كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

المسألة الخامسة والثلاثون

في خواص الواجب

قال : ومن الوجوب الذاتي والغيري.

أقول : هذه إحدى الخواص وهو أن الشيء الواحد إذا كان واجبا لذاته استحال أن يكون واجبا بغيره إذا عرفت هذا (فنقول) المنفصلة الحقيقية التي تمنع الجمع والخلو صادقة على الموجود إذا أخذ جزؤها الوجوب بالذات والوجوب بالغير بأن يقال الموجود إما واجب لذاته أو واجب بغيره لامتناع صدقهما على شيء واحد وكذبهما عليه وذلك لأن الموجود إما مستغن عن الغير أو محتاج إليه ولا واسطة بينهما والأول واجب بالذات والثاني واجب بالغير.

وإنما امتنع الجمع بينهما لأنه لو كان شيء واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم المحال لأن الواجب بغيره يرتفع بارتفاع غيره والواجب بالذات لا يرتفع بارتفاع غيره فلو كان شيء واحد واجبا بذاته وبغيره لزم اجتماع النقيضين وهو محال.

وإنما امتنع الخلو عنهما لأن الموجود إن كان واجبا صدق أحد الجزءين وإن كان ممكنا استحال وجوده إلا بعد وجوبه بالفاعل على ما تقدم فيصدق الجزء الآخر.

قال : ويستحيل صدق الذاتي على المركب.

أقول : هذه خاصية ثانية للواجب الذاتي وهو أنه يستحيل أن يكون مركبا فلا يمكن صدق الوجوب الذاتي على المركب لأن كل مركب يفتقر إلى أجزائه على ما يأتي وكل مفتقر ممكن فالواجب لذاته ممكن لذاته هذا خلف.

قال بعض المتأخرين هذه المسألة تتوقف على الوحدانية لأنه لو قال قائل يجوز أن يكون كل واحد من أجزاء المركب واجبا لذاته ويكون المجموع مستغنيا عن الغير أجبنا بأن الواجب لذاته يستحيل أن يكون متعددا.

٦١

والحق أنه لا افتقار في هذه المسألة إلى الوحدانية لأن هذا المركب يستحيل أن يكون واجبا لذاته لافتقاره إلى أجزائه الواجبة وكل مفتقر ممكن فيكون المركب ممكنا فلا يكون واجبا وهذا لا يتوقف على الوحدانية.

قال : ولا يكون الذاتي جزءا من غيره.

أقول : هذه خاصية ثالثة للواجب ظاهرة وهي أن الواجب لذاته لا يتركب عنه غيره وهو ظاهر لأن التركب إما حسي وهو إنما يكون بانفعال كالمزاج أو عقلي كتركب الماهية من الأجناس والفصول والكل ظاهر الاستحالة.

المسألة السادسة والثلاثون

في أن وجود واجب الوجود ووجوبه نفس حقيقته

قال : ولا يزيد وجوده ونسبته عليه وإلا لكان ممكنا.

أقول : هذه المسألة تشتمل على بحثين (البحث الأول) في أن وجود واجب الوجود لذاته نفس حقيقته وتقريره أن نقول لو كان وجود واجب الوجود لذاته زائدا على حقيقته لكان صفة لها فيكون ممكنا فيفتقر إلى علة فتلك العلة إما أن تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته والقسمان باطلان أما الأول : فلأن تلك الحقيقة إما أن تؤثر فيه وهي موجودة أو تؤثر فيه وهي معدومة فإن أثرت فيه وهي موجودة فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدم الشيء على نفسه وهو محال وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ويلزم وجود الماهية مرتين والجميع باطل ، وإن أثرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثرا في الموجود وهو باطل بالضرورة.

وأما الثاني فلأنه يلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى غيره فيكون ممكنا وهو محال وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب.

البحث الثاني في أن الوجوب نفس حقيقته وقد تقدم بيان ذلك فيما سلف.

٦٢

قال : والوجود المعلوم هو المقول بالتشكيك أما الخاص به فلا.

أقول : هذا جواب من استدل على زيادة الوجود في حق واجب الوجود وتقرير الدليل أن نقول ماهيته تعالى غير معلومة للبشر على ما يأتي والوجود معلوم ينتج من الشكل الثاني أن الماهية غير الوجود.

وتقرير الجواب عنه أن نقول إنا قد بينا أن الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته والمقول على أشياء بالتشكيك يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءا منها بل يكون دائما خارجا عنها لازما لها كالبياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج لا على السواء فهو ليس بماهية ولا جزء ماهية لهما بل هو لازم من خارج وذلك لأن بين طرفي التضاد الواقع في الألوان أنواعا من الألوان لا نهاية لها بالقوة ولا أسامي لها بالتفصيل يقع على كل جملة منها اسم واحد بمعنى واحد كالبياض والحمرة والسواد بالتشكيك ويكون ذلك المعنى لازما لتلك الجملة غير مقوم فكذلك الوجود في وقوعه على وجود الواجب وعلى وجودات الممكنات المختلفة بالهويات التي لا أسماء لها بالتفصيل فإنه يقع عليها وقوع لازم خارجي غير مقوم فالوجود يقع على ما تحته بمعنى واحد ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجودات الممكنات في الحقيقة لأن مختلفات الحقيقة قد تشترك في لازم واحد فالحقيقة التي لا تدركها العقول هي الوجود الخاص المخالف لسائر الوجودات بالهوية ، الذي هو المبدأ الأول والوجود المعقول هو الوجود العام اللازم لذلك الوجود وسائر الوجودات وهو أولي التصور وإدراك اللازم لا يقتضي إدراك الملزوم بالحقيقة وإلا لوجب من إدراك الوجود إدراك جميع الوجودات الخاصة وكون حقيقته تعالى غير مدركة وكون الوجود مدركا يقتضي المغايرة بين حقيقته تعالى والوجود المطلق لا الوجود الخاص به تعالى وهذا التحقيق مما نبه عليه بهمنيار في التحصيل وقرره المصنف ـ رحمه‌الله ـ في شرح الإشارات.

قال : وليس طبيعة نوعية على ما سلف فجاز اختلاف جزئياته في العروض وعدمه.

أقول : هذا جواب عن استدلال ثان استدل به الذاهبون إلى أن وجوده تعالى زائد على

٦٣

حقيقته. وتقرير الدليل أن الوجود طبيعة واحدة نوعية لما بيناه من اشتراكه والطبائع النوعية تتفق في لوازمها وقد بنى الحكماء على هذه القاعدة مطالب كثيرة كامتناع الخلاء ووجود الهيولى للأفلاك وغير ذلك من مباحثهم فنقول طبيعة الوجود إن اقتضت العروض وجب أن يكون وجود واجب الوجود عارضا لماهية مغايرة له ، وإن اقتضت اللاعروض كانت وجودات الممكنات غير عارضة لماهياتها فإما أن لا تكون موجودة أو يكون وجودها نفس حقائقها والقسمان باطلان ، وإن لم تقتض واحدا منهما لم تتصف بأحدهما إلا بأمر خارج عن طبيعة الوجود فيكون تجرد واجب الوجود محتاجا إلى المؤثر هذا خلف.

وتقرير الجواب أن الوجود ليس طبيعة نوعية على ما حققناه بل هو مقول بالتشكيك على ما تقدم والمقول على أشياء بالتشكيك لا يتساوى اقتضاؤه فإن النور يقتضي بعض جزئياته إبصار الأعشى بخلاف سائر الأنوار والحرارة كذلك فإن الحرارة الغريزية تقتضي استعداد الحياة بخلاف سائر الحرارات فكذلك الوجود.

قال : وتأثير الماهية من حيث هي في الوجود غير معقول.

أقول : لما أبطل استدلالاتهم شرع في إبطال الاعتراض الوارد على دليله وقد ذكر هاهنا أمرين أحدهما أنهم قالوا لا نسلم انحصار أحوال الماهية حالة التأثير في الوجود والعدم بل جاز أن تكون الماهية من حيث هي هي مؤثرة في الوجود فلا يلزم التسلسل ولا تأثير المعدوم في الموجود.

والجواب أن الماهية من حيث هي هي يجوز أن تقتضي صفات لها على سبيل العلية والمعلولية إلا الوجود فإنه يمتنع أن تؤثر فيه من حيث هي هي لأن الوجود لا يكون معلولا لغير الموجود بالضرورة فيلزم المحاذير المذكورة والضرورة فرقت بين الوجود وسائر الصفات.

قال : والنقض بالقابل ظاهر البطلان.

أقول : هذا جواب عن السؤال الثاني وتقريره أنهم قالوا إن العلة القابلية للوجود لا يجوز أن يكون باعتبار الوجود فإن الممكن المعدوم لو لم يقبل الوجود إلا بشرط الوجود لزم

٦٤

تقدم الشيء على نفسه أو تعددت الوجودات للماهية الواحدة والكل محال وإذا كان كذلك فلم لا يعقل مثله في العلة الفاعلية.

والجواب أن هذا إنما يتم لو قلنا إن الوجود عارض للماهية عروض السواد للجسم وإن للماهية ثبوتا في الخارج دون وجودها ثم إن الوجود يحل فيها ونحن لا نقول كذلك بل كون الماهية هو وجودها وإنما تتجرد عن الوجود في العقل لا بمعنى أنها تكون في العقل منفكة عن الوجود لأن الحصول في العقل نوع من الوجود بل بمعنى أن العقل يلاحظها منفردة فاتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي إذ ليس للماهية وجود منفرد ولعارضها المسمى بالوجود وجود آخر ويجتمعان اجتماع المقبول والقابل بل الماهية إذا كانت فكونها وجودها والحاصل من هذا أن الماهية إنما تكون قابلة للوجود عند وجودها في العقل فقط ولا يمكن أن تكون فاعلة لصفة خارجية عند وجودها في العقل فقط.

قال : والوجود من المحمولات العقلية لامتناع استغنائه عن المحل وحصوله فيه.

أقول : الوجود ليس من الأمور العينية بل هو من المحمولات العقلية الصرفة. وتقريره أنه لو كان ثابتا في الأعيان لم يخل إما أن يكون نفس الماهيات الصادق عليها أو مغايرا لها والقسمان باطلان أما الأول فلما تقدم من أنه زائد على الماهية ومشترك بين المختلفات فلا يكون نفسها.

وأما الثاني فإما أن يكون جوهرا أو عرضا والأول باطل وإلا لم يكن صفة لغيره ، والثاني باطل لأن كل عرض فهو حاصل في المحل وحصوله في المحل نوع من الوجود فيكون للوجود وجود هذا خلف ويلزم تأخره عن محله وتقدمه عليه هذا خلف.

قال : وهو من المعقولات الثانية.

أقول : الوجود كالشيئية في أنها من المعقولات الثانية إذ ليس الوجود ماهية خارجية على ما بيناه بل هو أمر عقلي يعرض للماهيات وهو من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات الأولى وليس في الموجودات شيء هو وجود أو شيء بل الموجود إما الإنسان أو

٦٥

الحجر أو غيرهما ثم يلزم من معقولية ذلك أن يكون موجودا.

قال : وكذلك العدم.

أقول : يعني به أن العدم من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى كما قلنا في الوجود إذ ليس في الأعيان ماهية هي عدم مطلق فهو دائما عارض لغيره.

قال : وجهاتهما.

أقول : يعني به أن جهات الوجود والعدم من الوجوب والإمكان والامتناع الذاتية والمشروطة من المعقولات الثانية أيضا كما تقدم من أنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج وقد سبق البحث فيه.

قال : والماهية.

أقول : الماهية أيضا من المعقولات الثانية فإن الماهية تصدق على الحقيقة باعتبار ذاتها لا من حيث إنها موجودة أو معقولة وإن كان ما يصدق عليه الماهية من المعقولات الأولى وليس البحث فيه بل في الماهية أعني العارض فإن كون الإنسان ماهية أمر زائد على حقيقة الإنسانية.

قال : والكلية والجزئية.

أقول : هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإن الماهية من حيث هي هي وإن كانت لا تخلو عنهما إلا أنها مغايرة لهما وهما يصدقان عليها صدق العارض على معروضه فإن الإنسانية لو كانت لذاتها كلية لم تصدق جزئية وبالعكس فالإنسانية ليست من حيث هي هي كلية ولا جزئية بل إنما تصدق عليه الكلية عند اعتبار صدق الحقيقة على أفراد متوهمة أو متحققة والجزئية إنما تصدق عليها عند اعتبار أمور أخر مخصصة لتلك الحقيقة ببعض الأفراد فهما من المعقولات الثانية.

٦٦

قال : والذاتية والعرضية.

أقول : هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإنه ليس في الأعيان ذاتية ولا عرضية وليس لهما تأصل في الوجود وقد يكون الذاتي لشيء عرضيا لغيره فهما اعتباران عقليان عارضان لماهيات متحققة في أنفسها فهي من المعقولات الثانية.

قال : والجنسية والفصلية والنوعية.

أقول : هذه أيضا أمور اعتبارية عقلية صرفة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإن كون الإنسان نوعا أمر مغاير لحقيقة الإنسانية عارض لها وإلا لامتنع صدق الإنسانية على زيد وكذلك الجنسية للحيوان مثلا أمر عارض له مغاير لحقيقته وكذلك الفصلية للناطق وهذا كله ظاهر.

المسألة السابعة والثلاثون

في تصور العدم

قال : وللعقل أن يعتبر النقيضين ويحكم بينهما بالتناقض ولا استحالة فيه.

أقول : العقل يحكم بالمناقضة بين السلب والإيجاب فلا بد وأن يعتبرهما معا لأن التناقض من قبيل النسب والإضافات لا يمكن تصوره إلا بعد تصور معروضيه فيكون متصورا للسلب والإيجاب معا ولا استحالة في اجتماعهما في الذهن دفعة لأن التناقض ليس بالقياس إلى الذهن بل بالقياس إلى ما في نفس الأمر فيتصور صورة ما ويحكم عليها بأنه ليس لها في الخارج ما يطابقها ثم يتصور صورة أخرى فيحكم عليها بأن لها في الخارج ما يطابقها ثم يحكم على إحداهما بمقابلة الأخرى لا من حيث إنهما حاضرتان في العقل بل من حيث إن إحداهما استندت إلى الخارج دون الأخرى وقد يتصور الذهن صورة ما

٦٧

ويتصور سلبها لأنه مميز على ما تقدم ويحكم على الصورتين بالتناقض لا باعتبار حضورهما في الذهن بل بالاعتبار الذي ذكرناه.

قال : وأن يتصور عدم جميع الأشياء حتى عدم نفسه وعدم العدم بأن يتمثل في الذهن ويرفعه وهو ثابت باعتبار ، قسيم باعتبار ولا يصح الحكم عليه من حيث هو ليس بثابت ولا تناقض.

أقول : الذهن يمكنه أن يتصور جميع المعقولات وجودية كانت أو عدمية. ويمكنه أن يلحظ عدم جميع الأشياء لأنه يتصور العدم المطلق. ويمكنه أن ينسبه إلى جميع الماهيات فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه فيتصور عدم الذهن نفسه ، وكذلك يمكنه أن يلحقه نفس العدم بمعنى أن الذهن يتخيل للعدم صورة ما معقولة متميزة عن صورة الوجود ويتصور رفعها ويكون ثابتا باعتبار تصوره لأن رفع الثبوت الشامل للثبوت الخارجي والذهني تصور ما ليس بثابت ولا متصور أصلا وهو ثابت باعتبار تصوره وقسيم لمطلق الثابت باعتبار أنه سلبه ولا استبعاد في ذلك فإنا نقول الموجود إما ثابت في الذهن أو غير ثابت في الذهن فاللاوجود قسيم للوجود ومن حيث له مفهوم قسم من الثابت ، والحكم على رفع الثبوت المطلق من حيث إنه متصور لا من حيث إنه ليس بثابت ولا يكون تناقضا لاختلاف الموضوعين.

قال : ولهذا نقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ونحكم بينهما بالتمايز وهو لا يستدعي الهوية لكل من المتمايزين ولو فرض له هوية لكان حكمها حكم الثابت.

أقول : هذا استدلال على أن الذهن له أن يتصور عدم جميع الأشياء وبيانه أنا نقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ونحكم بامتياز أحدهما عن الآخر ومقابلته له والحكم على شيء يستدعي تصوره وثبوته في الذهن فيجب أن يكون ما ليس بثابت في الذهن ثابتا فيه فقد تصور الذهن سلب ما وجد فيه باعتبارين على ما حققناه فإن ما ليس بثابت في الذهن ثابت فيه من حيث إنه متصور وغير ثابت فيه من حيث إنه سلب لما في الذهن

٦٨

لا يقال : امتياز أحد الشيئين عن الآخر يستدعي أن يكون لكل من الممتازين هوية مغايرة لهوية الآخر حتى يحكم بينهما بالامتياز فلو كان العدم ممتازا عن الوجود لكان له هوية متميزة عنه لكن ذلك محال لأن العقل يمكنه رفع كل هوية فيكون رفع هوية العدم قسيما للعدم وقسما منه وهذا محال.

لأنا نقول : لا نسلم وجوب الهوية لكل من الممتازين فإنا نحكم بامتياز الهوية عن اللاهوية وليس اللاهوية هوية سلمنا ثبوت الهوية لكل ممتازين لكن هوية العدم داخلة باعتبار الهوية في قسم الهوية وباعتبار ما فرض أنها لا هوية يكون مقابلة للهوية وقسيما لها ولا امتناع في كون الشيء قسما من الشيء وقسيما له باعتبارين على ما تقدم تحقيقه في باب الثبوت.

قال : وإذا حكم الذهن على الأمور الخارجية بمثلها وجب التطابق في صحيحه وإلا فلا ويكون صحيحه باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر لإمكان تصور الكواذب.

أقول : الأحكام الذهنية قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج ، وقد تؤخذ لا بهذا الاعتبار فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجية بأشياء خارجية مثلها كقولنا الإنسان حيوان في الخارج وجب أن يكون مطابقا لما في الخارج حتى يكون حكم الذهن حقا وإلا لكان باطلا وإن حكم على أشياء خارجية بأمور معقولة كقولنا الإنسان ممكن أو حكم على الأمور الذهنية بأحكام ذهنية كقولنا الإمكان مقابل للامتناع لم تجب مطابقته لما في الخارج إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع متقابلان ولا في الخارج إنسان ممكن.

إذا تقرر هذا (فنقول) الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج لما تقدم من أن الحكم ليس مأخوذا بالقياس إلى الخارج ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن لأن الذهن قد يتصور الكواذب فإنا قد نتصور كون الإنسان واجبا مع أنه ممكن فلو كان صدق الحكم باعتبار مطابقته لما في الذهن لكان الحكم بوجوب الإنسان صادقا لأن له صورة ذهنية مطابقة لهذا الحكم بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر.

٦٩

وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه ـ رحمه‌الله ـ جرت هذه النكتة وسألته عن معنى قولهم إن الصادق في الأحكام الذهنية هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر والمعقول من نفس الأمر إما الثبوت الذهني أو الخارجي وقد منع كل منهما هاهنا.

فقال ـ رحمه‌الله ـ المراد بنفس الأمر هو العقل الفعال فكل صورة أو حكم ثابت في الذهن مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعال فهو صادق وإلا فهو كاذب. فأوردت عليه أن الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعال لأنهم استدلوا على ثبوته بالفرق بين النسيان والسهو فإن السهو هو زوال الصورة المعقولة عن الجوهر العاقل وارتسامها في الحافظ لها والنسيان هو زوالها عنهما معا وهذا يتأتى في الصور المحسوسة أما المعقولة فإن سبب النسيان هو زوال الاستعداد بزوال المفيد للعلم في باب التصورات والتصديقات وهاتان الحالتان قد تعرضان في الأحكام الكاذبة فلم يأت فيه بمقنع وهذا البحث ليس من هذا المقام وإنما انجر الكلام إليه وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب.

المسألة الثامنة والثلاثون

في كيفية حمل الوجود والعدم على الماهيات

قال : ثم الوجود والعدم قد يحملان وقد يربط بهما المحمولات.

أقول : اعلم أن الوجود والعدم قد يحملان على الماهية كما يقال الإنسان معدوم ، الإنسان موجود وقد يجعلان رابطة كقولنا الإنسان يوجد كاتبا ، الإنسان تعدم عنه الكتابة فهاهنا المحمول هو الكتابة والوجود والعدم رابطتان إحداهما رابطة الثبوت والوصل والأخرى رابطة السلب والفصل.

قال : والحمل يستدعي اتحاد الطرفين من وجه وتغايرهما من آخر وجهة الاتحاد قد تكون أحدهما وقد تكون ثالثا.

أقول : لما ذكر أن الوجود والعدم قد يحملان وقد يكونان رابطة بين الموضوع والمحمول

٧٠

شرع في تحقيق معنى الحمل وتقريره أنا إذا حملنا وصفا على موصوف فلسنا نعني به أن ذات الموضوع هي ذات المحمول بعينها فإنه لا يبقى حمل ولا وضع إلا في الألفاظ المترادفة وهو باطل ، ولأن قولنا الإنسان حيوان حمل صادق وليس الإنسان والحيوان مترادفين ، ولا نعني به أن ذات الموضوع مباينة لذات المحمول فإن الشيئين المتباينين كالإنسان والفرس يمتنع حمل أحدهما على الآخر ، بل نعني به أن الموضوع والمحمول بينهما اتحاد من وجه وتغاير من وجه فإذا قلنا الضاحك كاتب عنينا به أن الشيء الذي يقال له الضاحك هو الشيء الذي يقال له الكاتب فجهة الاتحاد هي الشيء وجهة التغاير هي الضحك والكتابة.

إذا عرفت هذا فاعلم أن جهة الاتحاد قد تكون أمرا مغايرا للموضوع والمحمول كما في هذا المثال فإن الشيء الذي يقال له ضاحك وكاتب هو الإنسان وهو غير الموضوع والمحمول ، وقد تكون أحدهما كقولنا الإنسان ضاحك والضاحك إنسان.

قال : والتغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر ولا اعتبار عدم القائم في القيام لو استدعاه.

أقول : لما ذكر أن المحمول مغاير للموضوع من وجه صدق عليه مطلق التغاير وصدق التغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر قيام العرض بمحله فإنا نقول الإنسان حيوان وليست الحيوانية قائمة بالإنسانية ، ثم لو فرضنا أن التغاير مع الحمل يقتضي قيام أحدهما بالآخر لكن لا يلزم من كون المحمول قائما بالموضوع كون الموضوع في نفسه مأخوذا باعتبار عدم القائم فإنه حينئذ اعتبار زائد على نفس المحمول والموضوع لا يستدعي مجرد القيام.

قال : وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا.

أقول : إن الحكماء اتفقوا على أن الموصوف بالصفة الثبوتية يجب أن يكون ثابتا وقد أورد على هذا أن الوجود ثابت للماهية فيجب أن تكون الماهية ثابتة أولا حتى يتحقق لها ثبوت آخر ويتسلسل.

٧١

والجواب ما تقدم فيما حققناه أولا من أن الوجود ليس عروضه للماهيات عروض السواد للمحل بل زيادته إنما هي في التصور والتعقل لا في الوجود الخارجي.

قال : وسلبه عنها لا يقتضي تميزها وثبوتها بل نفيها لا إثبات نفيها ، وثبوتها في الذهن وإن كان لازما لكنه ليس شرطا.

أقول : سلب الوجود عن الماهية لا يقتضي أن تكون الماهية متميزة عن غيرها وثابتة في نفسها فإن التميز صفة غير الماهية وكذلك الثبوت والمسلوب عنه هو نفس الماهية ليس الماهية مع غيرها بل سلب الوجود يقتضي نفي الماهية لا بمعنى أن تكون الماهية متحققة ويثبت لها النفي.

لا يقال المسلوب عنه الوجود موجود في الذهن فالسلب يقتضي الثبوت.

لأنا نقول إنا لا نريد بذلك أنه مسلوب عنه الوجود عند كونه موجودا في الذهن فإن كونه موجودا في الذهن صفة مغايرة له والمسلوب عنه هو الموصوف فقط لا باعتبار كونه موصوفا بهذه الصفة أو غيرها وإن كان بحيث تلزمه هذه الصفة أو غيرها.

قال : والحمل والوضع من المعقولات الثانية يقالان بالتشكيك وليست الموصوفية ثبوتية وإلا تسلسل.

أقول : الحمل والوضع من الأمور المعقولة وليس في الخارج حمل ولا وضع بل الثابت في الخارج هو الإنسان والكتابة وأما صدق الكاتب على الإنسان فهو أمر عقلي ولهذا حكمنا بأن الحمل والوضع من المعقولات الثانية ويقالان بالتشكيك فإن استحقاق بعض المعاني للحمل أولى من البعض الآخر وكذا الوضع فإذا قلنا الجسم أسود فقد حكمنا على الجسم بأنه موصوف بالسواد والموصوفية أمر اعتباري ذهني لا خارجي حقيقي لأن الموصوفية لو كانت وجودية لزم التسلسل وبيان الملازمة أنها لو كانت خارجية لكانت عرضا قائما بالمحل فاتصاف محلها بها يستدعي موصوفية أخرى فننقل الكلام إليها ويتسلسل.

٧٢

المسألة التاسعة والثلاثون

في انقسام الوجود إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض

قال : ثم الوجود قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض.

أقول : الموجود إما أن يكون له حصول مستقل في الأعيان أو لا يكون والأول هو الموجود بالذات سواء كان جوهرا أو عرضا فإن العرض وإن كان لا يوجد إلا بمحله لكنه موجود حقيقة فإن وجود العرض ليس هو بعينه وجود المحل إذ قد يوجد المحل بدون العرض ثم يوجد ذلك العرض فيه كالجسم إذا حل فيه السواد بعد أن لم يكن والثاني هو الموجود بالعرض كأعدام الملكات والأمور الاعتبارية الذهنية التي لا تحقق لها في الأعيان ويقال إنها موجودة في الأعيان بالعرض.

قال : وأما الوجود في الكتابة والعبارة فمجازي.

أقول : للشيء وجود في الأعيان ووجود في الأذهان وقد سبق البحث فيهما ووجود في العبارة ووجود في الكتابة والذهن يدل على ما في العين والعبارة تدل على الأمر الذهني والكتابة تدل على العبارة لكن الوجودان الأولان حقيقيان والباقيان مجازيان إذ لا يحكم العقل بأن الشيء موجود في اللفظ والكتابة لكن لما دل عليه حكم على سبيل المجاز أنه موجود فيهما.

المسألة الأربعون

في أن المعدوم لا يعاد

قال : والمعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه فلا يصح الحكم عليه بصحة العود.

أقول : ذهب جماعة من الحكماء والمتكلمين إلى أن المعدوم لا يعاد وذهب آخرون منهم

٧٣

إلى أنه ممكن أن يعاد والحق الأول واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ عليه بوجوه الأول أن المعدوم لا تبقى له هوية ولا يتميز عن غيره فلا يصح أن يحكم عليه بحكم ما من الأحكام فلا يمكن الحكم عليه بصحة العود وهذا ينتقض بامتناع الحكم عليه بامتناع العود فإنه حكم ما والتحقيق هنا أن الحكم يستدعي الحضور الذهني لا الوجود الخارجي.

قال : ولو أعيد تخلل العدم بين الشيء ونفسه.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع إعادة المعدوم وتقريره أن الشيء بعد عدمه نفي محض وعدم صرف وإعادته إنما تكون بوجود عينه الذي هو المبتدأ بعينه في الحقيقة فيلزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وتخلل النفي بين الشيء الواحد ونفسه غير معقول.

قال : ولم يبق فرق بينه وبين المبتدأ.

أقول : هذا هو الوجه الثالث وتقريره أن المعدوم لو أعيد لم يبق فرق بينه وبين المبتدأ فإنا إذا فرضنا سوادين أحدهما معاد والآخر مبتدأ وجدا معا لم يقع بينهما افتراق في الماهية ولا المحل ولا غير ذلك من المميزات إلا كون أحدهما كان موجودا ثم عدم والآخر لم يسبق عدمه وجوده لكن هذا الفرق باطل لامتناع تحقق الماهية في العدم فلا يمكن الحكم عليها بأنها هي هي حالة العدم وإذا لم يبق فرق بينهما لم يكن أحدهما أولى من الآخر بالإعادة أو الابتداء.

قال : وصدق المتقابلان عليه دفعة.

أقول : هذا وجه رابع وهو أنه لو أعيد المعدوم لصدق المتقابلان على الشيء الواحد دفعة واحدة والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه لو أعيد لأعيد مع جميع مشخصاته ومن بعض المشخصات الزمان فيلزم جواز الإعادة على الزمان فيكون مبتدأ معادا وهو محال لأنها متقابلان لا يصدقان على ذات واحدة.

٧٤

قال : ويلزم التسلسل في الزمان.

أقول : هذا دليل على امتناع إعادة الزمان وتقريره أنه لو أعيد الزمان لكان وجوده ثانيا مغايرا لوجوده أولا والمغايرة ليست بالماهية ولا بالوجود وصفات الوجود بل بالقبلية والبعدية لا غير فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه تارة ويعدم أخرى وذلك يستلزم التسلسل.

قال : والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهية.

أقول : هذا جواب عن استدلال من ذهب إلى إمكان إعادة المعدوم وتقرير الدليل أن الشيء بعد العدم إن استحال وجوده لماهيته أو لشيء من لوازمها وجب امتناع مثله الذي هو الوجود المبتدأ ، وإن كان لأمر غير لازم بل لعارض فعند زوال ذلك العارض يزول الامتناع.

وتقرير الجواب أن الشيء بعد العدم ممتنع الوجود المقيد ببعدية العدم وذلك الامتناع لازم للماهية الموصوفة بالعدم بعد الوجود.

المسألة الحادية والأربعون

في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن

قال : وقسمة الموجود إلى الواجب والممكن ضرورية وردت على الوجود من حيث هو قابل للتقييد وعدمه.

أقول : العقل يحكم حكما ضروريا بأن الموجود إما أن يكون مستغنيا عن غيره أو يكون محتاجا والأول واجب والثاني ممكن وهذه قسمة ضرورية لا يفتقر فيها إلى برهان وليست القسمة واردة على مطلق الوجود من حيث هو وجود مطلق فإن الشيء من حيث هو ذلك الشيء يستحيل أن ينقسم إلى متباينين هما غير ذلك الشيء وإذا اعتبرت قسمته فلا يؤخذ

٧٥

مع هذه الحيثية بل يؤخذ الشيء بلا تقيد بشرط مع تجويز التقييد ويقسم فتنضاف إلى مفهومه مفهومات أخر ويصير مفهومه مع كل واحد من تلك المفهومات قسما.

المسألة الثانية والأربعون

في البحث عن الإمكان

قال : والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهية لا باعتبار العدم والوجود.

أقول : الذهن إذا حكم بأمر على أمر فقد يلاحظ الوجود أو العدم للمحكوم عليه وهو الحكم بأحدهما أو بما يشترط فيه أحدهما ، وقد لا يلاحظ أحدهما كالحكم بالإمكان فإن الذهن إذا حكم على الممكن بإمكان الوجود أو العدم فإنه لا يحكم عليه باعتبار كونه موجودا لأنه بذلك الاعتبار يكون واجبا ، ولا باعتبار كونه معدوما فإنه بذلك الاعتبار يكون ممتنعا وإنما يتحقق الإمكان للممكن من حيث هو هو لا باعتبار الوجود ولا باعتبار العدم.

وبهذا التحقيق يندفع السؤال الذي يهول به قوم وهو أن المحكوم عليه بالإمكان إما أن يكون موجودا أو معدوما فإن كان موجودا استحال الحكم عليه بالإمكان لأن الموجود لا يقبل العدم لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم وإذا امتنع حصول العدم امتنع حصول إمكان الوجود والعدم ، وإن كان معدوما استحال عليه قبول الوجود كما تقدم ، وإذا استحال مجامعة الإمكان لوصفي الوجود والعدم واستحال انفكاك الماهية عنهما استحال الحكم على الماهية بالإمكان.

وذلك لأن القسمة في قولهم المحكوم عليه بالإمكان إما أن يكون موجودا أو معدوما ليست بحاصرة لأن المفهوم منه أن المحكوم عليه بالإمكان إما أن يحكم عليه مع اعتبار الوجود أو مع اعتبار العدم ويعوزه قسم آخر وهو أن يحكم عليه لا مع اعتبار أحدهما. وقولهم الموجود حال الوجود لا يقبل العدم وكذا المعدوم صحيح لكن الموجود يقبل العدم في غير حال الوجود وكذا المعدوم وليس حال الماهية إما حال الوجود أو حال العدم لأنهما

٧٦

حالان تحصلان عند اعتبار الماهية مع الغير أما عند اعتبارها لا مع الغير فإنها تقبل أحدهما لا بعينه وهذا الامتناع امتناع لاحق بشرط المحمول.

قال : ثم الإمكان قد يكون آلة في التعقل وقد يكون معقولا باعتبار ذاته

أقول : كون الشيء معقولا ينظر فيه العقل ويعتبر فيه وجوده ولا وجوده غير كونه آلة للتعقل ولا ينظر فيه حيث ينظر فيما هو آلة لتعقله بل إنما ينظر به مثلا العاقل يعقل السماء بصورة في عقله ويكون معقوله السماء لا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ولا يحكم عليها بحكم بل يعقل أن المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر ثم إذا نظر في تلك الصورة وجعلها معقولا منظورا إليها لا آلة في النظر إلى غيرها وجدها عرضا موجودا في محل هو عقله.

إذا ثبت هذا فنقول الإمكان كآلة للعاقل بها يعرف حال الممكن في أن وجوده على أي أنحاء العروض يعرض للماهية ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو معدوما أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا ثم إذا نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريته أو عرضيته لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشيء بل كان عرضا في محل هو العقل وممكنا في ذاته ووجوده غير ماهيته فالإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن وإذا وصف بشيء من ذلك لا يكون حينئذ إمكانا بل يكون له إمكان آخر يعتبره العقل والإمكان أمر عقلي فمهما اعتبر العقل للإمكان ماهية ووجودا حصل فيه إمكان إمكان ولا يتسلسل بل ينقطع عند انقطاع الاعتبار. وهكذا حكم جميع الاعتبارات العقلية من الوجوب والشيئية والحدوث وغيرها من ثواني المعقولات.

قال : وحكم الذهن على الممكن بالإمكان اعتبار عقلي فيجب أن تعتبر مطابقته لما في العقل.

أقول : قد تقدم مواضع اعتبار المطابقة وعدمها والإمكان إذا اعتبر فيه المطابقة فيجب أن يكون مطابقا لما في العقل لأنه اعتبار عقلي على ما تقدم.

٧٧

المسألة الثالثة والأربعون

في أن الحكم بحاجة الممكن إلى المؤثر ضروري

قال : والحكم بحاجة الممكن ضروري وخفاء التصديق لخفاء التصور غير قادح.

أقول : كل عاقل إذا تصور الممكن ما هو والاحتياج إلى المؤثر حكم بنسبة أحدهما إلى الآخر حكما ضروريا لا يحتاج معه إلى برهان وخفاء هذا التصديق عند بعض العقلاء لا يقدح في ضروريته لأن الخفاء في الحكم يسند إلى خفاء التصور لا لخفائه في نفسه ولهذا إذا مثل للمتشكك في هذه القضية حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهية بحال كفتي الميزان وأنهما كما يستحيل ترجح إحدى الكفتين على الأخرى بغير مرجح كذلك الممكن المتساوي الطرفين حكم بالحاجة إلى المؤثر.

قال : والمؤثرية اعتبار عقلي.

أقول : هذا جواب عن سؤال أورده بعض المغالطين على احتياج الممكن إلى المؤثر.

وتقرير السؤال : أن الممكن لو افتقر إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر في ذلك الأثر إن كانت وصفا ثبوتيا في الذهن من غير مطابقة الخارج لزم الجهل ، ولأنها ثابتة قبل الذهن ويستحيل قيام صفة الشيء بغيره ، وإن كانت بمطابقة الخارج أو كانت ثابتة في الخارج مغايرة للمؤثر والأثر لأنها نسبة بينهما لزم التسلسل وهو محال وبتقدير تسليمه فهو غير معقول لأن التسلسل إنما يعقل لو فرضنا أمورا متتالية إلى غير النهاية وذلك يستدعي كون كل واحد منها متلوا بصاحبه وإنما يكون متلوا بصاحبه لو لم يكن بينه وبين متلوه غيره لكن ذلك محال لأن تأثير المتلو في التالي متوسط بينهما وقد كان لا متوسط هذا خلف وليست المؤثرية عدمية لأنها نقيض اللامؤثرية المحمولة على المعدوم والمحمول على المعدوم عدم ونقيض العدم ثبوت فالمؤثرية ثبوتية.

وتقرير الجواب : أن المؤثرية أمر إضافي يثبت في العقل عند تعقل صدور الأثر عن

٧٨

المؤثر فإن تعقل ذلك يقتضي ثبوت أمر في العقل هو المؤثرية كما في سائر الإضافات ، وعدم مطابقته للخارج لا يقتضي كونه جهلا لأن الجهل يلزم لو حكم بثبوته في الخارج ولم يثبت في الخارج.

وقوله والمؤثرية صفة قبل الذهن وصفة الشيء يستحيل قيامها بغيره فجوابه أن كون الشيء بحيث لو عقله عاقل حصل في عقله إضافة لذلك الشيء إلى غيره هو الحاصل قبل الأذهان لا الذي يحصل في العقل فإن ذلك يستحيل وجوده قبل وجود العقل.

قال : والمؤثر يؤثر في الأثر لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم.

أقول : هذا جواب عن سؤال آخر لهم وتقرير السؤال أن المؤثر إما أن يؤثر في الأثر حال وجوده أو حال عدمه والقسمان باطلان فالتأثير باطل أما بطلان الأول فلاستلزامه تحصيل الحاصل وأما بطلان الثاني فلأن حال العدم لا أثر فلا تأثير لأن التأثير إن كان عين حصول الأثر عن المؤثر فحيث لا أثر فلا تأثير وإن كان مغايرا فالكلام فيه كالكلام في الأول.

وتقرير الجواب : أن نقول إن أردت بحال وجود الأثر زمان وجوده فليس بمستحيل أن يؤثر المؤثر في الأثر في زمان وجود الأثر لأن العلة مع المعلول تكون بهذه الصفة ، وإن أردت به مقارنة المؤثر للأثر ، الذاتية فذلك مستحيل وإنما يؤثر فيه لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم.

قال : وتأثيره في الماهية ويلحقه وجوب لاحق.

أقول : هذا جواب عن سؤال ثالث لهم وتقريره : أن المؤثر إما أن يؤثر في الماهية أو في الوجود أو في اتصاف الماهية بالوجود والأقسام بأسرها باطلة فالتأثير باطل.

أما الأول : فلأن كل ما بالغير يرتفع بارتفاعه لكن ذلك محال لأن صيرورة الماهية غير ماهية محال لأن موضوع القضية يجب أن يتحقق حال ثبوت محمولها ولا تحقق للماهية

٧٩

حال الحكم عليها بالعدم.

وأما الثاني : فلأنه يلزم ارتفاع الوجود عند ارتفاع المؤثر ويلزم ما تقدم من المحال.

وأما الثالث : فلأن الموصوفية ليست ثبوتية وإلا لزم التسلسل فلا تكون أثرا سلمنا لكن المؤثر يؤثر في ماهيتها أو في وجودها أو في اتصاف ماهيتها بوجودها ويعود المحال.

وتقرير الجواب : أن المؤثر يؤثر في الماهية وعند فرض الماهية يجب تحققها وجوبا لاحقا بسبب الفرض مترتبا على الفرض ومع ذلك الوجوب يمتنع تأثير المؤثر فيه فإنه يكون إيجادا لما فرض موجودا أما قبل فرضه ماهية فيمكن أن يوجدها المؤثر على سبيل الوجوب ويكون ذلك الوجوب سابقا على وجوده والفرق بين الوجوبين ظاهر ذكر في المنطق والغلط هنا نشأ من قبل اشتراك لفظ الوجوب لدلالته على المعنيين بالشركة اللفظية وقولنا عدمت الماهية معناه أن الماهية الحاصلة في زمان ليست تحصل في زمان بعده ويكون ذلك حملا لغير الحاصل على المتصور منه لا على الموجود الخارجي لأن الوضع والحمل من ثواني المعقولات على ما مر ولا يكونان في الخارج وكذا البحث في حصول الوجود من موجده ومن يجعل تأثير المؤثر في جعل الماهية موصوفة بالوجود وهم القائلون بثبوت المعدوم لم يتعلق ذلك بموصوفية الماهية بالوجود لأن ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتصافها به والمراد من تأثير المؤثر هو ضم الماهية إلى الوجود ولا يلزم من ذلك ما ذكروه من المحال.

قال : وعدم الممكن يستند إلى عدم علته على ما مر.

أقول : هذا جواب عن سؤال آخر وتقريره أن يقال إن الممكن لو افتقر في طرف الوجود إلى المؤثر لافتقر في طرف العدم لتساويهما بالنسبة إليه والتالي باطل لأن المؤثر لا بد له من أثر والعدم نفي محض فيستحيل استناده إلى المؤثر ، ولأنه نفي محض فلا تعدد فيه ولا امتياز.

وتقرير الجواب : أن عدم الممكن المتساوي ليس نفيا محضا بل هو عدم ملكة

٨٠