كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

المسألة السادسة عشرة

في الأرزاق

قال : والرزق ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه.

أقول : الرزق عند المجبرة ما أكل سواء كان حراما أو حلالا وعند المعتزلة أنه ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المنتفع به لقوله تعالى (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) والله تعالى لا يأمر بالإنفاق من الحرام قالوا ولا يوصف الطعام المباح في الضيافة أنه رزقه ما لم يستهلكه لأن للمبيح منعه قبل استهلاكه بالمضغ والبلع وكذا طعام البهيمة ليس رزقا لها قبل أن تستهلكه لأن للمالك منعها منه إلا إذا وجب رزقها عليه والغاصب إذا استهلك الطعام المغصوب بالأكل لا يوصف بأنه رزقه لأن الله تعالى منعه من الانتفاع به بعد مضغه وبلعه لأن تصرفاته أجمع محرمة بخلاف من أبيح له الطعام لأنه بعد المضغ والبلع لا يحسن من أحد تفويته الانتفاع به لأنه معدود فيما تقدم من الأسباب المؤدية إلى الانتفاع به. وليس الرزق هو الملك لأن البهيمة مرزوقة وليست مالكة والله تعالى مالك ولا يقال إن الأشياء رزق له تعالى والولد والعلم رزق لنا وليسا ملكا لنا فحينئذ الأرزاق كلها من قبله تعالى لأنه خالق جميع ما ينتفع به وهو الممكن من الانتفاع والتوصل إلى اكتساب الرزق وهو الذي يجعل العبد أخص بالانتفاع به بعد الحيازة أو غيرها من الأسباب الموصلة إليه ويحظر على غيره منعه من الانتفاع وهو خالق الشهوة التي بها يتمكن من الانتفاع.

قال : والسعي في تحصيله قد يجب ويستحب ويباح ويحرم.

أقول : ذهب جمهور العقلاء إلى أن طلب الرزق سائغ وخالف فيه بعض الصوفية لاختلاط الحرام بالحلال بحيث لا يتميز وما هذا سبيله يجب الصدقة به فيجب على الغني دفع ما في يده إلى الفقير بحيث يصير فقيرا ليحل له أخذ الأموال الممتزجة بالحرام ولأن في

٣٤١

ذلك مساعدة للظالمين بأخذ العشور والخراجات ومساعدة الظالم محرمة. والحق ما قلناه ويدل عليه المعقول والمنقول أما المنقول فلأنه دافع للضرر فيكون واجبا. وأما المنقول فقوله تعالى (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) إلى غيرها من الآيات وقوله عليه‌السلام (سافروا تغنموا) أمر بالسفر لأجل الغنيمة.

والجواب عن الأول بالمنع من عدم التميز إذ الشارع ميز الحلال من الحرام بظاهر اليد ولأن تحريم التكسب من هذه الحيثية يقتضي تحريم التناول واللازم باطل اتفاقا (وعن الثاني) أن المكتسب غرضه الانتفاع بزراعته أو تجارته لا تقوية الظلمة (إذا عرفت هذا) فالسعي في طلب الرزق قد يجب مع الحاجة ، وقد يستحب إذا طلب التوسعة عليه وعلى عياله ، وقد يباح مع الغنى عنه ، وقد يحرم مع منعه عن الواجب.

المسألة السابعة عشرة

في الأسعار

قال : والسعر تقدير العوض الذي يباع به الشيء وهو رخص وغلاء ولا بد من اعتبار العادة واتحاد الوقت والمكان ويستند إليه تعالى وإلينا أيضا.

أقول : السعر هو تقدير العوض الذي يباع به الشيء وليس هو الثمن ولا المثمن وهو ينقسم إلى رخص وغلاء فالرخص هو السعر المنحط عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان ، والغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان. وإنما اعتبرنا الزمان والمكان لأنه لا يقال إن الثلج قد رخص سعره في الشتاء عند نزول الثلج لأنه ليس أوان بيعه ويجوز أن يقال رخص في الصيف إذا نقص سعره عما جرت به عادته في ذلك الوقت ولا يقال رخص سعره في الجبال التي يدوم نزوله فيها لأنها ليست مكان بيعه ويجوز أن يقال رخص سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها.

(واعلم) أن كل واحد من الرخص والغلاء قد يكون من قبله تعالى بأن يقلل جنس المتاع المعين ويكثر رغبة الناس إليه فيحصل الغلاء لمصلحة المكلفين وقد يكثر جنس ذلك

٣٤٢

المتاع ويقلل رغبة الناس إليه تفضلا منه تعالى وإنعاما أو لمصلحة دينية فيحصل الرخص وقد يحصلان من قبلنا بأن يحمل السلطان الناس على بيع تلك السلعة بسعر غال ظلما منه أو لاحتكار الناس أو لمنع الطريق خوف الظلمة أو لغير ذلك من الأسباب المستندة إلينا فيحصل الغلاء وقد يحمل السلطان الناس على بيع السلعة برخص ظلما منه أو يحملهم على بيع ما في أيديهم من جنس ذلك المتاع فيحصل الرخص.

المسألة الثامنة عشرة

في الأصلح

قال : والأصلح قد يجب لوجود الداعي وانتفاء الصارف.

أقول : اختلف الناس هنا فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما إن الأصلح ليس بواجب على الله تعالى. وقال البلخي إنه واجب وهو مذهب البغداديين وجماعة من البصريين وقال أبو الحسين البصري إنه يجب في حال دون حال وهو اختيار المصنف ـ رحمه‌الله ـ وتحرير صورة النزاع أن الله تعالى إذا علم انتفاع زيد بإيجاد قدر من المال له وانتفاء الضرر به في الدين عنه وعن غيره من المكلفين هل يجب إيجاد ذلك القدر له أم لا؟ احتج الموجبون بأن لله تعالى داعيا إلى إيجاده وليس له صارف عنه فيجب ثبوته لأن مع ثبوت القدرة ووجود الداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل. وبيان تحقق الداعي أنه إحسان خال عن جهات المفسدة ، وبيان انتفاء الصارف أن المفاسد منتفية ولا مشقة فيه.

واحتج النفاة بأن وجوبه يؤدي إلى المحال فيكون محالا. بيان الملازمة أنا لو فرضنا انتفاء المفسدة في الزائد على ذلك القدر وثبوت المصلحة فإن وجب إيجاده لزم وقوع ما لا نهاية له لأنا نفرض ذلك في كل زائد ، وإن لم يجب ثبت المطلوب.

قال أبو الحسين إذا كان ذلك القدر مصلحة خالية عن المفسدة وكان الزائد عليه مفسدة وجب عليه أن يعطيه ذلك القدر لوجود الداعي وانتفاء الصارف وإذا لم يكن في

٣٤٣

الزائد مفسدة إلى غير النهاية فإنه تعالى قد يفعل ذلك القدر وقد لا يفعله لأن من دعاه الداعي إلى الفعل وكان ذلك الداعي حاصلا في فعل ما يشق فإن ذلك يجري مجرى الصارف عنه فيصير الداعي مترددا بين الداعي والصارف فلا يجب الفعل ولا الترك وتمثل بأن من دعاه الداعي على دفع درهم إلى فقير ولم يظهر له ضرر في دفعه فإنه يدفعه إليه فإن حضره من الفقراء جماعة يكون الدفع إليهم مساويا للدفع إلى الأول ويشق عليه الدفع إليهم لحصول الضرر فإنه قد يدفع الدرهم إلى الفقير منهم وقد لا يدفعه فإذا كان حصول الداعي فيما يشق يقتضي تجويز العدم فحصوله فيما يستحيل وجوده أولى لانتفاء الفعل معه فلهذا قال قد يجب الأصلح في بعض الأحوال دون بعض. وللنفاة وجوه أخر ، ذكرناها في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء.

قال :

٣٤٤

المقصد الرابع في :

النبوة

٣٤٥

البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يدل عليه واستفادة الحكم فيما لا يدل وإزالة الخوف واستفادة الحسن والقبح والنافع والضار وحفظ النوع الإنساني وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة وتعليمهم الصنائع الخفية والأخلاق والسياسات والإخبار بالعقاب والثواب فيحصل اللطف للمكلف.

أقول : في هذا المقصد مسائل :

المسألة الأولى

في حسن البعثة

اختلف الناس في ذلك فذهب المسلمون كافة وجميع أرباب الملل وجماعة من الفلاسفة إلى ذلك ومنعت البراهمة منه والدليل على حسن البعثة أنها قد اشتملت على فوائد وخلت عن المفاسد فكانت حسنة قطعا وقد ذكر المصنف ـ رحمه‌الله ـ جملة من فوائد البعثة (منها) أن يعتضد العقل بالنقل فيما يدل العقل عليه من الأحكام كوحدة الصانع وغيرها وأن يستفاد الحكم من البعثة فيما لا يدل العقل عليه كالشرائع وغيرها من مسائل الأصول (ومنها) إزالة الخوف الحاصل للمكلف عند تصرفاته إذ قد علم بالدليل العقلي أنه مملوك لغيره وأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح فلولا البعثة لما علم حسن

٣٤٦

التصرفات فيحصل الخوف بالتصرف وبعدمه إذ يجوز العقل طلب المالك من العبد فعلا لا سبيل إلى فعله إلا بالبعثة فيحصل الخوف (ومنها) أن بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة ثم الحسنة منها ما يستقل العقل بمعرفة حسنه ومنها ما لا يستقل وكذا القبيحة ومع البعثة يحصل معرفة الحسن والقبح اللذين لا يستقل العقل بمعرفتهما و (منها) أن بعض الأشياء نافعة لنا مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها ضار لنا مثل كثير من السموم والحشائش والعقل لا يدرك ذلك كله وفي البعثة تحصل هذه الفائدة العظيمة (ومنها) أن النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات فإنه مدني بالطبع يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه لا يتم نظامه إلا بها وهو عاجز عن فعل الأكثر منها إلا بمشاركة ومعاونة والتغلب موجود في الطبائع البشرية بحيث يحصل التنافر المضاد لحكمة الاجتماع فلا بد من جامع يقهرهم على الاجتماع وهو السنة والشرع ولا بد للسنة من شارع يسنها ويقرر ضوابطها ولا بد وأن يتميز ذلك الشخص من غيره من بني نوعه لعدم الأولوية وذلك المائز لا يجوز أن يكون مما يحصل من بني النوع لوقوع التنافر في التخصيص فلا بد وأن يتميز من قبل الله تعالى بمعجزة ينقاد البشر إلى تصديق مدعيها ويخوفهم من مخالفته ويعدهم على متابعته بحيث يتم النظام ويستقر حفظ النوع الإنساني على كماله الممكن له (ومنها) أن أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات وتحصيل المعارف واقتناء الفضائل فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه وكمال إدراكه وشدة استعداده للاتصال بالأمور العالية وبعضهم عاجز عن ذلك بالكلية وبعضهم متوسط الحال وتتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحد الطرفين وبعدها عن الآخر وفائدة النبي تكميل الناقص من أشخاص النوع بحسب استعداداتهم المختلفة في الزيادة والنقصان (ومنها) أن النوع الإنساني محتاج إلى آلات وأشياء نافعة في بقائه كالثياب والمساكن وغيرها وذلك مما يحتاج في تحصيله إلى معرفة عمله والقوة البشرية عاجزة عنه ففائدة النبي في ذلك تعليم هذه الصنائع النافعة الخفية (ومنها) أن مراتب الأخلاق وتفاوتها معلوم يفتقر فيه إلى مكمل بتعليم الأخلاق والسياسات بحيث تنتظم أمور الإنسان بحسب بلده ومنزله (ومنها) أن الأنبياء يعرفون

٣٤٧

الثواب والعقاب على الطاعة وتركها فيحصل للمكلف اللطف ببعثتهم فتجب بعثتهم لهذه الفوائد.

قال : وشبهة البراهمة باطلة بما تقدم.

أقول : احتجت البراهمة على انتفاء البعثة بأن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة ولا فائدة فيه وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله. وهذه الشبهة باطلة بما تقدم في أول الفوائد وذلك أن نقول لم لا يجوز أن يأتوا بما يوافق العقول وتكون الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل أو نقول لم لا يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول ولا تهتدي إليه وإن لم يكن مخالفا للعقول بمعنى أنهم لا يأتون بما يقتضي العقل نقيضه مثل كثير من الشرائع والعبادات التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها.

المسألة الثانية

في وجوب البعثة

قال : وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية.

أقول : اختلف الناس هنا فقالت المعتزلة إن البعثة واجبة وقالت الأشعرية إنها غير واجبة. احتجت المعتزلة بأن التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية واللطف واجب فالتكليف السمعي واجب ولا تمكن معرفته إلا من جهة النبي فيكون وجود النبي واجبا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. واستدلوا على كون التكليف السمعي لطفا في العقلي بأن الإنسان إذا كان مواظبا على فعل الواجبات السمعية وترك المناهي الشرعية كان من فعل الواجبات العقلية والانتهاء عن المناهي العقلية أقرب وهذا معلوم بالضرورة لكل عاقل وقد بينا فيما تقدم أن اللطف واجب.

٣٤٨

المسألة الثالثة

في وجوب العصمة

قال : ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض ولوجوب متابعته وضدها والإنكار عليه.

أقول : اختلف الناس هنا فجماعة المعتزلة جوزوا الصغائر على الأنبياء إما على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم. وذهبت الأشعرية والحشوية إلى أنه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلا الكفر والكذب وقالت الإمامية إنه تجب عصمتهم عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها والدليل عليه وجوه : أحدها أن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم‌السلام إنما يحصل بالعصمة فتجب العصمة تحصيلا للغرض. وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم وذلك نقض للغرض من البعثة. الثاني أن النبي تجب متابعته فإذا فعل معصية فإما أن تجب متابعته أو لا والثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة والأول باطل لأن المعصية لا يجوز فعلها وأشار بقوله لوجوب متابعته وضدها إلى هذا الدليل لأنه بالنظر إلى كونه نبيا تجب متابعته وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه. الثالث أنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر وذلك يستلزم إيذاءه وهو منهي عنه وكل ذلك محال.

قال : وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكلما ينفر عنه من دناءة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والغلظة والأبنة وشبهها والأكل على الطريق وشبهه.

أقول : يجب أن يكون في النبي هذه الصفات التي ذكرها وقوله وكمال العقل عطف على العصمة أي ويجب في النبي كمال العقل وذلك ظاهر. وأن يكون في غاية الذكاء

٣٤٩

والفطنة وقوة الرأي بحيث لا يكون ضعيف الرأي مترددا في الأمور متحيرا لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه وأن لا يصح عليه السهو لئلا يسهو عن بعض ما أمر بتبليغه. وأن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات لأن ذلك منفر عنه وأن يكون منزها عن الفظاظة والغلظة لئلا يحصل النفرة عنه. وأن يكون منزها عن الأمراض المنفرة نحو الأبنة وسلس الريح والجذام والبرص وعن كثير من المباحات الصارفة عن القبول منه القادحة في تعظيمه نحو الأكل على الطريق وغير ذلك لأن ذلك كله مما ينفر عنه فيكون منافيا للغرض من البعثة.

المسألة الرابعة

في الطريق إلى معرفة صدق النبي

قال : وطريق معرفة صدقه ظهور المعجز على يده وهو ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى.

أقول : لما ذكر صفات النبي وجب عليه ذكر بيان معرفة صدقه وهو شيء واحد وهو ظهور المعجز على يده ونعني بالمعجز ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى لأن الثبوت والنفي سواء في الإعجاز فإنه لا فرق بين قلب العصا حية وبين منع القادر عن رفع أصغر الأشياء وشرطنا خرق العادة لأن فعل المعتاد أو نفيه لا يدل على الصدق وقلنا مع مطابقة الدعوى لأن من يدعي النبوة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل له الصمم مع عدم برء العمى لا يكون صادقا. ولا بد في المعجز من شروط : أحدها أن يعجز عن مثله أو ما يقاربه الأمة المبعوث إليها. الثاني أن يكون من قبل الله تعالى أو بأمره. الثالث أن يكون في زمان التكليف لأن العادة تنتقض عند أشراط الساعة. الرابع أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جاريا مجرى ذلك ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه وأنه لا مدعي للنبوة غيره ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه فيكون ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه لأنه يعلم تعلقه بدعواه وأنه لأجله ظهر كالذي ظهر عقيب دعواه. الخامس أن

٣٥٠

يكون خارقا للعادة.

المسألة الخامسة

في الكرامات

قال : وقصة مريم وغيرها تعطي جواز ظهوره على الصالحين.

قال : اختلف الناس هنا فذهب جماعة من المعتزلة إلى المنع من إظهار المعجز على الصالحين كرامة لهم ومن إظهاره على العكس على الكذابين إظهارا لكذبهم. وجوزه أبو الحسين منهم وجماعة أخرى من المعتزلة والأشاعرة وهو الحق واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ بقصة مريم فإنها تدل على ظهور معجزات عليها وغيرها مثل قصة آصف وكالأخبار المتواترة المنقولة عن علي عليه‌السلام وغيره من الأئمة. وحمل المانعون قصة مريم على الإرهاص لعيسى عليه‌السلام وقصة آصف على أنه معجز لسليمان عليه‌السلام مع بلقيس كأنه يقول إن بعض أتباعي يقدر على هذا مع عجزكم عنه ولهذا أسلمت بعد الوقوف على معجزاته ، وقصة علي عليه‌السلام على تكملة معجزات النبي عليه‌السلام.

قال : ولا يلزم خروجه عن الإعجاز ولا التنفير ولا عدم التميز ولا إبطال دلالته ولا العمومية.

أقول : هذه وجوه استدل بها المانعون من المعتزلة : الأول قالوا لو جاز ظهور المعجزة على غير الأنبياء إكراما لهم لجاز ظهورها عليهم وإن لم يعلم بها غيرهم لأن الغرض هو سرورهم وإذا جاز ذلك بلغت في الكثرة إلى خروجها عن الإعجاز. والجواب المنع من الملازمة لأن خروجها عن حد الإعجاز وجه قبح ونحن إنما نجوز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح فنجوز ظهورها ما لم تبلغ في الكثرة إلى حد خروجها عن الإعجاز.

الثاني قالوا لو جاز ظهور المعجزة على غير النبي لزم التنفير عن الأنبياء إذ علة وجوب طاعتهم ظهور المعجزة عليهم فإذا شاركهم في ذلك من لا تجب طاعته هان موقعه ولهذا لو

٣٥١

أكرم الرئيس بنوع ما كل أحد هان موقع ذلك النوع لمن يستحق الإكرام. والجواب بمنع انحطاط مرتبة الإعجاز كما لو ظهر على نبي آخر فإنه لو لم يظهر إلا على نبي واحد لكان موقعه أعظم فكما لا تلزم الإهانة مع ظهوره على جماعة من الأنبياء كذا لا تلزم الإهانة مع ظهوره على الصالحين.

الثالث احتجاج أبي هاشم قال المعجز يدل بطريق الإبانة والتخصيص وفسره قاضي القضاة بأن المعجز يدل على تميز النبي عن غيره إذ الأمة مشاركون له في الإنسانية ولوازمها فلو لا المعجز لما تميز عنهم فلو شاركه غيره فيه لم يحصل الامتياز. والجواب أن امتياز النبي يحصل بالمعجز واقتران دعوى النبوة وهذا شيء يختص به دون غيره ولا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له في كل شيء.

الرابع لو جاز إظهار المعجز على غير النبي لبطلت دلالته على صدق مدعي النبوة والتالي باطل فالمقدم مثله ، بيان الملازمة أن ثبوت المعجز في غير صورة النبوة ينفي اختصاصه بها وحينئذ لا يظهر الفرق بين مدعي النبوة وغيرها في المعجز فبطلت دلالته إذ لا دلالة للعام على الخاص (والجواب) المنع من الملازمة لأن المعجز مع الدعوى مختص بالنبي فإذا ظهرت المعجزة على شخص فإما أن يدعي النبوة أو لا فإن ادعاها علمنا صدقه إذ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا ، وإن لم يدع النبوة لم يحكم بنبوته والحاصل أن المعجزة لا تدل على النبوة ابتداء بل تدل على صدق الدعوى فإن تضمنت الدعوى النبوة دلت المعجزة على تصديق المدعي في دعواه ويستلزم ذلك ثبوت النبوة.

الخامس قالوا لو جاز إظهار المعجز على صادق ليس بنبي لجاز إظهاره على كل صادق فجاز إظهار المعجز على المخبر بالجوع والشبع وغيرهما. والجواب لا يلزم العمومية أي لا يلزم إظهار المعجز على كل صادق إذ نحن إنما نجوز إظهاره على مدعي النبوة أو الصلاح إكراما له وتعظيما وذلك لا يحصل لكل مخبر بصدق.

قال : ومعجزاته عليه‌السلام قبل النبوة تعطي الإرهاص.

أقول : اختلف الناس هنا فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة على سبيل

٣٥٢

الإرهاص إلا جماعة منهم وجوزه الباقون واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على تجويزه بوقوع معجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل النبوة كما نقل من انشقاق إيوان كسرى ، وغور ماء بحيرة ساوا ، وانطفاء نار فارس وقصة أصحاب الفيل والغمام الذي كان يظله عن الشمس وتسليم الأحجار عليه ، وغير ذلك مما ثبت له عليه‌السلام قبل النبوة.

قال : وقصة مسيلمة وفرعون إبراهيم تعطي جواز إظهار المعجزة على العكس.

أقول : اختلف الناس هنا فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة على يد الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ بالوقوع على الجواز كما نقل عن مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة فقيل له إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا لأعور فرد الله عينه الذاهبة فدعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة. وكما نقل أن إبراهيم عليه‌السلام لما جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما قال نمرود عند ذلك : إنما صارت كذلك هيبة مني فجاءته نار في تلك الحال فأحرقت لحيته.(لا يقال) يكفي في التكذيب ترك المعجز عقيب دعواهم فيبقى إظهار المعجز على العكس خرقا للعادة من غير فائدة فيكون عبثا (لأنا نقول) قد يتضمن المصلحة ، إظهاره على العكس إظهارا لتكذيبه في الحال بحيث يزول الشك لتجويز أن يقال تأخير المعجز عقيب الدعوى قد يكون لمصلحة ثم يوجد بعد وقت آخر فلا يحصل الجزم التام بالتكذيب.

المسألة السادسة

في وجوب البعثة في كل وقت

قال : ودليل الوجوب يعطي العمومية.

أقول : اختلف الناس هنا فقال جماعة من المعتزلة إن البعثة لا تجب في كل وقت بل في حال دون حال وهو ما إذا كانت المصلحة في البعثة. وقال علماء الإمامية إنه تجب البعثة في كل وقت بحيث لا يجوز خلو زمان من شرع نبي وقالت الأشاعرة لا تجب البعثة

٣٥٣

في كل وقت لأنهم ينكرون الحسن والقبح العقليين وقد مضى البحث معهم. واستدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على وجوب البعثة في كل وقت بأن دليل الوجوب يعطي العمومية أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في كل وقت لأن في بعثته زجرا عن القبائح وحثا على الطاعة فتكون لطفا ولأن فيه تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج وكل ذلك من المصالح الواجبة التي لا تتم إلا بالبعثة فتكون واجبة في كل وقت.

قال : ولا تجب الشريعة.

أقول : اختلف الشيخان هنا فقال أبو علي تجوز بعثة نبي لتأكيد ما في العقول ولا يجب أن تكون له شريعة. وقال أبو هاشم وأصحابه لا يجوز أن يبعث إلا بشريعة لأن العقل كاف في العلم بالعقليات فالبعثة تكون عبثا. والجواب يجوز أن تكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة بأن يكون العلم بنبوته ودعائه إياهم إلى ما في العقول مصلحة لهم فلا تكون البعثة عبثا ويجب عليهم النظر في معجزته فيحصل لهم مصلحة لا تحصل بدون البعثة. واحتج أبو علي بأنه يجوز بعثة نبي بعد نبي بشريعة واحدة وكذا تجوز بعثة نبي بمقتضى ما في العقول.

المسألة السابعة

في نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

قال : وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يدل على نبوته. والتحدي مع الامتناع وتوفر الدواعي يدل على الإعجاز. والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده.

أقول : لما فرغ من البحث في النبوة مطلقا شرع في إثبات نبوة نبينا محمد عليه‌السلام والدليل عليه أنه ظهرت المعجزة على يده وادعى النبوة فيكون صادقا أما ظهور المعجزة على يده فلوجهين : الأول أن القرآن معجز وقد ظهر على يده أما إعجاز القرآن فلأنه تحدى به

٣٥٤

فصحاء العرب لقوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ)(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ (لِبَعْضٍ ظَهِيراً). والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله مع توفر الدواعي عليه إظهارا لفضلهم وإبطالا لدعواه وسلامة من القتل يدل على عجزهم وعدم قدرتهم على المعارضة. وأما ظهوره على يده فبالتواتر.

الثاني أنه نقل عنه معجزات كثيرة كنبوع الماء من بين أصابعه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزاة تبوك

وكعود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية وتنشف البئر فدفع سهمه إلى البراء بن عازب فأمره بالنزول وغرزه في البئر فغرزه فكثر الماء في الحال حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق.

ونقل عنه عليه‌السلام في بئر قوم شكوا إليه ذهاب ماءها في الصيف فتفل فيها حتى انفجر الماء الزلال منها فبلغ أهل اليمامة ذلك فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك فتفل فيها فذهب الماء أجمع.

ولما نزل قوله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال لعلي عليه‌السلام شق فخذ شاة وجئني بعس من لبن وادع لي من بني أبيك بني هاشم ففعل علي عليه‌السلام ذلك ودعاهم وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتى شبعوا ما يرى فيه إلا أثر أصابعهم وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله فلما أراد أن يدعوهم إلى الإسلام قال أبو لهب كاد ما سحركم محمد فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى فقال لعلي عليه‌السلام افعل مثل ما فعلت ففعل في اليوم الثاني كالأول فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى كلامه فقال لعلي عليه‌السلام : افعل مثل ما فعلت ففعل مثله في اليوم الثالث فبايع عليا عليه‌السلام على الخلافة بعده ومتابعته.

وذبح له جابر بن عبد الله عناقا يوم الخندق وخبز له صاع شعير ثم دعاه عليه‌السلام فقال أنا وأصحابي فقال نعم ثم جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك فقالت له أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال لا بل هو لما قال أنا وأصحابي قلت نعم فقالت هو أعرف بما قال فلما

٣٥٥

جاء عليه‌السلام قال ما عندكم قال جابر : ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه فقال له عليه‌السلام أقعد أصحابي عشرة عشرة ففعل فأكلوا كلهم.

وسبح الحصا في يده عليه‌السلام وشهد الذئب له بالرسالة فإن أهبان بن أوس كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه فقال له الذئب : أتعجب من أخذي شاة هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه فجاء إلى النبي وأسلم وكان يدعى مكلم الذئب.

وتفل في عين علي عليه‌السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد فكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا. وانشق له القمر. ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخد الأرض من غير جاذب ولا دافع ثم رجعت إلى مكانها. وكان يخطب عند الجذع فاتخذ له منبرا فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن.

وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة كما أخبر بقتل الحسين عليه‌السلام وموضع الفتك به فقتل في ذلك الموضع. وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس فقتل بعده عليه‌السلام. وأخبر أصحابه بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما. وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة وادعاء العنسي النبوة بصنعاء وأنهما سيقتلان فقتل فيروز الديلمي العنسي قرب وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتل خالد بن الوليد مسيلمة. وأخبر عليا عليه‌السلام بخبر ذي الثدية وسيأتي. ودعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا عليه‌السلام والنجم فقال عتبة كفرت برب النجم بتسليط كلب الله عليه فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد فارتعدت فرائصه فقال له أصحابه من أي شيء ترتعد فقال إن محمدا دعا علي فو الله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمد فأحاط القوم بأنفسهم ومتاعهم عليه فجاء الأسد فلحس رءوسهم واحدا واحدا حتى انتهى إليه فضغمه ضغمة ففزع منه ومات. وأخبر بموت النجاشي وقتل زيد بن حارثة بموته فأخبر عليه‌السلام بقتله في المدينة وأن جعفرا أخذ الراية ثم قال قتل جعفر ثم توقف وقفة ثم قال وأخذ الراية عبد الله بن رواحة ثم قال وقتل عبد الله بن رواحة وقام عليه‌السلام إلى بيت جعفر واستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله ثم ظهر الأمر كما أخبر

٣٥٦

عليه‌السلام. وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية ولاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه واحتال على العوام فقال قتله من جاء به فعارضه ابن عباس وقال لم يقتل الكفار إذن حمزة وإنما قتله رسول الله لأنه هو الذي جاء به إليهم حتى قتلوه. وقال لعلي عليه‌السلام ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين فالناكثون طلحة وزبير لأنهما بايعاه ونكثا ، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية وأصحابه لأنهم ظلمة بغاة ، والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج. وهذه المعجزات بعض ما نقل واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ الغرض بهذه وقد أوردنا معجزات أخرى منقولة في كتاب نهاية المرام.

قال : وإعجاز القرآن قيل لفصاحته وقيل لأسلوبه وفصاحته وقيل للصرفة والكل محتمل.

أقول : اختلف الناس هنا فقال الجبائيان إن سبب إعجاز القرآن فصاحته وقال الجويني هو الفصاحة والأسلوب معا وعنى بالأسلوب الفن والضرب وقال النظام والمرتضى هو الصرفة بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة. واحتج الأولون بأن المنقول عن العرب أنهم كانوا يستعظمون فصاحته ولهذا أراد النابغة الإسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته فرده أبو جهل وقال له يحرم عليك الأطيبين وأخبر الله تعالى عنهما بذلك بقوله (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ) إلى آخر الآية. ولأن الصرفة لو كانت سببا في إعجازه لوجب أن يكون في غاية الركاكة لأن الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز والتالي باطل بالضرورة. واحتج السيد المرتضى بأن العرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب وإنما منعوا عن الإتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه وكل هذه الأقسام محتملة.

قال : والنسخ تابع للمصالح.

أقول : هذا إشارة إلى الرد على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسى عليه‌السلام قالوا

٣٥٧

لأن النسخ باطل إذ المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهي عنه وإن كان مفسدة قبح الأمر به وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسى عليه‌السلام. وتقرير الجواب أن نقول الأحكام منوطة بالمصالح والمصالح تتغير بتغير الأوقات وتختلف باختلاف المكلفين فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به ، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه.

قال : وقد وقع حيث حرم على نوح بعض ما أحل لمن تقدمه وأوجب الختان بعد تأخيره وحرم الجمع بين الأختين وغير ذلك من الأحكام.

أقول : هذا تأكيد لإبطال قول اليهود المانعين من النسخ فإنه بين أولا جواز وقوعه وهاهنا بين وقوعه في شرعهم وذلك في مواضع منها أنه قد جاء في التوراة أن الله تعالى قال لآدم وحواء عليهما‌السلام قد أبحت لكما كلما دب على وجه الأرض فكانت له نفس حية. وورد فيها أنه قال لنوح عليه‌السلام خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا فحرم على نوح عليه‌السلام بعض ما أباحه لآدم عليه‌السلام. ومنها أنه أباح نوحا عليه‌السلام تأخير الختان إلى وقت الكبر وحرمه على غيره من الأنبياء. وأباح إبراهيم عليه‌السلام تأخير ختان ولده إسماعيل عليه‌السلام إلى حال كبره وحرم على موسى عليه‌السلام تأخير الختان عن سبعة أيام. ومنها أنه أباح آدم عليه‌السلام الجمع بين الأختين وحرمه على موسى عليه‌السلام.

قال : وخبرهم عن موسى عليه‌السلام بالتأبيد مختلق ومع تسليمه لا يدل على المراد قطعا.

أقول : إن جماعة اليهود جوزوا وقوع النسخ عقلا ومنعوا من نسخ شريعة موسى عليه‌السلام وتمسكوا بما روي عن موسى عليه‌السلام أنه قال تمسكوا بالسبت أبدا والتأبيد يدل على الدوام ودوام الشرع بالسبت ينفي القول بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجواب من وجوه : الأول أن هذا الحديث مختلق ونسب إلى ابن الراوندي. الثاني لو سلمنا نقله لكن اليهود انقطع تواترهم لأن بخت نصر استأصلهم وأفناهم حتى لم يبق منهم

٣٥٨

من يوثق بنقله. الثالث أن لفظة التأبيد لا تدل على الدوام قطعا فإنها قد وردت في التوراة لغير الدوام كما في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعرض عليه العتق في السابعة فإن أبى العتق ثقبت أذنه واستخدم أبدا وفي موضع آخر يستخدم خمسين سنة. وأمروا في البقرة التي كلفوا بذبحها أن يكون لهم ذلك سنة أبدا ثم انقطع تعبدهم بها. وفي التوراة قربوا إلى كل يوم خروفين خروف غدوة وخروف عشية بين المغارب قربانا دائما لاحقا بكم وانقطع تعبدهم به وإذا كان التأبيد في هذه الصور لا يدل على الدوام انتفت دلالته هنا قطعا. أقصى ما في الباب أنه يدل ظاهرا لكن ظواهر الألفاظ قد تترك لوجود الأدلة المعارضة لها.

قال : والسمع دل على عموم نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أقول : ذهب قوم من النصارى إلى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلممبعوث إلى العرب خاصة والسمع يكذب قولهم هذا قال الله تعالى (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) وقال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) وسورة الجن تدل على بعثه عليه‌السلام إليهم وقال عليه‌السلام (بعثت إلى الأسود والأحمر) لا يقال كيف يصح إرساله إلى من لا يفهم خطابه وقد قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ)؟ لأنا نقول لا استبعاد في ذلك بأن يترجم خطابه لمن لا يفهم لغته مترجم وليس في الآية أنه تعالى ما أرسل رسولا إلا إلى من يفهم لسانه وإنما أخبر بأنه ما أرسله إلا بلسان قومه وجوز قاضي القضاة في يأجوج ومأجوج احتمالين : أحدهما أن لا يكونوا مكلفين أصلا وإن كانوا مفسدين في الأرض كالبهائم المفسدة في الأرض. والثاني أن يكونوا مكلفين وقد بلغتهم دعوته عليه‌السلام بأن يقربوا من الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد وجوز بعض الناس أن يكون في بعض البقاع من لم تبلغه دعوته عليه‌السلام فلا يكون مكلفا بشريعته. وعندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقا سواء بلغتهم بعد ذلك الدعوة أم لا فهو باطل قطعا لما بينا من عموم نبوته عليه‌السلام ، وإن كان المراد أنهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة صاروا مكلفين بها فهو حق.

٣٥٩

قال : وهو أفضل من الملائكة وكذا غيره من الأنبياء عليه‌السلام لوجود المضاد للقوة العقلية وقهره على الانقياد عليها.

أقول : اختلف الناس هنا فذهب أكثر المسلمين إلى أن الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة عليهم‌السلام. وذهب آخرون منهم وجماعة الأوائل إلى أن الملائكة أفضل واستدل الأولون بوجوه ذكر المصنف ـ رحمه‌الله ـ منها وجها للاكتفاء به وهو أن الأنبياء قد وجد فيهم القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الجسمانية كالخيالية والوهمية وغيرهما وأكثر أحكام هذه القوى تضاد حكم القوة العقلية وتمانعها حتى أن أكثر الناس يلتجئ إلى قوة الشهوة والغضب والوهم ويترك مقتضى القوة العقلية والأنبياء عليهم‌السلام يقهرون قوى طبائعهم ويفعلون بحسب مقتضى قواهم العقلية ويعرضون عن القوى الشهوانية وغيرها من القوى الجسمانية فتكون عباداتهم وأفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث خلوا عن هذه القوى وإذا كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليهم‌السلام أفضل الأعمال أحمزها. وهاهنا وجوه أخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام.

قال :

٣٦٠