الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

عما وراء ذلك : وقال : إن معبوده جسم ، ولحم ، ودم. وله جوارح وأعضاء من يد ، ورجل ، ورأس ، ولسان ، وعينين ، وأذنين. ومع ذلك جسم لا كالأجسام ، ولحم لا كاللحوم ، ودم لا كالدماء ، وكذلك سائر الصفات ، وهو لا يشبه شيئا من المخلوقات ، ولا يشبه شيء. وحكى عنه أنه قال : هو أجوف من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى ذلك. وأن له وفرة سوداء ، وله شعر قطط (١).

وأما ما ورد في التنزيل من الاستواء ، والوجه ، واليدين ، والجنب ، والمجيء ، والإتيان والفوقية وغير ذلك فأجروها على ظاهرها ، أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة وغيرها في قوله عليه الصلاة والسلام : «خلق آدم على صورة الرّحمن» وقوله : «حتّى يضع الجبّار قدمه في النّار» وقوله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن» وقوله : «خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحا» وقوله : «وضع يده أو كفّه على كتفي» وقوله : «حتّى وجدت برد أنامله على كتفي» إلى غير ذلك ؛ أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.

وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها ونسبوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وأكثرها مقتبسة من اليهود ، فإن التشبيه فيهم طباع ، حتى قالوا : اشتكت عيناه فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وإن العرش لتئطّ (٢) من تحته كأطيط الرّحل (٣) الحديد ، وأنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع.

وروى المشبهة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لقيني ربّي فصافحني وكافحني ، ووضع يده بين كتفيّ حتّى وجدت برد أنامله».

وزادوا على التشبيه قولهم في القرآن : إن الحروف والأصوات والرقوم

__________________

(١) الشعر القطط : القصير ، فيه جعودة.

(٢) تئط : تحدث صوتا.

(٣) الرّحل : ما يجعل على ظهر البعير كالسرج.

١٢١

المكتوبة قديمة أزلية. وقالوا : لا يعقل كلام ليس بحروف ولا كلم. واستدلوا بأخبار ، منها ما رووا عن النبي عليه الصلاة والسلام : «ينادي الله تعالى يوم القيامة بصوت يسمعه الأوّلون والآخرون» ورووا أن موسى عليه‌السلام كان يسمع كلام الله كجر السلاسل ، قالوا : وأجمعت السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله ، ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه.

والمخالفون في ذلك :

أما المعتزلة فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله ، وخالفونا في القدم. وهم محجوجون بإجماع الأمة.

وأما الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم ، وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله وهم محجوجون أيضا بإجماع الأمة : أن المشار إليه هو كلام الله ، فأما إثبات كلام هو صفة قائمة بذات الباري تعالى لا نبصرها ؛ ولا نكتبها ولا نقرؤها ، ولا نسمعها : فهو مخالفة الإجماع من كل وجه.

فنحن نعتقد أن ما بين الدفتين كلام الله ، أنزله على لسان جبريل عليه‌السلام ، فهو المكتوب في المصاحف ، وهو المكتوب في اللوح المحفوظ ، وهو الذي يسمعه المؤمنون في الجنة من الباري تعالى بغير حجاب ولا واسطة ، وذلك معنى قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (١) وهو قوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢) ومناجاته من غير واسطة حتى قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٣) وقال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) (٤) وروى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إنّ

__________________

(١) سورة يس : الآية ٥٨.

(٢) سورة القصص : الآية ٣٠.

(٣) سورة النساء : الآية ١٦٤.

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٤٤.

١٢٢

الله تعالى كتب التّوراة بيده ، وخلق جنّة عدن بيده ، وخلق آدم بيده» وفي التنزيل : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١).

قالوا : فنحن لا نزيد من أنفسنا شيئا ، ولا نتدارك بعقولنا أمرا لم يتعرض له السلف قالوا : ما بين الدفتين كلام الله ، قلنا : هو كذلك ، واستشهدوا عليه بقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٢) ومن المعلوم أنه ما سمع إلا هذا الذي نقرؤه. وقال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣) وقال : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ* بِأَيْدِي سَفَرَةٍ* كِرامٍ بَرَرَةٍ) (٤) وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٥) وقال : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (٦) إلى غير ذلك من الآيات.

ومن المشبهة من مال إلى مذهب الحلولية ، وقال : يجوز أن يظهر الباري تعالى بصورة شخص ، كما كان جبريل عليه‌السلام ينزل في صورة أعرابي وقد تمثل لمريم بشرا سويا وعليه حمل قول النبي عليه الصلاة والسلام : «رأيت ربّي في أحسن صورة». وفي التوراة عن موسىعليه‌السلام : شافهت الله تعالى فقال لي كذا.

والغلاة من الشيعة مذهبهم الحلول.

ثم الحلول قد يكون بجزء ، وقد يكون بكل ؛ على ما سيأتي في تفصيل مذاهبهم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٤٥.

(٢) سورة التوبة : الآية ٦.

(٣) سورة الواقعة : الآيات ٧٧ ـ ٨٠.

(٤) سورة عبس : الآيات ١٣ ـ ١٦.

(٥) سورة القدر : الآية ١.

(٦) سورة البقرة : الآية ١٨٤.

١٢٣

٣ ـ الكرّاميّة (١)

أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام (٢). وإنما عددناه من الصفاتية لأنه كان ممن يثبت الصفات إلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم والتشبيه. وقد ذكرنا كيفية خروجه وانتسابه إلى أهل السنّة فيما قدمنا ذكره.

وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة. وأصولها ستة : العابدية ، والتونية ، والزرينية ، والإسحاقية ، والواحدية ، وأقربهم الهيصمية (٣) ، ولكل واحدة منهم رأي إلا أنه لما لم يصدر ذلك عن علماء معتبرين ، بل عن سفهاء اغتام جاهلين لم نفردها مذهبا وأوردنا مذهب صاحب المقالة ، وأشرنا إلى ما يتفرع منه.

نص أبو عبد الله على أن معبوده على العرش استقرارا ، وعلى أنه بجهة فوق ذاتا ، وأطلق عليه اسم الجوهر ، فقال في كتابه المسمى عذاب القبر إنه أحديّ الذات ، أحديّ الجوهر ، وإنه مماس للعرش من الصفحة العليا ، وجوز الانتقال ، والتحول ، والنزول ، ومنهم من قال إنه على بعض أجزاء العرش ، وقال بعضهم : امتلأ العرش به ، وصار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق ، وأنه محاذ للعرش.

ثم اختلفوا فقالت العابدية : إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به ، وقال محمد (٤) بن الهيصم : إن بينه وبين العرش بعدا

__________________

(١) راجع في شأن هذه الفرقة. (التبصير ص ٦٥ والفرق بين الفرق ص ٢١٥).

(٢) توفي سنة ٢٥٥ ه‍ / ٨٦٩ م. تقدمت ترجمته.

(٣) أصحاب محمد بن الهيصم.

(٤) محمد بن الهيصم ، متكلم الكرامية ، وقد ذهب إلى أنه تعالى ذات موجودة منفردة بنفسها عن سائر الموجودات لا تحلّ شيئا حلول الأعراض ولا تمازج شيئا ممازجة الأجسام بل هو مباين للمخلوقين إلّا أنه في جهة فوق بينه وبين العرش بعد لا يتناهى. هكذا يحكي المتكلمون عنه. ولم اره في شيء من تصانيفه وأحالوا ذلك لأن ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرتين وأنا أستبعد عنه هذه الحكاية لأنه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول. (راجع ابن أبي الحديد أول ص ٢٩١).

١٢٤

لا يتناهى ، وإنه مباين للعالم بينونة أزلية ، ونفى التحيز والمحاذاة ، وأثبت الفوقية والمباينة.

وأطلق أكثرهم لفظ الجسم عليه ، والمقاربون منهم قالوا : نعني بكونه جسما أنه قائم بذاته ، وهذا هو حد الجسم عندهم ، وبنوا على هذا أن من حكم القائمين بأنفسهما أن يكونا متجاورين أو متباينين ، فقضى بعضهم بالتجاور مع العرش. وحكم بعضهم بالتباين ، وربما قالوا : كل موجودين ، فإما أن يكون أحدهما بحيث الآخر كالعرض مع الجوهر ، وإما أن يكون بجهة منه ، والباري تعالى ليس بعرض إذ هو قائم بنفسه ، فيجب أن يكون بجهة من العالم ، ثم أعلى الجهات وأشرفها جهة فوق ، فقلنا هو بجهة فوق بالذات حتى إذا رؤي رؤي من تلك الجهة (١).

ثم لهم اختلافات في النهاية. فمن المجسمة من أثبت النهاية له من ست جهات ، ومنهم من أثبت النهاية له من جهة تحت ، ومنهم من أنكر النهاية له ، فقال : هو عظيم.

ولهم في معنى العظمة خلاف ، فقال بعضهم : معنى عظمته أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش ، والعرش تحته ، وهو فوق كله على الوجه هو فوق جزء منه ، وقال بعضهم : معنى عظمته أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد ، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش ، وهو العلي العظيم.

ومن مذهبهم جميعا : جواز قيام كثير من الحوادث بذات الباري تعالى ، ومن أصلهم أن ما يحدث في ذاته فإنما يحدث بقدرته ، وما يحدث مباينا لذاته فإنما يحدث بواسطة الإحداث. ويعنون بالإحداث : الإيجاد والإعدام الواقعين في ذاته

__________________

(١) ذكر ابن كرام في كتابه «عذاب القبر» أن الله تعالى مماس لعرشه ، وأن العرش مكان له وأبدل أصحابه لفظ المماسّة بلفظ الملاقاة منه للعرش ، وقالوا : لا يصحّ وجود جسم بينه وبين العرش إلّا بأن يحيط العرش إلى أسفل ، وهذا معنى المماسة التي امتنعوا من لفظها. (راجع الفرق بين الفرق ص ٢١٦ والتبصير ص ٦٦).

١٢٥

بقدرته من الأقوال والإرادات. ويعنون بالمحدث : ما بين ذاته من الجواهر والأعراض.

ويفرقون بين الخلق والمخلوق ، والإيجاد والموجود والموجد ، وكذلك بين الإعدام والمعدوم. فالمخلوق إنما يقع بالخلق ، والخلق إنما يقع في ذاته بالقدرة ، والمعدوم إنما يصير معدوما بالإعدام الواقع في ذاته بالقدرة.

وزعموا أن في ذاته سبحانه حوادث كثيرة مثل الإخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهم‌السلام ، والقصص والوعد والوعيد والأحكام ، ومن ذلك المسمعات والمبصرات فيما يجوز أن يسمع ويبصر ، والإيجاد والإعدام هو القول والإرادة وذلك قوله : (كُنْ) للشيء الذي يريد كونه ، وإرادته لوجود ذلك الشيء ، وقوله للشيء كن : صورتان.

وفسر محمد بن الهيصم الإيجاد والإعدام : بالإرادة والإيثار. قال : وذلك مشروط بالقول شرعا ، إذ ورد في التنزيل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

وعلى قول الأكثرين منهم : الخلق (٣) عبارة عن القول والإرادة. ثم اختلفوا في التفصيل ، فقال بعضهم : لكل موجود إيجاد ، ولكل معدوم إعدام ، وقال بعضهم : إيجاد واحد يصلح لموجودين إذا كانا من جنس واحد. وإذا اختلف الجنس تعدد الإيجاد ، وألزم بعضهم : لو افتقر كل موجود أو كل جنس إلى إيجاد ، فليفتقر كل إيجاد إلى قدرة ، فالتزم تعدد القدرة بتعدد الإيجاد.

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٤٠.

(٢) سورة يس : الآية ٨٢. أي نأمر به مرّة واحدة فإذا هو كائن كما قال الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له كن فيكون

أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف لأنه الواحد القهّار. (راجع ابن كثير ٢ : ٦٥٩).

(٣) في «الفرق بين الفرق» ص ٢١٧ : سموا قوله للشيء «كن» خلقا للمخلوق وإحداثا للمحدث وإعلاما للذي يعدم بعد وجوده.

١٢٦

وقال بعضهم أيضا : تتعدد القدرة بعدد أجناس المحدثات. وأكثرهم على أنها تتعدد بعدد أجناس الحوادث التي تحدث في ذاته من الكاف والنون ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، وهي خمسة أجناس.

ومنهم من فسر السمع والبصر بالقدرة على التسمع والتبصر ، ومنهم من أثبت لله تعالى السمع والبصر أزلا ، والتسمعات والتبصرات هي إضافة المدركات إليهما.

وقد أثبتوا لله تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات وبالحوادث التي تحدث في ذاته ، وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل المحدثات.

وأجمعوا على أن الحوادث لا توجب لله تعالى وصفا ، ولا هي صفات له فتحدث في ذاته هذه الحوادث من الأقوال ، والإرادات ، والتسمعات ، والتبصرات ، ولا يصير بها قائلا ، ولا مريدا ، ولا سميعا ، ولا بصيرا ، ولا يصير بخلق هذه الحوادث محدثا ولا خالقا ، إنما هو قائل بقائليته ، وخالق بخالقيته ، ومريد بمريديته (١) ، وذلك قدرته على هذه الأشياء.

ومن أصلهم أن الحوادث التي يحدثها في ذاته واجبة البقاء حتى يستحيل عدمها ؛ إذ لو جاز عليها العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ، ولشارك الجوهر في هذه القضية ، وأيضا فلو قدّر عدمها فلا يخلو : إما أن يقدر عدمها بالقدرة ، أو بإعدام يخلقه في ذاته ، ولا يجوز أن يكون عدمها بالقدرة ، لأنه يؤدي إلى ثبوت المعدوم

__________________

(١) زعموا أن كل اسم يشتق له من أفعاله ، كان ذلك الاسم ثابتا في الأزل مثل الخالق والرازق والمنعم. وقالوا إنه كان خالقا قبل أن خلق ، إذ هو خالق بخالقيته ، ثم طردوا فقالوا عالم بعالمية قادر بقادرية لا بعلم ولا بقدرة وإن كان له علم وقدرة وعجب ما ابتدعوه من قائليه وخالقيه ومريديه فقد أحدثوا ألفاظا لم يتكلم بها عربي ولا عجمي والأعجب أن زعيمهم ذكر في كتاب «عذاب القبر» كيفوفيّة الله ، وليت شعري كيف أطلق الكيف عليه وكأنه أراد أن يخترع لفظة تساير عقله المضطرب وتدلّ على ضلالته وجهالته. (راجع التبصير ص ٦٧ والفرق بين الفرق ص ٢١٩ و ٢٢٠).

١٢٧

في ذاته ، وشرط الموجود والمعدوم أن يكونا مباينين لذاته ، ولو جاز وقوع معدوم في ذاته بالقدرة من غير واسطة إعدام لجاز حصول سائر المعدومات بالقدرة ، ثم يجب طرد ذلك في الموجد ، حتى تقدير عدم ذلك الإعدام ، فيسلسل ، فارتكبوا لهذا التحكم استحالة عدم ما يحدث في ذاته.

ومن أصلهم أن المحدث إنما يحدث في ثاني حال ثبوت الإحداث بلا فصل ، ولا أثر للإحداث في حال بقائه.

ومن أصلهم : أن ما يحدث في ذاته من الأمر فمنقسم إلى :

١ ـ أمر التكوين ، وهو فعل يقع تحته المفعول.

٢ ـ وإلى ما ليس أمر التكوين : وذلك إما خبر ، وإما أمر التكليف ، ونهي التكليف. وهي أفعال من حيث دلت على القدرة ، ولا تقع تحتها مفعولات. هذا هو تفصيل مذاهبهم محل الحوادث.

وقد اجتهد ابن الهيصم في إرمام مقالة أبي عبد الله في كل مسألة حتى ردها من المحال الفاحش إلى نوع يفهم فيما بين العقلاء مثل التجسيم فإنه قال : أراد بالجسم : القائم بالذات ، ومثل الفوقية فإنه حملها على العلو. وأثبت البينونة غير المتناهية ، وذلك الخلاء الذي أثبته بعض الفلاسفة ، ومثل الاستواء ، فإنه نفي المجاورة والمماسة ، والتمكن بالذات غير مسألة محل الحوادث فإنها لم تقبل المرمة ، فالتزمها كما ذكرنا. وهي من أشنع المحالات عقلا.

وعند القوم أن الحوادث تزيد على عدد المحدثات بكثير. فيكون في ذاته أكثر من عدد المحدثات عالم من الحوادث ، وذلك محال وشنيع.

ومما أجمعوا عليه من إثبات الصفات قولهم : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، شاء بمشيئته ، وجميع هذه الصفات صفات قديمة أزليّة قائمة بذاته. وربما زادوا السمع والبصر كما أثبته الأشعري ، وربما زادوا اليدين ،

١٢٨

والوجه : صفات ، قديمة ، قائمة بذاته ، وقالوا : له يد لا كالأيدي ، ووجه لا كالوجوه (١) ، وأثبتوا جواز رؤيته من جهة فوق دون سائر الجهات.

وزعم ابن الهيصم أن الذي أطلقه المشبهة على الله عزوجل من : الهيئة ، والصورة ، والجوف ، والاستدارة ، والوفرة ، والمصافحة ، والمعانقة ، ونحو ذلك لا يشبه سائر ما أطلقه الكرامية من : أنه خلق آدم بيده ، وأنه استوى على عرشه ، وأنه يجيء يوم القيامة لمحاسبة الخلق ، وذلك أنا لا نعتقد من ذلك شيئا على معنى فاسد : من جارحتين وعضوين ؛ تفسيرا لليدين ، ولا مطابقة للمكان واستقلال العرش بالرحمن تفسيرا للاستواء ، ولا ترددا في الأماكن التي تحيط به تفسيرا للمجيء ، وإنما ذهبنا في ذلك إلى إطلاق ما أطلقه القرآن فقط من غير تكييف وتشبيه ، وما لم يرد به القرآن والخبر فلا نطلقه كما أطلقه سائر المشبهة والمجسمة.

وقال الباري تعالى عالم في الأزل بما سيكون على الوجه الذي يكون ، وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته فلا ينقلب علمه جهلا. ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة. وقائل لكل ما يحدث بقوله كن حتى يحدث ، وهو الفرق بين الإحداث والمحدث والخلق والمخلوق (٢). وقال : نحن نثبت القدر خيره وشره من

__________________

(١) قال ابن أبي الحديد في أول صفحة ٢٩٥ : «أطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين والوجه وقالوا لا نتجاوز الإطلاق ولا نفسّر ذلك ولا نتأوله وإنما نقتصر على إطلاق ما ورد به النص. وأثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالباري سبحانه وكذلك الوجه من غير تجسيم. وقالت المجسمة أن لله تعالى يدين هما عضوان له وكذلك الوجه والعين وأثبتوا له رجلين قد فصلتا عن عرشه وساقين يكشف عنهما يوم القيامة وقدما يضعها في جهنّم فتمتلئ.

وأثبتوا ذلك معنى لا لفظا وحقيقة لا مجازا. فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه ولا تجسيم أصلا ، وإنما كان يقول بترك التأويل فقط ، ويطلق ما أطلقه الكتاب والسنّة ، ولا يخوض في تأويله ، ويقف على قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وأكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول».

(٢) ذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا في ذاته وهو الأحداث. فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه. قالوا : وذلك المعنى هو قول كن وهو المسمى خلقا. والخلق غير المخلوق. قال الله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) قالوا : لكنه قد أشهدنا ذواتها تدل على أن خلقها غيرها. ـ

١٢٩

الله تعالى ، وأنه أراد الكائنات كلها خيرها وشرها ، وخلق الموجودات كلها حسنها وقبيحها ، ونثبت للعبد فعلا بالقدرة الحادثة ويسمى ذلك : كسبا : والقدرة الحادثة مؤثرة في إثبات فائدة زائدة على كونه مفعولا مخلوقا للباري تعالى ، تلك الفائدة هي مورد التكليف ، والمورد هو المقابل بالثواب والعقاب.

* * *

واتفقوا على أن العقل يحسن ويقبح قبل الشرع ، وتجب معرفة الله تعالى بالعقل كما قالت المعتزلة ، إلا أنهم لم يثبتوا رعاية الصلاح والأصلح واللطف عقلا كما قالت المعتزلة وقالوا : الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون التصديق بالقلب ، ودون سائر الأعمال ، وفرقوا بين تسمية المؤمن مؤمنا فيما يرجع إلى أحكام الظاهر والتكليف ، وفيما يرجع إلى أحكام الآخرة والجزاء ، فالمنافق عندهم : مؤمن في الدنيا على الحقيقة ، مستحق للعقاب الأبدي في الآخرة.

وقالوا في الإمامة إنها تثبت بإجماع الأمة دون النص والتعيين كما قال أهل السنّة. إلا أنهم جوزوا عقد البيعة لإمامين في قطرين (١) ، وغرضهم إثبات إمامة معاوية في الشام باتفاق جماعة من أصحابه. وإثبات أمير المؤمنين عليّ بالمدينة والعراقين (٢) باتفاق جماعة من الصحابة. ورأوا تصويب معاوية فيما استبد به من

__________________

ـ وصرّح ابن الهيصم في كتاب المقالات بقيام الحوادث بذات الله تعالى فقال إنه إذا أمر أو نهى أو أراد شيئا كان أمره ونهيه وإرادته كائنة بعد أن لم تكن وهي قائمة به ، لأن قوله منه يسمع وكذلك إرادته منه توجد. قال : وليس قيام الحوادث بذاته دليلا على حدوثه وإنما يدل على الحدوث تعاقب الأضداد التي لا يصلح أن يتعطّل منها. والباري تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد. (راجع ابن أبي الحديد ١ : ٢٩٧).

(١) خاض ابن كرام في باب الإمامة فأجاز كون إمامين في وقت واحد ، مع وقوع الجدال وتعاطي القتال ، ومع الاختلاف في الأحكام ، وأشار في بعض كتبه إلى أن عليا ومعاوية كانا إمامين في وقت واحد ، ووجب على أتباع كل واحد منهما طاعة صاحبه وإن كان أحدهما عادلا والآخر باغيا. وقال أتباعه : إن عليا كان إماما على وفق السنّة ، وكان معاوية ، إماما على خلاف السنّة وكانت طاعة كل واحد منهما واجبة على أتباعه ، فيا عجبا من طاعة واجبة على خلاف السنّة. (راجع الفرق بين الفرق ص ٢٢٣ والتبصير ص ٢١١).

(٢) العراقان : البصرة والكوفة ، ويقال لهما البصرتان.

١٣٠

الأحكام الشرعية قتالا على طلب عثمان رضي الله عنه ، واستقلالا ببيت المال.

ومذهبهم الأصلي اتهام عليّ رضي الله عنه في الصبر على ما جرى مع عثمان رضي عنه والسكوت عنه ، وذلك عرق نزع (١).

الفصل الرابع

الخوارج (٢)

الخوارج (٣) ، والمرجئة ، والوعيدية.

__________________

(١) في الحديث إنما هو عرق نزعه ، يقال نزع إليه في الشبه إذا أشبهه ، ويقال للمرء إذا أشبه أخواله ، نزعه إليهم عرق الخال ، قال الفرزدق :

أشبهت أمك يا جرير فإنها

نزعتك والأم اللئيمة تنزع

(٢) راجع خطط المقريزي ٢ : ٣٥٢ وما يليها ومقالات الإسلاميين تحقيق الأستاذ محمد عبد الحميد ١ : ١٥٦ والبدء والتاريخ ٥ : ١٣٤ والتبصير ص ٢٦ وما بعدها وكامل المبرد ٢ : ٢٠٥ وما بعدها ط. الخيرية والفرق بين الفرق ص ٧٢.

(٣) الخوارج جمع الخارجة وهم الذين نزعوا أيديهم عن طاعة ذي السلطان من أئمة المسلمين ، بدعوى ضلالة وعدم انتصاره للحق ولهم في ذلك مذاهب ابتدعوها وآراء فاسدة اتبعوها. وإلى بعض الخوارج أشار الصلتان العبدي بقوله :

أرى أمة شهرت سيفها

وقد زيد في سوطها الأصبحي

بنجدية وحرورية

وأزرق يدعو إلى أزرقي

فملّتنا أننا المسلمون

على دين صديقنا والنبي

والسياط التي يعاقب بها السلطان الأصبحيّة ، وتنسب إلى ذي أصبح الحميري وكان ملكا من ملوك حمير وهو أول من اتخذها وهو جدّ مالك بن أنس الفقيه. (راجع الكامل وشرحه ٧ : ٨٦ وص ١٠١).

والخوارج لائقون عن عشرين فرقة وهذه أسماؤها : المحكمة الأولى والأزارقة ، والنجدات ، والصّفرية ، ثم العجاردة المفترقة فرقا منها : الخازميّة ، والشعيبيّة ، والمعلومية والمجهولية ، وأصحاب طاعة لا يراد الله تعالى بها ، والصلتية ، والأخنسية ، والشبيبيّة ، والشيبانية ، والمعبدية ، والرشيدية ، والمكرمية ، والحمزية ، والشمراخية ، والإبراهيمية ، والواقفة ، والإباضية ..

ويقال للخوارج : الشراة والحرورية ، والنواصب ، والحكمية ، والمارقة. فالشراة ، بضم الشين سموا أنفسهم بهذا الاسم زاعمين أنهم شروا أنفسهم من الله ، والحرورية : نسبة إلى حروراء وهي قرية أو كورة بظاهر الكوفة. والنواصب ، جمع ناصب وناصبي وهو الغالي في بغض علي بن أبي طالب ... (راجع مقالات الأشعري تحقيق الأستاذ محمد محي الدين عبد الحميد ١ : ١٥٦).

١٣١

كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا ، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين ؛ أو كان بعدهم على التابعين بإحسان ، والأئمة في كل زمان.

والمرجئة صنف آخر تكلموا في الإيمان والعمل ، إلا أنهم وافقوا الخوارج في بعض المسائل التي تتعلق بالإمامة.

والوعيدية داخلة في الخوارج ، وهم القائلون بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ، فذكرنا مذاهبهم في أثناء مذاهب الخوارج.

* * *

اعلم أن أول من خرج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جماعة ممن كان معه في حرب صفين ، وأشدهم خروجا عليه ، ومروقا من الدين : الأشعث (١) بن قيس الكندي ، ومسعر (٢) بن فدكي التميمي ، وزيد بن حصين الطائي حين قالوا : القوم يدعوننا إلى كتاب الله ، وأنت تدعونا إلى السيف! حتى قال : أنا أعلم بما في كتاب الله! انفروا إلى بقية الأحزاب! انفروا إلى من يقول : كذب الله ورسوله ، وأنتم تقولون : صدق الله ورسوله. قالوا : لترجعنّ الأشتر (٣) عن قتال المسلمين ، وإلا فعلنا بك مثل ما فعلنا بعثمان. فاضطر إلى رد الأشتر بعد أن هزم الجمع ، وولوا مدبرين وما بقي منهم إلا شرذمة قليلة فيهم حشاشة قوة. فامتثل الأشتر أمره.

وكان من أمر الحكمين : أن الخوارج حملوه على التحكيم أولا. وكان يريد أن يبعث عبد الله (٤) بن عباس رضي الله عنه فما رضي الخوارج بذلك ، وقالوا

__________________

(١) تقدمت ترجمته.

(٢) في الفرق بين الفرق أن اسمه «مسمع بن قدلى» وفي مختصر الفرق كذلك ص ٦٨ وأيضا في التبصير ص ٢٧. وأما هذه الرواية فقد انفرد بها أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين.

(٣) هو مالك بن الحارث النخعي الكوفي المعروف الأشتر. أدرك الجاهلية وكان من أصحاب علي وشهد معه الجمل وصفين ومشاهده كلّها وولّاه على مصر. توفي سنة ٣٧ ه‍. (راجع تهذيب التهذيب ١٠ : ١١).

(٤) تقدمت ترجمته.

١٣٢

هو منك. وحملوه على بعث أبي موسى الأشعري (١) على أن يحكم بكتاب الله تعالى. فجرى الأمر على خلاف ما رضي به. فلما لم يرض بذلك خرجت الخوارج عليه وقالوا : لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله ، وهم المارقة الذين اجتمعوا بالنهروان (٢).

وكبار الفرق منهم : المحكمة. والأزارقة ، والنجدات ، والبيهسية ، والعجاردة ، والثعالبة ، والإباضية ، والصفرية. والباقون فروعهم.

ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ، ويقدمون ذلك على كل طاعة ، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك. ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنّة : حقا واجبا.

١ ـ المحكّمة الأولى

هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين. واجتمعوا بحروراء (٣) من ناحية الكوفة ، ورأسهم عبد الله (٤) بن الكواء ، وعتاب بن الأعور ، وعبد الله (٥) بن وهب الراسبي ، وعروة (٦) بن جرير ،

__________________

(١) هو عبد الله بن قيس ، من بني الأشعر توفي سنة ٤٤ ه‍ / ٦٦٥ م.

(٢) بين بغداد وواسط.

(٣) حروراء : بفتحتين ، وسكون الواو ، وراء أخرى وألف ممدودة : هي قرية بظاهر الكوفة. (معجم البلدان ٢ : ٢٤٥).

(٤) هو أول أمير للخوارج من حين اعتزلوا جيش علي وخرجوا عليه. وهو أحد الذين اختاروا أبا موسى الأشعري في قصة التحكيم. (راجع وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٢٩٥ و ٥٠٢).

(٥) هو أول من أمّره الخوارج عليهم أول ما اعتزلوا. بايعوه لعشر بقين من شوال سنة ٣٧ ه‍ وجعلوا أمير قتالهم شبث بن ربعي. (الكامل للمبرد ٢ : ١١٦). وكان قد امتنع عليهم وأومأ إلى غيره فلم يقنعوا إلّا به فكان إمام القوم وكان يوصف بالرأي وقتل مع أصحابه لسبع خلون من صفر سنة ٣٨ ه‍. (مقالات ١ : ١٩٥).

(٦) في الأصل عروة بن جرير ، تحريف ، وهو عروة بن أديه ، وهو عروة بن أدية ، وهو عروة بن عمرو بن حدير. وأدية جدته من محارب نسب إليها. وقيل بل كانت ظئرا (مرضعة) له ، وهو من رءوس الخوارج وقد ضعفه الجوزجاني وهو أول من حكم بصفين وكان له أصحاب وأتباع وشيعة. ظفر بن ابن زياد فأمر به فقطعت يداه ورجلاه وصلبه على باب داره. توفي سنة ٥٨ ه‍ في خلافة معاوية. (راجع لسان الميزان ٤ : ١٦٣ والعقد الفريد ص ٢٧١).

١٣٣

ويزيد (١) بن أبي عاصم المحاربي ، وحرقوص بن زهير البجلي المعروف بذي الثدية (٢) وكانوا يومئذ في اثني عشر ألف رجل أهل صلاة وصيام ، أعني يوم النهروان.

وفيهم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصوم أحدكم في جنب صيامهم ، لكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم».

فهم المارقة الذين قال فيهم : «سيخرج من ضئضئ (٣) هذا الرّجل قوم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة».

وهم الذين أولهم ذو الخويصرة (٤) ، وآخرهم ذو الثدية. وإنما خروجهم في الزمن الأول على أمرين :

أحدهما : بدعتهم في الإمامة. إذ جوّزوا أن تكون الإمامة في غير قريش (٥) ، وكل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماما. ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه. وإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله. وهم أشد الناس قولا بالقياس. وجوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلا. وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدا أو حرا ، أو نبطيا أو قرشيا.

__________________

(١) هو من رءوس الخوارج. ولما خطب علي فقال : الله أكبر كلمة حق يراد بها باطل إن سكتوا عممناهم وإن تكلموا حجبناهم وإن خرجوا علينا قاتلناهم فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال : الحمد لله غير مودع ربنا ، ولا مستغنى عنه اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في ديننا فإن إعطاء الدنية في الدين ادهان في أمر الله عزوجل ، وذل راجع بأهله إلى سخط الله ، يا علي أبا لقتل تخوفنا ، أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات ، ثم لتعلمن أينا أولى بها صليا ، ثم خرج بقومه هو وإخوة له ثلاثة هو رابعهم فأصيبوا مع الخوارج بالنهروان وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة. (راجع الطبري ٦ : ٤١).

(٢) يختلف العلماء في ضبط هذه الكلمة. (راجع اللسان ث د ي والكامل للمبرد ٢ : ١٣٩ والبدء والتاريخ ٥ : ١٣٥).

(٣) الضئضئ : الأصل.

(٤) راجع الكامل للمبرد ٣ : ٩١٩ ط. الحلبي.

(٥) صفة الإمام الذي يلزم العقد له ، يجب أن يكون على أوصاف منها : أن يكون قرشيا من الصميم ، ودليله أمور منها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش ما بقي منهم اثنان». (راجع التمهيد ص ١٨١).

١٣٤

والبدعة الثانية : أنهم قالوا : أخطأ علي في التحكيم إذ حكم الرجال ولا حكم إلا لله. وقد كذبوا على عليّ رضي الله عنه من وجهين :

(أ) أحدهما : في التحكيم ، إنه حكم الرجال ، وليس ذلك صدقا ، لأنهم هم الذين حملوه على التحكيم.

(ب) والثاني : أن تحكيم الرجال جائز ؛ فإن القوم هم الحاكمون في هذه المسألة ، وهم رجال. ولهذا قال عليّ رضي الله عنه : «كلمة حق أريد بها باطل» (١) وتخطوا عن هذه التخطئة إلى التكفير. ولعنوا عليا رضي الله عنه فيما قاتل الناكثين والقاسطين (٢) والمارقين. فقاتل الناكثين واغتنم أموالهم ، وما سبى ذراريهم ونساءهم. وقتل مقاتلة من القاسطين ، وما اغتنم ، ولا سبى ، ثم رضي بالتحكيم ، وقاتل مقاتلة المارقين واغتنم أموالهم ، وسبى ذراريهم.

وطعنوا في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه. وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين.

فقاتلهم عليّ رضي الله عنه بالنهروان مقاتلة شديدة ، فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة. وما قتل من المسلمين إلا أقل من عشرة. فانهزم اثنان منهم إلى عمان (٣) ، واثنان إلى كرمان (٤) ، واثنان إلى سجستان (٥) ، واثنان إلى الجزيرة (٦) ،

__________________

(١) إن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال ، يا علي : أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلّا لله ، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلّا لله ، لا حكم إلّا لله ، فقال علي : الله أكبر ، كلمة حق يراد بها باطل أما إن لكم عندنا ثلاثا : ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه ، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تبدءونا ، ثم رجع إلى مكانه الذي كان فيه من خطبته. (راجع ابن كثير ٧ : ١٨١ وابن جرير ٦ : ٤١).

(٢) القاسط : الذي جار وحاد عن الحق. والجمع القاسطون.

(٣) اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند. (راجع معجم البلدان ٤ : ١٥١).

(٤) ولاية بين فارس ومكران وسجستان وخراسان. (راجع معجم البلدان ٤ : ٤٥٤).

(٥) ولاية جنوبي هراة. (راجع معجم البلدان ٣ : ١٩٠).

(٦) هي التي بين دجلة والفرات فيها ديار مضر وبكر.

١٣٥

وواحد إلى تل موزن (١) باليمن. وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم وبقيت إلى اليوم.

وأول من بويع من الخوارج بالإمامة : عبد الله بن وهب الراسبي في منزل زيد بن حصين. بايعه عبد الله بن الكواء ، وعروة بن جرير ، ويزيد بن عاصم المحاربي ، وجماعة منهم ، وكان يمتنع عليهم تحرجا ، ويستقبلهم ويومئ إلى غيره تحرزا ، فلم يقنعوا إلا به ، وكان يوصف برأي ونجدة. فتبرأ من الحكمين ، وممن رضي بقولهما وصوب أمرهما. وأكفروا أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه ، وقالوا : إنه ترك حكم الله ، وحكم الرجال. وقيل إن أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم ، يقال له الحجاج (٢) بن عبيد الله ، يلقب بالبرك ، وهو الذي ضرب معاوية على أليته ، لما سمع به. فسمعها رجل فقال : طعن والله فأنفذ! فسموا المحكمة بذلك. ولما سمع أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه هذه الكلمة قال : «كلمة عدل أريد بها جور ، إنما يقولون لا إمارة ولا بد من إمارة برّ أو فاجر».

ويقال إن أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف عروة بن حدير ، وذلك أن أقبل على الأشعث بن قيس فقال : ما هذه الدنية يا أشعث؟ وما هذا التحكيم؟ أشرط أحدكم أوثق من شرط الله تعالى؟ ثم شهر السيف والأشعث مولى فضرب به عجز البغلة ، فشبت البغلة فنفرت اليمانية. فلما رأى ذلك الأحنف مشى هو وأصحابه إلى الأشعث فسألوه الصفح ؛ ففعل.

__________________

(١) في الأصل مورون ، تحريف ، وتل موزن بفتح الميم وسكون الواو وفتح الزاي وآخره نون هو بلد قديم بين رأس عين وسروج ، يزعم أن جالينوس كان به. (راجع معجم البلدان ٢ : ٤٥) وفي بعض النسخ : «وواحد إلى تل موزن واثنان إلى اليمن».

(٢) من أهل البصرة ، وهو أحد الثلاثة الذين اتفقوا على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص في يوم واحد. وضمن قتل معاوية فذهب وكمن له حتى خرج يريد الصلاة ، فضربه فأصاب أليته ولم يقتله فقبض عليه معاوية وقتله. (راجع الكامل للمبرد ٢ : ١٣٢ وابن الأثير ٣ : ١٥٧).

١٣٦

وعروة بن حدير نجا بعد ذلك من حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية. ثم أتى إلى زياد (١) بن أبيه ومعه مولى له ؛ فسأله زياد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال فيهما خيرا. وسأله عن عثمان ، فقال : كنت أوالي عثمان على أحواله في خلافته ست سنين. ثم تبرأت منه بعد ذلك للأحداث التي أحدثها ، وشهد عليه بالكفر. وسأله عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، فقال : كنت أتولاه إلى أن حكم الحكمين ، ثم تبرأت منه بعد ذلك ، وشهد عليه بالكفر. وسأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا. ثم سأله عن نفسه فقال : أوّلك لزنية ، وآخرك لدعوة ، وأنت فيما بينهما بعد عاص ربك. فأمر زياد بضرب عنقه. ثم دعا مولاه فقال له : صف لي أمره وأصدق. فقال : أأطنب أم أختصر؟ فقال : بل اختصر. قال : ما أتيته بطعام في نهار قط ، ولا فرشت له فراشا بليل قط. هذه معاملته واجتهاده ، وذلك خبثه واعتقاده.

٢ ـ الأزارقة (٢)

أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق (٣) الذين خرجوا مع نافع من البصرة إلى الأهواز ، فغلبوا عليها وعلى كورها ، وما وراءها من بلدان فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير ، وقتلوا عماله بهذه النواحي.

وكان مع نافع من أمراء الخوارج : عطية (٤) بن الأسود الحنفي ،

__________________

(١) هو زياد بن سمية ، الأمير ، ويقال : زياد بن عبيد فلما استلحقه معاوية قيل زياد بن أبي سفيان. كان من شيعة علي وولّاه أمرة القدس ثم صار أشدّ الناس على ال علي وشيعته توفي سنة ٥٣ ه‍ وهو على أمرة العراق لمعاوية. (راجع لسان الميزان ص ٤٩٣).

(٢) راجع في بيان آراء هذه الفرقة. (الفرق بين الفرق ص ٨٢ ومقالات الإسلاميين والتبصير).

(٣) هو رأس الأزارقة وإليه نسبتهم خرج في آخر دولة يزيد بن معاوية وكان يعترض الناس بما يحيّر العقل واشتدت شوكته وكثرت جموعه فبعث إليه عبد الله بن الحارث بن مسلم بن عبس بن كريز على رأس جيش كثيف فقتل سنة ٦٥ ه‍ / ٦٨٥ م. (راجع الكامل للمبرد ٢ : ١٧١ ورغبة الآمل ٧ : ١٠٣ وخطط المقريزي ٢ : ٣٥٤).

(٤) من علماء الخوارج وأمرائهم. ولما قال نافع بتكفير «القعدة» فارقه مع آخرين وانصرف إلى «نجدة بن ـ

١٣٧

وعبد الله (١) بن الماحوز وأخواه عثمان والزبير ، وعمرو (٢) بن عمير العنبري ، وقطريّ (٣) بن الفجاءة المازني ، وعبيدة بن هلال اليشكري (٤) ، وأخوه محرز بن هلال ، وصخر بن حبيب التميمي ، وصالح (٥) بن مخراق العبدي ، وعبد ربه (٦) الكبير ، وعبد ربه (٧) الصغير ، في زهاء ثلاثين ألف فارس ممن يرى رأيهم ، وينخرط في سلكهم.

__________________

ـ عامر» فبايعه ، ثم أنكر على نجدة أنه كان يرى الجهل بالشريعة عذرا لمن خالفها ففارقه مع أبي فديك (عبد الله بن ثور) ثم برئ من أبي فديك فانقسم الخوارج إلى فرقتين : «فديكية» تتبع أبا فديك ، و «عطوية» على مذهب عطية. توفي نحو سنة ٧٥ ه‍ / نحو ٦٩٥ م. (راجع الحور العين ١٧٠ واللباب ٢ : ١٤٢).

(١) عبد الله بن الماحوز وبنو الماحوز هم الزبير ، وعثمان وعلي ، وعبد الله ، وعبيد الله بنو بشير بن يزيد المعروف بالماحوز وهم من بني الحارث بن سليط وكلهم من أمراء الأزارقة. (راجع الكامل وشرحه ٧ : ٢٢٩).

(٢) هو من رءوس الخوارج وهو من بني تميم وكان ابنه عطية من فرسان بني تميم وشجعانهم وقد أبلى مع المغيرة وهو الذي يقول :

يدعى رجال للعطاء وإنما

يدعى عطية للطعان الأجرد

(راجع الكامل وشرحه ٨ : ١٢).

(٣) من رؤساء الأزارقة وأبطالهم. من أهل «قطر» قرب البحرين. استفحل أمره في زمن مصعب بن الزبير لما ولي العراق نيابة عن أخيه عبد الله. وبقي قطري ثلاث عشرة سنة يقاتل ويسلّم عليه بالخلافة وإمارة المؤمنين. والحجاج بن يوسف يسيّر إليه جيشا بعد جيش وهو يردّهم ويظهر عليهم. اختلف المؤرخون في مقتله. توفي سنة ٧٨ ه‍ / ٦٩٧ م. (راجع وفيات الأعيان ١ : ٤٣٠ والبيان والتبيين ١ : ٣٤١).

(٤) من رؤساء الأزارقة وشعرائهم وخطبائهم. كان في أول خروجه من المقدمين فيهم وأرادوا مبايعته ، فقال : أدلكم على من هو خير لكم مني : قطري بن الفجاءة. فبايعوا قطريا وظل عبيدة إلى جانبه زمنا. وعند ما وقع الخلاف بين الأزارقة فارقه وانحاز إلى حصن مومس (في ذيل جبال طبرستان) ، فقتله فيه سفيان بن الأبرد الكلبي بأمر من الحجاج بن يوسف ، توفي سنة ٧٧ ه‍ / ٦٩٦ م. (راجع رغبة الآمل ٧ : ١٩٧).

(٥) من رؤساء الخوارج. (راجع ابن أبي الحديد ١ : ٤٠١).

(٦) من رءوس الخوارج. كان بائع رمان ومن موالي قيس بن ثعلبة. (راجع شرح النهج ١ : ٣٠٤).

(٧) هو أحد موالي قيس بن ثعلبة ، من رءوس الخوارج ، وكان معلم كتاب وقد بايعته طائفة منهم في حرب المهلب. (راجع شرح نهج البلاغة ١ : ٤٠٣).

١٣٨

فأنفذ إليهم عبد الله (١) بن الحارث بن نوفل النوفلي بصاحب جيشه مسلم (٢) بن عبيس بن كريز بن حبيب ، فقتله الخوارج وهزموا أصحابه. فأخرج إليهم أيضا عثمان (٣) بن عبيد الله بن معمر التميمي فهزموه. فأخرج إليهم حارثة (٤) بن بدر الغداني في جيش كثيف فهزموه. وخشي أهل البصرة على أنفسهم وبلدهم من الخوارج. فأخرج إليهم المهلب (٥) بن أبي صفرة فبقي في حرب الأزارقة تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيام الحجاج. ومات نافع قبل وقائع المهلب مع الأزارقة ، وبايعوا بعده قطري بن الفجاءة المازني وسموه أمير المؤمنين.

وبدع الأزارقة ثمانية :

إحداها : أنه أكفر عليا رضي الله عنه ، وقال : إن الله أنزل في شأنه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا* وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ

__________________

(١) وال من أشراف قريش من أهل المدينة. أمّه هند أخت معاوية. كانت ترقصه وتسميه ببّة. وكان ورعا. ولّاه ابن الزبير على البصرة. ولما قامت فتنة ابن الأشعث خرج إلى عمان هاربا من الحجاج ، فتوفي فيها سنة ٨٤ ه‍ / ٧٠٣ م. (راجع الإصابة الترجمة ٤٥٩٦ ونسب قريش ص ٤٠١).

(٢) كان فارسا شجاعا دينا ، أمر على الجيش فلما نفد من جسر البصرة أقبل على الناس وقال : إني ما خرجت لامتيار ذهب ولا فضة ، وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلّا سيوفهم ورماحهم فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه.

فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق وقتل في المعركة سنة ٦٥ ه‍. (راجع الأغاني تحقيق عبد الأمير علي مهنا ط. دار الكتب العلمية ٦ : ١٥٢).

(٣) قائد من الشجعان من أهل الحجاز نعته المهلب بن أبي صفرة بالعجل المفرط. كان مع أخيه عمر في العراق. ولي أخوه البصرة فجهزه منها بجيش من اثني عشر ألفا لمحاربة الأزارقة وهم في سوق الأهواز وأميرهم عبيد الله بن بشر (ابن الماحوز) فقتل عثمان في معركة معهم وانهزم أصحابه. توفي نحو سنة ٦٢ ه‍ / نحو ٦٨٢ م. (راجع رغبة الآمل ٨ : ٦ ـ ١٥).

(٤) هو حارثة بن بدر بن حصين التميمي الغداني : تابعي من أهل البصرة. أمر على قتال الخوارج في العراق فهزموه بنهر تيرا (من نواحي الأهواز) فلما أرهقوه دخل سفينة بمن معه فغرقت بهم ، توفي سنة ٦٤ ه‍ / ٦٨٤ م. (راجع الإصابة ١ : ٣٧١ وابن أبي الحديد ص ٣٨٣).

(٥) أمير خراسان ، صاحب الحروب والفتوح. حارب الأزارقة وأباد منهم ألوفا. توفي سنة ٨٢ ه‍. (راجع الشذرات ١ : ٥٤ ، ٧٣ ، ٩٠).

١٣٩

الْخِصامِ) (١) وصوب عبد الرحمن (٢) بن ملجم لعنه الله ، وقال : إن الله تعالى أنزل في شأنه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٣).

وقال عمران (٤) بن حطان ، وهو مفتي الخوارج وزاهدها وشاعرها الأكبر ، في ضربة ابن ملجم لعنه الله لعلي رضي الله عنه :

يا ضربة من منيب ما أراد بها

إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إنّي لأذكره يوما فأحسبه

أوفى البريّة عند الله ميزانا

وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة ، وزادوا عليه تكفير عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وعائشة ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وسائر المسلمين معهم ، وتخليدهم في النار جميعا.

والثانية : أنه أكفر القعدة (٥) ، وهو أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال وإن كان موافقا له على دينه ، وأكفر من لم يهاجر إليه.

والثالثة : إباحته قتل أطفال المخالفين والنسوان معهم.

والرابعة : إسقاط الرجم عن الزاني ، إذ ليس في القرآن ذكره. وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصنين من الرجال ، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء.

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٢٠٤.

(٢) فاتك ، ثائر ، أدرك الجاهلية ، قرأ على معاذ بن جبل فكان من القراء وأهل الفقه. كان من شيعة علي ثم خرج عليه واتفق مع «البرك» و «عمرو بن بكر» على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص. ولما خرج علي من الصلاة ضربه ابن ملجم فأصاب مقدم رأسه فتوفي علي من أثر الجرح. وقتل ابن ملجم سنة ٤٠ ه‍ / ٦٦٠ م. (راجع المبرد ٢ : ١٣٦).

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٠٧.

(٤) هو أبو سماك رأس القعدة من الصفرية وخطيبهم وشاعرهم توفي سنة ٨٤ ه‍ / ٧٠٣ م. (راجع الإصابة الترجمة ٦٨٧٧).

(٥) القعدة : الذين قعدوا عن نصرة علي وعن مقاتلته أيضا. وينسب إليهم فيقال : «قعدي».

١٤٠