مختصر البصائر

الشيخ عزّ الدين الحسن بن سليمان الحلي

مختصر البصائر

المؤلف:

الشيخ عزّ الدين الحسن بن سليمان الحلي


المحقق: مشتاق المظفّر
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-280-8
الصفحات: ٥٨٤

وسيذكرونه يوماً ، ولولا ذلك لم يدر أحدٌ مَن خالقه ولا مَن رازقه » (١).

[ ٥٦٦ / ٥ ] ومنه : حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكّل ، قال : حدّثنا عبدالله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبدالرحمن بن كثير ، عن داود الرقّي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « لمّا أراد الله أن يخلق الخلق خلقهم ونشرهم (٢) بين يديه ، ثمّ قال لهم : من ربّكم ، فأوّل من نطق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، فقالوا : أنت ربّنا ، فحمّلهم العلم والدين ، ثمّ قال للملائكة : هؤلاء حملة ديني وعلمي ، واُمنائي في خلقي ، وهم المسؤلون.

ثمّ قيل لبني آدم أقرّوا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالطاعة والولاية ، فقالوا : نعم ربّنا أقررنا ، فقال الله جلّ جلاله للملائكة : اشهدوا ، فقالت الملائكة : شهدنا على أن لا يقولوا غداً ( إنّا كنّا عن هذا غافلين ) (٣) أو يقولوا ( إنّما أشرك آباؤنا من قبل وكنّا ذرّية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) (٤) يا داود ولايتنا (٥) مؤكدة عليهم في الميثاق » (٦).

[ ٥٦٧ / ٦ ] ومنه : أبي رحمه‌الله ، عن سعد بن عبدالله ، عن أحمد بن محمّد ، عن

__________________

١ ـ علل الشرائع : ١١٧ / ١ ـ باب ٩٧ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٤٣ / ٣٢.

٢ ـ في نسختي « س و ض » : ونثرهم.

٣ ـ الأعراف ٧ : ١٧٢.

٤ ـ الأعراف ٧ : ١٧٣.

٥ ـ في العلل : الأنبياء.

٦ ـ علل الشرائع : ١١٨ / ٢ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٤٤ / ٣٣.

٥٠١

محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، عن صالح بن عقبة ، عن عبدالله بن محمّد الجعفي (١) وعقبة جميعاً عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « إنّ الله عزّ وجلّ خلق الخلق ، فخلق من أحبّ ممّا أحبّ ، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنّة ، وخلق من أبغض ممّا أبغض ، وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار ، ثمّ بعثهم في الظلال » فقلت : وأي شيء الظلال؟ فقال : « ألم تر إلى ظلّك في الشمس شيء وليس بشيء؟

ثمّ بعث فيهم النبيّين فدعوهم إلى الإقرار بالله ، وهو قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله ) (٢) ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيّين فأنكر بعض وأقرّ بعض ، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا فأقرّ بها والله من أحب ، وأنكرها من أبغض ، وهو قوله عزّ وجلّ ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل ) (٣) ثمّ قال أبو جعفر عليه‌السلام : كان التكذيب ثمّ » (٤).

[ ٥٦٨ / ٧ ] ومنه : حدّثنا أحمد بن الحسن القطّان ، عن أحمد بن يحيى بن زكريّا أبو العباس القطّان ، قال : حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكي ، قال : حدّثنا عبدالله بن زاهر ، قال : حدّثني أبي ، عن محمّد بن سنان ، عن المفضّل بن عمر ، قال : قلت لأبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : لِمَ صار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام

__________________

١ ـ عبدالله بن محمّد الجعفي : عدّه الشيخ من أصحاب الإمام السجّاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، واقتصر البرقي على الإمام الباقر عليه‌السلام.

رجال الطوسي : ٩٨ / ٣٠ و ١٢٧ / ٨ و ٢٢٥ / ٤٤ ، رجال البرقي : ١٠.

٢ ـ الزخرف ٤٣ : ٨٧.

٣ ـ يونس ١٠ : ٧٤.

٤ ـ علل الشرائع : ١١٨ / ٢ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٤٤ / ٣٤ ، وأورده الصفّار في بصائر الدرجات : ٨٠ / ١. وثَمَّ بمعنى هناك في عالم الذر.

٥٠٢

قسيم الجنّة والنار؟ قال : « لأنّ حبّه إيمان وبغضه كفر ، وإنّما خلقت الجنّة لأهل الإيمان ، وخلقت النار لأهل الكفر ، فهو عليه‌السلام قسيم الجنّة والنار لهذه العلّة ، فالجنّة لا يدخلها إلاّ أهل محبّته ، والنار لا يدخلها إلاّ أهل بغضه ».

قال المفضّل : فقلت : يابن رسول الله فالأنبياء والأوصياء كانوا يحبّونه ، وأعداؤهم كانوا يبغضونه؟ فقال : « نعم » فقلت : فكيف ذاك؟ قال : « أما علمت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم خيبر : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، ما يرجع حتى يفتح الله على يديه ، فدفع الراية إلى عليّ عليه‌السلام ففتح الله عزّوجل على يديه؟ » قلت : بلى.

قال : « أما علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا اُوتي بالطائر المشوي ، قال : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ ، يأكل معي من هذا الطائر وعنى به عليّاً عليه‌السلام؟ » قلت : بلى.

قال : « فهل يجوز أن لا يحب أنبياء الله ورسله وأوصياؤهم عليهم‌السلام رجلاً يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله؟ » فقلت له : لا ، قال : « فهل يجوز أن يكون المؤمنون من اُممهم لا يحبّون حبيب الله وحبيب رسوله وأنبيائه عليهم‌السلام؟ » قلت : لا ، قال : « فقد ثبت أنّ جميع أنبياء الله ورُسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام محبّين ، وثبت أنّ أعداءهم والمخالفين لهم كانوا لهم ولجميع أهل محبّتهم مبغضين » قلت : نعم ، قال : « فلا يدخل الجنّة إلاّ من أحبّه من الأولين والآخرين ، ولا يدخل النار إلاّ من أبغضه من الأولين والآخرين ، فهو إذاً قسيم الجنّة والنار ».

قال المفضّل بن عمر : فقلت له : يابن رسول الله فرّجت عنّي فرّج الله عنك ، فزدني ممّا علّمك الله ، قال : « سل يا مفضّل » فقلت له : يابن رسول الله فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام يُدخل محبّه الجنّة ، ومبغضه النار أو رضوان ومالك؟ فقال : « يا مفضّل

٥٠٣

أما علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو روح ـ إلى الأنبياء عليهم‌السلام ـ وهم أرواح ـ قبل خلق الخلق بألفي عام؟ » قلت : بلى.

قال : « أما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد الله وطاعته ، واتّباع أمره ، ووعدهم الجنّة على ذلك ، وأوعد من خالف ممّا أجابوا إليه وأنكره النار؟ » قلت بلى.

قال : « أفليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ضامناً لما وعد وأوعد عن ربّه عزّوجلّ؟ » قلت : بلى.

قال : « أو ليس علي بن أبي طالب عليه‌السلام خليفته وإمام اُمّته؟ » قلت : بلى.

قال : « أو ليس رضوان ومالك من جملة الملائكة المستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته؟ » قلت : بلى.

قال : « فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام إذاً قسيم الجنّة والنار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورضوان ومالك صادران عن أمره بأمر الله تبارك وتعالى.

يا مفضّل خذ هذا فإنّه من مخزون العلم ومكنونه ، لا تخرجه إلاّ إلى أهله » (١).

[ ٥٦٩ / ٨ ] ومنه : حدّثنا محمّد بن علي ماجيلويه رحمه‌الله ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن صالح بن عقبة ، عن يزيد بن عبدالملك ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لمّا وُلدت فاطمة عليها‌السلام أوحى الله عزّ وجلّ إلى ملك فأنطق به لسان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسمّاها فاطمة ، ثمّ قال : إنّي فطمتك بالعلم وفطمتك عن الطمث.

__________________

١ ـ علل الشرائع : ١٦١ / ١ ، وعنه في البحار ٣٩ : ١٩٤ / ٥.

٥٠٤

ثم قال جعفر عليه‌السلام : والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق » (١).

[ ٥٧٠ / ٩ ] ومنه : أبي رضي‌الله‌عنه ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن حمّاد بن عثمان (٢) ، عن عبيدالله (٣) بن علي الحلبي ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : سألته لِمَ يُستلم الحجر؟ قال : « لأنّ مواثيق الخلائق فيه ».

وفي حديث آخر قال : « لأنّ الله عزّ وجلّ لمّا أخذ مواثيق العباد أمر الحجر فالتقمها ، فهو يشهد لمن وافاه بالموافاة » (٤).

[ ٥٧١ / ١٠ ] ومنه : حدّثنا علي بن أحمد بن محمّد رحمه‌الله ، عن محمّد بن أبي عبدالله الكوفي ، عن محمّد بن إسماعيل البرمكي ، عن علي بن العبّاس ، عن القاسم بن الربيع الصحّاف ، عن محمّد بن سنان ، أنّ أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله : « علّة استلام الحجر ، إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أخذ مواثيق

__________________

١ ـ علل الشرائع : ١٧٩ / ٤ ، وعنه في البحار ٤٣ : ١٣ / ٩.

٢ ـ حمّاد بن عثمان : قال الشيخ : ثقة جليل القدر ، وعدّه البرقي من أصحاب الإمام الصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام.

وقال الكشي عن حمدويه قال : سمعت أشياخي يذكرون : إنّ حمّاداً وجعفراً والحسين بني عثمان بن زياد الرواسي ، وحمّاد يلقّب بالناب ، وكلّهم فاضلون خيار ثقات. مات سنة تسعين ومائة بالكوفة.

فهرست الطوسي : ١١٥ / ٢٤٠ ، رجال البرقي : ٢١ و ٤٨ و ٥٣ ، رجال الطوسي : ١٧٣ / ١٣٩ و ٣٤٦ / ٢ و ٣٧١ / ١ ، رجال الكشي : ٣٧٢ / ٦٩٤.

٣ ـ في نسخة « س » والمختصر المطبوع ص ٢١٨ : عبدالله.

٤ ـ علل الشرائع : ٤٢٣ / ١ ـ باب ١٦١ ، وعنه في البحار ٩٩ : ٢١٩ / ٤ و ٥.

٥٠٥

بني آدم التقمه الحجر (١) فمن ثمّ كلّف الناس تعاهد ذلك الميثاق ، ومن ثمّ يقال عند الحجر : أمانتي أدّيتها ، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة.

ومنه قول سلمان رحمه‌الله : ليجيئنّ الحجر يوم القيامة مثل أبي قبيس (٢) ، له لسان وشفتان ، يشهد لمن وافاه بالموافاة » (٣).

[ ٥٧٢ / ١١ ] ومنه : حدّثنا أبي رضي‌الله‌عنه قال : حدّثنا سعد بن عبدالله ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضّال ، عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « لمّا أمر الله عزّ وجلّ إبراهيم واسماعيل عليهما‌السلام ببناء البيت ، وتمّ بناءه ، أمره أن يصعد ركناً منه ثمّ ينادي في الناس : ألا هلمّ الحج هلمّ الحج ، فلو نادى هلمّوا إلى الحج ، لم يحج إلاّ من كان يومئذ إنسيّاً مخلوقاً ، ولكن نادى هلمّ الحج ، فلبّى الناس في أصلاب الرجال : لبّيك داعي الله ، لبّيك داعي الله ، فمن لبّى عشراً حجّ عشراً ، ومن لبّى خمساً حجّ خمساً ، ومن لبّى أكثر حجّ بعدد ذلك ، ومن لبّى واحداً حجّ واحداً ، ومن لم يلبّ لم يحج » (٤).

__________________

١ ـ في نسخة « س » زيادة : بأمر الله.

٢ ـ أبو قُبَيس : اسم الجبل المشرف على مكّة ، وقال أبو المنذر هشام : كنّاه آدم عليه‌السلام بذلك حين اقتبس منه هذه النار ـ التي بأيدي الناس إلى اليوم ـ من مرختين نزلتا من السماء على أبي قبيس ، فاحتكتا ، فأوْرَتا ناراً ، فاقتبس منها آدم.

وكان في الجاهلية يسمّى الأمين ، لأنّ الركن كان مستودعاً فيه أيام الطوفان. معجم البلدان ١ : ٨٠ ـ ٨١.

٣ ـ علل الشرائع : ٤٢٤ / ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٩١ ، وعنهما في البحار ٩٩ : ٢١٩ / ٦ و ٧.

٤ ـ علل الشرائع : ٤١٩ / ١ ، وعنه في البحار ٩٩ : ١٨٧ / ١٨ و ١٢ : ١٠٥ / ١٧.

٥٠٦

[ ٥٧٣ / ١٢ ] ومنه : حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ، قال : حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار ، عن العبّاس بن معروف ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز ، عن أبي بصير وزرارة ومحمّد بن مسلم كلّهم عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « إنّ الله عزّ وجلّ خلق الحجر الأسود ثمّ أخذ الميثاق على العباد ، ثمّ قال للحجر : التقمه ، والمؤمنون يتعاهدون ميثاقهم » (١).

[ ٥٧٤ / ١٣ ] ومنه : حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، عن محمّد بن الحسن الصفّار ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن زياد القندي (٢) ، عن عبدالله بن سنان ، قال : بينا نحن في الطواف إذ مرّ رجل من آل عمر ، فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره وأغلظ له ، وقال له : بطل حجّك ، إنّ الذي تستلمه حجر لا يضرّ ولا ينفع ، فقلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : جعلت فداك أما سمعت قول العمري لهذا الذي استلم الحجر فأصابه ما أصابه؟ فقال : « وما الذي قال له؟ » قلت : قال له : يا عبدالله بطل حجّك ، إنّما هو حجر لا يضرّ ولا ينفع.

فقال أبو عبدالله عليه‌السلام : « كذب ثمّ كذب ثمّ كذب ، إنّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة ، يشهد لمن وافاه بالموافاة.

ثمّ قال : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا خلق السماوات والأرض خلق بحرين : بحراً

__________________

١ ـ علل الشرائع : ٤٢٤ / ٥ ، وعنه في البحار ٩٩ : ٢٢١ / ١١.

٢ ـ زياد القندي : هو زياد بن مروان القندي أبو الفضل ، وقيل : أبو عبدالله الأنباري القندي ، مولى بني هاشم ، روى عن أبي عبدالله وأبي الحسن عليهما‌السلام ، ووقف في الرضا عليه‌السلام ، عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، واقتصر البرقي على الإمام الكاظم عليه‌السلام.

رجال النجاشي : ١٧١ / ٤٥٠ ، رجال الطوسي : ١٩٨ / ٤٠ و ٣٥٠ / ٣ ، رجال البرقي : ٤٩.

٥٠٧

عذباً وبحراً اُجاجاً ، فخلق تربة آدم عليه‌السلام من البحر العذب وسنّ (١) عليها من البحر الاُجاج ، ثمّ جبل (٢) آدم فعركه عرك الأديم ، فتركه ما شاء الله.

فلمّا أراد أن ينفخ فيه الروح أقامه شبحاً ، فقبض قبضة من كتفه الأيمن فخرجوا كالذرّ ، فقال : هؤلاء إلى الجنّة ، وقبض قبضة من كتفه الأيسر وقال : هؤلاء إلى النار.

فأنطق الله عزّ وجلّ أصحاب اليمين وأصحاب اليسار ، فقال أصحاب اليسار : لم خلقت لنا النار ، ( ولم يثبت لنا ذنب ) (٣) ، ولم تبعث إلينا رسولاً؟! فقال الله عزّ وجلّ لهم : ذلك لعلمي بما أنتم صائرون إليه ، وإنّي سأبليكم ، فأمر عزّ وجلّ النار فاستعرت.

ثمّ قال لهم ، تقحّموا (٤) جميعاً في النار ، فإنّي أجعلها عليكم برداً وسلاماً ، فقالوا : يا ربّ إنّما سألناك لأيّ شيء جعلتها (٥) لنا؟ هرباً منها ، ولو أمرت أصحاب اليمين ما دخلوها ، فأمر الله عزّ وجلّ النار فاستعرت ، ثمّ قال لأصحاب اليمين : تقّحموا جميعاً في النار ، فتقحّموا جميعاً فكانت عليهم برداً وسلاماً ، فقال لهم جميعاً : ألست بربّكم؟ قال أصحاب اليمين : بلى طوعاً ، وقال أصحاب الشمال : بلى كرهاً ، فأخذ منهم جميعاً ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم.

__________________

١ ـ في العلل : شنّ : وهو بمعنى فرّق. الصحاح ٥ : ٢١٤٥ ـ شنن.

وسنّ بمعنى صبّ وأرسل الصحاح ٥ : ٢١٤١ ـ سنن.

والمعنى الثاني أقرب لسياق الحديث.

٢ ـ جبل : وجَبَله الله أي خَلَقه. الصحاح ٤ : ١٦٥٠ ـ جبل.

٣ ـ في العلل : ولم تبيّن لنا. بدل ما بين القوسين.

٤ ـ قحم : رمى نفسه فجأة بلا رويّة. القاموس المحيط ٤ : ١٦١ ـ قحم.

٥ ـ في نسخة « س » : خلقتها.

٥٠٨

قال : وكان الحجر في الجنّة ، فأخرجه الله عزّ وجلّ فالتقم الميثاق من الخلق كلّهم ، فذلك قوله عزّ وجلّ ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون ) (١) فلمّا أسكن الله آدم عليه‌السلام الجنّة وعصى ، أهبط الله عزّ وجلّ الحجر فجعله في ركن بيته ، وأهبط آدم على الصفا ، فمكث ما شاء الله.

ثمّ رآه في البيت فعرفه وعرف ميثاقه وذكره ، فجاء إليه مسرعاً فأكبّ عليه ، وبكى عليه أربعين صباحاً تائباً من خطيئته ، نادماً على نقضه ميثاقه.

قال : فمن أجل ذلك اُمرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر : أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة » (٢).

[ ٥٧٥ / ١٤ ] ومنه : أبي رحمه‌الله ، قال : حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار ، عن محمّد بن أحمد ( قال : حدّثنا موسى بن عمر ) (٣) ، عن ابن سنان ، عن أبي سعيد القمّاط ، عن بكير بن أعين ، قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام لأيّ علّة وضع الله الحجر في الركن الذي هو فيه ، ولم يوضع في غيره؟ ولأيّ علّة يُقبّل؟ ولأيّ علّة اُخرج من الجنّة؟ ولأيّ علّة وضع فيه مواثيق العباد والعهد ، ولم يوضع في غيره؟ وكيف السبب في ذلك؟ فخبّرني جعلت فداك ، فإنّ تفكّري فيه لعجب.

قال : فقال عليه‌السلام : « سألت وأعضلت (٤) في المسألة واستقصيت ، فافهم وفرّغ قلبك وأصغ سمعك اُخبرك إن شاء الله تعالى ، إنّ الله تبارك وتعالى وضع الحجر

__________________

١ ـ آل عمران ٣ : ٨٣.

٢ ـ علل الشرائع : ٤٢٥ / ٦ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٤٥ / ٣٥ و ٩٩ : ٢١٧ / ٢.

٣ ـ ما بين القوسين لم يرد في نسختي « س و ض ».

٤ ـ في نسختي « س و ض » : وأغلظت بمعنى غلّظ عليه بالقول. الصحاح ٣ : ١١٧٥ ـ غلظ.

وأعضلت بمعنى شدّدت وأعييت. الصحاح ٥ : ١٧٦٦ ـ عضل.

٥٠٩

الأسود ، وهو جوهرة اُخرجت من الجنّة إلى آدم عليه‌السلام فوضعت في ذلك الركن لعلّة الميثاق ، وذلك أنّه لمّا أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم ، حين أخذ الله عليهم الميثاق في ذلك المكان ، وفي ذلك المكان تراءى لهم ربّهم ، ومن ذلك الركن يهبط الطير على القائم عليه‌السلام.

فأوّل من يبايعه ذلك الطير ، وهو والله جبرئيل عليه‌السلام ، وإلى ذلك المقام يسند ظهره ، وهو الحجّة والدليل على القائم عليه‌السلام ، وهو الشاهد لمن وافى ذلك المكان ، والشاهد لمن أدّى إليه الميثاق والعهد الذي أخذه الله على العباد.

وأمّا القُبلة والإلتماس فلعلّة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق ، وتجديداً للبيعة وليؤدّوا إليه ذلك العهد الذي اُخذ عليهم في الميثاق ، فيأتونه في كلّ سنة ليؤدّوا إليه ذلك العهد ، ألا ترى أنّك تقول : أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة.

والله ما يؤدّي ذلك أحد غير شيعتنا ، ولا حفظ ذلك العهد والميثاق أحد غير شيعتنا ، وإنّهم ليأتونه فيعرفهم ويصدّقهم ، ويأتيه غيرهم فينكرهم ويكذّبهم ، وذلك أنّه لم يحفظ ذلك غيركم فلكم والله يشهد ، وعليهم والله يشهد بالخفر (١) والجحود والكفر.

وهو الحجّة البالغة من الله عليهم يوم القيامة ، يجيء وله لسان ناطق وعينان في صورته الاُولى ، يعرفه الخلق ولا ينكرونه ، يشهد لمن وافاه وجدّد العهد والميثاق عنده بحفظ العهد والميثاق وأداء الأمانة ، ويشهد على كلّ من أنكره وجحد ونسي الميثاق بالكفر والإنكار.

__________________

١ ـ أخفر : إذا نقض العهد وغدر به. الصحاح ٢ : ٦٤٩ ـ خفر.

وفي نسخة « ض » : بالحقد ، وفي نسخة « س » : بالجور.

٥١٠

وأمّا علّة ما أخرجه الله من الجنّة ، فهل تدري ما كان الحجر؟ » قال : قلت : لا ، قال عليه‌السلام : « كان ملكاً عظيماً من عظماء الملائكة عند الله عزّ وجلّ ، فلمّا أخذ الله الميثاق (١) من الملائكة ، كان أوّل من آمن به وأقرّ ذلك الملك ، فاتّخذه الله أميناً على جميع خلقه فألقمه الميثاق وأودعه عنده ، واستعبد الخلق أن يجدّدوا عنده في كلّ سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ الله عليهم ، ثمّ جعله الله تعالى مع آدم عليه‌السلام في الجنّة ، يذكّره الميثاق ويجدّد عنده الإقرار في كلّ سنة ، فلمّا عصى آدم عليه‌السلام واُخرج من الجنّة أنساه الله العهد والميثاق الذي أخذه الله عليه وعلى ولده لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيّه صلوات الله عليه وجعله باهتاً حيراناً.

فلمّا تاب على آدم عليه‌السلام حوّل ذلك الملك في صورة درّة بيضاء ، فرماه من الجنّة إلى آدم عليه‌السلام وهو بأرض الهند ، فلمّا رآه آنس إليه وهو لا يعرفه بأكثر من أنّه جوهرة ، فانطقه الله عزّ وجلّ ، فقال : يا آدم أتعرفني؟ قال : لا ، قال : أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربّك ، وتحوّل إلى صورته التي كان بها في الجنّة مع آدم عليه‌السلام ، فقال لآدم : اين العهد والميثاق؟ فوثب إليه آدم عليه‌السلام ، وذكر الميثاق وبكى وخضع له ، وقبّله وجدّد الإقرار بالعهد والميثاق.

ثمّ حوّل الله عزّ وجلّ إلى جوهر الحجر درّة بيضاء صافية تضيء ، فحمله آدم عليه‌السلام على عاتقه إجلالاً له وتعظيماً ، فكان إذا أعيا حمله عنه جبرئيل عليه‌السلام حتى وافى به مكة ، فما زال يأنس به بمكّة ، ويجدّد الإقرار له في كلّ يوم وليلة.

ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أهبط جبرئيل عليه‌السلام إلى أرضه وبنى الكعبة ، هبط إلى ذلك المكان بين الركن والباب ، وفي ذلك المكان تراءى لآدم حين أخذ الميثاق ، وفي

__________________

١ ـ في نسخة « س » : الإقرار.

٥١١

ذلك الموضع اُلقم الملك الميثاق ، فلتلك العلّة وضع في ذلك الركن ، ونحّي آدم من مكان البيت إلى الصفا ، وحوّاء إلى المروة ، أخذ الله الحجر بيده فوضعه في ذلك الركن ، فلمّا أن نظر آدم من الصفا وقد وضع الحجر في الركن ، فكبّر الله وهلّله ومجّده ، فلذلك جرت السنّة بالتكبير في استقبال الركن الذي فيه الحجر من الصفا.

وإنّ الله عزّ وجلّ أودعه العهد والميثاق ، وألقمه إيّاه دون غيره من الملائكة ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ لمّا أخذ الميثاق له بالربوبيّة ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ، ولعليّ عليه‌السلام بالوصيّة ، اصطكت فرائص الملائكة.

وأوّل من أسرع إلى الإقرار بذلك الملك ، ولم يكن فيهم أشدّ حبّاً لمحمّد وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله منه ، فلذلك اختاره الله عزّ وجلّ من بينهم ، وألقمه الميثاق فهو يجي يوم القيامة وله لسان ناطق وعين ناظرة ، يشهد لمن وافاه إلى ذلك المكان وحفظ الميثاق » (١).

[ ٥٧٦ / ١٥ ] ومنه : حدّثنا حمزة بن محمّد العلوي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمّد الهمداني ، قال : حدّثنا المنذر بن محمّد ، قال : حدّثنا الحسين بن محمّد (٢) ، قال : حدّثنا سليمان بن جعفر (٣) ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال : أخبرني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام « أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه أخذ بطيخة ليأكلها ، فوجدها مرّة ، فرمى بها ، وقال بعداً وسحقاً ، فقيل له : يا أمير المؤمنين وما هذه البطيخة؟ فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تبارك وتعالى أخذ عقد مودتنا على كلّ حيوان ونبت ، فما قَبِلَ الميثاق ، كان

__________________

١ ـ علل الشرائع : ٤٢٩ / ١ ، وعنه في البحار ٩٩ : ٢٢٣ / ١٩.

٢ ـ في نسخة « س » والمختصر المطبوع : الحسين بن أحمد.

٣ ـ في نسخة « س » زيادة : الجعفري.

٥١٢

عذباً طيّباً ، وما لم يقبل الميثاق كان ملحاً زعاقاً (١) » (٢).

[ ٥٧٧ / ١٦ ] حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكّل رضي‌الله‌عنه ، قال : حدّثنا علي بن الحسين السعدآبادي ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه ، قال : حدّثنا عبدالله بن محمّد الهمداني ، عن إسحاق القمّي ، قال : دخلت على أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، فقلت له : جعلت فداك أخبرني عن المؤمن يزني؟ قال : « لا » قلت : فيلوط؟ قال : « لا » قلت : فيشرب المسكر؟ قال : « لا » قلت : فيذنب؟ قال : « نعم » قلت : جعلت فداك لا يزني ولا يلوط ولا يرتكب السيّئات ، فأيّ شيء ذنبه؟ قال : « يا إسحاق قال الله تبارك وتعالى ( الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلاّ اللّمم ) (٣) وقد يلمّ المؤمن بالشيء الذي ليس فيه مراد ».

قلت : جعلت فداك أخبرني عن الناصب لكم يطهر بشيء أبداً؟ قال : « لا » قلت : جعلت فداك فقد أرى المؤمن الموحّد الذي يقول بقولي ، ويدين الله بولايتكم ، وليس بيني وبينه خلاف ـ يشرب المسكر ، ويزني ، ويلوط ـ وآتيه في حاجة ، فاُصيبه معبّس (٤) الوجه ، كالح (٥) اللون ، ثقيلاً في حاجتي بطيئاً فيها ، وقد أرى الناصب المخالف لما أنا عليه ويعرفني بذلك ، فآتيه في حاجة ، فاُصيبه طلق الوجه ، حسن البشر ، متسرّعاً في حاجتي ، فرحاً بها ، يحبّ قضاءها ـ كثير الصلاة ، كثير الصوم ، كثير الصدقة ، يؤدّي الزكاة ، ويُستودع فيؤدّي الأمانة ـ.

__________________

١ ـ الزُعاق : الماء المرّ الغليظ لا يطاق شربه. القاموس المحيط ٣ : ٢٤١ ـ زعق.

٢ ـ علل الشرائع : ٤٦٣ / ١٠ ، وعنه في البحار ٢٧ : ٢٨٠ / ٣ و ٦٦ : ١٩٧ / ١٨.

٣ ـ النجم ٥٣ : ٣٢.

٤ ـ في نسخة « ض » : فأجده مغبر.

٥ ـ الكُلُوح : تكشّرٌ في عبوس. الصحاح ١ : ٣٩٩ ـ كلح.

٥١٣

قال : « يا إسحاق ليس تدرون من أين اُوتيتم؟ » فقلت : لا والله جعلت فداك إلاّ أن تخبرني ، فقال لي : « يا إسحاق إنّ الله عزّ وجلّ لم يزل متفرّداً بالوحدانية ، ابتدأ الأشياء لا من شيء ، فأجرى الماء العذب على أرض طيّبة طاهرة سبعة أيّام مع لياليها ، ثم نضب (١) الماء عنها ، فقبض قبضة من صفاوة ذلك الطين ـ وهي طينتنا أهل البيت ـ ثمّ قبض قبضة من أسفل ذلك الطين ـ وهي طينة شيعتنا ـ ثمّ اصطفانا لنفسه ، فلو أنّ طينة شيعتنا تركت كما تركت طينتنا لما زنى أحد منهم ، ولا سرق ، ولا لاط ، ولا شرب المسكر ، ولا اكتسب شيئاً ممّا ذكرت.

ولكنّ الله عزّ وجلّ أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيام ولياليها ، ثمّ نضب الماء عنها ، ثمّ قبض قبضة وهي طينة ملعونة من حمإ مسنون (٢) ، وهي طينة خبال (٣) ، وهي طينة أعدائنا ، فلو أنّ الله عزّ وجلّ ترك طينتهم كما أخذها لم تروهم في خُلُق الآدميّين ، ولم يقرّوا بالشهادتين ، ولم يصوموا ، ولم يصلّوا ، ولم يزكّوا ، ولم يحجّوا البيت ، ولم تروا أحداً منهم بحسن الخلق ، ولكنّ الله تبارك وتعالى جمع الطينتين ـ طينتكم وطينتهم ـ فخلطهما وعركهما عرك الأديم ومزجهما بالماءين.

فما رأيت من أخيك المؤمن من شرّ لفظ أو زِنا ، أو شيء ممّا ذكرت من شرب مسكر أو غيره ، فليس من جوهريّته ، ولا من إيمانه ، إنّما هو بمسحة الناصب ، اجترح هذه السيّئات التي ذكرت ، وما رأيت من الناصب من حسن وجه وحسن

__________________

١ ـ نَضَبَ : أي غار في الأرض. الصحاح ١ : ٢٢٦ ـ نضب.

٢ ـ الحمأُ المسنون : المتغيّر المنتن. الصحاح ٥ : ٢١٣٩ ـ سنن.

٣ ـ طينة خبال : ما سال من جلود أهل النار ، وهو صديد أهل النار. لسان العرب ١١ : ١٩٨ والصحاح ٤ : ١٦٨٢ ـ خبل.

٥١٤

خلق ، أو صوم ، أو صلاة ، أو حجّ بيت ، أو صدقة ، أو معروف ، فليس من جوهريّته إنّما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان ، اكتسبها وهو اكتساب مسحة الإيمان » قلت : جعلت فداك فإذا كان يوم القيامة فَمَهْ (١)؟ قال لي : « يا إسحاق لا يجمع الله الخير والشرّ في موضع واحد.

إذا كان يوم القيامة نزع الله عزّ وجلّ مسحة الإيمان منهم فردّها إلى شيعتنا ، ونزع مسحة الناصب بجميع ما اكتسبوا من السيّئات ، فردّها على أعدائنا وعاد كلّ شيء إلى عنصره الأوّل الذي منه ابتدأ ، أما رأيت الشمس إذا هي بدت ، ألا ترى لها شعاعاً زاخراً (٢) متصلاً بها أو بائناً منها ».

قلت : جعلت فداك الشمس إذا غربت بدا إليها الشعاع كما بدأ منها ، ولو كان بائناً منها لما بدا إليها؟ قال : « نعم يا إسحاق كلّ شيء يعود إلى جوهره الذي منه بدأ » قلت : جعلت فداك تؤخذ حسناتهم فتردّ إلينا ، وتؤخذ سيّئاتنا فتردّ إليهم؟ قال : « إي والله الذي لا إله إلاّ هو » قلت : جعلت فداك أجدها في كتاب الله عزّوجلّ؟ قال : « نعم يا إسحاق » قلت : أيّ مكان ، قال لي : « يا إسحاق ما تتلو هذه الآية ( اُولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) (٣) فلن يبدّل الله سيّئاتهم حسنات إلاّ لكم ويبدّل الله لكم » (٤).

ذكر لي بعض الناس اُشكل عليه ما في هذا الحديث من قوله : « قبض قبضة ،

__________________

١ ـ في نسخة « س و ض » : قسّمه.

٢ ـ الشعاع الزاخر : إذا امتد وارتفع. الصحاح ٢ : ٦٦٩ ـ زخر.

٣ ـ الفرقان ٢٥ : ٧٠.

٤ ـ علل الشرائع : ٤٨٩ / ١ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٤٦ / ٣٦.

٥١٥

فقال : إلى الجنّة ولا اُبالي ، وقبض قبضة ، وقال : إلى النار ولا اُبالي ».

وقال : كيف يجوز أن يخلق قوماً للنار في أصل الخلق ، ثمّ يكلّفهم طاعته وترك معصيته ، وهل هذا إلاّ ينافي العدل وهو منزّه عنه سبحانه.

إعلم أنّ كلام آل محمّد صلّى الله عليه وعليهم لا يرد عليه اعتراض أبداً ، وإنّما يقع لعدم فهم السامع لمقصدهم وما عنوا به ، وقد جاء في حديثهم عليهم‌السلام : إنّ الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام ، وأمرها سبحانه وتعالى بالإقرار له بالربوبية ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ، ولعليّ ولأهل بيته عليه وعليهم السلام بالإمامة.

فمنهم من أقرّ بقلبه ولسانه ، ومنهم من أقرّ بلسانه دون قلبه ، وهو قوله سبحانه ( وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون ) (١) ثمّ أمر الفريقين بدخول النار ، فدخل من أقرّ بقلبه ولسانه ، وقال الذي أقرّ بلسانه : يا ربّ خلقتنا لتحرقنا ، فثبتت الطاعة والمعصية للأرواح من ثمّ.

ثمّ إنّه سبحانه وتعالى لمّا أراد خلق الأجساد ، خلق طينة طيّبة وأجرى عليها الماء العذب الطيّب ، وخلق من صفوها أجسام محمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.

وخلق طينة خبيثة ، وأجرى عليها الماء المالح الخبيث ، ومزج الطينتين بمقتضى حكمته ولطفه ، وعركهما عرك الأديم ، فأصاب كلاًّ منهما لطخ الاُخرى ، فأسكن الأرواح المؤمنة أوّلاً في الطينة الطيّبة ، فلم يضرّها ما أصابها من لطخ الاُخرى ، إذ ليس اللطخ من سنخها وجوهرها ، وأسكن الروح الكافرة في الطينة الخبيثة ، ولم ينفعها ما أصابت من لطخ الطينة الطيّبة ، إذ ليس هو من سنخها ولا معدنها.

__________________

١ ـ آل عمران ٣ : ٨٣.

٥١٦

فأصاب المؤمن السيئات بسبب المزاج ، وأصاب الناصب الحسنات للمزاج ، وقد ورد أنّ حكمة المزاج اشتباه الصورتين ، صورة المؤمن وصورة الناصب ولولاه لامتاز كلّ منهما ، وفي ذلك تعب المؤمن وقصده بالأذى ، وحتى تشتبه الأعمال في الظاهر ، حتى يعمل المؤمن في دولة الظالمين ولا يمتاز ، وهذا في الأبدان خاصّة دون الأرواح.

فالقبضة المذكورة في الحديث كانت في الأبدان التي هي قالب الأرواح المؤمنة والكافرة ، وهي تبع الأرواح في الخلق وفي التكليف والمعاد ، فليس في الحديث إشكال مع هذا.

وأمّا تبديل سيّئات المؤمن بحسنات الناصب ، وحمل الناصب سيّئات المؤمن ، فقد جاء في الكتاب العزيز وفسّره آل محمّد عليه وعليهم السلام بهذا ، وهم أهل الذكر الذين يجب سؤالهم والردّ إليهم ، وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم وهم هم بغير شكّ ، ويجب التسليم لهم والردّ إليهم كما قال سبحانه ( فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً ) (١) وقد جاء في الحديث إنّما الكفر أن يحدَّث أحدكم بالحديث فلم يقبله فينكره ، ويقول : ما كان هذا ، وقد جاء عنهم عليهم‌السلام : « حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان » فالملك الغير المقرّب لا يحتمله ، والنبيّ الغير المرسل لا يحتمله ، والمؤمن الغير الممتحن لا يحتمله ، ألا ترى أنّ موسى عليه‌السلام حيث رأى من الخضر عليه‌السلام ما لا يعرفه ، أنكره ولم يطق حمله حتى فسّره له ، وهو بمكانه من الله وقربه منه.

__________________

١ ـ النساء ٤ : ٦٥.

٥١٧

وفي الحديث : « نجا المسلّمون وهلك المتكلّمون » (١) و « البلاء موكّل بالمنطق » (٢).

[ ٥٧٨ / ١٧ ] ومن كتاب أمالي الشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رضي‌الله‌عنه عن أبي المفضّل محمّد بن عبدالله بن المطلب الشيباني رضي‌الله‌عنه باسناده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : حجّ عمر بن الخطّاب في إمرته ، فلمّا افتتح الطواف حاذى الحجر الأسود ، ومرّ فاستلمه ثمّ قبّله ، وقال : أُقبّلك وإنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولكن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بك حفيّاً ، ولولا أنّي رأيته يقبّلك ما قبّلتك.

قال : وكان في القوم الحجيج علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : « بلى والله إنّه ليضرّ وينفع » قال : وبِمَ قلت ذلك يا أبا الحسن؟ قال : « بكتاب الله تعالى » قال : أشهد أنّك لذو علم بكتاب الله تعالى ، وأين ذلك من كتاب الله؟ قال : « حيث أنزل الله عزّ وجلّ ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا ) (٣).

واُخبرك أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم عليه‌السلام مسح ظهره ، فأخرج ذريّته من صلبه نسماً في هيئة الذرّ ، فألزمهم العقل ، وقرّرهم أنّه الرب وأنّهم العبيد ، فأقرّوا له بالعبوديّة ، وشهدوا على أنفسهم بالعبوديّة ، والله عزّ وجلّ يعلم أنّهم في ذلك في منازل مختلفة ، وكتب أسماء عبيده في رقّ ، وكان لهذا الحجر يومئذ عينان ولسان

__________________

١ ـ تقدّم في باب التسليم من هذا الكتاب.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٧٢ ، روضة الواعظين : ٤٦٩ ، مشكاة الأنوار : ١٧٤ ، مسـند الشهاب ١ : ١٦١ / ٢٢٧ و ١٦٢ / ٢٢٨ ، الجامع الصغير ١ : ٤٩٥ / ٣٢١٩ و ٣٢٢٠.

٣ ـ الأعراف ٧ : ١٧٢.

٥١٨

وشفتان ، فقال له : افتح فاك ، ففتح فاه ، فألقمه ذلك الرقّ ، ثمّ قال له : إشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة.

فلمّا اُهبط آدم عليه‌السلام اُهبط الحجر معه ، فجعل في مثل موضعه من هذا الركن ، وكانت الملائكة تحجّ هذا البيت من قبل أن يخلق الله آدم عليه‌السلام ، ثمّ حجّه آدم عليه‌السلام ، ثمّ حجّه نوح عليه‌السلام من بعده ، ثمّ انهدم البيت ودرست قواعده ، فاستودع الحجر من أبي قبيس.

فلمّا أعاد إبراهيم واسماعيل عليهما‌السلام بناء البيت وبناء قواعده ، استخرجا الحجر من أبي قبيس بوحي من الله عزّ وجلّ ، فجعلاه بحيث هو اليوم من هذا الركن ، فهو من حجارة الجنّة ، وكان لمّا اُنزل في مثل لون الدرّ وبياضه ، وصفاء الياقوت وضيائه ، فسوّدته أيدي الكفّار ، ومن كان يلتمسه من أهل الشرك سواهم » قال فقال عمر : لا عشت في اُمّة لستَ فيها يا أبا الحسن (١).

[ ٥٧٩ / ١٨ ] من تفسير القرآن العزيز تأليف علي بن إبراهيم بن هاشم : وأمّا قوله ( وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى ) (٢) فإنّه قال الصادق صلّى الله عليه : « إنّ الله أخذ الميثاق على الناس لله بالربوبيّة ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوّة ، ولأمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام بالإمامة.

ثم قال : ألست بربّكم ومحمّد نبيّكم وعليّ إمامكم والأئمّة الهادون أولياؤكم؟ فقالوا : بلى ـ منهم إقرار باللسان ، ومنهم تصديق بالقلب ـ فقال الله جلّ وعزّ لهم

__________________

١ ـ أمالي الطوسي : ٤٧٦ / ١٠ ، وعنه في البحار ٩٩ : ٢١٦ / ١.

٢ ـ الأعراف ٧ : ١٧٢.

٥١٩

( أن تقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين ) » (١) (٢).

فأصابهم في الذرّ من الحسد ما أصابهم في الدنيا ، ومن لم يصدّق في الذرّ وبرسوله وبالأئمّة في قلبه ، وإنّما أقر بلسانه أنّه لم يؤمن في الدنيا بالله وبرسوله وبالأئمّة في قلبه.

والدليل على تكذيبهم في الذرّ قول الله عزّ وجلّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل ) (٣) إلاّ أنّ الحجّة كانت أعظم عليهم في الذرّ ، لأنّ الأمر من الله عزّ وجلّ كان مشافهة.

[ ٥٨٠ / ١٩ ] ومنه : وأمّا قوله ( وإذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ) (٤).

فإنّه روي « أنّ هذه الواو زائدة في قوله ( ومنك ) وإنّما هو منك ومن نوح ، لأنّ الله تبارك وتعالى أول ما أخذ الميثاق أخذ لنفسه على جميع الخلق أنّه ربّهم وخالقهم » (٥).

فروي عن العالم عليه‌السلام (٦) : أنّه قال : لمّا قال الله عزّ وجلّ في الذرّ لبني آدم

__________________

١ ـ الأعراف ٧ : ١٧٢.

٢ ـ تفسير القمّي ١ : ٢٤٧ ، وعنه في البرهان ٢ : ٦٠٨ / قطعة من حديث ١١ و ٤ : ٤١٨ / قطعة من حديث ١ ، وعنه في البحار ٥ : ٢٣٦ / قطعة من حديث ١٢.

٣ ـ الأعراف ٧ : ١٠١ ويونس ١٠ : ٧٤.

٤ ـ الأحزاب ٣٣ : ٧.

٥ ـ تفسير القمّي ٢ : ١٧٦ ، وعنه في تفسير البرهان ٤ : ٤١٨ / ٢.

٦ ـ لم أعثر على هذا القول للإمام الكاظم عليه‌السلام ، بل وجدت نظيره عن الإمام الصادق عليه‌السلام في

٥٢٠