كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

شخصي فعدم اللحية عن الأمرد عدم ملكة وعدمها عن الأثطّ ليس عدم الملكة.

وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع النوعي فعدم اللحية عن الأثطّ إيجاب وعدم ملكة وعدمها عن الحيوان ليس عدم ملكة.

وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع الجنسي أيضا ولا مشاحة في ذلك لعدم فائدته.

المسألة السادسة عشرة

في أن الوجود بسيط

قال : ولا جنس له بل هو بسيط فلا فصل له.

أقول : قد بينا أن الوجود عارض لجميع المعقولات فلا معقول أعم منه فلا جنس له فلا فصل له لأن الفصل هو المميز لبعض أفراد الجنس عن البعض فإذا انتفت الجنسية انتفت الفصلية بل هو بسيط.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون مركبا لا من الأجناس والفصول كتركب العدد من الآحاد ، لأنا نقول : تلك الأجزاء إما أن تكون موجودة أو لا تكون كذلك وعلى التقدير الأول تكون طبيعة الجزء والمركب واحدة فلا يقع الامتياز إلا بالمقدار وهو منتف ، وعلى التقدير الثاني لا يكون الوجود عارضا لجميع المعقولات مع فرضنا إياه كذلك هذا خلف.

المسألة السابعة عشرة

في مقوليته على ما تحته من الجزئيات

قال : ويتكثر بتكثر الموضوعات ويقال بالتشكيك على عوارضها.

أقول : الوجود طبيعة معقولة كلية واحدة غير متكثرة فإذا اعتبر عروضه للماهيات يتكثر بحسب تكثرها لاستحالة عروض العرض الشخصي لماهيات متعددة وتكون

٤١

طبيعته متحققة في كل واحدة من عوارض تلك الماهيات أعني أن طبيعة الوجود متحققة في وجود الإنسان ووجود الفرس وغيرهما من وجودات الحقائق ويصدق عليها صدق الكلي على جزئياته ، وعلى تلك الماهيات صدق العارض على معروضاته ويقال على تلك الوجودات العارضة للماهيات بالتشكيك وذلك أن الكلي إن كان صدقه على أفراده على السواء كان متواطيا وإن كان لا على السواء بل يكون بعض تلك الأفراد أولى بالكلي من الآخر أو أقدم منه أو يوجد الكلي في ذلك البعض أشد منه في الآخر كان مشككا والوجود من حيث هو بالنسبة إلى كل وجود خاص كذلك لأن وجود العلة أولى بطبيعة الوجود من المعلول والوجود في العلة سابق على الوجود في المعلول وأشد عند بعضهم فيكون مشككا.

قال : فليس جزءا من غيره مطلقا.

أقول : هذا نتيجة ما تقدم وذلك لأن المقول بالتشكيك لا يكون جزءا مما يقال عليه ولا نفس حقيقته لامتناع التفاوت في الماهية وأجزائها على ما يأتي فيكون البتة عارضا لغيره فلا يكون جزءا من غيره على الإطلاق أما بالنسبة إلى الماهيات فلأنه عارض لها على ما تقدم من امتناع كونه جزءا من غيره وأنه زائد على الحقائق ، وأما بالنسبة إلى وجوداتها فلأنه مقول عليها بالتشكيك فلهذا قال رحمه‌الله : مطلقا.

المسألة الثامنة عشرة

في الشيئية

قال : والشيئية من المعقولات الثانية وليست متأصلة في الوجود فلا شيء مطلقا ثابت بل هي تعرض لخصوصيات الماهيات.

أقول : قال أبو علي بن سينا الوجود إما ذهني وإما خارجي والمشترك بينهما هو الشيئية فإن أراد حمل الشيئية على القدر المشترك وصدقها عليه فهو صواب وإلا فهو ممنوع إذا عرفت هذا فنقول : الشيئية والذاتية والجزئية وأشباهها من المعقولات الثانية التي تعرض

٤٢

للمعقولات الأولى ، لأنها لا تعقل إلا عارضة لغيرها من الماهيات وليست متأصلة في الوجود كتأصل الحيوانية والإنسانية فيه ، بل هي تابعة لغيرها في الوجود وليس يمكن وجود شيئية مطلقة فلا شيء مطلقا ثابت إنما الثبوت يعرض للماهيات المخصوصة الشخصية.

المسألة التاسعة عشرة

في تمايز الأعدام

قال : وقد يتمايز الأعدام ولهذا استند عدم المعلول إلى عدم العلة لا غير ، ونافى عدم الشرط وجود المشروط وصحح عدم الضد وجود الآخر بخلاف باقي الأعدام.

أقول : لا شك في أن الملكات متمايزة وأما العدمات فقد منع قوم من تمايزها بناء على أن التميز إنما يكون للثابت خارجا وهو خطأ فإنها تتمايز بتمايز ملكاتها واستدل المصنف ـ رحمة الله ـ عليه بوجوه ثلاثة :

الأول : أن عدم المعلول يستند إلى عدم العلة ولا يستند إلى عدم غيرها فلو لا امتياز عدم العلة من عدم غيرها لم يكن عدم المعلول مستندا إليه دون غيره. وأيضا فإنا نحكم بأن عدم المعلول لعدم علته ولا يجوز العكس فلو لا تمايزهما لما كان كذلك.

الثاني : أن عدم الشرط ينافي وجود المشروط لاستحالة الجمع بينهما لأن المشروط لا يوجد إلا مع شرطه وإلا لم يكن الشرط شرطا وعدم غيره لا ينافيه فلو لا الامتياز لم يكن كذلك.

الثالث : أن عدم الضد عن المحل يصحح وجود الضد الآخر فيه لانتفاء صحة وجود الضد الطاري مع وجود الضد الباقي وعدم غيره لا يصحح ذلك فلا بد من التمايز.

قال : ثم العدم قد يعرض لنفسه فيصدق النوعية والتقابل عليه باعتبارين.

أقول : العدم قد يفرض عارضا لغيره وقد يلحظ لا باعتبار عروضه للغير فيكون أمرا معقولا قائما برأسه ويكون له تحقق في الذهن ثم إن العقل يمكنه فرض عدمه لأن الذهن

٤٣

يمكنه إلحاق الوجود والعدم بجميع المعقولات حتى بنفسه فإذا اعتبر العقل للعدم ماهية معقولة وفرضها معدومة كان العدم عارضا لنفسه ويكون العدم العارض للعدم مقابلا لمطلق العدم باعتبار كونه رافعا له وعدما له ونوعا منه باعتبار أن العدم المعروض أخذ مطلقا على وجه يعم العارض له ولغيره فيصدق نوعية العدم العارض للمعروض والتقابل بينهما باعتبارين.

قال : وعدم المعلول ليس علة لعدم العلة في الخارج وإن جاز في الذهن على أنه برهان إني وبالعكس لمي.

أقول : لما بين أن الأعدام متمايزة بأن عدم المعلول مستند إلى عدم العلة ذكر ما يصلح جوابا لتوهم من يعكس القول ويجعل عدم المعلول علة لعدم العلة فأزال هذا الوهم وقال إن عدم المعلول ليس علة لعدم العلة بل الأمر بالعكس على ما يأتي. ثم قيد النفي بالخارج لأن عدم المعلول قد يكون علة لعدم العلة في الذهن كما في برهان إن بأن يكون عدم المعلول أظهر عند العقل من عدم العلة فيستدل العقل عليه ويكون علة له باعتبار التعقل لا باعتبار الخارج ولا يفيد العلية في نفس الأمر بل في الذهن ولهذا سمي إنيا لأنه لا يفيد إلا الوجود أما الاستدلال بعدم العلة على عدم المعلول فهو برهان لمي مطابق للأمر نفسه.

المسألة العشرون

في أن عدم الأخص أعم من عدم الأعم

قال : والأشياء المترتبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما.

أقول : إذا فرض أمران أحدهما أعم من الآخر كالحيوان والإنسان ونسب عدم أحدهما إلى الأخر بالعموم والخصوص وجد عدم الأخص أعم من عدم الأعم فإن الحيوان يشمل الإنسان وغيره فغير الإنسان لا يصدق عليه أنه إنسان بل يصدق عليه عدمه ولا

٤٤

يصدق عليه عدم الحيوان لأنه أحد أنواعه ، ويصدق أيضا عدم الإنسان على ما ليس بحيوان وهو ظاهر فعدم الحيوان لا يشمل أفراد عدم الإنسان وعدم الإنسان شامل لأفراد ما ليس بحيوان فيكون عدم الأخص أعم من عدم الأعم فإذا ترتب شيئان في العموم والخصوص وجودا ترتبا في العكس عدما بأن يصير الأخص أعم في طرف العدم.

المسألة الحادية والعشرون

في قسمة الوجود والعدم إلى المحتاج والغني

قال : وقسمة كل منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقية.

أقول : كل واحد من الوجود والعدم إما أن يكون محتاجا إلى الغير وإما أن يكون مستغنيا عنه والأول ممكن والثاني واجب أو ممتنع وهذه القسمة حقيقية تمنع الجمع لاستحالة كون المستغني عن الغير محتاجا إليه وبالعكس ، وأما منع الخلو فلأنه لا قسم ثالث لهما فقد ظهر أن هذه القسمة حقيقية.

المسألة الثانية والعشرون

في الوجوب والإمكان والامتناع

قال : وإذا حمل الوجود أو جعل رابطة ثبتت مواد ثلاث في أنفسها جهات في التعقل دالة على وثاقة الربط وضعفه هي الوجوب والامتناع والإمكان.

أقول : الوجود قد يكون محمولا بنفسه كقولنا الإنسان موجود وقد يكون رابطة بين الموضوع والمحمول كقولنا الإنسان يوجد حيوانا ، وعلى كلا التقديرين لا بد لهذه النسبة أعني نسبة المحمول فيهما إلى الموضوع من كيفية هي الوجوب والإمكان والامتناع وتلك الكيفية تسمى مادة وجهة باعتبارين فإنا إن أخذنا الكيفية في نفس الأمر سميت مادة ، وإن أخذناها عند العقل وما تدل عليه العبارات سميت جهة وقد تتحدان كقولنا الإنسان

٤٥

يجب أن يكون حيوانا وقد تتغايران كقولنا الإنسان يمكن أن يكون حيوانا فالمادة ضرورية لأن كيفية نسبة الحيوانية إلى الإنسانية هي الوجوب وأما الجهة فهي ممكنة وهذه الكيفيات تدل على وثاقة الربط وضعفه فإن الوجوب يدل على وثاقة الربط في طرف الثبوت والامتناع على وثاقته في طرف العدم والإمكان على ضعف الربط.

قال : وكذلك العدم.

أقول : إذا جعل العدم محمولا أو رابطة كقولنا الإنسان معدوم أو معدوم عنه الكتابة تكثرت الجهات التي عند العقل والمواد في نفس الأمر.

المسألة الثالثة والعشرون

في أن هذه القضايا الثلاث لا يمكن تعريفها

قال : والبحث في تعريفها كالوجود.

أقول : إن جماعة من العلماء أخطئوا هاهنا حيث عرفوا الواجب والممكن والممتنع لأن هذه الأشياء معلومة للعقلاء لا تحتاج إلى اكتساب نعم قد يذكر في تعريف ألفاظها ما يكون شارحا لها لا على أنه حد حقيقي بل لفظي ومع ذلك فتعريفاتهم دورية لأنهم عرفوا الواجب بأنه الذي يستحيل عدمه أو الذي لا يمكن عدمه ثم عرفوا المستحيل بأنه الذي لا يمكن وجوده أو الذي يجب عدمه ثم عرفوا الممكن بأنه الذي لا يجب وجوده ولا يجب عدمه أو الذي لا يستحيل وجوده ولا عدمه فقد أخذ كل واحد منها في تعريف الآخر وهو دور ظاهر.

المسألة الرابعة والعشرون

في القسمة إلى هذه الثلاث

قال : وقد تؤخذ ذاتية فتكون القسمة حقيقية لا يمكن انقلابها.

أقول : إذا أخذنا الوجوب والامتناع والإمكان على أنها ذاتية لا بالنظر إلى الغير كانت

٤٦

المعقولات منقسمة إليها قسمة حقيقية أي تمنع الجمع والخلو وذلك لأن كل معقول على الإطلاق إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو ممتنع الوجود لذاته أو ممكن الوجود لذاته لا يخلو عنها ولا يجتمع اثنان منها في واحد لاستحالة أن يكون شيء واحد واجبا لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته ، أو يكون ممتنعا لذاته ممكنا لذاته فالقسمة حينئذ حقيقية.

واعلم أن القسمة الحقيقية قد تكون لكلي بفصول أو لوازم تميزه وتفصله إلى الأقسام المندرجة تحته وقد تكون بعوارض مفارقة والقسمة الأولى لا يمكن انقلابها ولا يصير أحد القسمين معروضا لمميز الآخر الذي به وقعت القسمة كقولنا الحيوان إما ناطق أو صامت فإن الحيوان بالناطق والصامت قد انقسم إلى طبيعتين ويستحيل انقلاب هذه القسمة بمعنى أن الحيوان الذي هو ناطق يستحيل زوال النطق عنه وعروض الصمت له وكذا الحيوان الذي هو صامت. وأما القسمة الثانية فإنه يمكن انقلابها ويصير أحد القسمين معروضا لمميز الآخر الذي به وقعت القسمة كقولنا الحيوان إما متحرك أو ساكن فإن كل واحد من قسمي المتحرك والساكن قد يتصف بعارض الآخر فينقلب المتحرك ساكنا وبالعكس وقسمة المعقول بالوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والإمكان الذاتي من قبيل القسم الأول لاستحالة انقلاب الواجب لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته وكذا الباقيان.

قال : وقد يؤخذ الأولان باعتبار الغير فالقسمة مانعة الجمع بينهما يمكن انقلابها ، ومانعة الخلو بين الثلاثة في الممكنات.

أقول : إذا أخذنا الواجب والممتنع باعتبار الغير لا بالنظر إلى الذات انقسم المعقول إليهما على سبيل منع الجمع لا الخلو وذلك لأن المعقول حينئذ إما أن يكون واجبا لغيره أو ممتنعا لغيره على سبيل منع الجمع لا الخلو لامتناع الجمع بين الوجوب بالغير والامتناع بالغير ، وإمكان الخلو عنهما لا بالنظر إلى وجود العلة ولا عدمها. وهذه القسمة يمكن انقلابها لأن واجب الوجود بالغير قد يعرضه عدم علته فيكون ممتنع الوجود بالغير فينقلب أحدهما إلى الآخر وإذا لحظنا الإمكان الذاتي في هذه القسمة في الممكنات انقلبت مانعة

٤٧

الخلو لا الجمع لعدم خلو كل معقول ممكن عن الوجوب بالغير والامتناع بالغير والإمكان الذاتي ، ويجوز الجمع بينها فإن الممكن الذاتي واجب أو ممتنع بالغير.

المسألة الخامسة والعشرون

في أقسام الضرورة والإمكان

قال : ويشترك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة وإن اختلفا بالسلب والإيجاب.

أقول : الضرورة تطلق على الوجوب والامتناع وتشملهما فإن كل واحد من الوجوب والامتناع يقال له ضروري لكنهما يختلفان بالسلب والإيجاب فالوجوب ضرورة الوجود والامتناع ضرورة السلب واسم الضرورة شامل لهما.

قال : وكل منهما يصدق على الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه.

أقول : كل واحد من الوجوب والامتناع يصدق على الآخر فإن وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ويستلزمه وبالعكس وكذلك امتناع الوجود يصدق عليه وجوب العدم ويستلزمه فالوجوب والامتناع كل واحد منهما يصدق عليه الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه يعني بالمضاف إليه الوجود أو العدم اللذين يضاف الوجوب والامتناع إليهما.

وإنما اشترطنا تقابل المضاف إليه لأنه يستحيل صدقهما على مضاف واحد فإن وجوب الوجود لا يصدق عليه امتناع الوجود وبالعكس ولا وجوب العدم يصدق عليه امتناع العدم بل إنما يصدق كل واحد منهما على صاحبه مع التقابل كما قلنا وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم فالوجوب أضيف إلى الوجود والامتناع إلى العدم والوجود والعدم متقابلان.

قال : وقد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين فيعم الأخرى والخاص.

أقول : القسمة العقلية ثلاثة واجب وممتنع وممكن ليس بواجب ولا ممتنع هذا بحسب

٤٨

اصطلاح الخاصة ، وقد يؤخذ الإمكان على معنى أعم من ذلك وهو سلب الضرورة عن أحد الطرفين أعني طرفي الوجود والعدم لا عنهما معا بل عن الطرف المقابل للحكم حتى يكون ممكن الوجود هو ما ليس بممتنع ويكون قد رفعنا فيه ضرورة العدم وممكن العدم هو ما ليس بواجب ويكون قد رفعنا فيه ضرورة الوجود فإذا أخذ بهذا المعنى كان أعم من الأول ومن الضرورة الأخرى التي لا تقابله فإن رفع إحدى الضرورتين يشمل ثبوت الأخرى والإمكان الخاص.

قال : وقد يؤخذ بالنسبة إلى الاستقبال.

أقول : قد يؤخذ الإمكان لا بالنظر إلى ما في الحال بل بالنظر إلا الاستقبال حتى يكون ممكن الوجود هو الذي يجوز وجوده في الاستقبال من غير التفات إلى ما في الحال وهذا الإمكان أحق الإمكانات باسم الإمكان.

قال : ولا يشترط العدم في الحال وإلا اجتمع النقيضان.

أقول : هذا الإمكان لا يشترط عدمه في الحال على المذهب الحق ، وذهب بعضهم إلى الاشتراط فقال : لأنه لو كان موجودا في الحال لكان واجبا فلا يكون ممكنا وهو خطأ لأن الوجود إن أخرجه إلى الوجوب أخرجه العدم إلى الامتناع. وأيضا إذا اشترط في إمكان الوجود في المستقبل العدم في الحال اشترط في إمكان العدم الوجود في الحال لكن ممكن الوجود هو بعينه ممكن العدم فيلزم اشتراط وجوده وعدمه في الحال هذا خلف وإليه أشار بقوله : وإلا اجتمع النقيضان. وأيضا العدم في الحال لا ينافي الوجود في المستقبل ، وإمكانه في الحال فالأولى أن لا ينافي إمكانه في المستقبل.

المسألة السادسة والعشرون

في أن الوجوب والإمكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان

قال : والثلاثة اعتبارية لصدقها على المعدوم واستحالة التسلسل.

أقول : هذه الجهات الثلاث أعني الوجوب والإمكان والامتناع أمور اعتبارية يعتبرها

٤٩

العقل عند نسبة الوجود إلى الماهية وليس لها تحقق في الأعيان لوجوه : منها ما هو مشترك ومنها ما هو مختص بكل واحد أما المشترك فأمران :

الأول : أن هذه الأمور تصدق على المعدوم فإن الممتنع يصدق عليه أنه مستحيل الوجود وأنه واجب العدم والممكن قبل وجوده يصدق عليه أنه ممكن وهو معدوم وإذا اتصف المعدوم بها كانت عدمية لاستحالة اتصاف العدمي بالثبوتي.

الثاني : يلزم التسلسل لأن كل متحقق فله وجود يشارك به غيره من الموجودات ويختص بنفس ماهيته وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز فوجوده غير ماهيته فاتصاف ماهيته بوجوده لا يخلو عن أحد هذه الأمور الثلاثة فلو كانت هذه الأمور ثبوتية لزم اتصافها بأحد الثلاثة ويتسلسل وهو محال.

قال : ولو كان الوجوب ثبوتيا لزم إمكان الواجب.

أقول : لما ذكر الأدلة الشاملة في الدلالة على أن هذه الأمور ليست ثبوتية في الأعيان شرع في الدلالة على كل واحد من الثلاثة فبدأ بالوجوب الذي هو أقربها إلى الوجود إذ هو تؤكده فبين أنه ليس ثبوتيا والدليل عليه أنه لو كان موجودا لكان ممكنا والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه صفة للغير والصفة مفتقرة إلى الموصوف فالوجوب مفتقر إلى ذات الواجب فيكون الوجوب ممكنا. وأما بطلان التالي فلأنه لو كان الوجوب ممكنا لكان الواجب ممكنا لأن الواجب إنما هو واجب بهذا الوجوب الممكن والوجوب الممكن يمكن زواله فيخرج الواجب عن كونه واجبا فيكون ممكنا هذا محال.

قال : ولو كان الامتناع ثبوتيا لزم إمكان الممتنع.

أقول : هذا حكم ضروري وهو أن الامتناع أمر عدمي وقد نبه هاهنا على طريق التنبيه لا الاستدلال فإن الامتناع لو كان ثبوتيا لزم إمكان الممتنع لأن ثبوت الامتناع يستدعي ثبوت موصوفه أعني الممتنع فيكون الممتنع ممكنا هذا خلف.

٥٠

قال : ولو كان الإمكان ثبوتيا لزم سبق وجود كل ممكن على إمكانه.

أقول : اختلف الناس في أن الإمكان الخاص هل هو ثبوتي أم لا وتحرير القول فيه أن الإمكان قد يؤخذ بالنسبة إلى الماهية نفسها لا بالقياس إلى الوجود وهو الإمكان الراجع إلى الماهية وقد يؤخذ بالنسبة إلى الوجود من حيث القرب والبعد من طرف العدم إليه وهو الإمكان الاستعدادي أما الأول : فالمحققون كافة على أنه أمر اعتباري لا تحقق له عينا وأما الثاني : فالأوائل قالوا إنه من باب الكيف وهو قابل للشدة والضعف والحق يأباه والدليل على عدمه في الخارج أنه لو كان ثابتا مع أنه إضافة بين أمرين أو ذو إضافة لزم ثبوت مضافيه اللذين هما الماهية والوجود فيلزم تأخره عن الوجود في الرتبة هذا خلف.

قال : والفرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفي لا يستلزم ثبوته.

أقول : هذا جواب عن استدلال الشيخ أبي علي بن سينا على ثبوت الإمكان فإنه قال لو كان الإمكان عدميا لما بقي فرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفي لعدم التمايز في العدميات. والجواب المنع من الملازمة فإن الفرق واقع ولا يستدعي الفرق الثبوت كما في الامتناع.

المسألة السابعة والعشرون

في الوجوب والإمكان والامتناع المطلقة

قال : والوجوب شامل للذاتي وغيره وكذا الامتناع.

أقول : الوجوب قد يكون ذاتيا وهو المستند إلى نفس الماهية من غير التفاوت إلى غيرها وقد يكون بالغير وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر إليه فإن المعلول لو لا النظر إلى علته لم يكن واجبا بها فالوجوب المطلق قد انقسم إلى ما بالذات وإلى ما بالغير وهو شامل لهما وكذا الامتناع شامل للامتناع الذاتي وللعارض باعتبار الغير وليس عموم

٥١

الوجوب عموم الجنسية وإلا تركب الوجوب الذاتي بل عموم عارض ذهني لمعروض ذهني.

قال : ومعروض ما بالغير منهما ممكن.

أقول : الذاتي التي يصدق عليها أنها واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير فإنها تكون ممكنة بالذات لأن الممكن الذاتي هو الذي يعتوره الوجوب والامتناع ولا يمكن أن يكون الواجب بالغير واجبا بالذات ولا ممتنعا بالذات وكذا الممتنع بالغير فقد ظهر أن معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات.

قال : ولا ممكن بالغير لما تقدم في القسمة الحقيقية.

أقول : لا يمكن أن يكون هاهنا ممكن بالغير كما أمكن واجب وممتنع بالغير لأنه لو كان كذلك لكان المعروض للإمكان بالغير إما واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته وكل ممكن بالغير ممكن بالذات فيكون ذلك المعروض تارة واجبا لذاته وتارة ممكنا فيلزم انقلاب القسمة الحقيقية التي فرضنا أنها لا تنقلب هذا خلف.

المسألة الثامنة والعشرون

في عروض الإمكان وقسيميه للماهية

قال : وعروض الإمكان عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية وعلتها.

أقول : الإمكان إنما يعرض للماهية من حيث هي هي لا باعتبار وجودها ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار وجود علتها ولا باعتبار عدم علتها بل إنما يعرض لها عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية نفسها ، وعند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى علة الممكن فإن الماهية إذا أخذت موجودة كانت واجبة ما دامت موجودة وكذا إذا أخذت معدومة تكون ممتنعة ما دامت معدومة وإذا أخذت باعتبار وجود علتها كانت واجبة ما دامت العلة موجودة وإذا أخذت باعتبار عدم علتها كانت ممتنعة ما دامت العلة معدومة.

٥٢

قال : وعند اعتبارهما بالنظر إليهما يثبت ما بالغير.

أقول : إذا اعتبرنا الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية أو إلى علتها ثبت الوجوب بالغير والامتناع بالغير وهو ظاهر مما تقدم.

قال : ولا منافاة بين الإمكان والغيري.

أقول : قد بينا أن الممكن باعتبار وجوده أو وجود علته يكون واجبا ، وباعتبار عدمه أو عدم علته يكون ممتنعا لكن الوجوب والامتناع ليسا ذاتيين بل باعتبار الغير ومعروضهما الممكن فلا منافاة بينهما وبين الإمكان.

قال : وكل ممكن العروض ذاتي ولا عكس.

أقول : الممكن قد يكون ممكن الثبوت في نفسه وقد يكون ممكن الثبوت لشيء آخر وكل ممكن الثبوت لشيء آخر أعني ممكن العروض فهو ممكن ذاتي أي يكون في نفسه ممكن الثبوت لأن إمكان ثبوت الشيء لغيره فرع على إمكانه في نفسه ولا ينعكس فقد يكون الشيء ممكن الثبوت في نفسه وممتنع الثبوت لغيره كالمفارقات أو واجب الثبوت لغيره كالأعراض والصفات.

المسألة التاسعة والعشرون

في علة الاحتياج إلى المؤثر

قال : وإذا لحظ الذهن الممكن موجودا طلب العلة وإن لم يتصور غيره وقد يتصور وجود الحادث فلا يطلبها ثم الحدوث كيفية الوجود فليس علة لما يتقدم عليه بمراتب.

أقول : اختلف الناس هنا في علة احتياج الأثر إلى مؤثره فقال جمهور العقلاء إنها الإمكان لا غير ، وقال آخرون إنها الحدوث لا غير ، وقال آخرون هما معا والحق الأول لوجهين :

٥٣

الأول : العقل إذا لحظ الماهية الممكنة وأراد حمل الوجود أو العدم عليها افتقر في ذلك إلى العلة وإن لم ينظر شيئا آخر سوى الإمكان والتساوي إذ حكم العقل بالتساوي الذاتي كاف في الحكم بامتناع الرجحان الذاتي فاحتاج إلى العلة من حيث هو ممكن وإن لم يلحظ غيره ولو فرضنا حادثا وجب وجوده وإن كان فرضا محالا فإن العقل يحكم بعدم احتياجه إلى المؤثر فعلم أن علة الحاجة إنما هي الإمكان لا غير.

الثاني : أن الحدوث كيفية للوجود فيتأخر عنه تأخرا ذاتيا والوجود متأخر عن الإيجاد والإيجاد متأخر عن الاحتياج والاحتياج متأخر عن علة الاحتياج فلو كان الحدوث علة الحاجة لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وهو محال.

المسألة الثلاثون

في أن الممكن محتاج إلى المؤثر

قال : والحكم باحتياج الممكن ضروري.

أقول : اختلف الناس هنا فقال قوم إن هذا الحكم ضروري أعني أن احتياج الممكن لا يحتاج إلى برهان فإن كل من تصور تساوي طرفي الممكن جزم بالضرورة أن أحدهما لا يترجح من حيث هو متساو أعني من حيث ذاته بل من حيث إن المرجح ثابت وهذا الحكم قطعي لا يقع فيه شك

وقال آخرون إنه استدلالي وهو خطأ وسبب غلطهم أنهم لم يتصوروا الممكن على ما هو عليه.

المسألة الحادية والثلاثون

في وجوب الممكن المستفاد من الفاعل

قال : ولا تتصور الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته.

أقول : قد بينا أن الممكن من حيث هو هو لا باعتبار وجود علته أو عدمها فإن وجوده

٥٤

وعدمه متساويان بالنسبة إليه وإنما يحصل الترجيح من الفاعل الخارجي فإذا لا يمكن أن تتصور أولوية لأحد الطرفين على الآخر بالنظر إلى ذاته.

قال : ولا تكفي الخارجية لأن فرضها لا يحيل المقابل فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب.

أقول : أولوية أحد الطرفين بالنظر إلى وجود العلة أو عدمها هي الأولوية الخارجية فإن كانت العلة مستجمعة لجميع الشرائط منتفيا عنها جميع الموانع كانت الأولوية وجوبا وإلا كانت أولوية يجوز معها وقوع الطرف الآخر وهذه الأولوية الخارجية لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه لأن فرضها لا يحيل المقابل.

وبيان ذلك : أنا إذا فرضنا هذه الأولوية متحققة ثابتة فإما أن يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية أو لا يمكن والثاني يقتضي أن تكون الأولوية وجوبا والأول يلزم منه المحال وهو ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجح لأنا إذا فرضنا الأولوية ثابتة يمكن معها وجود الطرف الراجح والمرجوح فتخصيص أحد الوقتين بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجح وهو محال فقد ظهر أن الأولوية لا تكفي في الترجيح بل لا بد من الوجوب ، وأن كل ممكن على الإطلاق لا يمكن وجوده إلا إذا وجب فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب.

قال : وهو سابق ويلحقه وجوب آخر لا يخلو عنه قضية فعلية.

أقول : كل ممكن موجود أو معدوم فإنه محفوف بوجوبين (أحدهما) الوجوب السابق سبقا ذاتيا الذي استدللنا على تحققه (والثاني) الوجوب اللاحق وهو المتأخر عن تحقق القضية فإن الحكم بوجود المشي للإنسان يكون واجبا ما دام المشي موجودا له وهذه الضرورة تسمى ضرورة بحسب المحمول ولا يخلو عنها قضية فعلية.

قال : والإمكان لازم وإلا تجب الماهية أو تمتنع.

أقول : الإمكان للممكن واجب لأنه لو لا ذلك لأمكن زواله وحينئذ تبقى الماهية

٥٥

واجبة أو ممتنعة وقد بينا امتناعه فيما سلف.

قال : ووجوب الفعليات يقارنه جواز العدم فليس بلازم.

أقول : يريد أن يبين أن الوجوب اللاحق وهو الذي ذكر أنه لا يخلو عنه قضية فعلية ولهذا سماه وجوب الفعليات يقارن جواز العدم وذلك لأن الوجود لا يخرجه عن الإمكان الذاتي بل هو باق على طبيعة الإمكان لأن وجوبه بشرط لا مطلقا فلهذا حكم بجواز مقارنة وجوب الوجود لجواز العدم وهذا الوجوب ليس بلازم بل ينفك عن الماهية عند فرض عدم العلة

قال : ونسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص.

أقول : الوجوب هو تأكد الوجود وقوته والإمكان ضعف فيه فنسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص لأن الوجوب تمام الوجود والإمكان نقص له.

المسألة الثانية والثلاثون

في الإمكان الاستعدادي

قال : والاستعدادي قابل للشدة والضعف ويعدم ويوجد للمركبات وهو غير الإمكان الذاتي.

أقول : الإمكان إما أن يلحظ باعتبار الماهية نفسها وهو الإمكان الذاتي ، وإما أن يلحظ باعتبار قربها من الوجود وبعدها عنه وهو الإمكان الاستعدادي وهذا الإمكان قابل للشدة والضعف والزيادة والنقصان فإن استعداد النطفة للإنسانية أضعف وأبعد من استعداد العلقة لها وكذا استعداد النطفة للكتابة أبعد وأضعف من استعداد الإنسانية لها فهذا هو الإمكان الاستعدادي الحاصل لكل ماهية سبق عدمها وجودها وهذا الإمكان الاستعدادي يعدم ويوجد بعد عدمه للمركبات فإن الماء بعد تسخنه يستعد

٥٦

لصيرورته هواء بعد أن لم يكن ، فقد تجدد له هذا الاستعداد ثم إذا برد زال ذلك الاستعداد وأما الإمكان الذاتي فقد بينا أنه لا يمكن زواله عن الممكن فتغايرا.

المسألة الثالثة والثلاثون

في القدم والحدوث

قال : والموجود إن أخذ غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم وإلا فحادث.

أقول : هذه قسمة للموجود إلى القديم والحادث وذلك لأن الموجود إما أن يسبقه الغير أو لا يسبقه الغير فالأول هو الحادث والثاني هو القديم وقد يقال إن القديم هو الذي لا يسبقه العدم والحادث هو الذي يسبقه العدم.

قال : والسبق ومقابلاه إما بالعلية أو بالطبع أو بالزمان أو بالرتبة الحسية أو العقلية أو بالشرف أو بالذات والحصر استقرائي.

أقول : لما ذكر أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير أو العدم على اختلاف التفسيرين ، والمحدث هو الذي يسبقه الغير أو العدم ، وجب عليه أن يبين أقسام التقدم والسبق ومقابليه أعني التأخر والمعية.

وقد ذكر الحكماء أن أقسام التقدم خمسة :

الأول : التقدم بالعلية وهو كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم ولهذا فإنه لو لا حركة اليد لم تحصل حركة الخاتم فهذا الترتيب العقلي هو تقدم بالعلية.

الثاني : التقدم بالطبع وهو أن يكون المتقدم له حظ في التأثير في المتأخر ولا يكون هو كمال المؤثر وهو كتقدم الواحد على الاثنين والفرق بينه وبين الأول أن المتقدم هناك كان كافيا في وجود المتأخر والمتقدم هنا لا يكفي في وجوده.

الثالث : التقدم بالزمان وهو أن يكون المتقدم موجودا في زمان متقدم على زمان المتأخر كالأب والابن.

٥٧

الرابع : التقدم بالرتبة وهي إما حسية كتقدم الإمام على المأموم ، أو عقلية كتقدم الجنس على النوع إن جعل المبدأ الأعم.

الخامس : التقدم بالشرف كتقدم العالم على المتعلم وكذا أصناف التأخر والمعية.

ثم المتكلمون زادوا قسما آخر للتقدم وسموه التقدم الذاتي وتمثلوا فيه بتقدم أمس على اليوم فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالطبع ولا بالزمان وإلا لاحتاج الزمان إلى زمان آخر وتسلسل ، وظاهر أنه ليس بالرتبة ولا بالشرف فهو خارج عن هذه الأقسام وهذا الحصر استقرائي لا برهاني إذ لم يقم برهان على انحصار التقدم في هذه الأنواع والقسمة إنما تنحصر إذا ترددت بين النفي والإثبات.

المسألة الرابعة والثلاثون

في أن التقدم مقول بالتشكيك

قال : ومقوليته بالتشكيك وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.

أقول : اختلف الحكماء هنا فقال قوم إن التقدم مقول على أنواعه الخمسة بالاشتراك البحت وهو خطأ فإن كل واحد من التقدم بالعلية والطبع قد شارك الآخر في معنى التقدم وهو أن كل واحد من المتقدم وجد له ما للمتأخر دون العكس.

وقال آخرون إنه مقول بالتشكيك لأن الأصناف تشترك في أن المتقدم بما هو متقدم له شيء ليس للمتأخر ولا شيء للمتأخر إلا وهو موجود للمتقدم وهذا المعنى المشترك يقال لا بمعنى واحد فإن المتقدم بالعلية يوجد له التقدم قبل التقدم بالطبع والتقدم بالطبع قبل سائر أصناف التقدم وفي هذا بحث ذكرناه في كتاب الأسرار.

وإذا ثبت أنه مقول بالتشكيك بمعنى أن بعض أنواع التقدم أولى بالتقدم من بعض ، فاعلم أنا إذا فرضنا ا متقدما على ب بالعلية وج متقدما على د بالطبع كان تقدم ا على ب أولى من تقدم ج على د وحينئذ ب أحد المضافين أولى بتأخره عن الألف المضاف الآخر ، من تأخر د عن ج فانحفظت الإضافة بين

٥٨

المضافين في الأولوية وهو أحد أنواع التشكيك

وكذلك لو فرضنا تقدم (ا) على (ب) أشد من تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن (ا) أشد من تأخر (د) عن (ج) وهذا نوع ثان للتشكيك

وكذا لو فرضنا تقدم (ا) على (ب) قبل تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن (ا) قبل تأخر (د) عن (ج) وهذا هو النوع الثالث وهذا معنى قوله وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.

قال : وحيث وجد التفاوت امتنع جنسيته.

أقول : لما بين أن التقدم مقول على ما تحته من أصناف التقدمات بالتشكيك ظهر أنه ليس جنسا لما تحته وأن مقوليته على ما تحته قول العارض على معروضه لا قول الجنس على أنواعه لامتناع وقوع التفاوت في أجزاء الماهية.

قال : والتقدم دائما بعارض زماني أو مكاني أو غيرهما.

أقول : إذا نظر إلى الماهية من حيث هي هي لم تكن متقدمة على غيرها ولا متأخرة وإنما يعرض لها التقدم والتأخر باعتبار أمر خارج عنها إما زماني كما في التقدم الزماني أو مكاني كما في التقدم المكاني أو مغاير كما في تقدم العلة على معلولها باعتبار التأثير والتأثر وكما في تقدم العالم على المتعلم باعتبار الشرف وغير ذلك من أصناف التقدمات.

قال : والقدم والحدوث الحقيقيان لا يعتبر فيهما الزمان وإلا تسلسل.

أقول : القدم والحدوث قد يكونان حقيقيين وقد لا يكونان حقيقيين بل يقالان على ما يقالان عليه على سبيل المجاز فالقدم والحدوث الحقيقيان وهما ما فسرناهما به من أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير والمحدث هو المسبوق بالغير وهما بهذا الاعتبار لا يفتقران إلى الزمان لأن الزمان إن كان قديما أو حادثا بهذا المعنى افتقر إلى زمان آخر وتسلسل وأما القدم والحدوث بالمجاز فإنهما لا يتحققان بدون الزمان وذلك لأن القديم يقال بالمجاز لما

٥٩

يستطال زمان وجوده في جانب الماضي والمحدث لما لا يستطال زمانه.

قال : والحدوث الذاتي متحقق.

أقول : قد بينا أن أصناف التقدم والتأخر خمسة أو ستة ومن جملتها التقدم والتأخر بالطبع فالحدوث الذاتي هو الذي يكون الوجود فيه متأخرا عن العدم بالذات وبيانه : أن الممكن يستحق من ذاته عدم استحقاق الوجود والعدم ويستحق من غيره استحقاق أحدهما وما بالذات أسبق مما بالغير فاللااستحقاقية أعني التأخر الذاتي متقدم على الاستحقاقية وذلك هو معنى الحدوث الذاتي.

قال : والقدم والحدوث اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار.

أقول : ذهب المحققون إلى أن القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحققة في الأعيان وذهب عبد الله بن سعيد من الأشعرية إلى أنهما وصفان زائدان على الوجود والحق خلاف ذلك وأنهما اعتباران عقليان يعتبرهما الذهن عند مقايسة سبق الغير إليه وعدمه لأنهما لو كانا ثبوتيين لزم التسلسل لأن الموجود من كل واحد منهما إما أن يكون قديما أو حادثا فيكون للقدم قدم آخر وكذا الحدوث هذا خلف بل هما عقليان يعتبرهما العقل وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي.

وهذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال إذا كان القدم والحدوث أمرين ثبوتيين في العقل أمكن عروض القدم والحدوث لهما ويعود المحذور من التسلسل وتقرير الجواب أنهما اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار فلا يلزم التسلسل.

قال : وتصدق الحقيقية منهما.

أقول : الموجود لا يخلو عن القدم والحدوث لأنه لا يخلو من أن يكون مسبوقا بغيره أو لا والأول حادث والثاني قديم ولا يجتمعان في شيء واحد لاستحالة اجتماع النقيضين فإذن لا يجتمعان ولا يرتفعان فتتركب المنفصلة الحقيقية منهما.

٦٠