الملل والنّحل - ج ١

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٠٧

قوله : إن كلام الباري تعالى إذا قرئ فهو عرض ، وإذا كتب فهو جسم. ومن العجب أن الزعفرانية (١) قالت كلام الله غيره ، وكل ما هو غيره فهو مخلوق ، ومع ذلك قالت : كل من قال إن القرآن مخلوق (٢) فهو كافر. ولعلهم أرادوا بذلك الاختلاف ، وإلا فالتناقض ظاهر. والمستدركة (٣) منهم زعموا أن كلامه غيره ، وهو مخلوق لكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلام الله غير مخلوق» والسلف عن آخرهم أجمعوا على هذه العبارة ، فوافقناهم ، وحملنا قولهم غير مخلوق ، أي على هذا الترتيب والنظم من الحروف والأصوات ، بل هو مخلوق على غير هذه الحروف بعينها ، وهذه حكاية عنها. وحكى الكعبي عن النجار أنه قال : الباري تعالى بكل مكان ذاتا ، ووجودا لا معنى العلم والقدرة ، وألزمه محالات على ذلك.

وقال في المفكر قبل ورود السمع مثل ما قالت المعتزلة إنه يجب عليه تحصيل المعرفة بالنظر والاستدلال.

وقال في الإيمان إنه عبارة عن التصديق. ومن ارتكب كبيرة ومات عليها من غير توبة عوقب على ذلك ، ويجب أن يخرج من النار ، فليس من العدل التسوية بينه وبين الكفار في الخلود.

ومحمد (٤) بن عيسى الملقب ببرغوث ، وبشر (٥) بن غياث المريسي ،

__________________

(١) كان الزعفراني يعبر عن مذهبهم بعبارات متناقضة فكان يقول : إن كلام الله تعالى غيره ـ وكل ما هو غير الله تعالى مخلوق ، ثم يقول مع ذلك : الكلب خير ممّن يقول كلام الله مخلوق. (راجع الفرق بين الفرق ص ٢٠٩ والتبصير ص ٦٢).

(٢) راجع كلام الخلفاء والصحابة والتابعين في خلق القرآن في كتاب «الأسماء والصفات» ص ٢٣٩.

(٣) افترقوا فرقتين. فقالت فرقة منهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كلام الله تعالى مخلوق ، على هذا الترتيب بهذه الحروف. وقالوا : وكل من لم يقل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذا فهو كافر. وقالت الفرقة الأخرى : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقل أن كلام الله تعالى مخلوق ، ولم يتكلم بهذه الكلمة على هذا الترتيب ، ولكنه يعتقد أن كلام الله تعالى مخلوق وتكلّم بكلمات تدل على أن القرآن مخلوق. (راجع التبصير ص ٦٢ والفرق بين الفرق ص ٢٠٨).

(٤) كان على مذهب النجار في أكثر مذاهبه وخالفه في تسمية المكتسب فاعلا.

(٥) هو أبو عبد الرحمن. فقيه معتزلي عارف بالفلسفة يرمى بالزندقة. وهو رأس الطائفة «المريسيّة» القائلة ـ

١٠١

والحسين النجار متقاربون في المذهب ، وكلهم أثبتوا كونه تعالى مريدا لم يزل لكل ما علم أنه سيحدث من خير وشر وإيمان وكفر ، وطاعة ومعصية ، وعامة المعتزلة يأبون ذلك.

٣ ـ الضّرارية (١)

أصحاب ضرار بن عمرو (٢) ، وحفص الفرد (٣) ، واتفقا في التعطيل ، وعلى أنهما قالا : الباري تعالى عالم قادر ، على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز ، وأثبتا لله سبحانه ماهية لا يعلمها إلا هو ، وقالا : إن هذه المقالة محكية عن أبي حنيفة (٤) رحمه‌الله وجماعة من أصحابه. وأرادا بذلك أنه يعلم نفسه شهادة ، لا بدليل ولا خبر. ونحن نعلمه بدليل وخبر. وأثبتا حاسة سادسة للإنسان يرى بها الباري تعالى يوم الثواب في الجنة (٥). وقالا : أفعال العباد مخلوقة للباري تعالى حقيقة ،

__________________

ـ بالإرجاء وإليه نسبتها. أخذ الفقه عن القاضي أبو يوسف وقال برأي الجهمية ، وأوذي في دولة هارون الرشيد. وكان جدّه مولى لزيد بن الخطاب. وقيل : كان أبوه يهوديا. توفي سنة ٢١٨ ه‍ / ٨٣٣ م.

(راجع النجوم الزاهرة ٢ : ٢٨٨ وتاريخ بغداد ٧ : ٥٦).

(١) راجع في شأن هذه الفرقة التبصير ص ٦٢ والتنبيه ص ٤٣ واعتقادات فرق المسلمين ص ٦٩ والفرق بين الفرق ص ٢١٣.

(٢) هو قاضي من كبار المعتزلة. طمع في رياستهم في بلده فلم يدركها. فخالفهم فكفروه وطردوه ، صنّف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الردّ عليهم وعلى الخوارج ، وفيها ما هو مقالات خبيثة. شهد عليه الإمام أحمد بن حنبل عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن الجمحي فأفتى بضرب عنقه فهرب. وقيل إن يحيى بن خالد البرمكي أخفاه. قال الجشمي : ومن عدّه من المعتزلة فقد أخطأ ، لأنّا نتبرّأ منه فهو من المجبرة. توفي نحو سنة ١٩٠ ه‍ / نحو ٨٠٥ م. (راجع لسان الميزان ٣ : ٣٠٣ وفضل الاعتزال ٣٩١).

(٣) حفص الفرد : قال عنه ابن النديم «من المجبرة ومن أكابرهم ، نظير النجار ، ويكنّى أبا عمرو ، وكان من أهل مصر ، قدم البصرة فسمع بأبي الهذيل واجتمع معه وناظره ، فقطعه أبو الهذيل ، وكان أولا معتزليا ثم قال بخلق الأفعال وكان يكنى أبا يحيى ثم ذكر له عدة كتب. (الفهرست ص ٢٦٩) وقال الذهبي «حفص الفرد : مبتدع. قال النسائي : صاحب كلام لكنه لا يكتب حديثه. وكفّره الشافعي في مناظرته». (راجع ميزان الاعتدال ١ : ٥٦٤ الترجمة رقم ٢١٤٣).

(٤) هو أبو حنيفة النعمان بن ثابت. الإمام الفقيه الكوفي. توفي سنة ١٥٠ ه‍.

(٥) قال عبد القاهر في (الفرق بين الفرق ص ٢١٤) : «وانفرد بأشياء منكرة منها قوله بأن الله تعالى يرى في القيامة بحاسة سادسة يرى بها المؤمنون ماهيّة الإله ، وقال : لله تعالى ماهية لا يعرفها غيره. يراها المؤمنون بحاسة سادسة وتبعه على هذا القول حفص الفرد».

١٠٢

والعبد مكتسبها حقيقة. وجواز حصول فعل بين فاعلين ، وقالا يجوز أن يقلب الله تعالى الأعراض أجساما ، والاستطاعة والعجز بعض الجسم وهو جسم ولا محالة بنفي زمانين. وقالا : الحجة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإجماع فقط ، فما ينقل عنه في أحكام الدين من طريق أخبار الآحاد فغير مقبول (١).

ويحكى عن ضرار أنه كان ينكر حرف عبد الله (٢) بن مسعود ، وحرف أبي بن كعب(٣) ، ويقطع بأن الله تعالى لم ينزله (٤).

__________________

(١) أمّا حقيقة هذه الإضافة في اللغة فإنه خبر واحد وإنّ الراوي له واحد فقط لا اثنان ولا أكثر من ذلك.

غير أن المتكلّمين والفقهاء قد تواضعوا على تسمية كل خبر قصر على إيجاب العلم بأنه خبر واحد ... وهذا الخبر لا يوجب العلم ، ولكن يوجب العمل إن كان ناقله عدلا ولم يعارضه ما هو أقوى منه. فمتى صحّ إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل ، كانت موجبة للعمل بها دون العلم ، وكانت بمنزلة شهادة العدول عند الحاكم في أن يلزمه الحكم بها في الظاهر ، وإن لم يعلم صدقهم في الشهادة ، وبهذا النوع من الخبر أثبت الفقهاء أكثر فروع الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات وسائر أبواب الحلال والحرام وضلّلوا من أسقط وجوب العمل بأخبار الآحاد. (راجع التمهيد ص ١٩٤).

(٢) هو أحد القرّاء الأربعة من السابقين صحابي ، من أكابرهم فضلا وعقلا وقربا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كان خادم رسول الله الأمين وصاحب سرّه ورفيقه في حلّه وترحاله وغزواته. له ٨٤٨ حديثا. توفي سنة ٣٢ ه‍ / ٦٥٣ م. (راجع الإصابة ت ٤٩٥٥ والبدء والتاريخ ٥ : ٩٧).

(٣) هو أبو المنذر : أبي بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي النجاري. كان أقرأ الصحابة وسيّد القرّاء. شهد بدرا والمشاهد كلها. وقرأ القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمع بين العلم والعمل. توفي سنة ١٩ ه‍. وقيل سنة ٢٢ ه‍. (راجع تذكرة الحفاظ رقم ٦ ومشاهير علماء الأمصار رقم ٣١).

(٤) قراءة ابن مسعود هي قراءة عاصم بن بهدلة أبي النجود شيخ الأقراء بالكوفة ، وقد أقرأها أبا بكر بن عياش ، وهي القراءة التي كان يعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود. وفي تاريخ المصاحف بيان لحروف ابن مسعود ومصحفه. أمّا قراءة أبيّ فقد أخذ بها عبد الله بن حبيب أبو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة وإليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا وممّن أخذ عنه عاصم. وبتاريخ المصاحف بيان لمصحفه والقراءتان متوافرتان ولهما قراءة تجري مجرى التفسير المشهور. وإنكار حرف منهما يكون إنكارا لبعض القرآن وإنكار بعضه كإنكار كلّه وهو كفر فوق ما فيه من نسبته إليهما الإفتاءات على الله في مصحفيهما.

ولقد زاد في غلوائه فشكّ في جميع عامة المسلمين وقال لا أدري لعل سرائر العامة كلها شرك وكفر وهذا خلاف إجماع أهل السنّة حيث قالوا : إنّا نقطع أن في عوام المسلمين مؤمنين عارفين براء من الكفر والشرك. (راجع غاية النهاية أول ص ٣٤٧ وص ٤١٣ وتاريخ المصاحف ص ٥٣ وص ٥٤ والتبصير ص ٦٣).

١٠٣

وقال في المفكر قبل ورود السمع إنه لا يجب عليه بعقله شيء حتى يأتيه الرسول فيأمره وينهاه ، ولا يجب على الله تعالى شيء بحكم العقل. وزعم ضرار أيضا أن الإمامة تصلح في غير قريش ، حتى إذا اجتمع قرشي ونبطي قدمنا النبطي ، إذ هو أقل عددا ، وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة.

والمعتزلة وإن جوزوا الإمامة غي غير قريش ، إلا أنهم لا يجوزون تقديم النبطي على القرشي.

الفصل الثالث

الصفاتية

اعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم ، والقدرة ، والحياة ، والإرادة والسمع ، والكلام ، والجلال ، والإكرام ، والجود ، والإنعام ، والعزة ، والعظمة. ولا يفرقون بين صفات الذات ، وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقا واحدا. وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين ، والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون : هذه الصفات قد وردت في الشرع ، فنسميها صفات خبرية. ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون ، سمي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة.

فبالغ السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات. واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر ؛ فافترقوا فرقتين :

فمنهم من أوّله على وجه يحتمل اللفظ ذلك.

ومنهم من توقف في التأويل ، وقال : عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء ، فلا يشبه شيئا من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها ، وقطعنا بذلك ، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ

١٠٤

اسْتَوى) (١) ومثل قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) ومثل قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) (٣) إلى غير ذلك. ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له ، وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقينا.

ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف ؛ فقالوا : لا بد من إجرائها على ظاهرها ، فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما اعتقده السلف. ولقد كان التشبيه صرفا خالصا في اليهود ، لا في كلهم بل في القرائين (٤) منهم ، إذ وجدوا في التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك.

ثم الشيعة في هذه الشريعة وقعوا في غلو وتقصير. أما الغلو فتشبيه بعض أئمتهم بالإله تعالى وتقدس. وأما التقصير فتشبيه الإله بواحد من الخلق. ولما ظهرت المعتزلة والمتكلمون من السلف رجعت بعض الروافض عن الغلوّ والتقصير ، ووقعت في الاعتزال وتخطت جماعة من السلف إلى التفسير الظاهر فوقعت في التشبيه.

وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل ، ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم : مالك بن أنس رضي الله عنهما ، إذ قال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة. ومثل أحمد بن حنبل رحمه‌الله ، وسفيان الثوري ، وداود بن عليّ الأصفهاني ، ومن تابعهم.

حتى انتهى الزمان إلى عبد الله بن سعيد الكلابي ، وأبي العباس القلانسي ،

__________________

(١) سورة طه : الآية ٥.

(٢) سورة ص : الآية ٧٥.

(٣) سورة الفجر : الآية ٢٢.

(٤) القراءون : هم فرقة من اليهود ، وهم بنو مقرا ومعنى مقرا الدعوة ، وهم يحكمون نصوص التوراة ولا يلتفتون إلى قول من خالفها. ويقفون مع النص دون تقليد من سلف وهم مع الربانيين من العداوة بحيث لا يتناكحون ولا يتجاورون ، ولا يدخل بعضهم كنيسة بعض. (راجع خطط المقريزي ٤ : ٣٦٩).

١٠٥

والحارث بن أسد المحاسبي ، وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام ، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية ، وبراهين أصولية. وصنف بعضهم ودرس بعض حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح فتخاصما. وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة ، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية ، وصار ذلك مذهبا لأهل السنّة والجماعة ، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية. ولما كانت المشبهة والكرامية (١) من مثبتي الصفات عددناهم فرقتين من جملة الصفاتية.

١ ـ الأشعرية

أصحاب أبي الحسن (٢) علي بن إسماعيل الأشعري ، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما. وسمعت من عجيب الاتفاقات أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كان يقرر عين ما يقرر الأشعري أبو الحسن في مذهبه. وقد جرت مناظرة بين عمرو بن العاص وبينه ، فقال عمرو : أين أجد أحدا أحاكم إليه ربي؟ فقال أبو موسى : أنا ذلك المتحاكم إليه. فقال عمرو : أو يقدّر عليّ شيئا ثم يعذبني عليه؟ قال : نعم. قال عمرو : ولم؟ قال : لأنه لا يظلمك. فسكت عمرو ، ولم يحر جوابا.

قال الأشعري : الإنسان إذا فكر في خلقته ، من أي شيء ابتدأ ، وكيف دار في أطوار الخلقة طورا بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة ، وعرف يقينا أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته ، وينقله من درجة إلى درجة ، ويرقيه من نقص إلى كمال ، علم بالضرورة أن له صانعا قادرا ، عالما ، مريدا ، إذ لا يتصور حدوث هذه الأفعال المحكمة من طبع لظهور آثار الاختيار في الفطرة ، وتبين آثار الإحكام والإتقان في

__________________

(١) أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام وسيأتي الكلام على الكرامية في موضعه.

(٢) هو أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري : مؤسس مذهب الأشاعرة : كان من الأئمة المتكلّمين المجتهدين. قيل : بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب من أشهرها : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين. توفي سنة ٣٢٤ ه‍ / ٩٣٦ م. (راجع طبقات الشافعية ٢ : ٢٤٥ والمقريزي ٢ : ٣٥٩).

١٠٦

الخلقة. فله صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها. وكما دلت الأفعال على كونه عالما ، مريدا ، دلت على العلم والقدرة والإرادة ، لأن وجه الدلالة لا يختلف شاهدا وغائبا. وأيضا لا معنى للعالم حقيقة إلا أنه ذو علم ، ولا للقادر إلا أنه ذو قدرة ، ولا للمريد إلا أنه ذو إرادة ، فيحصل بالعلم الإحكام والاتقان. ويحصل بالقدرة الوقوع والحدوث. ويحصل بالإرادة التخصيص بوقت دون وقت ، وقدر دون قدر ، وشكل دون شكل. وهذه الصفات لن يتصور أن يوصف بها الذات إلا وأن يكون الذات حيا بحياة للدليل الذي ذكرناه.

وألزم منكري الصفات إلزاما لا محيص لهم عنه ، وهو أنكم وافقتمونا بقيام الدليل على كونه عالما قادرا فلا يخلو إما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدا أو زائدا ، فإن كان واحدا فيجب أن يعلم بقادريته ، ويقدر بعالميته. ويكون من علم الذات مطلقا علم كونه عالما قادرا ، وليس الأمر كذلك ، فعلم أن الاعتبارين مختلفان. فلا يخلو إما أن يرجع الاختلاف إلى مجرد اللفظ أو إلى الحال ، أو إلى الصفة. وبطل رجوعه إلى اللفظ المجرد ، فإن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين. ولو قدر عدم الألفاظ رأسا ما ارتاب العقل فيما تصوره وبطل رجوعه إلى الحال ، فإن إثبات صفة لا توصف بالوجود ولا بالعدم إثبات واسطة بين الوجود والعدم ، والإثبات والنفي ، وذلك محال. فتعين الرجوع إلى صفة قائمة بالذات وذلك مذهبه.

* * *

على أن القاضي الباقلاني (١) من أصحاب الأشعري قد ردد قوله في إثبات الحال ونفيها وتقرر رأيه على الإثبات ، ومع ذلك أثبت الصفات معاني قائمة به

__________________

(١) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب ، المعروف بالباقلاني المتكلم المشهور ، كان على مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ومؤيدا اعتقاده وناصرا طريقته وقد صنّف التصانيف الكثيرة المشهورة في علم الكلام وغيره وكان في علمه أوحد زمانه. توفي سنة ٤٠٣ ه‍. (راجع ابن خلكان أول ص ٦٠٩).

١٠٧

لا أحوالا. وقال : الحال الذي أثبته أبو هاشم هو الذي نسميه صفة خصوصا إذا أثبت حالة أوجبت تلك الصفات.

قال أبو الحسن : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حي بحياة ، مريد بإرادة ، متكلم بكلام ، سميع يسمع ، بصير يبصر. وله في البقاء اختلاف رأي.

قال : وهذه الصفات أزلية قائمة بذاته تعالى. لا يقال : هي هو ، ولا هي غيره ، ولا : لا هو ، ولا : لا غيره. والدليل على أنه متكلم بكلام قديم ، ومريد بإرادة قديمة أنه قد قام الدليل على أنه تعالى ملك ، والملك من له الأمر والنهي فهو آمر ، ناه. فلا يخلو إما أن يكون آمرا بأمر قديم ، أو بأمر محدث. وإن كان محدثا فلا يخلو : إما أن يحدثه في ذاته ، أو في محل أو لا في محل. ويستحيل أن يحدثه في ذاته ، لأنه يؤدي إلى أن يكون محلا للحوادث ، وذلك محال. ويستحيل أن يحدثه في محل ، لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفا. ويستحيل أن يحدثه لا في محل ، لأن ذلك غير معقول. فتعين أنه قديم ، قائم به صفة له ، وكذلك التقسيم في الإرادة والسمع والبصر.

قال : وعلمه واحد يتعلق بجميع المعلومات : المستحيل ، والجائز ، والواجب ، والموجود ، والمعدوم. وقدرته واحدة تتعلق بجميع ما يصلح وجوده من الجائزات. وإرادته واحدة تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص. وكلامه واحد هو : أمر ونهي ، وخبر ، واستخبار ، ووعد ، ووعيد. وهذه الوجوه ترجع إلى اعتبارات في كلامه ، لا إلى عدد في نفس الكلام. والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم‌السلام دلالات على الكلام الأزلي ، والدلالة مخلوقة محدثة ، والمدلول قديم أزلي. والفرق بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو كالفرق بين الذّكر والمذكور فالذّكر ، محدث والمذكور قديم (١).

__________________

(١) قال الله جلّ ثناؤه ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ، وقال : والطور وكتاب مسطور في رق منشور. وقال جل وعلا : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. وقال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ). وقال عزوجل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ ـ

١٠٨

وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية ؛ إذ أنهم قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة. والكلام عند الأشعري معنى قائم بالنفس سوى العبارة. والعبارة دلالة عليه من الإنسان. فالمتكلم عنده من قام به الكلام. وعند المعتزلة من فعل الكلام غير أن العبارة تسمى كلاما : إما بالمجاز ، وإما باشتراك اللفظ.

قال : وإرادته واحدة قديمة ، أزلية ، متعلقة بجميع المرادات من أفعاله الخاصة وأفعال عباده ، من حيث أنها مخلوقة له ، لا من حيث إنها مكتسبة لهم. فمن هذا قال : أراد الجميع : خيرها ، وشرها ، ونفعها ، وضرها. وكما أراد وعلم ، أراد من العباد ما علم. وأمر القلم حتى كتب في اللوح المحفوظ ، فذلك حكمه وقضاؤه وقدره الذي لا يتغير ولا يتبدل. وخلاف المعلوم : مقدور الجنس ، محال الوقوع.

وتكليف ما لا يطاق جائز على مذهبه للعلة التي ذكرناها. ولأن الاستطاعة عنده عرض ، والعرض لا يبقى زمانين. ففي حال التكليف لا يكون المكلف قط قادرا ، لأن المكلف من يقدر على إحداث ما أمر به. فأما أن يجوز ذلك في حق من لا قدرة له أصلا على الفعل فمحال ، وإن وجد ذلك منصوصا عليه في كتابه.

قال : والعبد قادر على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة ، وبين حركات الاختيار والإرادة. والتفرقة راجعة إلى أن

__________________

ـ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً). فالقرآن الذي نتلوه كلام الله تعالى وهو متلو بألسنتنا على الحقيقة ، مكتوب في مصاحفنا ، محفوظ في صدورنا ومسموع بأسماعنا ، غير حال في شيء منها ، إذ هو من صفات ذاته ، غير بائن منه ، وهو كما أن الباري عزوجل معلوم بقلوبنا مذكور بألسنتنا مكتوب في كتبنا معبود في مساجدنا مسموع بأسماعنا غير حال في شيء منها. وأما قراءتنا وكتبنا وحفظنا فهي من اكتسابنا ، وأكسابنا مخلوق لا شك فيه. قال الله عزوجل ، : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وسمى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تلاوة القرآن فعلا. (راجع الأسماء والصفات ص ٢٥٨).

١٠٩

الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة ، متوقفة على اختيار القادر. فعن هذا قال : المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة ، والحاصل تحت القدرة الحادثة.

ثم على أصل أبي الحسين : لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث ، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض. فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث الألوان ، والطعوم ، والروائح. وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام ، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماء على الأرض بالقدرة الحادثة غير أن الله تعالى أجرى سنته بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة ، أو تحتها ، أو معها : الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له ، ويسمى هذا الفعل كسبا ، فيكون خلقا من الله تعالى إبداعا وإحداثا ، وكسبا من العبد : حصولا تحت قدرته.

والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا ، فقال : الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أخر ، هن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزا ، قابلا للعرض. ومن كون العرض عرضا ، ولونا ، وسوادا وغير ذلك. وهذه أحوال عند مثبتي الأحوال. قال : فجهة كون الفعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة ، ويسمى ذلك كسبا ، وذلك هو أثر القدرة الحادثة.

قال : وإذا جاز على أصل المعتزلة أن يكون تأثير القدرة أو القادرية القديمة في حال هو الحدوث والوجود ، أو في وجه من وجوه الفعل ، فلم لا يجوز أن يكون تأثير القدرة الحادثة في حال : هو صفة للحادث ، أو في وجه من وجوه الفعل ؛ وهو كون الحركة مثلا على هيئة مخصوصة؟ وذلك أن المفهوم من الحركة مطلقا ومن العرض مطلقا غير المفهوم من القيام والقعود ، وهما حالتان متمايزتان ، فإن كل قيام حركة ، وليس كل حركة قياما.

١١٠

ومن المعلوم أن الإنسان يفرق فرقا ضروريا بين قولنا : أوجد ، وبين قولنا : صلى ، وصام ، وقعد ، وقام ، وكما لا يجوز أن يضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد ، فكذلك لا يجوز أن يضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى.

فأثبت القاضي تأثيرا للقدرة الحادثة وأثرها : هي الحالة الخاصة ، وهي جهة من جهات الفعل حصلت من تعلق القدرة الحادثة بالفعل. وتلك الجهة هي المتعينة لأن تكون مقابلة بالثواب والعقاب. فإن الوجود من حيث هو وجود لا يستحق عليه ثواب وعقاب ، خصوصا على أصل المعتزلة ، فإن جهة الحسن والقبح هي التي تقابل بالجزاء. والحسن والقبح صفتان ذاتيتان وراء الوجود. فالموجود من حيث هو موجود ليس بحسن ولا قبيح.

قال : فإذا جاز لكم إثبات صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة. ومن قال : هي حالة مجهولة ، فبينا بقدر الإمكان جهتها وعرفناها إيش (١) هي ، ومثلناها كيف هي.

* * *

ثم إن إمام الحرمين (٢) أبا المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا. قال : أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحسن. وأما إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلا. وأما إثبات تأثير في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم. فلا بد إذن من

__________________

(١) إيش : عربية عامية منحوتة من أي شيء. وقيل إيش في معنى أي شيء ، كما يقال ويلمّه في معنى ويل لأمّه على الحذف لكثرة الاستعمال.

(٢) هو عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف أبو المعالي ، ركن الدين ، الملقّب بإمام الحرمين : أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي ، ولد في جوين (من نواحي نيسابور). ذهب إلى المدينة فأفتى ودرس جامعا طرق المذاهب. ثم عاد إلى نيسابور فبنى له الوزير نظام الملك «المدرسة النظامية» فيها. له مصنفات كثيرة. توفي سنة ٤٧٨ ه‍ / ١٠٨٥ م. (راجع وفيات الأعيان ومفتاح السعادة ١ : ٤٤٠).

١١١

نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة ، لا على وجه الإحداث والخلق ، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار ، يحس من نفسه أيضا عدم الاستقلال ، فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة. وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب. فهو الخالق للأسباب ومسبباتها ، المستغني على الإطلاق ، فإن كل سبب مهما استغنى من وجه محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق ، الذي لا حاجة له ولا فقر.

وهذا الرأي إنما أخذه من الحكماء الإلهيين وأبرزه في معرض الكلام. وليس يختص نسبة السبب إلى المسبب على أصله بالفعل والقدرة ، بل كل ما يوجد من الحوادث فذلك حكمه. وحينئذ يلزم القول بالطبع ، وتأثير الأجسام في الأجسام إيجادا ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثا ، وليس ذلك مذهب الإسلاميين. كيف ورأي المحققين من الحكماء أن الجسم لا يؤثر في إيجاد الجسم ، قالوا : الجسم لا يجوز أن يصدر عن جسم ، ولا عن قوة ما في جسم ، فإن الجسم مركب من مادة وصورة ، فلو أثر لأثر بجهتيه ، أعني بمادته وصورته والمادة لها طبيعة عدمية ، فلو أثرت لأثرت بمشاركة العدم ، والتالي محال ، فالمقدم إذن محال فنقيضه حق ؛ وهو أن الجسم وقوة ما في الجسم لا يجوز أن يؤثر في جسم.

وتخطى من هو أشد تحققا وأغوص تفكرا عن الجسم وقوة ما في جسم ، إلى كل ما هو جائز بذاته ، فقال : كل ما هو جائز بذاته لا يجوز أن يحدث شيئا ما ، فإنه لو أحدث لأحدث بمشاركة الجواز ، والجواز له طبيعة عدمية. فلو خلى الجائز وذاته كان عدما. فلو أثر الجواز بمشاركة العدم ، لأدى إلى أن يؤثر العدم في الوجود ، وذلك محال ؛ فإذن لا موجد على الحقيقة إلا واجب الوجود لذاته وما سواه من الأسباب معدات لقبول الوجود ، لا محدثات لحقيقة الوجود ، ولهذا شرح سنذكره.

١١٢

ومن العجب أن مأخذ كلام الإمام أبي المعالي إذا كان بهذه المثابة ، فكيف يمكن إضافة الفعل إلى الأسباب حقيقة؟.

هذا ونعود إلى كلام صاحب المقالة. قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري : إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره ، فأخص وصفه تعالى هو : القدرة على الاختراع. قال : وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله.

وقال الأستاذ أبو إسحاق (١) الأسفرايني : أخص وصفه هو : كون يوجب تمييزه عن الأكوان كلها.

وقال بعضهم : نعلم يقينا أن ما من موجود إلا ويتميز عن غيره بأمر ما ، وإلا فيقتضي أن تكون الموجودات كلها مشتركة متساوية ، والباري تعالى موجود ، فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف ، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة والباري تعالى موجود ، فيجب أن يتميز عن سائر الموجودات بأخص وصف ، إلا أن العقل لا ينتهي إلى معرفة ذلك الأخص ، ولم يرد به سمع ، فنتوقف.

ثم هل يجوز أن يدركه العقل؟ ففيه خلاف أيضا ، وهذا قريب من مذهب ضرار ، غير أن ضرارا أطلق لفظ الماهية عليه تعالى ، وهو من حيث العبارة منكر.

ومن مذهب الأشعري : أن كل موجود يصح أن يرى ، فإن المصحح للرؤية إنما هو الوجود. والباري تعالى موجود فيصح أن يرى. وقد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الآخرة (٢) ، وقال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها

__________________

(١) هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران. عالم بالفقه والأصول. كان يلقب بركن الدّين. قال ابن تغري بردي : وهو أول من لقب من الفقهاء. نشأ في إسفرايين (بين نيسابور وجرجان) ثم خرج إلى نيسابور وبنيت له فيها مدرسة عظيمة فدرّس فيها. له كتاب «الجامع» في أصول الدين. مات في نيسابور سنة ٤١٨ ه‍ / ١٠٢٧ م. (راجع شذرات الذهب ٣ : ٢٠٩ وطبقات السبكي ٣ : ١١١).

(٢) قال علماء أهل السنّة إن رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا وأجمعوا على وقوعها في الآخرة. وأن المؤمنين يرون الله سبحانه وتعالى دون الكافرين بدليل قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ ـ

١١٣

ناظِرَةٌ) (١) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار. قال : ولا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة ، ومكان ، وصورة ومقابلة ، واتصال شعاع أو على سبيل انطباع ، فإن كل ذلك مستحيل.

وله قولان في ماهية الرؤية :

أحدهما : أنه علم مخصوص ، ويعني بالخصوص أنه يتعلق بالوجود دون العدم.

والثاني : إنه إدراك وراء العلم لا يقتضي تأثيرا في المدرك ، ولا تأثرا عنه.

وأثبت أن السمع والبصر للباري تعالى صفتان أزليتان ؛ هما إدراكان وراء العلم يتعلقان بالمدركات الخاصة بكل واحد بشرط الوجود. وأثبت اليدين ، والوجه صفات خبرية. فيقول : ورد بذلك السمع فيجب الإقرار به كما ورد ، وصغوه (٢) إلى طريقة السلف من ترك التعرض للتأويل ، وله قول أيضا في جواز التأويل.

ومذهبه في الوعد والوعيد ، والأسماء ، والأحكام ، والسمع ، والعقل مخالف للمعتزلة من كل وجه.

قال : الإيمان هو التصديق بالجنان. وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه. فمن صدق بالقلب أي أقر بوحدانية الله تعالى ، واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه ، حتى لو مات عليه في الحال كان مؤمنا ناجيا ، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك.

__________________

ـ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ). وما ذهبت إليه المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه وأن رؤيته مستحيلة عقلا ، هذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح. وقد تظاهرت أدلّة الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى ، وقد رواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (راجع لباب التأويل ٧ : ١٥٤).

(١) سورة القيامة : الآيتان ٢٢ و ٢٣.

(٢) صغوه : ميله. نقول : صغا إليه : أي مال.

١١٤

وصاحب الكبيرة إذا خرج من الدنيا من غير توبة يكون حكمه إلى الله تعالى ، إما أن يغفر له برحمته ، وإما أن يشفع فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قال : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» وإما أن يعذبه بمقدار جرمه ، ثم يدخله الجنة برحمته. ولا يجوز أن يخلد في النار مع الكفار ، لما ورد به السمع بالإخراج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. قال : ولو تاب فلا أقول بأنه يجب على الله تعالى قبول توبته بحكم العقل ، إذ هو الموجب ، فلا يجب عليه شيء ، بلى ورد السمع بقبول توبة التائبين ، وإجابة دعوة المضطرين ، وهو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة لم يكن حيفا. ولو أدخلهم لم يكن جورا ، إذ الظلم هو التصرف فيما لا يملكه المتصرف. أو وضع الشيء في غير موضعه ، وهو المالك المطلق فلا يتصور منه ظلم ، ولا ينسب إليه جور.

قال : والواجبات كلها سمعية ، والعقل لا يوجب شيئا ، ولا يقتضي تحسينا ولا تقبيحا ، فمعرفة الله بالعقل تحصل ، وبالسمع تجب ، قال الله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) وكذلك شكر المنعم ، وإثابة المطيع ، وعقاب العاصي يجب بالسمع دون العقل ، ولا يجب على الله تعالى شيء ما بالعقل ، لا الصلاح ، ولا الأصلح ، ولا اللطف ، وكل ما يقتضيه العقل من جهة الحكمة الموجبة ، فيقتضي نقيضه من وجه آخر.

وأصل التكليف لم يكن واجبا على الله إذ لم يرجع إليه نفع ، ولا اندفع به عنه ضر ، وهو قادر على مجازاة العبيد ثوابا وعقابا ، وقادر على الإفضال عليهم ابتداء تكرما وتفضلا. والثواب ، والنعيم ، واللطف كله منه فضل ، والعقاب والعذاب كله عدل (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢).

وانبعاث الرسل من القضايا الجائزة لا الواجبة ولا المستحيلة ، ولكن بعد

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٢٣.

١١٥

الانبعاث تأييدهم بالمعجزات (١) وعصمتهم (٢) من الموبقات من جملة الواجبات ، إذ لا بد من طريق للمستمع يسلكه ليعرف به صدق المدعي ، ولا بد من إزاحة العلل ؛ فلا يقع في التكليف تناقض.

والمعجزة : فعل خارق للعادة ، مقترن بالتّحدي ، سليم عن المعارضة ، يتنزل منزلة التصديق بالقول من حيث القرينة. وهو منقسم إلى خرق المعتاد ، وإلى إثبات غير المعتاد. والكرامات للأولياء حق ، وهي من وجه تصديق للأنبياء ، وتأكيد للمعجزات.

والإيمان والطاعة بتوفيق الله. والكفر والمعصية بخذلانه. والتوفيق عنده : خلق القدرة على الطاعة ، والخذلان عنده : خلق القدرة على المعصية. وعند بعض أصحابه : تيسير أسباب الخير هو التوفيق ، وبضده الخذلان. وما ورد به السمع من الإخبار عن الأمور الغائبة مثل : القلم ، واللوح ، والعرش ، والكرسي ، والجنة ، والنار ؛ فيجب إجراؤها على ظاهرها والإيمان بهما كما جاءت ، إذ لا استحالة في إثباتها. وما ورد من الأخبار عن الأمور المستقبلة في الآخرة مثل : سؤال القبر ، والثواب والعقاب فيه ، ومثل : الميزان ، والحساب ، والصراط ، وانقسام الفريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير ، حق يجب الاعتراف بها وإجراؤها على ظاهرها ، إذ لا استحالة في وجودها.

والقرآن عنده معجزة من حيث : البلاغة والنظم ، والفصاحة ، إذ خيّر العرب بين السيف وبين المعارضة. فاختاروا أشد القسمين اختيار عجز عن المقابلة. ومن

__________________

(١) كإحياء الموتى وقلب العصا حيّة ، وإخراج ناقة من صخرة وكلام الشجر والجماد والحيوان ، ونبع الماء من بين الأصابع ... (راجع لباب التأويل ٢ : ٢٢١).

(٢) العصمة : ملكة اجتناب المعاصي مع التمكّن منها. أو هي قوّة يودعها الله في عبده ، تمنعه عن ارتكاب شيء من المعاصي والمكروهات مع بقاء الاختيار أو لطف من الله يحمل عبده على فعل الخير ويمنعه عن الشر.

١١٦

أصحابه من اعتقد أن الإعجاز في القرآن من جهة صرف (١) الدواعي وهو المنع من المعارضة ، ومن جهة الإخبار عن الغيب.

وقال : الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين (٢) ؛ إذ لو كان ثمّ

__________________

(١) زعم النظام أن إعجاز القرآن ، بالصرفة ، أي أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي. وقال المرتضى من الشيعة بل صرفهم بأن سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة فهذا الصرف خارق للعادة فصار كسائر المعجزات. وهذا قول فاسد بدليل قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ...) الآية ، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم. هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز؟ بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله. ويلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدّي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول العظمى باقية. ولا معجزة له باقية على أنه لو كانوا صرفوا ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف لأنهم لم يتحدوا إليه ، ولم تلزمهم حجته ، فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله علم أن القول بالصرفة ظاهر البطلان. (راجع الإتقان ٢ : ١١٨ وشرح المواقف ٢ : ٤٢١ وإعجاز القرآن بهامش الإتقان ١ : ٤٥).

(٢) اختلف في طريق ثبوت الإمامة ، من نصّ أو اختيار. فقال الجمهور الأعظم من أصحابنا ومن المعتزلة والخوارج والنجارية ، إن طريق ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل الاجتهاد منهم واختيارهم من يصلح لها. وكان جائزا ثبوتها بالنص ، غير أن النص لم يرد فيها على واحد بعينه فصارت الأمة فيها إلى الاختيار. وزعمت الإمامية والجارودية من الزيدية والراوندية من العباسية أن الإمامة طريقها النص من الله تعالى على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإمام. ثم نص الإمام على الإمام بعده ، واختلف هؤلاء في علّة وجوب النص عليه فمنهم من بناه على أصله في إبطال الاجتهاد ، ومنهم من بناه على أصله في وجوب عصمة الإمام وزعم أن العصمة لا تعرف بالاجتهاد وإنما يعرف المعصوم بالنص. فأما البترية والجريرية من الزيدية فقد وافقوا الفريق الأول في الاختيار ، وإنما خالفوهم في تعيين الأولى بالإمامة. ودليل الجمهور أن النص على الإمام لو كان واجبا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانه لبيّنه على وجه تعلمه الأمة علما ظاهرا لا يختلفون فيه ، لأن فرض الإمامة يعمّ الكافّة معرفته ، كمعرفة القبلة وإعداد الركعات ولو وجد النص منه هكذا لنقلته الأمة بالتواتر ولعلموا صحته بالضّرورة كما اضطروا إلى سائر ما تواتر الخبر فيه فلما كنا مع كثرة عددنا وزيادتنا على جميع فرق المدّعين للنص غير مضطرين إلى العلم بذلك علمنا أن النص على واحد بعينه للإمامة لم يتواتر النقل فيه وإنما روي فيه أخبار آحاد من جهة الروافض وليست لهم معرفة بشروط الأخبار ولا رواتهم ثقات ، وبإزائها أخبار أشهر منها في النص على غير من يدعون النص عليه وكل منها غير موجب للعلم وإذا لم يكن فيه ما يوجب العلم صارت المسألة اجتهادية وصح فيها الاختيار والاجتهاد. (راجع أصول الدين ص ٢٧٩).

١١٧

نص لما خفي ، والدواعي تتوفر على نقله واتفقوا في سقيفة بني ساعدة على أبي بكر رضي الله عنه. ثم اتفقوا بعد تعيين أبي بكر على عمر رضي الله عنه. واتفقوا بعد الشورى على عثمان رضي الله عنه. واتفقوا بعده على عليّ رضي الله عنه. وهم مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة.

وقال : لا نقول في عائشة وطلحة والزبير إلا أنهم رجعوا عن الخطأ. وطلحة والزبير من العشرة المبشرين بالجنة. ولا نقول في حق معاوية وعمرو بن العاص : إلا أنهما بغيا على الإمام الحق فقاتلهم علي مقاتلة أهل البغي. وأما أهل النهروان فهم الشراة (١) المارقون عن الدين بخبر (٢) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد كان عليّ رضي الله عنه على الحق في جميع أحواله ، يدور الحق معه حيث دار.

٢ ـ المشبّهة

اعلم أن السلف من أصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة في علم الكلام ومخالفة السنّة التي عهدوها من الأئمة الراشدين ونصرهم جماعة من أمراء بني أمية على قولهم بالقدر ، وجماعة من خلفاء بني العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن ، تحيروا في تقرير مذهب أهل السنّة والجماعة في متشابهات آيات الكتاب الحكيم ، وأخبار النبي الأمينصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فأما أحمد (٣) بن حنبل وداود (٤) بن عليّ الأصفهاني وجماعة من أئمة السلف

__________________

(١) الشراة : الخوارج.

(٢) قال عليّ عليه‌السلام : إذا حدثتكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله فلئن أخر من السماء أحبّ إليّ من أن أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا حدثتكم فيما بيننا عن نفسي فإن الحرب خدعة وإنما أنا رجل محارب ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام قولهم من خير أقوال أهل البرية ، صلاتهم أكثر من صلاتكم وقراءتهم أكثر من قراءتكم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة». (راجع شرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٠٢).

(٣) هو إمام المذهب الحنبلي وأحد الأئمة الأربعة ، صاحب المسند توفي سنة ٢٤١ ه‍ / ٨٥٥ م.

(٤) هو أبو سليمان الملقب بالظاهري : أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام. تنسب إليه الطائفة الظاهرية ـ

١١٨

فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث : مثل مالك (١) بن أنس ، ومقاتل (٢) بن سليمان. وسلكوا طريق السلامة فقالوا : نؤمن بما ورد به الكتاب والسنّة ، ولا نتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعا أن الله عزوجل لا يشبه شيئا من المخلوقات ، وأن كل ما تمثل في الوهم فإنه خالقه ومقدّره. وكانوا يحترزون عن التشبيه (٣) إلى غاية أن قالوا من حرك يده عند قراءة قوله تعالى : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٤) أو أشار بإصبعيه عند روايته «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن» وجب قطع يده وقلع إصبعيه. وقالوا : إنما توقفنا في تفسير الآيات وتأويلها لأمرين :

أحدهما : المنع الوارد في التنزيل في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥) فنحن نحترز عن الزيغ.

__________________

ـ وسميت بذلك لأخذها بظاهر الكتاب والسنّة وإعراضها عن التأويل والرأي والقياس. وكان داود أول من جهر بهذا القول. قال ابن خلكان : قيل : كان يحضر مجلسه كل يوم أربع مائة صاحب طيلسان أخضر ، وقال ثعلب : كان عقل داود أكبر من علمه. له تصانيف أورد ابن النديم أسماءها في زهاء صفحتين. توفي في بغداد سنة ٢٧٠ ه‍ / ٨٨٤ م. (راجع أنساب السمعاني ٣٧٧ وفهرست ابن النديم ١ : ٢١٦).

(١) هو أبو عبد الله. إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنّة وإليه تنسب المالكية. توفي سنة ١٧٩ ه‍ / ٧٩٥ م. (راجع الوفيات ١ : ٤٣٩ والديباج المذهب ص ١٧ ـ ٣٠).

(٢) هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي بالولاء الخراساني المروزي. أصله من بلخ. كان مشهورا بتفسير كتاب الله العزيز وله التفسير المشهور. أخذ الحديث عن مجاهد وعطاء وغيرهما من العلماء. قال الشافعي : الناس كلهم عيال على ثلاثة : على مقاتل بن سليمان في التفسير وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر ، وعلى أبي حنيفة في الفقه. توفي بالبصرة سنة ١٥٠ ه‍. (راجع ابن خلكان).

(٣) تعالى الله عن التشبيه ، فالتشبيه يتنافى مع الألوهية ، لأنه إذا كان له من خلقه شبيه وجب أن يجوز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على شبيهه ، وإذا جاز ذلك عليه لم يستحق اسم الإله كما لا يستحقه خلفه الذي شبه به فيتبيّن أن اسم الإله والتشبيه لا يجتمعان كما أن اسم الإله ونفي الإبداع عنه لا يأتلفان. (راجع الأسماء والصفات ص ٩٧).

(٤) سورة ص : الآية ٧٥.

(٥) سورة آل عمران : الآية ٧.

١١٩

والثاني : أن التأويل أمر مظنون بالاتفاق ، والقول في صفات الباري بالظن غير جائز ، فربما أولنا الآية على غير مراد الباري تعالى فوقعنا في الزيغ ، بل نقول كما قال الراسخون في العلم : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) آمنا بظاهره ، وصدقنا بباطنه ، ووكلنا علمه إلى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك ، إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان وأركانه. واحتاط بعضهم أكثر احتياط حتى لم يقرأ اليد بالفارسية ، ولا الوجه ، ولا الاستواء ، ولا ما ورد من جنس ذلك ، بل إن احتاج في ذكره إلى عبارة عبر عنها بما ورد لفظا بلفظ. فهذا هو طريق السلامة ، وليس هو من التشبيه في شيء.

غير أن جماعة من الشيعة الغالية ، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل : الهشاميين (١) من الشيعة ، ومثل مضر ، وكهمس (٢) ، وأحمد (٣) الهجيمي وغيرهم من الحشوية. قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض ، إما روحانية ، وإما جسمانية ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن.

فأما مشبهة الشيعة فستأتي مقالاتهم في باب الغلاة.

وأما مشبهة الحشوية ؛ فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمي : أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة. وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذ بلغوا في الرياضة والاجتهاد إلى حد الإخلاص والاتحاد المحض.

وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في دار الدنيا ، وأن يزوره ويزورهم وحكى عن داود الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني

__________________

(١) أصحاب هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي الذي نسج على منواله في التشبيه.

(٢) الظاهر أنه كهمس بن المنهال السدوسي أبو عثمان البصري اللؤلؤي وكان قدريا ضعيفا لم يحدث عنه الثقات. (راجع تهذيب التهذيب ٨ : ٤٥١).

(٣) هو أحمد بن عطاء الهجيمي البصري. كان داعية إلى القدر متعبدا مغفلا. (راجع لسان الميزان ١ : ٢٢١).

١٢٠