة.

* أصحاب الرأي : وهم أهل العراق ؛ هم أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت. ومن أصحابه : محمد (١) بن الحسن ، وأبو يوسف (٢) يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي ، وزفر (٣) بن الهذيل ، والحسن بن زياد اللؤلؤي (٤) ، وابن سماعة (٥) ، وعافية (٦) القاضي ، وأبو مطيع البلخي (٧) ، وبشر المريسي.

__________________

(١) محمد بن الحسن الشيباني ، بالولاء ، أبو عبد الله ، الفقيه ولد بواسط ونشأ بالكوفة. حضر مجلس أبي حنيفة سنين ، ثم تفقه على أبي يوسف وصنف الكتب الكثيرة النادرة منها الجامع الكبير ، وله في مصنفاته المسائل المشكلة. ولّاه الرشيد الرقة مات سنة ١٨٩ ه‍. وقيل إن محمد بن الحسن والكسائي ماتا في يوم واحد فقال الرشيد : دفنت الفقه والعربية بالري. (ابن خلكان ١ : ٥٧٤).

(٢) القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري. كان فقيها عالما وقد جالس أبا حنيفة. وخالفه في مواضع كثيرة. سكن بغداد وتولى القضاء بها لثلاثة من الخلفاء : المهدي وابنه الهادي ، ثم هارون الرشيد ، وكان الرشيد يكرمه ويجلّه. بث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض. توفي سنة ١٨٢ ه‍. (ابن خلكان ٢ : ٤٠٠).

(٣) زفر بن الهذيل العنبري البصري ، الفقيه الحنفي جمع بين العلم والعبادة وكان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي. صاحب أبي حنيفة وكان ثقة في الحديث. توفي بالبصرة سنة ١٥٨ ه‍. (ابن خلكان ١ : ٢٥٧ والجواهر المضية ١ : ٢٤٣).

(٤) الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي. صاحب أبي حنيفة. كان محبا للسنّة وأتباعها ، وكان يختلف إلى زفر وأبي يوسف في الفقه. قال السرخسي : الحسن بن زياد مقدم في السؤال والتفريغ. توفي سنة ٢٠٤ ه‍. (الجواهر المضية ١ : ١٩٤).

(٥) محمد بن سماعة التميمي الكوفي القاضي أبو عبد الله ، تفقه على أبي يوسف وروى عن الليث بن سعد وله مصنفات واختيارات في المذهب وهو من الحفاظ الثقات كتب النوادر وروى الكتب والأمالي وولي القضاء ببغداد للمأمون. توفي سنة ٢٣٠ ه‍. (تهذيب التهذيب ٩ : ٢٠٤).

(٦) عافية بن يزيد بن قيس الأودي. ولاه المهدي القضاء ببغداد وكان من أصحاب أبي حنيفة الذين يذاكرونه وكانوا يخوضون في المسائل فإن لم يحضر عافية قال أبو حنيفة لا ترفعوا المسألة حتى يحضر عافية فإن حضر ووافقهم أثبتوها وإن لم يوافقهم قال أبو حنيفة لا تثبتوها. ولي القضاء للرشيد. (تاريخ بغداد ١٢ : ٣٠٧).

(٧) أبو مطيع البلخي الحكم بن عبد الله بن مسلمة صاحب الإمام والقاضي الفقيه. روي كتاب الفقه الأكبر عن الإمام أبي حنيفة. كان ابن المبارك يعظّمه. وكان قاضيا ببلخ. مات سنة ١٩٧ ه‍. (الجواهر المضية ٢ : ٢٦٥).

٢٤٥

وإنما سموا أصحاب الرأي ، لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس ، والمعنى المستنبط من الأحكام ، وبناء الحوادث عليها ، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو حنيفة : علمنا هذا رأي أحسن ما قدرنا عليه ، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ، ولنا ما رأينا.

وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهادا ، ويخالفونه في الحكم الاجتهادي والمسائل التي خالفوه فيها معروفة.

تفرقة وتذكرة :

اعلم أن بين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع ، ولهم فيها تصانيف ، وعليها مناظرات ، وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون ، حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين ، وليس يلزم من ذلك تكفير ، ولا تضليل ، بل كل مجتهد مصيب كما ذكرنا قبل هذا.

٢٤٦

الباب الثاني

أهل الكتاب

الخارجون عن الملة الحنيفيّة والشريعة الإسلامية ممن يقول بشريعة وأحكام ، وحدود وأعلام. وهم قد انقسموا :

إلى من له كتاب محقق مثل التوراة والإنجيل ، وعن هذا يخاطبهم التنزيل بأهل الكتاب.

وإلى من له شبهة كتاب مثل المجوس والمانوية (١). فإن الصحف التي أنزلت على إبراهيم عليه‌السلام قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثها المجوس ، ولهذا يجوز عقد العهد والذمام معهم ، وينحى بهم نحو اليهود والنصارى ، إذ هم من أهل الكتاب ، ولكن لا يجوز مناكحتهم ، ولا أكل ذبائحهم ، فإن الكتاب قد رفع عنهم.

فنحن نقدم ذكر أهل الكتاب ، لتقدمهم بالكتاب ، ونؤخر ذكر من له شبهة كتاب.

أهل الكتاب والأمّيّون :

الفرقتان المتقابلتان قبل المبعث هم أهل الكتاب والأميون ، والأمي من لا يعرف الكتابة. وكانت اليهود والنصارى بالمدينة ، والأميون بمكة.

وأهل الكتاب كانوا ينصرون دين الأسباط (٢) ، ويذهبون مذهب بني إسرائيل ،

__________________

(١) هم أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور وذلك بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام. وسيأتي الكلام على المانوية في موضعه.

(٢) السّبط من اليهود : كالقبيلة من العرب ، وهم الذين يرجعون إلى أب واحد ، سمي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق وجمعه أسباط .. قال الزجاج : والصحيح أن الأسباط في ولد إسحاق بن ـ

٢٤٧

والأميون كانوا ينصرون دين القبائل ، ويذهبون مذهب بني إسماعيل ، ولما انشعب النور الوارد من آدم عليه‌السلام إلى إبراهيم عليه‌السلام ، ثم الصادر عنه إلى شعبتين : شعبة في بني إسرائيل (١) ، وشعبة في بني إسماعيل ، وكان النور المنحدر منه إلى بني إسرائيل ظاهرا ، والنور المنحدر منه إلى بني إسماعيل مخفيا ؛ كان يستدل على النور الظاهر بظهور الأشخاص وإظهار النبوة في شخص شخص. ويستدل على النور المخفي بإبانة المناسك والعلامات ، وستر الحال في الأشخاص.

وقبلة الفرقة الأولى : بيت المقدس. وقبلة الفرقة الثانية : بيت الله الحرام الذي وضع للناس ببكة (٢) مباركا وهدى للعالمين. وشريعة الأولى : ظواهر الأحكام. وشريعة الثانية : رعاية المشاعر الحرام. وخصماء الفريق الأول : الكافرون مثل فرعون وهامان. وخصماء الفريق الثاني : المشركون مثل عبدة الأصنام والأوثان. فتقابل الفريقان وضح التقسيم بهذه التقابلين.

اليهود والنصارى

وهاتان الأمتان من كبار أمم أهل الكتاب ، والأمة اليهودية أكبر لأن الشريعة كانت لموسى عليه‌السلام ، وجميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بذلك ، مكلفين بالتزام أحكام التوراة.

__________________

ـ إبراهيم بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل عليهم‌السلام ، فولد كل ولد من ولد إسماعيل قبيلة ، وولد كل ولد من لد إسحاق سبط ، وإنما سمي هؤلاء بالأسباط وهؤلاء بالقبائل ليفصل بين ولد إسماعيل وولد إسحاق عليهما‌السلام. (راجع اللسان مادة سبط).

وفي مجمع البيان ١ : ٢١٧. «الأسباط واحدهم سبط وهم أولاد إسرائيل ، وهو يعقوب بن إسحاق وهم اثنا عشر سبطا من اثني عشر ابنا».

(١) إسرائيل ، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام وليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلّا نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. قال الخليل خمسة من الأنبياء ذوو اسمين محمد وأحمد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيسى والمسيح ، وإسرائيل ويعقوب ، ويونس وذو النون ، واليأس وذو الكفل صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإسرائيل اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف وفيه لغات ومعنى إسرائيل عبد الله. قال ابن عباس : أسر بالعبرانية هو عبد وائل هو الله .. (راجع القرطبي ١ : ٢٨١).

(٢) بكّة : مكّة ، سميت بذلك لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ، وقيل : لأن الناس يتباكّون فيها من كل وجه أي يتزاحمون. (اللسان مادة بكك).

٢٤٨

والإنجيل النازل على المسيح عليه‌السلام لا يتضمن أحكاما ، ولا يستبطن حلالا ولا حراما ، ولكنه رموز وأمثال ، ومواعظ ومزاجر ، وما سواها من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة كما سنبين. فكانت اليهود لهذه القضية لم ينقادوا لعيسى ابن مريم عليه‌السلام ، وادعوا عليه أنه كان مأمورا بمتابعة موسى عليه‌السلام ، وموافقة التوراة ، فغير وبدل. وعدّوا عليه تلك التغييرات ، منها : تغيير السبت إلى الأحد. ومنها تغيير أكل لحم الخنزير ، وكان حراما في التوراة. ومنها : الختان والغسل ، وغير ذلك.

والمسلمون قد بينوا أن الأمتين قد أبدلوا وحرفوا ، وإلا فعيسى عليه‌السلام كان مقررا لما جاء به موسى عليه‌السلام ، وكلاهما مبشران (١) بمقدم نبينا محمد نبي الرحمة صلوات الله عليهم أجمعين. وقد أمرهم أئمتهم وأنبياؤهم وكتابهم بذلك. وإنما بنى أسلافهم الحصون والقلاع بقرب المدينة لنصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي آخر الزمان. فأمروهم بمهاجرة أوطانهم بالشام إلى تلك القلاع والبقاع ، حتى إذا ظهر وأعلن الحق بفاران (٢) ، وهاجر إلى دار هجرته يثرب هجروه وتركوا نصره (٣). وذلك قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا* فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ

__________________

(١) في كتابه «مخطوطات البحر الميت» ص ١ يقول القس أ. باول ديفز رئيس كنيسة كل القديسين في واشنطن : «إن مخطوطات البحر الميت ـ وهي أعظم الاكتشافات منذ قرون عديدة ـ قد تغيّر الفهم التقليدي للإنجيل» وجاء في هذه المخطوطات ما يلي : «إن عيسى كان مسيا المسيحيين وأن هناك مسيا آخر» وكلمة مسيا آرامية وتعني رسول». [ويعني بقوله مسيا آخر : النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم].

(٢) فاران : بعد الألف راء ، وآخره نون. كلمة عبرانية معربة : وهي من أسماء مكة ذكرها في التوراة. وقيل : هو اسم لجبال مكة. وفي التوراة : جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران ، مجيئه من سيناء تكليمه لموسى عليه‌السلام ، وإشراقه من ساعير وهي جبال فلسطين ، هو إنزاله الإنجيل على عيسى عليه‌السلام. واستعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : وفاران : جبال مكة. (راجع معجم البلدان ٤ : ٢٢٥).

(٣) قال ابن عباس : «كانت اليهود يستفتحون ، أي يستنصرون على الأوس والخزرج قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب ولم يكن من بني إسرائيل كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ وابن البراء : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتصفونه وتذكرون أنه مبعوث فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما بالذي ـ

٢٤٩

فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

وإنما الخلاف بين اليهود والنصارى ما كان يرتفع إلا بحكمه ، إذ كانت اليهود تقول : (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) (٢) وكانت النصارى تقول : (لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) (٣) وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لهم : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤) وما كان يمكنهم إقامتها إلا بإقامة القرآن الحكيم ، وبحكم نبي الرحمة رسول آخر الزمان. فلما أبوا ذلك وكفروا بآيات الله (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) (٥) الآية.

الفصل الأول

اليهود خاصّة

هاد الرجل : أي رجع وتاب. وإنما لزمهم هذا الاسم لقول موسى عليه‌السلام : ـ إنا هدنا إليك ـ أي رجعنا وتضرعنا.

وهم أمة موسى عليه‌السلام ، وكتابهم التوراة ؛ وهو أول كتاب نزل من السماء ؛ أعنى أن ما كان ينزل على إبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم‌السلام ما كان يسمى كتابا ؛ بل صحفا. وقد ورد الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله تعالى خلق آدم بيده ، وخلق جنّة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده» فأثبت لها اختصاصا آخر سوى سائر الكتب.

__________________

ـ كنا نذكر لكم. فأنزل الله هذه الآية : إذ أن اليهود من بني إسرائيل وقد جاءهم القرآن الذي أنزل على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصدق لما معهم مما أنزله الله قبله من التوراة والإنجيل وغيرهما. وقد كانوا قبل بعثة رسوله ونزول كتابه يستنصرون برسوله ويقولون في حروبهم اللهمّ افتح علينا وانصرنا بحق النبي الأمي اللهمّ انصرنا بحق النبي المبعوث إلينا ويقولون لمن نابذهم هذا نبي الله قد أطل زمانه ينصرنا عليكم ، غير أنهم ما لبثوا أن كفروا به حسدا وبغيا وطلبا للرئاسة. (مجمع البيان ١ : ١٥٨).

(١) سورة البقرة : الآية ٨٩.

(٢) سورة البقرة : الآية ١١٣.

(٣) سورة البقرة : الآية ١١٣.

(٤) سورة البقرة : الآية ٦٨.

(٥) سورة البقرة : الآية ٦١.

٢٥٠

وقد اشتمل ذلك على أسفار. فيذكر مبتدأ الخلق في السفر الأول. ثم يذكر الأحكام والحدود ، والأحوال والقصص ، والمواعظ والأذكار في سفر سفر.

وأنزل عليه أيضا الألواح على شبه مختصر ما في التوراة ؛ تشتمل على الأقسام العلمية والعملية. قال الله تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) (١) إشارة إلى تمام القسم العلمي (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) إشارة إلى تمام القسم العملي.

قالوا : وكان موسى عليه‌السلام قد أفضى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع بن نون وصيه وفتاه القائم بالأمر من بعده ليفضي بها إلى أولاد هارون ، لأن الأمر كان مشتركا بينه وبين أخيه هارون عليهما‌السلام. إذ قال تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام في دعائه حين أوحى إليه أولا : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣) وكان هو الوصي. فلما مات هارون في حال حياة موسى انتقلت الوصية إلى يوشع (٤) بن نون وديعة ليوصلها إلى شبير وشبر (٥) ابني هارون قرارا. وذلك أن الوصية والإمامة بعضها مستقر ، وبعضها مستودع.

واليهود تدعي أن الشريعة لا تكون إلا واحدة. وهي ابتدأت بموسى عليه‌السلام وتمت به. فلم تكن قبله شريعة إلا حدود عقلية ، وأحكام مصلحية.

ولم يجيزوا النسخ أصلا. قالوا : فلا يكون بعده شريعة أصلا ؛ لأن النسخ في الأوامر بداء ، ولا يجوز البداء على الله تعالى.

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٤٥.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٣٢.

(٣) سورة طه : الآية ٣٢. وأشركه في أمري : في النبوة وتبليغ الرسالة. (راجع القرطبي ١١ : ١٩٤ ومجمع البيان ٤ : ٩).

(٤) يوشع بن نون : من أنبياء بني إسرائيل بعثه الله نبيا فدعا بني إسرائيل وأخبرهم أنه نبي وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وخرج في الناس يقاتل الجبارين وهزمهم. (الطبري ١ : ٢٢٧).

(٥) قال ابن خالويه : شبر وشبير ومشبر هم أولاد هارون عليه‌السلام ومعناها بالعربية حسن وحسين ومحسن. وفي مسند أحمد مرفوعا : إني سميّت ابني باسم ابني هارون ، شبر وشبير.

٢٥١

ومسائلهم تدور على جواز النسخ ومنعه. وعلى التشبيه ونفيه ، والقول بالقدر ، والجبر وتجويز الرجعة ، واستحالتها.

أما النسخ فكما ذكرنا.

وأما التشبيه فلأنهم وجدوا التوراة ملئت من المتشابهات مثل الصورة ، والمشافهة ؛ والتكليم جهرا ، والنزول على طور سينا انتقالا ، والاستواء على العرش استقرارا ، وجواز الرؤية فوقا وغير ذلك.

وأما القول بالقدر فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام. فالربانيون (١) منهم كالمعتزلة فينا ، والقراءون (٢) كالمجبرة والمشبهة.

وأما جواز الرجعة فإنما وقع لهم من أمرين : أحدهما : حديث عزير عليه‌السلام إذ أماته الله مائة عام ثم بعثه. والثاني : حديث هارون عليه‌السلام ، إذ مات في التيه. وقد نسبوا موسى إلى قتله (٣) بألواحه ، قالوا : حسده ، لأن اليهود كانوا أميل (٤) إليه منهم

__________________

(١) الربانيون ويقال لهم بنو مشتو ومعنى مشتو (الثاني) لأنهم يعتبرون أمر البيت الذي بني ثانيا بعد عودهم من الجلاية وخرّبه طيطش ، وينزلونه في الاحترام والإكرام والتعظيم منزلة البيت الأول الذي ابتدأ عمارته داود وأتمّه ابنه سليمان عليهما‌السلام وخرّبه بختنصر فصار كأنه يقول لهم أصحاب الدعوة الثانية. وهذه الفرقة بعيدة عن العمل بالنصوص الإلهية ، ومن مذهبهم القول بما في التوراة على معنى ما فسّره الحكماء من أسلافهم. (راجع المقريزي ٤ : ٣٦٨).

(٢) القراءون ، وهم بنو مقرا. ومعنى مقرا : الدعوة وهم لا يعولون على البيت الثاني جملة ودعوتهم إنما هي لما كان عليه العمل مدة البيت الأول وكاد يقال لهم أصحاب الدعوة الأولى ، وهم يحكمون نصوص التوراة ولا يلتفتون إلى قول من خالفها ويقفون مع النص دون تقليد من سلف وهم مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون ولا يتجاورون ولا يدخل بعضهم كنيسة بعض. ويقال للقراءين أيضا المبادية لأنهم كانوا يعملون مبادي الشهور من الاجتماع الكائن بين الشمس والقمر ويقال لها أيضا الأسمعيّة ، لأنهم يراعون العمل بنصوص التوراة دون العمل بالقياس والتقليد. (راجع المقريزي ٤ : ٣٦٩).

(٣) في المعجم ٦ : ٧٠ والتأويل ٢ : ٤٨ : «أصعد هارون إلى جبل عال مشرف ، في قبلي البيت المقدس مع أخيه موسى عليهما‌السلام فلم يعد فاتهمت بنو إسرائيل موسى بقتله ، فدعا الله حتى أراهم تابوته بين الفضاء على رأس ذلك الجبل ثم غاب عنهم كذا يقول اليهود فسمي الجبل طور هارون لذلك ...».

(٤) كان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان لين الغضب. (القرطبي ٧ : ٢٨٩).

٢٥٢

إلى موسى. واختلفوا في حال موته ، فمنهم من قال إنه مات وسيرجع ، ومنهم من قال : غاب وسيرجع.

واعلم أن التوراة قد اشتملت بأسرها على دلالات وآيات تدل على كون شريعة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام حقا ، وكون صاحب الشريعة صادقا ، بل ما حرفوه وغيروه وبدلوه. إما تحريفا من حيث الكتابة والصورة. وإما تحريفا من حيث التفسير والتأويل.

وأظهرها ذكر إبراهيم عليه‌السلام وابنه إسماعيل ودعاؤه في حقه ، وفي حق ذريته. وإجابة الرب تعالى إياه ، إني باركت على إسماعيل وأولاده ، وجعلت فيهم الخير كله ، وسأظهرهم على الأمم كلها ، وسأبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتي.

واليهود معترفون بهذه القضية ، إلا أنهم يقولون : أجابه بالملك دون النبوة والرسالة.

وقد ألزمتهم أن الملك الذي سلمتم أهو ملك بعدل وحق أم لا؟ فإن لم يكن بعدل وحق ، فكيف يمنّ على إبراهيم عليه‌السلام بملك في أولاده وهو جور وظلم؟ وإن سلمتم العدل والصدق من حيث الملك ، فالملك يجب أن يكون صادقا على الله تعالى فيما يدعيه ويقوله ، وكيف يكون الكاذب على الله تعالى صاحب عدل وحق؟ إذ لا ظلم أشد من الكذب على الله تعالى. ففي تكذيبه تجويره ، وفي التجوير رفع المنّة بالنعمة ، وذلك خلف.

ومن العجب أن في التوراة : أن الأسباط (١) من بني إسرائيل كانوا يراجعون القبائل من بني إسماعيل ، ويعلمون أن في ذلك الشعب علما لدنيا لم تشتمل التوراة عليه. وورد في التواريخ أن أولاد إسماعيل عليه‌السلام كانوا يسمون آل الله ، وأهل الله ، وأولاد إسرائيل : آل يعقوب ، وآل موسى ، وآل هارون. وذلك كسر (٢) عظيم.

__________________

(١) هم ولد يعقوب عليه‌السلام. وهم اثنا عشر ولدا كما ذكرنا. (راجع القرطبي ٢ : ١٢٩ ومجمع البيان ١ : ٢١٧).

(٢) كسر عظيم : أي إثم عظيم.

٢٥٣

وقد ورد في التوراة أن الله تعالى جاء من طور سيناء (١) ، وظهر بساعير (٢) ، وعلن بفاران (٣). وساعير جبال بيت المقدس التي كانت مظهر عيسى عليه‌السلام. وفاران : جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما كانت الأسرار الإلهية ، والأنوار الربانية في الوحي والتنزيل والمناجاة ، والتأويل على مراتب ثلاث : مبدأ ، ووسط ، وكمال. والمجيء أشبه بالمبدإ ، والظهور أشبه بالوسط ، والإعلان أشبه بالكمال ، عبرت التوراة عن طلوع صبح الشريعة والتنزيل : بالمجيء من طور سيناء. وعن طلوع الشمس بالظهور على ساعير. وعن البلوغ إلى درجة الكمال بالاستواء والإعلان على فاران ، وفي هذه الكلمات : إثبات نبوة المسيح عليه‌السلام ، والمصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد قال المسيح في الإنجيل : ما جئت لأبطل التوراة ، بل جئت لأكملها. قال صاحب التوراة : النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص. وأنا أقول : «إذا لطمك أخوك على خدك الأيمن فضع له خدك الأيسر».

والشريعة الأخيرة وردت بالأمرين جميعا. أما القصاص ففي قوله تعالى : (كُتِبَ) (٤) عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى (٥) وأما العفو ففي قوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٦).

__________________

(١) سينا : بكسر أوله ويفتح : اسم موضع بالشام يضاف إليه الطور فيقال طور سيناء وهو الجبل الذي كلّم الله تعالى عليه موسى بن عمران عليه‌السلام ونودي فيه وهو كثير الشجر. (معجم البلدان ٣ : ٣٠٠).

(٢) ساعير : في التوراة اسم لجبال فلسطين. وفي التوراة : أشرق من ساعير إشارة إلى ظهور عيسى واستعلن من جبال فاران وهي جبال الحجاز يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (معجم البلدان ٣ : ١٧١).

(٣) تقدّم تحديدها قبل قليل وهي كلمة عبرية معربة. من أسماء مكة وقيل : اسم لجبال مكة.

(٤) كتب عليكم القصاص في القتلى. نزلت في حيّين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهلية فكانت بينهم قتلى وحروب ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام. وقيل نزلت في الأوس والخزرج. (راجع لباب التأويل ١ : ١٢٤ ومجمع البيان ١ : ٢٦٥).

(٥) سورة البقرة : الآية ١٧٨.

(٦) سورة البقرة : الآية ٢٣٧.

٢٥٤

ففي أحكام التوراة : أحكام السياسة الظاهرة العامة. وفي الإنجيل : أحكام السياسة الباطنة الخاصة. وفي القرآن أحكام السياستين جميعا (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) إشارة إلى تحقيق السياسة الظاهرة. وقوله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، وقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (٢) إشارة إلى تحقيق السياسة الباطنة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : «هو أن تعفو عمّن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك».

ومن العجب أن من رأى غيره بصدق ما عنده ويكمله ويرقيه من درجة إلى درجة ، كيف يسوغ له تكذيبه؟.

النسخ في الحقيقة ليس إبطالا ، بل هو تكميل :

وفي التوراة أحكام عامة ، وأحكام خاصة ، إما بأشخاص ، وإما بأزمان وإذا انتهى الزمان لم يبق ذلك لا محالة ، ولا يقال إنه إبطال أو بداء. كذلك هاهنا.

وأما السبت فلو أن اليهود عرفوا ، لم ورد التكليف بملازمة السبت ، وهو يوم أي شخص من الأشخاص؟ وفي مقابلة أية حالة من الأحوال؟ وجزئي أي زمان؟ عرفوا أن الشريعة الأخيرة حق ، وأنها جاءت لتقرير السبت ، لا لإبطاله ، وهم الذين عدوا في السبت حتى مسخوا قردة خاسئين (٣). وهم يعترفون بذلك ، وبأن موسى عليه‌السلام بنى بيتا وصور فيه صورا وأشخاصا ، وبين مراتب الصور ، وأشار إلى تلك الرموز ولكن

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٧٩.

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٩٩.

(٣) خاسئين : في مجمع البيان ١ : ١٢٩ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ). يخاطب اليهود بأن قد عرفتم الذين اعتدوا منكم في السبت جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت. وكانت الحيتان تجتمع في يوم السبت لأمنها فحبسوها فظلموا وتجاوزوا ما حدّ لهم لأن صيدها حبسها ثم أخذوا بصيده فيه فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت فلما أتوا ما نهوا عنه واستحلّوه مسخهم الله تعالى عقوبة لهم قردة وخنازير».

٢٥٥

لما فقدوا الباب ، باب حطة (١) ؛ ولم يمكنهم التسور على سنن اللصوص ، تحيروا تائهين ، وتاهوا متحرين ، فاختلفوا على إحدى وسبعين فرقة.

ونحن نذكر منها أشهرها وأظهرها عندهم ، ونترك الباقي هملا ، والله الموفق.

١ ـ العنانية

نسبوا إلى رجل يقال له عنان (٢) بن داود ، رأس الجالوت يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد ، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد ، ويذبحون الحيوان على القفا ، ويصدقون عيسى عليه‌السلام في مواعظه وإشاراته. ويقولون إنه لم يخالف التوراة البتة ، بل قررها ، ودعا الناس إليها. وهو من بني إسرائيل المتعبدين بالتوراة ومن المستجيبين لموسىعليه‌السلام ، إلا أنهم لا يقولون بنبوته ورسالته.

ومن هؤلاء من يقول : إن عيسى عليه‌السلام لم يدع أنه نبي مرسل ، وليس من بني إسرائيل ، وليس هو صاحب شريعة ناسخة لشريعة موسى عليه‌السلام ، بل هو من أولياء الله المخلصين العارفين بأحكام التوراة. وليس الإنجيل كتابا أنزل عليه وحيا من الله تعالى ، بل هو جمع أحواله من مبدئه إلى كماله. وإنما جمعه أربعة من أصحابه الحواريين فكيف يكون كتابا منزلا؟.

__________________

(١) باب حطة : هو من أبواب بيت المقدس ، وقيل من أبواب أريحا ـ قرية قرب بيت المقدس ـ وقال مجاهد : باب حطة هو الباب الثامن من بيت المقدس. وقيل هو باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل. وقد أشار إليه الله تعالى في قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). (راجع مجمع البيان ١ : ١١٨ والقرطبي ١ : ٣٥٠).

(٢) في المقريزي ٤ : ٣٦٩ واعتقادات ص ٨٢ : «العانانية ينسبون إلى عانان رأس الجالوت الذي قدم من المشرق في أيام الخليفة أبي جعفر المنصور ومعه نسخ المشتا الذي كتب من الخط الذي كتب من خط النبي موسى. وأنه رأى ما عليه اليهود من الربانيين والقرائين يخالف ما معه فتجرد لخلافهم وطعن عليهم في دينهم وازدرى بهم وكان عظيما عندهم. يرون أنه من ولد داود عليه‌السلام وعلى طريقة فاضلة من النسك على مقتضى ملّتهم ... وفي اعتقادات الرازي أنهم العنانية أتباع عنان بن داود ولا يذكرون عيسى بسوء بل يقولون إنه كان من أولياء الله تعالى وإن لم يكن نبيا وكان قد جاء لتقرير شرع موسى عليه‌السلام والإنجيل ليس بكتاب له بل الإنجيل كتاب جمعه بعض تلاميذه».

٢٥٦

قالوا : واليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ، ولم يعرفوا بعد دعواه ، قتلوه آخرا ، ولم يعلموا بعد محله ومغزاه. وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة ، وذلك هو المسيح ؛ ولكن لم ترد له النبوة ، ولا الشريعة الناسخة. وورد فارقليط (١) وهو الرجل العالم ؛ وكذلك ورد ذكره في الإنجيل ، فوجب حمله على ما وجد. وعلى من ادعى غير ذلك تحقيقه وحده.

٢ ـ العيسويّة (٢)

نسبوا إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني. وقيل : إن اسمه عوفيد ألوهيم أي عابد الله. كان في زمن المنصور ، وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية : مروان بن محمد الحمار (٣) ، فاتّبعه بشر كثير من اليهود ، وادّعوا له آيات ومعجزات ، وزعموا أنه لما حورب خط على أصحابه خطا بعود آس ، وقال : أقيموا في هذا الخط ، فليس ينالكم عدو بسلاح. فكان العدو يحملون عليهم حتى إذا بلغوا الخط رجعوا عنهم خوفا من طلسم أو عزيمة ربما وضعها. ثم إن أبا عيسى خرج من الخط وحده على فرسه فقاتل وقتل من المسلمين كثيرا. وذهب إلى أصحاب موسى بن عمران الذين هم وراء النهر المرمل ليسمعهم كلام الله. وقيل : إنه لما حارب أصحاب المنصور بالري قتل وقتل أصحابه.

زعم أبو عيسى أنه نبي ، وأنه رسول المسيح المنتظر. وزعم أن للمسيح

__________________

(١) قال يسوع المسيح في الفصل الخامس عشر من إنجيله : «إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي. هو يعلمكم كل شيء ، وقال يوحنا التلميذ عن المسيح : إنه قال لتلاميذه إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقتلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أياما لأني سآتيكم عن قريب ...». (الجواب الصحيح ٤ : ٥).

(٢) ويقال لهم الأصبهانية أصحاب أبي عيسى الأصبهاني. ادعى النبوة وأنه عرج به إلى السماء فمسح الرب على رأسه وأنه رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمن به. ويزعم يهود أصبهان أنه الدجال وأنه يخرج من ناحيتهم. (المقريزي ٤ : ٢٧٢).

(٣) تقدمت ترجمته.

٢٥٧

خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد. وزعم أن الله تعالى كلمه ، وكلفه أن يخلص بني إسرائيل من أيدي الأمم العاصين ، والملوك الظالمين. وزعم أن المسيح أفضل ولد آدم ؛ وأنه أعلى منزلة من الأنبياء الماضين ، وإذ هو رسوله فهو أفضل الكل أيضا. وكان يوجب تصديق المسيح ؛ ويعظم دعوة الداعي ، ويزعم أيضا أن الداعي هو المسيح.

وحرم في كتابه الذبائح كلها ، ونهى عن أكل كل ذي روح على الإطلاق طيرا كان أو بهيمة. وأوجب عشر صلوات ، وأمر أصحابه بإقامتها وذكر أوقاتها ، وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة.

وتوراة الناس هي التي جمعها ثلاثون حبرا لبعض ملوك الروم حتى لا يتصرف فيها كل جاهل بمواضع أحكامها ، والله الموفق.

٣ ـ المقاربة (١) واليوذعانيّة

نسبوا إلى يوذعان من همدان : وقيل : كان اسمه يهوذا. كان يحث على الزهد ، وتكثير الصلاة ، وينهى (٢) عن اللحوم والأنبذة. وفيما نقل عنه تعظيم أمر الداعي. وكان يزعم أن للتوراة ظاهرا وباطنا ، وتنزيلا وتأويلا. وخالف بتأويلاته عامة اليهود ، وخالفهم في التشبيه ومال إلى القدر وأثبت الفعل حقيقة للعبد ، وقدر الثواب والعقاب عليه ، وشدد في ذلك.

٤ ـ الموشكانية (٣)

وهم أصحاب موشكان. كان على مذهب يوذعان غير أنه كان يوجب الخروج على مخالفيه ، ونصب القتال معهم. فخرج في تسعة عشر رجلا فقتل بناحية قم. وذكر

__________________

(١) في اعتقادات الرازي أنهم المعادية وهم أتباع رجل من همدان وهم في اليهود كالباطنية في المسلمين (ص ٨٣).

(٢) قال المقريزي ٤ : ٣٧٢ : «يتابع في هذا فرقة المتقشّفين من اليهود وكانوا يمنعون أكثر المآكل وخاصة اللحم. كانوا ينظرون في علم النجوم ويعملون بها».

(٣) في كتاب المسألة اليهودية ص ٢٠ أنهم المشكنم ، وهي من الفرق البائدة.

٢٥٨

عن جماعة من الموشكانية أنهم أثبتوا نبوة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام إلى العرب وسائر الناس سوى اليهود ، لأنهم أهل ملة وكتاب.

وزعمت فرقة من المقاربة أن الله تعالى خاطف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة ملك اختاره ، وقدمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم. وقالوا : كل ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى ، فهو خبر عن ذلك الملك. وإلا فلا يجوز أن يوصف الله تعالى بوصف.

قالوا : وإن الذي كلم موسى عليه‌السلام تكليما هو ذلك الملك والشجرة المذكورة في التوراة هو ذلك الملك. ويتعالى الرب تعالى عن أن يكلم بشرا تكليما. وحمل جميع ما ورد في التوراة من طلب الرؤية : وشافهت الله ، وجاء الله ، وطلع الله في السحاب ، وكتب التوراة بيده ، واستوى على العرش استقرارا ، وله صورة آدم ، وشعر قطط (١) ، ووفرة سوداء ، وأنه بكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وأنه ضحك الجبار حتى بدت نواجذه ، إلى غير ذلك ، على ذلك الملك. قال : ويجوز في العادة أن يبعث ملكا روحانيا من جملة خواصه ، ويلقي عليه اسمه ، ويقول : هذا هو رسولي ، ومكانه فيكم مكاني ، وقوله قولي ، وأمره أمري ، وظهوره عليكم ظهوري كذلك يكون حال ذلك الملك.

وقيل : إن أرنوس حيث قال في المسيح إنه هو الله ، وإنه صفوة العالم ، أخذ قوله من هؤلاء. وكانوا قبل أرنوس بأربعمائة سنة ، وهم أصحاب زهد وتقشف.

وقيل صاحب هذه المقالة هو : بنيامين النهاوندي ، قرر لهم هذا المذهب وأعلمهم أن الآيات المتشابهات في التوراة كلها مؤولة. وأنه تعالى لا يوصف بأوصاف البشر ، ولا يشبه شيئا من المخلوقات ، ولا يشبهه شيء منها ، وأن المراد بهذه الكلمات الواردة في التوراة ذلك الملك المعظم.

__________________

(١) شعر قطط : قصير فيه جعودة.

٢٥٩

وهذا كما يحمل في القرآن المجيء ، والإتيان على إتيان ملك من الملائكة ، وهو كما قال تعالى في حق مريم عليها‌السلام : (فَنَفَخْنا) (١) فِيها مِنْ رُوحِنا (٢). وفي موضع آخر : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٣) وإنما النافخ جبريل عليه‌السلام ، حين تمثل لها بشرا سويّا ليهب لها غلاما زكيّا (٤).

٥ ـ السامرة (٥)

هؤلاء قوم يسكنون جبال بيت المقدس وقرايا من أعمال مصر ، ويتقشفون في

__________________

(١) أي أجرينا فيها روح المسيح كما يجري الهواء بالنفخ ، والنافخ جبريل. نفخ في جيب درعها فخلق الله المسيح في رحمها من تلك النفخة بأمر الله تعالى.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٩١.

(٣) سورة التحريم : الآية ١٢.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى في سورة مريم : الآيات ١٧ ـ ١٨ ـ ١٩ : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

(٥) في المقريزي ٤ : ٣٦٩ واعتقادات ص ٨٣ والمسألة اليهودية ص ١٦ وتاريخ الإسرائيليين ص ١٢٢ : «السامرة ، وبالعبرية كوتيم ، وهم ليسوا من بني إسرائيل البتة ، وإنما هم قوم قدموا من بلاد المشرق وسكنوا بلاد الشام ، وتهودوا وكانوا لا يؤمنون بنبي غير موسى وهارون ولا بكتاب غير التوراة ، وما عداهم من اليهود يؤمنون بالتوراة ، وغيرها من كتب الله تعالى وهي خمس وعشرون كتابا ككتاب أشعيا وأرميا وحزقيل. وكان السامرة يطلقون على أنفسهم اسم شومريم أي سامرة من اسم شمرون أو بني إسرائيل وكانوا يقولون إنهم من أولاد يوسف أو لسكناهم مدينة شمرون. وشمرون هذه هي مدينة نابلس وكانوا ينكرون نبوة داود ومن تلاه من الأنبياء وأبوا أن يكون بعد موسى نبي وجعلوا رؤساءهم من ولد هارون.

وذكر المسعودي أن السامرة صنفان متباينان أحدهما يقال له الكوشان والآخر الروشان. أحد الصنفين يقول بقدم العالم. والسامرة تزعم أن التوراة التي في أيدي اليهود ليست التوراة التي أوردها موسى عليه‌السلام ويقولون توراة موسى حرّفت وغيّرت وبدّلت وأن التوراة هي ما بأيديهم دون غيرهم.

وذكر البيروني أن السامرة تعرف باللامساسية. قال وهم الأبدال الذين بدلهم بختنصر بالشام حين أسر اليهود وأجلاهم وكانت السامرة أعانوه ودلوه على عورات بني إسرائيل فلم يحاربهم ولم يقتلهم ولم يسبهم وأنزلهم فلسطين من تحت يده ومذاهبهم ممتزجة من اليهودية والمجوسية وعامتهم يكونون بموضع من فلسطين يسمّى نابلس وبها كنائسهم ... ولا يقرون بنبوة من كان بعد موسى عليه‌السلام من أنبياء بني إسرائيل وقد بقي منهم إلى عصرنا الحاضر قرابة ثلاثمائة وهم في نابلس في كل سنة يصعدون إلى جبل جزيزيم «كزيرم» للعبادة منتظرين مجيء المسيح الموعود به».

٢٦٠