كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

المسألة الثانية

في صحة العدم على العالم

قال : والإمكان يعطي جواز العدم.

أقول : اختلف الناس في أن العالم هل يصح عدمه أم لا فذهب المليون أجمع إلى ذلك إلا من شذ ومنع منه القدماء واختلفوا فذهب قوم منهم إلى أن الامتناع ذاتي وجعلوا العالم واجب الوجود ونحن قد بينا خطأهم وبرهنا على حدوثه فيكون ممكنا بالضرورة وذهب آخرون إلى أن الامتناع باعتبار الغير وذلك أن العالم معلول علة واجب الوجود فلا يمكن عدمه إلا بعدم علته ويستحيل عدم واجب الوجود ونحن قد بينا خطأهم في ذلك وبرهنا على أن المؤثر في العالم قادر مختار وذهبت الكرامية والجاحظ إلى استحالة عدم العالم بعد وجوده بعد اعترافهم بالحدوث لأن الأجسام باقية فلا تفنى بذاتها ولا بالفاعل لأن شأنه الإيجاد لا الإعدام إذ لا فرق في العقل بين نفي الفعل وبين فعل العدم ولا ضد للأجسام لأنه بعد وجوده ليس إعدامه للباقي أولى من عدمه به لوقوع التضاد من الطرفين وأولوية الحادث بالتعلق بالسبب مشتركة وبكثرته باطلة لامتناع اجتماع المثلين وباستلزام الجمع بين النقيضين باطلة لانتفائه على تقدير القول بعدم دخول الحادث في الوجود ولا بانتفاء الشرط لعود الكلام عليه وهو خطأ فإن الإعدام يستند إلى الفاعل كما يستند الوجود إليه والامتياز واقع بين نفي الفعل وفعل العدم سلمنا لكن لم لا يجوز أن يعدم بوجود الضد ويكون الضد أولى بإعدامه وإن كان سبب الأولوية مجهولا ، سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراط الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها الله تعالى حالا فحالا فإذا لم يجدد العرض انتفت الجواهر. ودليل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على مطلوبه من صحة العدم حجة على الجميع وهو أنا بينا أن العالم ممكن الوجود فيستحيل انقلابه إلى الامتناع أو الوجوب فيجوز عدمه كما جاز وجوده.

٤٠١

المسألة الثالثة

في وقوع العدم وكيفيته

قال : والسمع دل عليه.

أقول : يدل على وقوع العدم السمع وهو قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) وقوله تعالى :(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) وقد وقع الإجماع على الفناء وإنما الخلاف في كيفيته على ما يأتي.

قال : ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم عليه‌السلام.

أقول : المحققون على امتناع إعادة المعدوم وسيأتي البرهان على وجوب المعاد وهاهنا قد بين أنه تعالى يعدم العالم وذلك ظاهر المناقضة فبين المصنف مراده من الإعدام أما في غير المكلفين وهم من لا يجب إعادته فلا اعتبار به إذ لا يجب إعادته فجاز إعدامه بالكلية ولا يعاد وأما المكلف الذي يجب إعادته فقد تأول المصنف ـ رحمه‌الله ـ معنى إعدامه بتفريق أجزائه ولا امتناع في ذلك فإن المكلف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه أنه هالك بمعنى أنه غير منتفع به ، أو يقال إنه هالك بالنظر إلى ذاته إذ هو ممكن وكل ممكن فإنه بالنظر إلى ذاته لا يجب له الوجود فلا يوجد إذ لا وجود إلا للواجب بذاته أو بغيره فهو هالك بالنظر إلى ذاته فإذا فرق أجزائه كان هو العدم فإذا أراد الله تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء وألفها كما كانت فذلك هو المعاد ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في سؤال إبراهيم عليه‌السلام عن كيفية الإحياء للأجزاء في الآخرة لأنه تعالى لا يحيي الموتى في دار التكليف وإنما الإحياء يقع في الآخرة فسأل عليه‌السلام عن كيفية ذلك الإحياء وهو يشتمل على السؤال عن جميع المقدمات التي يفعلها الله تعالى حتى يهيئهم ويعدهم لنفخ الروح فأمره الله تعالى بأخذ أربعة من الطير وتقطيعها وتفريق أجزائها ومزج بعض الأجزاء ببعض ثم يفرقها ويضعها على الجبال ثم يدعوها فلما دعاها ميز الله تعالى أجزاء

٤٠٢

كل طير عن الآخر وجمع أجزاء كل طير وفرقها عن أجزاء الآخر حتى كملت البنية التي كانت عليها أولا ثم أحياها الله تعالى ولم يعدم تلك الأجزاء فكذا في المكلف هذا ما فهمناه من قوله كما في قصة إبراهيم عليه‌السلام فهذا هو كيفية الإعدام.

قال : وإثبات الفناء غير معقول لأنه إن قام بذاته لم يكن ضدا وكذا إن قام بالجوهر.

أقول : لما ذكر المذهب الحق في كيفية الإعدام شرع في إبطال مذهب المخالفين في ذلك واعلم أن من جملة من خالف في كيفية الإعدام جماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أن الإعدام ليس هو التفريق بل الخروج عن الوجود بأن يخلق الله تعالى للجواهر ضدا هو الفناء وقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال : أحدها قال ابن الإخشيد إن الفناء ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز إلا أنه يكون حاصلا في جهة معينة فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها. الثاني قال ابن شبيب إن الله يحدث في كل جوهر فناء ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني فيجعله قائما بالمحل. الثالث قال أبو علي وأبو هاشم ومن تابعهما إن الفناء يحدث لا في محل فيفني الجواهر كلها حال حدوثه ثم اختلفوا فذهب أبو هاشم وقاضي القضاة إلى أن الفناء الواحد كاف في عدم كل الجواهر وذهب أبو علي وأصحابه إلى أن لكل جوهر فناء مضادا له لا يكفي ذلك الفناء في عدم غيره فإذا عرفت هذا فنقول القول بالفناء على كل تقدير فرضوه باطل لأن الفناء إن قام بذاته كان جوهرا إذ معنى الجوهر ذلك فلا يكون ضدا للجوهر وإن كان غير قائم بذاته كان عرضا إذ هو معناه فيكون حالا في الجوهر إما ابتداء أو بواسطة وعلى كلا التقديرين فيستحيل أن يكون منافيا للجواهر.

قال : ولانتفاء الأولوية.

أقول : يفهم من هذا الكلام أمران : أحدهما إقامة دليل ثان على امتناع قيام الفناء بالجوهر وتقريره أن نقول لو كان الفناء قائما بالجوهر لكان عرضا حالا فيه ولم يكن اقتضاؤه لنفي محله أولى من اقتضاء محله لنفيه بل كان انتفاء هذا الحال بالمحل أولى إذ منع

٤٠٣

الضد دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان إعدامه له أولى من إعدام المتجدد للضد الباقي وبالخصوص إذا كان محلا له. الثاني إقامة دليل ثان على انتفاء الفناء وتقريره أن نقول لو كان الفناء ضدا للجواهر لم يكن إعدامه للجوهر الباقي أولى من إعدام الجوهر الباقي له بمعنى منعه عن الدخول في الوجود بل هو أولى لما تقدم.

قال : ولاستلزامه انقلاب الحقائق أو التسلسل.

أقول : القول بالفناء يستلزم أحد أمرين محالين : أحدهما انقلاب الحقائق ، والثاني التسلسل وكل مستلزم للمحال فإنه محال قطعا أما استحالة الأمرين فظاهر وأما بيان الملازمة فلأن الفناء إما أن يكون واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود والقسمان باطلان أما الأول فلأنه قد كان معدوما وإلا لم توجد الجواهر ثم صار موجودا وذلك يعطي إمكانه وأما الثاني فلأنه يصح عليه العدم وإلا لم يكن ممكنا فعدمه إن كان لذاته كان ممتنعا بعد أن كان ممكنا وذلك يستلزم انقلاب الحقائق وإن كان بسبب الفاعل بطل أصل دليلكم وإن كان بوجود ضد آخر لزم التسلسل هذا ما خطر لنا في معنى هذا الكلام.

قال : وإثبات بقاء لا في محل يستلزم الترجيح من غير مرجح أو اجتماع النقيضين.

أقول : ذهب قوم منهم ابن شبيب إلى أن الجوهر باق ببقاء موجود لا في محل فإذا انتفى ذلك البقاء انتفى ذلك الجوهر والمصنف ـ رحمه‌الله ـ أحال هذا المذهب أيضا باستلزامه المحال وذكر أن القول بذلك يستلزم أمرين : أحدهما الترجيح من غير مرجح ، والثاني اجتماع النقيضين والذي يخطر لنا في تفسير ذلك أمران : أحدهما أن يقال البقاء إما جوهر أو عرض والقسمان باطلان فالقول به باطل أما الأول فلأنه لو كان جوهرا لم يكن جعله شرطا لجوهر آخر أولى من العكس فإما أن يكون كل واحد منهما شرطا لصاحبه وهو دور ، أو لا يكون أحدهما شرطا للآخر وهو المطلوب. وأما الثاني فلأنه لو كان عرضا قائما بذاته لزم اجتماع النقيضين إذ العرض هو الموجود في المحل فلو كان البقاء قائما لا في محل مع كونه عرضا لزم ما ذكرناه. الثاني أن يقال البقاء إما واجب لذاته أو ممكن لذاته

٤٠٤

والقسمان باطلان أما الأول فلأن وجوده بعد العدم يستلزم جواز عدمه والوجوب يستلزم عدم جوازه وذلك جمع بين النقيضين وأما الثاني فلأن عدمه في وقت دون آخر ترجيح من غير مرجح لاستحالة استناده إلى ذاته وإلا لكان ممتنع الوجود مع إمكانه وذلك جمع بين النقيضين ولا إلى الفاعل ولا إلى الضد وإلا لجاز مثله في الجواهر فالقول بذلك هنا مع استحالته في الجواهر ترجيح من غير مرجح ولا إلى انتفاء الشرط وإلا لزم أن يكون للبقاء بقاء آخر فليس أحدهما بكونه صفة للآخر أولى من العكس وذلك ترجيح من غير مرجح.

قال : وإثباته في المحل يستلزم توقف الشيء على نفسه إما ابتداء أو بواسطة.

أقول : ذهب جماعة من الأشاعرة والكعبي إلى أن الجواهر تبقى ببقاء قائم بها فإذا أراد الله تعالى إعدامها لم يفعل البقاء فانتفت الجواهر والمصنف ـ رحمه‌الله ـ أبطل ذلك باستلزامه توقف الشيء على نفسه إما ابتداء أو بواسطة ، وتقريره أن حصول البقاء في المحل يتوقف على وجود المحل في الزمان الثاني لكن حصوله في الزمان الثاني إما أن يكون هو البقاء أو معلوله ويستلزم من الأول توقف الشيء على نفسه ابتداء ومن الثاني توقفه على معلوله المتوقف عليه وذلك يقتضي توقف الشيء على نفسه بواسطة فهذا ما يمكن حمل كلامه عليه.

المسألة الرابعة

في وجوب المعاد الجسماني

قال : ووجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث والضرورة قاضية بثبوت الجسماني من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع إمكانه.

أقول : اختلف الناس هنا فذهب الأوائل إلى نفي المعاد الجسماني وأطبق المليون عليه واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على وجوب المعاد مطلقا بوجهين : الأول أن الله تعالى وعد بالثواب وتوعد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء

٤٠٥

بوعده ووعيده. الثاني أن الله تعالى قد كلف وفعل الألم وذلك يستلزم الثواب والعوض وإلا لكان ظالما تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فإنا قد بينا حكمته تعالى ولا ريب في أن الثواب والعوض إنما يصلان إلى المكلف في الآخرة لانتفائهما في الدنيا واستدل على ثبوت المعاد الجسماني بأنه معلوم بالضرورة من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن دل عليه في آيات كثيرة بالنص مع أنه ممكن فيجب المصير إليه وإنما قلنا بأنه ممكن لأن المراد من الإعادة جمع الأجزاء المتفرقة وذلك جائز بالضرورة.

قال : ولا تجب إعادة فواضل المكلف.

أقول : اختلف الناس في المكلف ما هو على مذاهب عرفت منها قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة وهو مذهب الأوائل والنصارى والتناسخية والغزالي والحليمي والراغب من الأشاعرة وابن الهيثم من الكرامية وجماعة من الإمامية والصوفية (ومنها) قول جماعة من المحققين إن المكلف هو أجزاء أصلية في هذا البدن لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان وإنما تقعان في أجزاء المضافة إليها.

(إذا عرفت هذا فنقول) الواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية أما الأجسام المتصلة بتلك الأجزاء فلا تجب إعادتها بعينها وغرض المصنف ـ رحمه‌الله ـ بهذا الكلام الجواب عن اعتراضات الفلاسفة على المعاد الجسماني وتقرير قولهم إن إنسانا لو أكل آخر أو اغتذى بأجزائه فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأول عدم الثاني وإن أعيدت إلى الثاني عدم الأول. وأيضا إما أن يعيد الله تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أول العمر إلى آخره أو القدر الحاصل له عند موته والقسمان باطلان : أما الأول فلأن البدن دائما في التحلل والاستخلاف فلو أعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية ولأنه قد يتحلل منه أجزاء تصير أجساما غذائية ثم يأكلها ذلك الإنسان بعينه حتى تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له أولا فإذا أعيدت أجزاء كل عضو إلى عضوه لزم جعل ذلك الجزء جزءا من العضوين وهو محال ، وأما الثاني فلأنه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثم تتحلل تلك الأجزاء

٤٠٦

ويعصي في أجزاء أخرى فإذا أعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على الطاعة لزم إيصال الحق إلى غير مستحقه. وتقرير الجواب واحد وهو أن لكل مكلف أجزاء أصلية لا يمكن أن تصير جزءا من غيرها بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها فإذا أعيدت جعلت أجزاء أصلية لما كانت أصلية له أولا وتلك الأجزاء هي التي تعاد وهي باقية من أول العمر إلى آخره.

قال : وعدم انخراق الأفلاك وحصول الجنة فوقها ودوام الحياة مع الاحتراق وتولد البدن من غير التوالد وتناهي القوى الجسمانية استبعادات.

أقول : احتج الأوائل على امتناع المعاد الجسماني بوجوه : أحدها أن السمع قد دل على انتثار الكواكب وانخراق الأفلاك وذلك محال. الثاني أن حصول الجنة فوق الأفلاك كما ذهب إليه المسلمون يقتضي عدم الكرية. الثالث أن بقاء الحياة مع دوام الاحتراق في النار محال. الرابع أن تولد الأشخاص وقت الإعادة من غير توالد الأبوين باطل. الخامس أن القوى الجسمانية متناهية والقول بدوام نعيم أهل الجنة قول بعدم التناهي. والجواب عن الكل واحد وهو أن هذه استبعادات أما الأفلاك فلأنها حادثة على ما تقرر أولا فيمكن انخراقها كما يمكن عدمها فكذا حصول الجنة فوق الأفلاك. ودوام الاحتراق مع بقاء الجسم ممكن ولأنه تعالى قادر على كل مقدور فيمكن استحالة الجسم إلى أجزاء نارية ثم يعيدها الله تعالى هكذا دائما. والتولد ممكن كما في آدم عليه‌السلام. والقوى الجسمانية قد لا يتناهى أثرها إذا كانت واسطة في التأثير.

المسألة الخامسة

في الثواب والعقاب

قال : ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والإخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك والضد لأنه ترك القبيح

٤٠٧

والإخلال به لأنه إخلال به لأن المشقة من غير عوض ظلم ولو أمكن الابتداء به كان عبثا.

أقول : المدح قول ينبئ عن ارتفاع حال الغير مع القصد إلى الرفع منه. والثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال. والذم قول ينبئ عن اتضاع حال الغير مع قصده. والعقاب هو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف والإهانة. والمدح والثواب يستحقان بفعل الواجب وفعل المندوب وفعل ضد القبيح وهو الترك له على ما ذهب من يثبت الترك ضدا والإخلال بالقبيح ومنع أبو علي وجماعة من المعتزلة استحقاق المدح والثواب بالإخلال بالقبيح وصارا إلى ذلك لأن المكلف يمتنع خلوه من الأخذ والترك الذي هو فعل الضد والحق ما ذكره المصنف ـ رحمه‌الله ـ فإن العقلاء يستحسنون ذم المخل بالواجب وإن لم يتصوروا منه فعلا كما يستحسنون ذمه على فعل القبيح.

واعلم أنه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه وكذا المندوب يفعله لندبه أو لوجه ندبه وكذا في ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك والإخلال بالقبيح لكونه إخلالا بالقبيح فإنه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما ذكرناه لم يستحق مدحا ولا ثوابا عليهما وكذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذة أو غيرها لم يستحق المدح والثواب. والدليل على استحقاق الثواب بفعل الطاعة أنها مشقة قد ألزمها الله تعالى المكلف فإن لم يكن لغرض كان عبثا وظلما وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم وإن كان لغرض فإما الإضرار وهو ظلم وإما النفع وهو إما أن يصح الابتداء به أو لا والأول باطل وإلا لزم العبث في التكليف والثاني هو المطلوب وذلك النفع هو المستحق بالطاعة المقارن للتعظيم والإجلال فإنه يقبح الابتداء بذلك لأن تعظيم من لا يستحقه قبيح.

قال : وكذا يستحق العقاب والذم بفعل القبيح والإخلال بالواجب لاشتماله على اللطف وللسمع.

أقول : كما أن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب فكذا المعصية وهي فعل القبيح وترك الواجب سبب لاستيجاب العقاب لوجهين : أحدهما عقلي كما ذهب إليه جماعة من العدلية

٤٠٨

وتقريره أن العقاب لطف واللطف واجب أما الصغرى فلأن المكلف إذا عرف أن مع المعصية يستحق العقاب فإنه يبعد عن فعلها ويقرب إلى فعل ضدها وهو معلوم قطعا وأما الكبرى فقد تقدمت. الثاني سمعي وهو الذي ذهب إليه باقي العدلية وهو متواتر معلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا عرفت هذا فنقول ذهب جماعة إلى أن الإخلال بالواجب لا يقتضي استحقاق ذم ولا عقاب بل المقتضي لذلك هو فعل القبيح أو ضد فعل الواجب وهو تركه وقد تقدم بيان ذلك.

قال : ولا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين.

أقول : هذا جواب عن حجة من منع من كون الإخلال بالواجب سببا لاستحقاق الذم وتقريره أنه لو كان ذلك سببا والإخلال بالقبيح سبب للمدح لكان المكلف إذا خلا من الأمرين مستحقا للذم والمدح. والجواب لا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين فيذم على أحدهما ويمدح على الآخر كما إذا فعل طاعة ببعض أعضائه ومعصية بالبعض الآخر.

قال : وإيجاب المشقة في شكر النعمة قبيح.

أقول : ذهب أبو القاسم البلخي إلى أن هذه التكاليف وجبت شكرا للنعمة فلا تستلزم وجوب الثواب ولا يستحق بفعلها نفع وإنما الثواب تفضل من الله تعالى وذهب جماعة من العدلية إلى خلاف هذا القول واحتج المصنف ـ رحمه‌الله ـ على إبطاله بأنه يقبح عند العقلاء أن ينعم الإنسان على غيره ثم يكلفه ويوجب عليه شكره ومدحته على تلك النعمة من غير إيصال ثواب إليه ويعدون ذلك نقصا في المنعم وينسبون إلى الرياء وذلك قبيح لا يصدر من الحكيم فوجب القول باستحقاق الثواب.

قال : ولقضاء العقل به مع الجهل.

أقول : هذا دليل ثان على إبطال قول البلخي وتقريره أن العقلاء بأسرهم يجزمون

٤٠٩

بوجوب شكر المنعم وإذا كان وجوب الشكر معلوما بالعقل مع أن العقل لا يدرك التكاليف الشرعية وجب القول بكونها ليست شكرا.

قال : ويشترط في استحقاق الثواب كون الفعل أو الإخلال به شاقا لا رفع الندم على فعله ولا انتفاء النفع العاجل إذا فعل للوجه.

أقول : يشترط في استحقاق الثواب كون الفعل المكلف به الواجب أو المندوب شاقا وكون الإخلال بالقبيح شاقا إذ المقتضي لاستحقاق الثواب هو المشقة فإذا انتفت انتفى المقتضي للاستحقاق ولا يشترط رفع الندم على فعل الطاعة فإن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب وقد وجدت منفكة عنه لأنه في حال الفعل يستحيل أن يكون نادما عليه ، نعم نفي الندم شرط في بقاء استحقاق الثواب وكذا لا يشترط في الثواب عدم النفع العاجل إذا أوقعه المكلف لوجه الوجوب أو للوجوب أو لوجه الندب أو للندب.

المسألة السادسة

في صفات الثواب والعقاب

قال : ويجب اقتران الثواب بالتعظيم والعقاب بالإهانة للعلم الضروري باستحقاقهما مع فعل موجبهما.

أقول : ذهبت المعتزلة إلى أن الثواب نفع عظيم مستحق يقارنه التعظيم والعقاب ضرر عظيم مستحق يقارنه الإهانة واحتجوا على وجوب اقتران التعظيم بالثواب واقتران الإهانة بالعقاب بأنا نعلم بالضرورة أن فاعل الفعل الشاق المكلف به فإنه يستحق التعظيم والمدح وكذلك من فعل القبيح فإنه يستحق الإهانة والاستخفاف.

قال : ويجب دوامهما لاشتماله على اللطفية ولدوام المدح والذم ولحصول نقيضهما لولاه.

أقول : ذهب المعتزلة إلى أن الثواب والعقاب دائمان واختلف في العلم بدوامهما هل

٤١٠

هو عقلي أو سمعي فذهبت المعتزلة إلى أنه عقلي وذهبت المرجئة إلى أنه سمعي واحتج المصنف ـ رحمه‌الله ـ على دوامهما بوجوه : أحدها أن العلم بدوام الثواب والعقاب يبعث العبد على فعل الطاعة ويبعده عن المعصية وذلك ضروري وإذا كان كذلك كان لطفا واللطف واجب على ما مر. الثاني أن المدح والذم دائمان إذ لا وقت إلا ويحسن مدح المطيع وذم العاصي إذا لم يظهر منه ندم على ما فعل وهما معلولا الطاعة والمعصية فيجب كون الطاعة والمعصية في حكم الدائمتين فيجب دوام الثواب والعقاب لأن دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر لأن العلة تكون دائمة أو في حكم الدائمة. الثالث أن الثواب لو كان منقطعا لحصل لصاحبه الألم بانقطاعه ولو كان العقاب منقطعا لحصل لصاحبه السرور بانقطاعه وذلك ينافي الثواب والعقاب لأنهما خالصان عن الشوائب هذا ما فهمناه من كلام المصنف ـ رحمه‌الله ـ وقوله لحصول نقيضيهما يعني نقيضي الثواب والعقاب لولاه أي لو لا الدوام.

قال : ويجب خلوصهما وإلا لكان الثواب أنقص حالا من العوض والتفضل على تقدير حصوله فيهما وهو أدخل في باب الزجر.

أقول : يجب خلوص الثواب والعقاب عن الشوائب أما الثواب فلأنه لو لا ذلك لكان العوض والتفضل أكمل منه لأنه يجوز خلوصهما عن الشوائب وحينئذ يكون الثواب أنقص درجة وأنه غير جائز وأما العقاب فلأنه أعظم في الزجر فيكون لطفا.

قال : وكل ذي مرتبة في الجنة لا يطلب الأزيد ويبلغ سرورهم بالشكر إلى حد انتفاء المشقة وغنائهم بالثواب ينفي مشقة ترك القبائح وأهل النار يلجئون إلى ترك القبيح.

أقول : لما ذكر أن الثواب خالص عن الشوائب ورد عليه أن أهل الجنة يتفاوتون في الدرجات فالأنقص إذا شاهد من هو أعظم ثوابا حصل له الغم بنقص درجته عنه وبعدم اجتهاده في العبادة وأيضا فإنه يجب عليهم الشكر لنعم الله تعالى والإخلال بالقبائح وفي ذلك مشقة. والجواب عن الأول أن شهوة كل مكلف مقصورة على ما حصل له ولا يغتم

٤١١

بفقد الأزيد لعدم اشتهائه له. وعن الثاني أنه يبلغ سرورهم بالشكر على النعمة إلى حد تنتفي المشقة معه. وأما الإخلال بالقبائح فإنه لا مشقة عليهم فيها لأنه تعالى يغنيهم بالثواب ومنافعه عن فعل القبيح فلا تحصل لهم مشقة أما أهل النار فإنهم يلجئون إلى فعل ما يجب عليهم وترك القبائح فلا تصدر عنهم وليس ذلك تكليفا لأنه بالغ حد الإلجاء ويحصل من ذلك نوع من العقاب أيضا.

قال : ويجوز توقف الثواب على شرط وإلا لأثيب العارف بالله تعالى خاصة.

أقول : ذهب جماعة إلى أن الثواب يجوز أن يكون موقوفا على شرط ومنعه آخرون والأول هو الحق والدليل عليه أنه لو لا ذلك لكان العارف بالله تعالى وحده مثابا مع عدم نظره في المعجزة وعدم تصديقه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتالي باطل إجماعا فكذا المقدم ، بيان الشرطية أن المعرفة طاعة مستقلة بنفسها فلو لم يتوقف الثواب عليها على شرط لوجبت إثابة من لم يصدق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لم ينظر في معجزته.

قال : وهو مشروط بالموافاة لقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)

أقول : اختلف المعتزلة على أربعة أقوال فقال بعضهم إن الثواب والعقاب يستحقان في وقت وجود الطاعة والمعصية وأبطلوا القول بالموافاة وقال آخرون إنهما يستحقان في الدار الآخرة وقال آخرون إنهما يستحقان حال الاخترام وقال آخرون إنهما يستحقان في الحال بشرط الموافاة فإن كان في علم الله تعالى أنه يوافي الطاعة سليمة إلى حال الموت أو الآخرة استحق بها الثواب في الحال وكذا المعصية وإن كان في علمه تعالى أنه يحبط الطاعة أو يتوب من المعصية قبل الموافاة لم يستحق الثواب ولا العقاب بهما واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على القول بالموافاة بقوله تعالى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وبقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) وتقريره أن نقول إما أن يكون المراد بالإحباط هنا كون العمل باطلا في أصله أو أن الثواب يسقط

٤١٢

بعد ثبوته أو أن الكفر أبطله والأولان باطلان أما الأول فلأنه علق بطلانه بالشرك المتجدد ولأنه شرط وجزاء وهما إنما يقعان في المستقبل وبالأول يبطل الثاني وأما الثاني فلما يأتي من بطلان التحابط فتعين الثالث.

المسألة السابعة

في الإحباط والتكفير

قال : والإحباط باطل لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ).

أقول : اختلف الناس هنا فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط والتكفير ومعناهما أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بالمعصية المتأخرة أو تكفر ذنوبه المتقدمة بطاعته المتأخرة ونفاهما المحققون ثم القائلون بهما اختلفوا فقال أبو علي إن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى على حاله ، وقال أبو هاشم إنه ينتفي الأقل بالأكثر وينتفي من الأكثر بالأقل ما ساواه ويبقى الزائد مستحقا وهذا هو الموازنة ويدل على بطلان الإحباط أنه يستلزم الظلم لأن من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ وإن تساويا يكون مساويا لمن لم يصدر عنه أحدهما وليس كذلك عند العقلاء ولقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) والإيفاء بوعده ووعيده واجب.

قال : ولعدم الأولوية إذا كان الآخر ضعفا وحصول المتناقضين مع التساوي.

أقول : هذا دليل على إبطال قول أبي هاشم بالموازنة وتقريره أنا إذا فرضنا أنه استحق المكلف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب فليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب بالخمسة من الثواب أولى من الأخرى فإما أن يسقطا معا وهو خلاف مذهبه أو لا يسقط شيء منهما وهو المطلوب ولو فرضنا أنه فعل خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب فإن تقدم إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي بالمعدوم لاستحالة

٤١٣

صيرورة المغلوب والمعدوم غالبا ومؤثرا ، وإن تقارنا لزم وجودهما معا لأن وجود كل منهما نفي وجود الآخر فيلزم وجودهما حال عدمهما وذلك جمع بين المتناقضين.

المسألة الثامنة

في انقطاع عذاب أصحاب الكبائر

قال : والكافر مخلد وعذاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاقه الثواب بإيمانه ولقبحه عند العقلاء.

أقول : أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين فالوعيدية على أنه كذلك وذهبت الإمامية وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعرة إلى أن عذابه منقطع وينبغي أن يعرف هنا الصغير والكبير من الذنب أما الصغير فيقال على وجوه (منها) ما يقال بالإضافة إلى الطاعة فيقال هذه المعصية صغيرة في مقابلة الطاعة أو هي أصغر من هذه الطاعة باعتبار أن عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب تلك الطاعة في كل وقت وإنما شرطنا عموم الوقت لأنه متى اختلف الحال في ذلك بأن يزيد تارة ثواب الطاعة عن عقاب المعصية وتارة ينقص لم نقل أن تلك صغيرة بالإضافة إلى تلك الطاعة على الإطلاق بل تقيد بالحالة التي يكون عقابها أقل من ثواب الطاعة وحصول الاختلاف بما يقترن بالطاعة والمعصية فإن الإنفاق في سبيل الله مختلف كما قال تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) (ومنها) أن يقال بالنسبة إلى معصية أخرى فيقال هذه المعصية أصغر من تلك بمعنى أن عقاب هذه ينقص في كل وقت عن عقاب الأخرى (ومنها) أن يقال بالإضافة إلى ثواب فاعلها بمعنى أن عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب فاعلها في كل وقت ، هذا هو الذي يطلقه العلماء عليه. والكبير يقال على وجوه مقابلة لهذه الوجوه (إذا عرفت هذا فنقول) الحق أن عقاب أصحاب الكبائر منقطع والدليل عليه وجهان : الأول أنه يستحق الثواب بإيمانه لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) والإيمان أعظم أفعال الخير فإذا استحق العقاب بالمعصية فإما أن

٤١٤

يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع لأن الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم أو بالعكس وهو المراد والجمع محال. الثاني يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلدا في النار كمن أشرك بالله تعالى مدة عمره وذلك محال لقبحه عند العقلاء.

قال : والسمعيات متأولة ودوام العقاب مختص بالكافر.

أقول : هذا إشارة إلى الجواب عن حجج الوعيدية واحتجوا بالنقل والعقل (أما النقل) فالآيات الدالة على خلودهم كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) وقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) إلى غير ذلك من الآيات (وأما العقل) فما تقدم من أن العقاب والثواب يجب دوامهما (والجواب) عن السمع التأويل إما بمنع العموم والتخصيص بالكفار وإما بتأويل الخلود بالبقاء المتطاول وإن لم يكن دائما ، وعن العقل بأن دوام العقاب إنما هو في حق الكافر أما غيره فلا.

المسألة التاسعة

في جواز العفو

قال : والعفو واقع لأنه حقه تعالى فجاز إسقاطه ولا ضرر عليه في تركه مع ضرر النازل به فحسن إسقاطه ولأنه إحسان.

أقول : ذهب جماعة من معتزلة بغداد إلى أن العفو جائز عقلا غير جائز سمعا وذهب البصريون إلى جوازه سمعا وهو الحق واستدل عليه المصنف ـ رحمه‌الله ـ بوجوه : الأول أن العقاب حق لله تعالى فجاز تركه والمقدمتان ظاهرتان. الثاني أن العقاب ضرر بالمكلف ولا ضرر في تركه على مستحقه وكل ما كان كذلك كان تركه حسنا أما أنه ضرر بالمكلف فضروري وأما عدم الضرر في تركه فقطعي لأنه تعالى غني بذاته عن كل شيء وأما أن ترك مثل هذا حسن فضروري.

٤١٥

قال : وللسمع.

أقول : هذا دليل الوقوع سمعا وهو الآيات الدالة على العفو كقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فإما أن يكون هذان الحكمان مع التوبة أو بدونها والأول باطل لأن الشرك يغفر مع التوبة فتعين الثاني (وأيضا) المعصية مع التوبة يجب غفرانها وليس المراد في الآية المعصية التي يجب غفرانها لأن الواجب لا يعلق بالمشيئة فما كان يحسن قوله لمن يشاء فوجب عود الآية إلى معصية لا يجب غفرانها كقوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ)» وعلى«تدل على الحال أو الغرض كما يقال ضربت زيدا على عصيانه أي لأجل عصيانه وهو غير مراد هنا قطعا فتعين الأول.

(وأيضا) فالله تعالى قد نطق في كتابه العزيز بأنه عفو غفور وأجمع المسلمون عليه ولا معنى له إلا إسقاط العقاب عن العاصي.

المسألة العاشرة

في الشفاعة

قال : والإجماع على الشفاعة فقيل لزيادة المنافع ويبطل بنا في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أقول : اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدل عليه قوله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قيل إنه الشفاعة واختلفوا فقالت الوعيدية إنها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب وذهبت التفضلية إلى أن الشفاعة للفساق من هذه الأمة في إسقاط عقابهم وهو الحق وأبطل المصنف الأول بأن الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير لكنا شافعين في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث نطلب له من الله تعالى علو الدرجات والتالي باطل قطعا لأن الشافع أعلى من المشفوع فيه فالمقدم مثله

قال : ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب وباقي السمعيات متأولة بالكفار.

أقول : هذا إشارة إلى جواب من استدل على أن الشفاعة إنما هي في زيادة المنافع وقد

٤١٦

استدلوا بوجوه : الأول قوله تعالى (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) نفى الله تعالى قبول الشفاعة عن الظالم والفاسق ظالم (والجواب) أنه تعالى نفى الشفيع المطاع ونحن نقول به لأنه ليس في الآخرة شفيع يطاع لأن المطاع فوق المطيع والله تعالى فوق كل موجود ولا أحد فوقه ولا يلزم من نفي الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بالظالمين هنا الكفار جمعا بين الأدلة. الثاني قوله تعالى (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) ولو شفع عليه‌السلام في الفاسق لكان ناصرا له. الثالث قوله تعالى(وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) ، (يَوْماً لا تَجْزِي) نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) والجواب عن هذه الآيات كلها أنها مختصة بالكفار جمعا بين الأدلة. الرابع قوله تعالى (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) نفي شفاعة الملائكة عن غير المرتضى لله تعالى والفاسق غير مرتضى والجواب لا نسلم أن الفاسق غير مرتضى بل هو مرتضى لله تعالى في إيمانه.

قال : وقيل في إسقاط المضار والحق صدق الشفاعة فيهما وثبوت الثاني له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.

أقول : هذا هو المذهب الثاني الذي حكيناه أولا وهو أن الشفاعة في إسقاط المضار ثم بين المصنف ـ رحمه‌الله ـ أنها تطلق على المعنيين معا كما يقال شفع فلان في فلان إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضار وذلك متعارف عند العقلاء ثم بين أن الشفاعة بالمعنى الثاني أعني إسقاط المضار ثابتة للنبي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وذلك حديث مشهور.

المسألة الحادية عشرة

في وجوب التوبة

قال : والتوبة واجبة لدفعها الضرر ولوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب.

أقول : التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية والعزم على ترك المعاودة في

٤١٧

المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم وهي واجبة بالإجماع لكن اختلفوا فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك ولا يجب من الصغائر المعلوم منها أنها صغائر. وقال آخرون إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل. وقال آخرون إنها تجب من كل صغير وكبير من المعاصي أو الإخلال بالواجب سواء تاب عنها قبل أو لم يتب. وقد استدل المصنف على وجوبها بأمرين : الأول أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف منه ودفع الضرر واجب. الثاني أنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل القبيح أو الإخلال بالواجب إذا عرفت هذا فنقول إنها تجب عن كل ذنب لأنها تجب من المعصية لكونها معصية ومن الإخلال بواجب لكونه كذلك وهذا عام في كل ذنب وإخلال بواجب.

قال : ويندم على القبيح لقبحه وإلا انتفت وخوف النار إن كان الغاية فكذلك وكذا الإخلال.

أقول : يجب على التائب أن يندم على القبيح لقبحه وأن يعزم على ترك المعاودة إليه إذ لو لا ذلك انتفت التوبة كمن يتوب عن المعصية حفظا لسلامة بدنه أو لعرضه بحيث لا ينثلم عند الناس فإن مثل هذا لا يعد توبة لانتفاء الندم فيه. وأما التائب خوفا من النار فإن كان الخوف من النار هو الغاية في توبته بمعنى أنه لو لا خوف النار لم يتب فكذلك أي لا يصح منه التوبة لأنها ليست توبة عن القبيح لقبحه فجرى مجرى طالب سلامة البدن وإن لم يكن هو الغاية بأن يندم عليه لأنه قبيح وفيه عقاب النار ولو لا القبح لما ندم عليه وإن كان فيه خوف النار صحت توبته وكذا الإخلال بالواجب إن ندم عليه لأنه إخلال بواجب وعزم على فعل الواجب في المستقبل لأجل كونه إخلالا بواجب فهي توبة صحيحة وإن كان خوفا من النار أو من فوات الجنة فإن كان هو الغاية لم تصح توبته وإلا كانت صحيحة ولهذا إن المسيء لو اعتذر إلى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل العقلاء عذره.

٤١٨

قال : فلا تصح من البعض ولا يتم القياس على الواجب.

أقول : اختلف شيوخ المعتزلة فذهب أبو هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح وذهب أبو علي إلى جواز ذلك والمصنف ـ رحمه‌الله ـ استدل على مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا أنه يجب أن يندم على القبيح لقبحه ولو لا ذلك لم تكن مقبولة على ما تقدم والقبح حاصل في الجميع فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه (واحتج) أبو علي بأنه لو لم تصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الإتيان بواجب دون واجب والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا يجب عليه فعل الواجب لوجوبه فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الإتيان بواجب دون آخر. وأما بطلان التالي فبالإجماع إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخل بالصوم. وأجاب أبو هاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه وفعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الأول دون الثاني فإن من قال لا آكل الرمانة لحموضتها فإنه لا يقدم على أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع ولو أكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يتناول كل رمانة حامضة فافترقا وإليه أشار المصنف ـ رحمه‌الله ـ بقوله ولا يتم القياس على الواجب أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل الواجب لوجوبه.

قال : ولو اعتقد فيه الحسن صحت.

أقول : قد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح أنها حسنة وتاب عما يعتقده قبيحا فإنه يقبل توبته لحصول الشرط فيه وهو ندمه على القبيح لقبحه ولهذا إذا تاب الخارجي عن الزنا فإنه يقبل توبته وإن كان اعتقاده قبيحا لأنه لا يعتقده كذلك فيصدق في حقه أنه تاب عن القبيح لقبحه.

قال : وكذا المستحقر.

أقول : إذا كان هناك فعلان : أحدهما عظيم القبح والآخر صغيره وهو مستحقر

٤١٩

بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به ويكون وجوده بالنسبة إلى العظيم كعدمه حتى تاب فاعل القبيح من العظيم فإنه تقبل توبته مثال ذلك أن الإنسان إذا قتل ولد غيره وكسر له قلما ثم تاب وأظهر الندم على قتل الولد دون كسر القلم فإنه تقبل توبته ولا يعتد العقلاء بكسر القلم وإن كان لا بد من أن يندم على جميع إساءته وكما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد إساءة فكذا الندم.

قال : والتحقيق أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الدواعي إلى الفعل ولو اشترك الترجيح اشترك وقوع الندم وبه يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده عليهم‌السلام وإلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة.

أقول : لما شرع في تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام وتقريره أن نقول الحق أنه تجوز التوبة عن قبيح دون قبيح لأن الأفعال تقع بحسب الدواعي وتنتفي بحسب الصوارف فإذا ترجح الداعي وقع الفعل (إذا عرفت هذا) فنقول يجوز أن يرجح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم على بعض القبائح دون بعض وإن كانت القبائح مشتركة في أن الداعي يدعو إلى الندم عليها وذلك بأن تقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه أو الشناع عند العقلاء عند فعله ولا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها وهذا في دواعي الفعل فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى الندم ثم تقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على ذلك البعض ولو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم ولم يصح الندم على البعض دون الآخر وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وكلام أولاده كالرضا وغيره عليهم‌السلام حيث نقل عنهم نفي تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض لأنه لو لا ذلك لزم خرق الإجماع والتالي باطل فالمقدم

٤٢٠