كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

والملبوسات أمور صناعية يحتاج كل منهم إلى صاحبه في عمل يستعيضه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه واجتماعهم مع تباين شهواتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم مظنة التنازع والفساد ووقوع الفتن فوجب وضع قانون وسنة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم ثم تلك السنة لو استند وضعها إليهم لزم المحذور فوجب استنادها إلى شخص متميز عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له وذلك إنما يكون بمعجزات تدل على أنها من عند الله تعالى ثم من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير والشر والرذائل والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم فوجب أن يكون هذا الشارع مؤيدا لا يعجز عن أحكام شريعته في جمهور الناس بعضهم بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال ولما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن تبقى السنن المشروعة إلى وقت اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها ففرضت عليهم العبادات المذكرة لصاحب الشرع وكررت عليهم حتى يستحكم التذكير بالتكرير فيحصل لهم من تلقي الأوامر والنواهي الإلهية منافع ثلاث : إحداها رياضة النفس باعتبار الإمساك عن الشهوات ومنعها عن القوة الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية ، الثانية تعويد النفس النظر في الأمور الإلهية والمطالب العالية وأحوال المعاد والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان الموجودات عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية بالبراهين القطعية الخالية عن المغالطة ، والثالثة تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد ثم زاد الله تعالى لمستعملي الشرائع الأجر والثواب في الآخرة فهذه مصالح التكليف عند الأوائل.

قال : وواجب لزجره عن القبائح.

أقول : هذا مذهب المعتزلة وأنكرت الأشاعرة ذلك والدليل على وجوب التكليف أنه لو لم يكلف الله تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان مغريا بالقبيح والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله بيان الشرطية أن الله تعالى إذا أكمل عقل الإنسان وجعل فيه ميلا إلى

٣٢١

القبيح وشهوة له ونفورا عن الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب وقبح القبيح والمؤاخذة على الإخلال بالواجب وفعل القبيح لكان وقوع القبيح من المكلف دائما وإلى هذا أشار بقوله لزجره عن القبائح أي لزجر التكليف عن القبائح.

قال : وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدمه وإمكان متعلقه وثبوت صفة زائدة على حسنه وعلم المكلف بصفات الفعل وقدر المستحق وقدرته عليه وامتناع القبيح عليه وقدرة المكلف على الفعل وعلمه به أو إمكانه وإمكان الآلة.

أقول : لما ذكر أن التكليف حسن ، شرع في بيان ما يشترط في حسن التكليف وقد ذكر أمورا لا يحسن التكليف بدونها منها ما يرجع إلى نفس التكليف ، ومنها ما يرجع إلى متعلق التكليف أعني الفعل والمكلف والمكلف.

أما ما يرجع إلى التكليف فأمران : أحدهما انتفاء المفسدة فيه بأن لا يكون مفسدة لنفس المكلف به في فعل آخر داخل في تكليفه أو مفسدة لمكلف آخر. والثاني أن يكون متقدما على الفعل قدرا يتمكن المكلف فيه من الاستدلال به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه.

وأما ما يرجع إلى الفعل فأمران : أحدهما إمكان وجوده. والثاني كون الفعل قد اشتمل على صفة زائدة على حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا ، وإن كان التكليف ترك فعل فأن يكون الفعل قبيحا أو يكون الإخلال به أولى من فعله.

وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون عالما بصفات الفعل لئلا يكلف إيجاد القبيح وترك الواجب ، وأن يكون عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلا يخل ببعضه ، وأن يكون القبيح ممتنعا عليه لئلا يخل بالواجب فلا يوصل الثواب إلى مستحقه.

وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون قادرا على الفعل وأن يكون عالما به أو متمكنا من العلم به وإمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة.

قال : ومتعلقه إما علم إما عقلي أو سمعي وإما ظن وإما عمل.

أقول : متعلق التكليف قد يكون علما وقد يكون عملا أما العلم فقد يكون عقليا محضا

٣٢٢

نحو العلم بوجود الله تعالى وكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من المسائل التي يتوقف السمع عليها ، وقد يكون سمعيا نحو التكاليف السمعية. وأما الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة وغيرها. وأما العمل فقد يكون عقليا كرد الوديعة وشكر المنعم وبر الوالدين وقبح الظلم والكذب وحسن التفضل والعفو وقد يكون سمعيا كالصلاة وغيرها وهذه الأفعال تنقسم إلى الواجب والمندوب والحرام والمكروه.

قال : وهو منقطع للإجماع ولإيصال الثواب.

أقول : يريد أن التكليف منقطع ويدل عليه الإجماع والمعقول أما الإجماع فظاهر إذ الاتفاق بين المسلمين وغيرهم واقع على أن التكليف منقطع وأما المعقول فنقول لو كان التكليف دائما لم يمكن إيصال الثواب إلى المطيع والتالي باطل قطعا فالمقدم مثله بيان الشرطية أن التكليف مشروط بالمشقة ، والثواب مشروط بخلوصه عن الأكدار والمشاق والجمع بينهما محال ولا بد من تراخ بين التكليف والثواب وإلا لزم الإلجاء.

قال : وعلة حسنه عامة.

أقول : لما بين أولا حسن التكليف مطلقا شرع في بيان حسنه في حق الكافر والدليل عليه أن العلة في حسن التكليف وهي التعريض للثواب عامة في حق المؤمن والكافر فكان التكليف حسنا فيهما وهو ظاهر.

قال : وضرر الكافر من اختياره.

أقول : هذا جواب عن سؤال مقدر وتقريره أن تكليف الكافر ضرر محض لا مصلحة فيه فلا يكون حسنا بيان المقدمة الأولى أن التكليف نوع مشقة في العاجل وحصل العقاب بتركه وهو ضرر عظيم فانتفت المصلحة فيه إذ لا ثواب له فكان قبيحا قطعا.

والجواب أن التكليف نفسه ليس بضرر ولا يستلزم من حيث هو تكليف ضررا وإلا لكان تكليف المؤمن كذلك بل الضرر إنما نشأ من سوء اختيار الكافر لنفسه.

٣٢٣

قال : وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه.

أقول : الذي يخطر لنا في تحليل هذا الكلام أنه جواب عن سؤال مقدر أيضا وهو أن يقال إنكم شرطتم في التكليف أن لا يكون مفسدة للمكلف ولا لغيره وهذا التكليف يستلزم الضرر بالمكلف فيكون قبيحا كما أن تكليف زيد لو استلزم مفسدة راجعة إلى عمرو كان قبيحا.

والجواب أن الضرر هنا مفسدة لا من حيث التكليف بل من حيث اختيار المكلف على ما تقدم بخلاف ما شرطناه أعني انتفاء المفسدة اللازمة للتكليف.

قال : والفائدة ثابتة.

أقول : هذا جواب عن سؤال مقدر وتقريره أن تكليف الكافر لا فائدة فيه لأن الفائدة من التكليف هي الثواب ولا ثواب له فلا فائدة في تكليفه فكان عبثا.

والجواب لا نسلم أن الفائدة هي الثواب بل التعريض له وهو حاصل في حقه كالمؤمن.

المسألة الثانية عشرة في

اللطف وماهيته وأحكامه

قال : واللطف واجب لتحصيل الغرض به.

أقول : اللطف هو ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظ في التمكين ولم يبلغ حد الإلجاء.

واحترزنا بقولنا ولم يكن له حظ في التمكين عن الآلة فإن لها حظا في التمكين وليست لطفا.

وقولنا ولم يبلغ حد الإلجاء لأن الإلجاء ينافي التكليف واللطف لا ينافيه. هذا اللطف المقرب.

٣٢٤

وقد يكون اللطف محصلا وهو ما يحصل عنده الطاعة من المكلف على سبيل الاختيار ولولاه لم يطع مع تمكنه في الحالين وهذا بخلاف التكليف الذي يطيع عنده لأن اللطف أمر زائد على التكليف فهو من دون اللطف يتمكن بالتكليف من أن يطيع أو لا يطيع وليس كذلك التكليف لأن عنده يتمكن من أن يطيع وبدونه لا يتمكن من أن يطيع أو لا يطيع فلم يلزم أن يكون التكليف الذي يطيع عنده لطفا.

إذا عرفت هذا فنقول اللطف واجب خلافا للأشعرية والدليل على وجوبه أنه يحصل غرض المكلف فيكون واجبا وإلا لزم نقض الغرض بيان الملازمة أن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا إذا فعل معه نوعا من التأدب فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض.

قال : فإن كان من فعله تعالى وجب عليه وإن كان من المكلف وجب أن يشعره به ويوجبه وإن كان من غيرهما شرط في التكليف العلم بالفعل.

أقول : لما ذكر وجوب اللطف شرع في بيان أقسامه وهو ثلاثة : الأول أن يكون من فعل الله تعالى فهذا يجب على الله تعالى فعله لما تقدم ، الثاني أن يكون من فعل المكلف فهذا يجب على الله تعالى أن يعرفه إياه ويشعره به ويوجبه عليه ، الثالث أن يكون من فعل غيرهما فهذا ما يشترط في التكليف بالملطوف فيه العلم بأن ذلك الغير يفعل اللطف.

قال : ووجوه القبح منتفية والكافر لا يخلو من لطف والإخبار بالسعادة والشقاوة ليس مفسدة.

أقول : لما ذكر أقسام اللطف شرع في الاعتراضات على وجوبه مع الجواب عنها وقد أورد من شبه الأشاعرة ثلاثة : الأولى قالوا اللطف إنما يجب إذا خلا من جهات المفسدة لأن جهات المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات المفسدة فلم لا يجوز أن يكون اللطف الذي توجبونه مشتملا على جهة قبح لا تعلمونه فلا يكون واجبا. وتقرير الجواب أن

٣٢٥

جهات القبح معلومة لنا لأنا مكلفون بتركها وليس هنا وجه قبح وليس ذلك استدلالا بعدم العلم على العلم بالعدم. الثانية أن الكافر إما أن يكلف مع وجود اللطف أو مع عدمه والأول باطل وإلا لم يكن لطفا لأن معنى اللطف هو ما حصل الملطوف فيه عنده والثاني إما أن يكون عدمه لعدم القدرة عليه فيلزم تعجيز الله تعالى وهو باطل ، أو مع وجودها فيلزم الإخلال بالواجب. والجواب أن اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف فيه فإن اللطف لطف في نفسه سواء حصل الملطوف فيه أو لا بل كونه لطفا من حيث إنه يقرب إلى الملطوف فيه ويرجح وجوده على عدمه وامتناع ترجيحه إنما يكون لمعارض أقوى هو سوء اختيار المكلف فيكون اللطف في حقه مرجوحا.

ويمكن أن يكون ذلك جوابا عن سؤال آخر لهم وتقريره أن اللطف لو كان واجبا لم تقع معصية من مكلف أصلا لأنه تعالى قادر على كل شيء فإذا قدر على اللطف لكل مكلف في كل فعل لم تقع معصية لأنه تعالى لا يخل بالواجب لكن الكفر والمعاصي موجودة. وتقرير الجواب أن نقول إنما يصح أن يقال يجب أن يلطف للمكلف إذا كان له لطف يصلح عنده ولا استبعاد في أن يكون بعض المكلفين لا لطف له سوى العلم بالمكلف والثواب مع الطاعة والعقاب مع المعصية والكافر له هذا اللطف. الثالثة أن الإخبار بأن المكلف من أهل الجنة أو من أهل النار مفسدة لأنه إغراء بالمعاصي وقد فعله تعالى وهو ينافي اللطف. والجواب أن الإخبار بالجنة ليس إغراء مطلقا لجواز أن يقترن به من الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعصية وإذا انتفى كونه إغراء على هذا التقدير بطل قولهم إنه مفسدة على الإطلاق وأما الإخبار بالنار فليس مفسدة أيضا لأن الإخبار إن كان للجاهل كأبي لهب انتفت المفسدة فيه لأنه لا يعلم صدق إخباره تعالى فلا يدعوه ذلك إلى الإصرار على الكفر ، وإن كان عارفا كإبليس لم يكن إخباره تعالى بعاقبته داعيا إلى الإصرار على الكفر لأنه يعلم أنه بإصراره عليه يزداد عقابه فلا يصير مغريا عليه.

٣٢٦

قال : ويقبح منه تعالى التعذيب مع منعه دون الذم.

أقول : المكلف إذا منع المكلف من اللطف قبح منه عقابه لأنه بمنزلة الأمر بالمعصية والملجئ إليها كما قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) ، فأخبر أنهم ـ لو منعهم اللطف في بعثه الرسول ـ لكان لهم أن يسألوا بهذا السؤال ولا يكون لهم هذا السؤال إلا مع قبح إهلاكهم من دون البعثة ولا يقبح ذمه لأن الذم حق مستحق على القبيح غير مختص بالمكلف بخلاف العقاب المستحق للمكلف ولهذا لو بعث الإنسان غيره على فعل القبيح ففعله لم يسقط حق الباعث من الذم كما أن لإبليس ذم أهل النار وإن كان هو الباعث على المعاصي.

قال : ولا بد من المناسبة وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين.

أقول : لما فرغ من الاعتراضات على وجوب اللطف شرع في ذكر أحكامه وقد ذكر منها خمسة : الأول أنه لا بد وأن يكون بين اللطف والملطوف فيه مناسبة والمراد بالمناسبة هنا كون اللطف بحيث يكون حصوله داعيا إلى حصول الملطوف فيه وهذا ظاهر لأنه لو لا ذلك لم يكن كونه لطفا أولى من كون غيره لطفا فيلزم الترجيح من غير مرجح ولم يكن كونه لطفا في هذا الفعل أولى من كونه لطفا في غيره من الأفعال وهو ترجيح من غير مرجح أيضا وإلى هذين أشار بقوله وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين وعنى بالمنتسبين اللطف والملطوف فيه هذا ما فهمناه من هذا الكلام.

قال : ولا يبلغ الإلجاء.

أقول : هذا الحكم الثاني من أحكام اللطف وهو أن لا يبلغ في الدعاء إلى الملطوف فيه إلى حد الإلجاء لأن الفعل الملجئ إلى فعل آخر يشبه اللطف في كون كل منهما داعيا إلى الفعل غير أن المتكلمين لا يسمون الملجئ إلى الفعل لطفا فلهذا شرطنا في اللطف زوال الإلجاء عنه إلى الفعل.

٣٢٧

قال : ويعلم المكلف اللطف إجمالا أو تفصيلا.

أقول : هذا هو الحكم الثالث من أحكام اللطف وهو وجوب كونه معلوما للمكلف إما بالإجمال أو بالتفصيل لأنه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم يعلم المناسبة بينهما لم يكن داعيا له إلى الفعل الملطوف فيه فإن كان العلم الإجمالي كافيا في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل كما يعلم على الجملة كون الألم الواصل إلى البهيمة لطفا لنا وإن كان اللطف لا يتم إلا بالتفصيل وجب حصوله ويكفي العلم الإجمالي في المناسبة التي بين اللطف والملطوف فيه.

قال : ويزيد اللطف على جهة الحسن.

أقول : هذا هو الحكم الرابع وهو كون اللطف مشتملا على صفة زائدة على الحسن من كونه واجبا كالفرائض أو مندوبا كالنوافل هذا فيما هو من فعلنا وأما ما كان من فعله تعالى فقد بينا وجوبه في حكمته.

قال : ويدخله التخيير.

أقول : هذا هو الحكم الخامس وهو أن اللطف لا يجب أن يكون معينا بل يجوز أن يدخله التخيير بأن يكون كل واحد من الفعلين قد اشتمل على جهة من المصلحة المطلوبة من الآخر فيقوم مقامه ويسد مسده أما في حقنا فكما في الكفارات الثلاث وأما في حقه تعالى فلجواز أن يخلق لزيد ولدا يكون لطفا له وإن كان يجوز حصول اللطفية بخلق ولد غير ذلك الولد من أجزاء غير أجزاء الولد الأول وعلى صورة غير صورته وحينئذ لا يجب أحد الفعلين بعينه بل يكون حكمه حكم الواجب المخير.

قال : بشرط حسن البدلين.

أقول : لما ذكر أن اللطف يجوز أن يدخله التخيير نبه على شرط كل واحد من البدلين

٣٢٨

أعني اللطف وبدله وأطلق على كل واحد منهما اسم البدل بالنظر إلى صاحبه إذ ليس أحدهما بالأصالة أولى من الآخر وذلك الشرط كون كل واحد منهما حسنا ليس فيه وجه قبح وهذا مما لم تتفق الآراء عليه فإن جماعة من العدلية ذهبوا إلى تجويز كون القبيح كالظلم منا لطفا قائما مقام إمراض الله تعالى. واستدلوا بأن وجه كون الألم من فعله تعالى لطفا هو حصول المشاق وتذكر العقاب وذلك حاصل بالظلم منا فجاز أن يقوم مقامه. وهذا ليس بجيد لأن كونه لطفا جهة وجوب والقبيح ليس له جهة وجوب واللطف إنما هو في علم المظلوم بالظلم لا في نفس الظلم كما نقول إن العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا وإن لم يكن الذبح نفسه لطفا.

المسألة الثالثة عشرة

في الألم ووجه حسنه

قال : وبعض الألم قبيح يصدر منا خاصة وبعضه حسن يصدر منه تعالى ومنا وحسنه إما لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع أو دفع الضرر الزائدين أو لكونه عاديا أو على وجه الدفع.

أقول : في هذا الكلام مباحث : الأول في مناسبة هذا البحث وما بعده لما قبله ـ اعلم أنا قد بينا وجوب الألطاف والمصالح وهي ضربان مصالح في الدين ومصالح في الدنيا أعني المنافع الدنياوية ، ومصالح الدين إما مضار أو منافع ، والمضار منها آلام وأمراض وغيرها كالآجال والغلاء ، والمنافع الصحة والسعة في الرزق والرخص فلأجل هذا بحث المصنف ـ رحمه‌الله ـ عقيب اللطف عن هذه الأشياء ولما كانت الآلام تستلزم الأعواض وجب البحث عنها أيضا.

البحث الثاني اختلف الناس في قبح الألم وحسنه فذهبت الثنوية إلى قبح جميع الآلام وذهبت المجبرة إلى حسن جميعها من الله تعالى وذهبت البكرية وأهل التناسخ والعدلية إلى حسن بعضها وقبح الباقي.

٣٢٩

البحث الثالث في علة الحسن اختلف القائلون بحسن بعض الألم في وجه الحسن فقال أهل التناسخ إن علة الحسن هي الاستحقاق لا غير لأن النفوس البشرية إذا كانت في أبدان قبل هذه الأبدان وفعلت ذنوبا استحقت الألم عليها وهذا أيضا قول البكرية. وقالت المعتزلة إنه يحسن عند شروط : أحدها أن يكون مستحقا ، وثانيها أن يكون فيها نفع عظيم يوفى عليها ، وثالثها أن يكون فيها دفع ضرر أعظم منها ، ورابعها أن يكون مفعولا على مجرى العادة كما يفعله الله تعالى بالحي إذا ألقيناه في النار ، وخامسها أن يكون مفعولا على سبيل الدفع عن النفس كما إذا آلمنا من يقصد قتلنا لأنا متى علمنا اشتمال الألم على أحد هذه الوجوه حكمنا بحسنه قطعا.

قال : ولا بد في المشتمل على النفع من اللطف.

أقول : هذا شرط لحسن الألم المبتدإ الذي يفعله الله تعالى لاشتماله على نفع المتألم وهو كونه مشتملا على اللطف إما للمتألم أو لغيره لأن خلو الألم عن النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم وخلوه عن اللطف يستلزم العبث وهما قبيحان فلا بد من هذين الاعتبارين في هذا النوع من الألم وهنا اختلف الشيخان فقال أبو علي أن علة قبح الألم كونه ظلما لا غير فلم يشترط هذا الشرط. وقال أبو هاشم إنه يقبح لكونه ظلما أو لكونه عبثا فأوجب في الأمراض التي يفعلها الله تعالى في الصبيان مع الأعواض الزائدة اشتمالها على اللطف لمكلف آخر ولهذا يقبح منا تخليص الغريق بشرط كسر يده واستيجار من ينزح ماء البئر ويقذفه فيها لغير غرض مع توفية الأجرة. ويمكن الجواب هنا لأبي علي بما ذكرناه في كتاب نهاية المرام.

قال : ويجوز في المستحق كونه عقابا.

أقول : هذا مذهب أبي الحسين البصري فإنه جوز أن تقع الأمراض في الكفار والفساق عقابا للكافر والفاسق لأنه ألم واصل إلى المستحق فأمكن أن يكون عقابا ويكون تعجيله قد اشتمل على مصلحة لبعض المكلفين كما في الحدود. ومنع قاضي

٣٣٠

القضاة من ذلك وجزم بكون أمراضهم محنا لا عقوبات لأنه يجب عليهم الرضا والصبر عليها والتسليم وترك الجزع ولا يلزمهم ذلك في العقاب.

والجواب المنع من عدم اللزوم في العقاب لأن الرضا يطلق على معنيين : أحدهما الاعتقاد لحسن الفعل وهو مشترك بين العقاب والمحنة ، والثاني موافقة الفعل للشهوة وهذا غير مقدور للعبد فلا يجب في المحنة ولا في العقاب وإذا كان الرضا بالمعنى الأول واجبا في العقاب فكذلك الصبر على ذلك الاعتقاد واجب بأن لا يظهر خلاف الرضا وهو الجزع ويجب أيضا التسليم بأن يعتقد أنه لو تمكن من دفع المرض الذي هو مصلحة له لا يدفعه ولا يمتنع منه.

قال : ولا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن.

أقول : هذا مذهب الشيخين وقاضي القضاة وجوز بعض المشايخ إدخال الألم على المكلف إذا اشتمل على اللطف والاعتبار وإن لم يحصل في مقابلته عوض لأن الألم كما يحسن لنفع يقابله فكذا يحسن لما يؤدي إليه الألم ولهذا حسن منا تحمل مشاق السفر لربح يقابل السلعة ولا يقابل مشاق السفر ولما كان مشاق السفر علة في حصول الربح المقابل للسلعة فكذا الألم الذي هو لطف لولاه لما حصل الثواب المقابل للطاعة فحسن فعله وإن خلي عن العوض لأدائه إلى النفع.

وحجة الأوائل أن الألم غير المستحق لو لا اشتماله على النفع أو دفع الضرر كان قبيحا والطاعة المفعولة لأجل الألم ليست بنفع والثواب المستحق عليها يقابل الطاعة دون الألم فيبقى الألم مجردا عن النفع وذلك قبيح.

قال : ولا يحسن مع اشتمال اللذة على لطفيته.

أقول : هذا مذهب أبي الحسين البصري خلافا لأبي هاشم وتقرير مذهب أبي هاشم أنا لو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي اشتمل عليه الألم هل يحسن منه تعالى فعل الألم بالحي لأجل لطف الغير مع العوض الزائد الذي يختاره المتألم لو عرض عليه قال

٣٣١

أبو هاشم نعم لأن الألم المشتمل على المنفعة الموفية في حكم المنفعة عند العقلاء ولهذا لا يعد العقلاء مشاق السفر الموصلة إلى الأرباح مضار وإذا كان الألم في حكم المنفعة صار حصول اللطف في تقدير منفعتين فيتخير الحكيم في أيهما شاء. وأبو الحسين منع ذلك لأن الألم إنما يصير في حكم المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلا ذلك الألم ولو أمكن الوصول إلى تلك المنفعة بدون ذلك الألم كان ذلك الألم ضررا وعبثا ولهذا يعد العقلاء السفر ضررا مع حصول الربح بدونه.

قال : ولا يشترط في الحسن اختيار المتألم بالفعل.

أقول : لا يشترط في حسن الألم المفعول ابتداء من الله تعالى اختيار المتألم للعوض الزائد عليه بالفعل لأن اعتبار الاختيار إنما يكون في النفع الذي يتفاوت فيه اختيار المتأمّلين فأما النفع البالغ إلى حد لا يجوز اختلاف الاختيار فيه فإنه يحسن وإن لم يحصل الاختيار بالفعل وهذا هو العوض المستحق عليه تعالى.

المسألة الرابعة عشرة

في الأعواض

قال : والعوض نفع مستحق خال عن تعظيم وإجلال.

أقول : لما ذكر حسن الألم المبتدإ مع تعقبه بالعوض الزائد وجب عليه البحث عن العوض وأحكامه وبدأ بتحديده فالنفع جنس للمتفضل به وللمستحق وقيد المستحق فصل يميزه عن النفع المتفضل به وقيد الخلو عن التعظيم والإجلال يخرج به الثواب.

قال : ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير وإنزال الغموم سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن لا ما تستند إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار أو إباحته وتمكين غير العاقل.

أقول : هذه الوجوه التي يستحق بها العوض على الله تعالى : الأول إنزال الآلام بالعبد كالمرض

٣٣٢

وغيره وقد سبق بيان وجوب العوض به من حيث اشتماله على الظلم لو لم يجب العوض.

الثاني تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير لأنه لا فرق بين تفويت المنافع وإنزال المضار فلو أمات الله تعالى ابنا لزيد وكان في معلومه تعالى أنه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع ولده ، ولو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه يموت قبل الانتفاع به لم يستحق به عوضا لعدم تفويته المنفعة منه تعالى. وكذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء شعر بهلاك ماله أو لم يشعر لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم ولو آلمه ولم يشعر به لاستحق العوض. فكذا إذا فوت عليه منفعة لم يشعر بها وعندي في هذا الوجه نظر.

الثالث إنزال المغموم بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم لأن الغم يجري مجرى الضرر في العقل سواء كان الغم علما ضروريا بنزول مصيبة أو وصول ألم أو كان ظنا بأن يغتم عند أمارة لوصول مضرة أو فوات منفعة أو كان علما مكتسبا لأن الله تعالى هو الناصب للدليل والباعث عليه النظر فيه وكذا هو الناصب لأمارة الظن فلما كان سبب الغم منه تعالى كل العوض عليه وأما الغم الحاصل من العبد نفسه من غير سبب منه تعالى نحو أن يبحث العبد فيعتقد جهلا نزول ضرر به أو فوات منفعة فإنه لا عوض فيه عليه تعالى ولو فعل به تعالى فعلا لو شعر به لاغتم نحو أن يهلك له مالا وهو لا يشعر به إلى أن يموت فإنه لا يستحق العوض عليه تعالى لأنه إذا لم يشعر به لم يغتم به.

الرابع أمر الله تعالى عباده بإيلام الحيوان أو أباحه سواء كان الأمر للإيجاب كالذبح في الهدي والكفارة والنذر أو للندب كالضحايا فإن العوض في ذلك كله على الله تعالى لاستلزام الأمر والإباحة الحسن والألم إنما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في العظم حدا يحسن الألم لأجله.

الخامس تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش وسباع الطير والهوام وقد اختلف أهل العدل هنا على أربعة أقوال : فذهب بعضهم إلى أن العوض على الله تعالى مطلقا ويعزى هذا القول إلى أبي علي الجبائي ، وقال آخرون إن العوض على فاعل الألم وهو قول يحكي عن أبي علي أيضا ، وقال آخرون لا عوض هنا على الله تعالى ولا على

٣٣٣

الحيوان. وقال قاضي القضاة إن كان الحيوان ملجأ إلى الإيلام كان العوض عليه تعالى وإن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان نفسه.

احتج الأولون بأنه تعالى مكنه وجعل فيه ميلا شديدا إلى الإيلام مع إمكان عدم الميل ولم يجعل له عقلا يميز به حسن الألم من قبحه ولم يزجره بشيء من أسباب الزجر مع إمكان ذلك كله فكان ذلك بمنزلة الإغراء فلو لا تكفله تعالى بالعوض لقبح منه ذلك.

واحتج الآخرون بقوله عليه‌السلام إن الله تعالى ينتصف للجماء من القرناء.

واحتج النافون للعوض بقوله عليه‌السلام : جرح العجماء جبار.

واحتج القاضي بأن التمكين لا يقتضي انتقال العوض من الفاعل إلى الممكن وإلا لوجب عوض القتل على صانع السيف بخلاف الإلجاء المقتضي لاستناد الفعل في الحقيقة إلى الملجئ ولهذا يحسن ذمه دون الملجأ ، وبأن العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل.

والجواب عن الأول أنه لا دلالة في الحديث على أنه تعالى ينتصف للجماء بأن ينقل أعواض القرناء إليها وهو يصدق بتعويض الله تعالى إياها كما أن السيد إذا غرم ما أتلفه عبده يقال قد أنصف المظلوم من عبده ، مع أنه يحتمل المجاز بتشبيه الظالم لتمكنه من الظلم بالقرناء والمظلوم بالجماء لضعفه.

وعن الثاني أن المراد انتفاء القصاص.

وعن الثالث بالفرق فإن القاتل ممنوع من القتل وعنده اعتقاد عقلي يمنعه عن الإقدام عليه فلهذا لم نقل بوجوب العوض على صانع السيف بخلاف السبع.

وعن الرابع أنه قد يحسن المنع عن الأكل إذا كان لذلك المنع وجه حسن كما أنه يحسن منا الصبيان عن شرب الخمر ومنع المعاقب عن العقاب.

قال : بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار والقتل عند شهادة الزور.

أقول : إذا طرحنا صبيا في النار فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى والعوض علينا نحن لأن فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة والله تعالى قد منعنا من طرحه

٣٣٤

ونهانا عنه فصار الطارح كأنه الموصل إليه الألم فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى. وكذلك إذا شهد عند الإمام شاهدا زور بالقتل فإن العوض على الشهود وإن كان الله تعالى قد أوجب القتل والإمام تولاه وليس عليهما عوض لأنهما أوجبا بشهادتهما على الإمام إيصال الألم إليه من جهة الشرع فصار كأنهما فعلاه (لا يقال) هذا يوجب العوض عليه تعالى لأنه هو الموجب على الإمام قتله (لأنا نقول) قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها على قانونها كالعادات الحسيات فكما وجب العوض على الملقي للطفل في النار قضاء لحق العادة الحسية كذلك وجب العوض هنا على الشاهدين قضاء لحق العادة الشرعية والمناط هو الحكمة المقتضية لاستمرار العادات.

قال : والانتصاف عليه تعالى واجب عقلا وسمعا.

أقول : اختلف أهل العدل في ذلك فذهب قوم منهم إلى أن الانتصاف للمظلوم من الظالم واجب على الله تعالى عقلا لأنه هو المدبر لعباده فنظره كنظر الوالد لولده فكما يجب على الوالد الانتصاف كذلك يجب عليه تعالى قياسا للغائب على الشاهد. وقال آخرون منهم إنه يجب سمعا لأن الوالد يجب عليه تدبير أولاده وتأديبهم أما الانتصاف بأخذ الأرش من الظالم ودفعه إلى المظلوم فلا نسلم وجوبه عقلا بل يحسن منا تركهم إلى أن تكمل عقولهم لينتصف بعضهم من بعض والمصنف ـ رحمه‌الله ـ اختار وجوبه عقلا وسمعا أما من حيث العقل فلأن ترك الانتصاف منه تعالى يستدعي ضياع حق المظلوم لأنه تعالى مكن الظالم وخلي بينه وبين المظلوم مع قدرته تعالى على منعه ولم يمكن المظلوم من الانتصاف فلو لا تكلفه تعالى بالانتصاف لضاع حق المظلوم وذلك قبيح عقلا. وأما من حيث السمع فلورود القرآن بأنه تعالى يقضي بين عباده ولوصف المسلمين له تعالى بأنه الطالب أي الذي يطلب حق الغير من الغير.

قال : فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال يوازي ظلمه.

أقول : هذا تفريع على وجوب الانتصاف وهو أنه هل يجوز تمكين الله تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه فمنع منه المصنف ـ رحمه‌الله ـ وقد اختلف أهل

٣٣٥

العدل هنا فقال أبو هاشم والكعبي إنه يجوز لكنهما اختلفا فقال الكعبي يجوز أن يخرج من الدنيا ولا عوض له يوازي ظلمه وقال إن الله تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه ويدفعه إلى المظلوم ، وقال أبو هاشم لا يجوز بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب والتفضل ليس بواجب فلا يجوز تعليق الواجب بالجائز. قال السيد المرتضى إن التبقية تفضل أيضا فلا يجوز تعليق الانتصاف بها فلهذا وجب العوض في الحال واختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ لما ذكرناه.

قال : فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى أعواضه على الأوقات أو تفضل عليه بمثلها وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزءا من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات.

أقول : لما بين وجوب الانتصاف ذكر كيفية إيصال العوض إلى مستحقه (واعلم) أن المستحق للعوض إما أن يكون مستحقا للجنة أو للنار فإن كان مستحقا للجنة فإن قلنا إن العوض دائم فلا بحث وإن قلنا إنه منقطع توجه الإشكال بأن يقال لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه. والجواب من وجهين : الأول أنه يوصل إليه عوضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يبين له انقطاعه فلا يحصل له الألم. الثاني أن يتفضل الله تعالى عليه بعد انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل الألم ، وإن كان مستحقا للعقاب جعل الله تعالى عوضه جزءا من عقابه بمعنى أنه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع ودفع الضرر في الإيثار فإذا خفف عقابه وكانت آلامه عظيمة علم أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد ولا يظهر له أنه كان في راحة ، أو نقول إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يظهر له الخفة من قبل.

قال : ولا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا ولا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير والألم علي القطع ممنوع مع أنه غير محل النزاع.

أقول : لما ذكر وجوب العوض شرع في بيان أحكامه وقد اختلف الشيخان هنا فقال

٣٣٦

أبو علي الجبائي إنه يجب دوامه وقال أبو هاشم لا يجب واختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ ـ والدليل عليه أن العوض إنما حسن لاشتماله على النفع الزائد على الألم أضعافا يختار معه المولم ألمه ومثل هذا يتحقق في المنقطع فكان وجه الحسن فيه ثابتا فلا تجب إدامته.

وقد احتج أبو علي بوجهين أشار المصنف إلى الجواب عنهما : الأول أنه لو كان العوض منقطعا لوجب إيصاله في الدنيا لأن تأخير الواجب بعد وجوبه وانتفاء الموانع منع للواجب وإنما قلنا بانتفاء الموانع لأن المانع هو الدوام مع انقطاع الحياة المانع من دوامه.(والجواب) لا نسلم أن المانع من تقدمه في الدنيا إنما هو انقطاع الحياة لجواز أن يكون في تأخيره مصلحة خفية.

الثاني لو كان العوض منقطعا لزم دوامه والتالي لا يجامع المقدم بيان الملازمة أنه بانقطاعه يتألم صاحب العوض والألم يستلزم العوض فيلزم من انقطاعه دوامه.

والجواب من وجهين : الأول يجوز انقطاعه من غير أن يشعر صاحبه بانقطاعه إما لإيصاله إليه على التدريج في الأوقات بحيث لا يشعر بانتفائه لكثرة غيره من منافعه ، أو بأن يجعله ساهيا ثم يقطعه فلا يتألم حينئذ. الثاني أنه غير محل النزاع لأن البحث في العوض المستحق على الألم هل يجب إدامته وليس البحث في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر وهكذا دائما.

قال : ولا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا.

أقول : هذا حكم آخر للعوض يفارق به الثواب وهو أنه لا يجب إشعار مستحقه بتوفيقه عوضا له بخلاف الثواب إذ يجب في الثواب مقارنة التعظيم ولا فائدة فيه إلا مع العلم به أما هنا فلأنه منافع وملاذ وقد ينتفع ويلتذ من لا يعلم ذلك فما يجب إيصاله إلى المثاب في الآخرة من الأعواض يجب أن يكون عالما به من حيث إنه مثاب لا من حيث إنه معوض وحينئذ أمكن أن يوفيه الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين وأن ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا فلا تجب إعادتهم في الآخرة.

٣٣٧

قال : ولا يتعين منافعه.

أقول : هذا حكم ثالث للعوض وهو أنه لا يتعين منافعه بمعنى أنه لا يجب إيصاله في منفعة معينة دون أخرى بل يصلح توفيته بكل ما يحصل فيه شهوة المعوض وهذا بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلف من ملاذه كالأكل والشرب واللبس والمنكح لأنه رغب به في تحمل المشاق بخلاف العوض فإنا قد بينا أنه يصح إيصاله إليه وإن لم يعلم أنه عوض عما وصل إليه من الألم فصح إيصاله إليه بكل منفعة.

قال : ولا يصح إسقاطه.

أقول : هذا حكم آخر للعوض وهو أنه لا يصح إسقاطه ولا هبته ممن وجب عليه في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا هذا قول أبي هاشم وقاضي القضاة. وجزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا استحل الظالم من المظلوم وجعله في حل بخلاف العوض عليه تعالى فإنه لا يسقط لأن إسقاطه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.

واحتج القاضي بأن مستحق العوض لا يقدر على استيفائه ولا على المطالبة. به ولا يعرف مقداره ولا صفته فصار كالصبي المولى عليه لا يصح له إسقاط حقه عن غريمه.

والوجه عندي جواز ذلك لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب ويمكن نقل هذا الحق إليه فكان جائزا. والحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع الصبي من التصرف في ماله لمصلحة شرعية حتى أنا لو لا الشرع لجوزنا من الصبي المميز إذا علم دينه ، وأن هبته إحسان إلى الغير وآثر هذا الإحسان لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاختيار في الهبة لأنه كالبالغ لكن الشرع فرق بينهما وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبته مستحقة لغيره من العباد لما ذكرنا من أنه حقه وفي هبته انتفاع الموهوب وإمكان نقل هذا الحق أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا لأنه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه.

٣٣٨

قال : والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حد الرضا عند كل عاقل وعلينا يجب مساواته.

أقول : هذا حكم آخر للعوض وهو أنه إما أن تكون علينا أو عليه تعالى أما العوض الواجب عليه تعالى فإنه يجب أن يكون زائدا عن الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل زيادة تنتهي إلى حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل له لأنه لو لا ذلك لزم الظلم أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته لما فعله من الألم أو فوته من المنفعة لأن الزائد على ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلما ولا يخرج ما فعلناه بالضمان عن كونه ظلما قبيحا فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة منه تعالى.

المسألة الخامسة عشرة

في الآجال

قال : وأجل الحيوان الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياته فيه.

أقول : لما فرغ من البحث عن الأعواض انتقل إلى البحث عن الآجال وإنما بحث عنه المتكلمون لأنهم بحثوا عن المصالح والألطاف وجاز أن يكون موت إنسان في وقت مخصوص لطفا لغيره من المكلفين فبحثوا عنه بعد بحثهم عن المصالح (واعلم) أن الأجل هو الوقت ونعني بالوقت هو الحادث أو ما يقدر تقدير الحادث كما يقال جاء زيد عند طلوع الشمس فإن طلوع الشمس أمر حادث معلوم لكل أحد فجعل وقتا لغيره ولو فرض جهالة طلوع الشمس وعلم مجيء زيد لبعض الناس صح أن يقال طلعت الشمس عند مجيء زيد إذا عرفت هذا فأجل الحيوان هو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة ذلك الحيوان فيه وأجل الدين هو الوقت الذي جعله الغريمان محلا له.

٣٣٩

قال : والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه.

أقول : اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل فقالت المجبرة إنه كان يموت قطعا وهو قول أبي الهذيل العلاف. وقال بعض البغداديين إنه كان يعيش قطعا. وقال أكثر المحققين إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز أن يموت ثم اختلفوا فقال قوم منهم إن من كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان وقال الجبائيان وأصحابهما وأبو الحسين البصري إن أجله هو الوقت الذي قتل فيه وليس له أجل لو لم يقتل فما كان يعيش إليه ليس بأجل له الآن حقيقي بل تقديري.

واحتج الموجبون لموته بأنه لولاه لزم خلاف معلوم الله تعالى وهو محال.

واحتج الموجبون لحياته بأنه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسنا إليه ، ولما وجب القود لأنه لم يفوت حياته.

والجواب عن الأول ما تقدم من أن العلم لا يؤثر في المعلوم (وعن الثاني) بمنع الملازمة إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضا زائدا على الله تعالى فذبحه فوت عليه الأعواض الزائدة ، والقود من حيث مخالفة الشارع إذ قتله حرام عليه وإن علم موته ولهذا لو أخبر الصادق بموت زيد لم يجز لأحد قتله.

قال : ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلف.

أقول : لا استبعاد في أن يكون أجل الإنسان لطفا لغيره من المكلفين ولا يمكن أن يكون لطفا للمكلف نفسه لأن الأجل يطلق على عمره وحياته ، ويطلق على أجل موته (أما الأول) فليس بلطف لأنه تمكين له من التكليف واللطف زائد على التمكين. (وأما الثاني) فهو قطع التكليف فلا يصح أن يكلف بعده فيكون لطفا له فيما يكلفه من بعد واللطف لا يصح أن يكون لطفا فيما مضى.

٣٤٠