كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

قال : والحكمة.

أقول : وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة لأن الحكمة قد يعنى بها معرفة الأشياء وقد يراد بها صدور الشيء على الوجه الأكمل ولا عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول. وأيضا فإن أفعاله تعالى في غاية الإحكام والإتقان ونهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني أيضا.

قال : والتجبر.

أقول : وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه جبارا لأن وجوب الوجود يقتضي استناد كل شيء إليه فهو يجبر ما بالقوة بالفعل والتكميل كالمادة بالصورة فهو جبار من حيث إنه واجب الوجود.

قال : والقهر.

أقول : وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه قهارا بمعنى أنه يقهر العدم بالوجود والتحصيل.

قال : والقيومية.

أقول : وصفه تعالى بكونه واجب الوجود يقتضي وصفه بكونه قيوما بمعنى أنه قائم بذاته ومقيم لغيره لأن وجوب الوجود يقتضي استغناءه عن غيره وهو معنى قيامه بذاته ويقتضي استناد غيره إليه وهو المعني بكونه مقيما لغيره.

قال : وأما اليد والوجه والقدم والرحمة والكرم والرضا والتكوين فراجعة إلى ما تقدم.

أقول : ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن اليد صفة وراء القدرة ، والوجه صفة مغايرة للوجود وذهب عبد الله بن سعيد إلى أن القدم صفة مغايرة للبقاء وأن الرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة وأثبت جماعة من الحنفية التكوين صفة مغايرة للقدرة والتحقيق أن هذه الصفات راجعة إلى ما تقدم.

٣٠١

الفصل الثالث

في أفعاله وفيه مسائل

المسألة الأولى

في إثبات الحسن والقبح العقليين

قال : الثالث في أفعاله ـ الفعل المتصف بالزائد إما حسن أو قبيح والحسن أربعة.

أقول : لما فرغ من إثباته تعالى وبيان صفاته شرع في بيان عدله وأنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب وما يتعلق بذلك من المسائل وبدأ بقسمة الفعل إلى الحسن والقبيح وبين أن الحسن والقبح أمران عقليان وهذا حكم متفق عليه بين المعتزلة. وأما الأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح إنما يستفادان من الشرع فكل ما أمر الشارع به فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح ولو لا الشرع لم يكن حسن ولا قبح ولو أمر الله تعالى بما نهى عنه لانقلب القبيح إلى الحسن والأوائل ذهبوا إلى أن من الأشياء ما هو حسن ومنها ما هو قبيح بالنظر إلى العقل العملي وقد شنع أبو الحسين على الأشاعرة بأشياء ردية وما شنع به فهو حق إذ لا تتمشى قواعد الإسلام بارتكاب ما ذهب إليه الأشعرية من تجويز القبائح عليه تعالى وتجويز إخلاله بالواجب وما أدري كيف يمكنهم الجمع بين المذهبين.

واعلم : أن الفعل من التصورات الضرورية وقد حده أبو الحسين بأنه ما حدث عن قادر مع أنه حد القادر بأنه الذي يصح أن يفعل وأن لا يفعل فلزمه الدور ، على أن الفعل أعم من الصادر عن قادر وغيره إذا عرفت هذا فالفعل الحادث إما أن لا يوصف بأمر زائد على حدوثه وهو مثل حركة الساهي والنائم وإما أن يوصف وهو قسمان حسن وقبيح فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم والقبيح بخلافه ، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل والترك وإما أن يكون له وصف

٣٠٢

زائد على حسنه فإما أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة الواجب والمندوب والمباح والمكروه ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة.

قال : وهما عقليان للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع.

أقول : استدل المصنف ـ رحمه‌الله ـ على أن الحسن والقبح أمران عقليان بوجوه هذا أولها وتقريره أنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع فإن كل عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه ، وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادا من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع.

قال : ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا.

أقول : هذا وجه ثان يدل على أن الحسن والقبح عقليان وتقريره أنهما لو ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله بيان الشرطية أنا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا فإذا أخبرنا في شيء أنه قبيح لم نجزم بقبحه وإذا أخبرنا في شيء أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.

قال : ولجاز التعاكس.

أقول : الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام أنه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لجاز أن يقع التعاكس في الحسن والقبح بأن يكون ما نتوهمه حسنا قبيحا وبالعكس فكان يجوز أن يكون هناك أمم عظيمة تعتقد حسن مدح من أساء إليهم وذم من أحسن كما

٣٠٣

حصل لنا اعتقاد عكس ذلك ولما علم كل عاقل بطلان ذلك جزمنا باستناد هذه الأحكام إلى القضايا العقلية لا الأوامر والنواهي الشرعية ولا العادات.

قال : ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور.

أقول : لما استدل على مذهبه من إثبات الحسن والقبح العقليين شرع في الجواب عن شبهة الأشاعرة وقد احتجوا بوجوه : الأول لو كان العلم بقبح بعض الأشياء وحسنها ضروريا لما وقع التفاوت بينه وبين العلم لزيادة الكل على الجزء والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت (والجواب) المنع من الملازمة فإن العلوم الضرورية قد تتفاوت لوقوع التفاوت في التصورات. فقوله : ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور إشارة إلى هذا الجواب.

قال : وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان المخلص.

أقول : هذا يصلح أن يكون جوابا عن شبهتين للأشعرية : إحداهما قالوا لو كان الكذب قبيحا لكان الكذب المقتضي لتخليص النبي من يد ظالم قبيحا والتالي باطل لأنه يحسن تخليص النبي فالمقدم مثله. الثانية قالوا لو قال الإنسان لأكذبن غدا فإن حسن منه الصدق بإيفاء الوعد لزم حسن الكذب ، وإن قبح كان الصدق قبيحا فيحسن الكذب (والجواب) فيهما واحد وذلك لأن تخليص النبي راجح من الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب فيجب ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق. وأيضا يجب عليه ترك الكذب في غد لأنه إذا كذب في الغد فعل شيئا فيه جهتا قبح وهو العزم على الكذب وفعله ، ووجها واحدا من وجوه الحسن وهو الصدق وإذا ترك الكذب يكون قد ترك تتمة العزم والكذب وهما وجها حسن ، وفعل وجها واحدا من وجوه القبح وهو الكذب. وأيضا قد يمكن التخلص عن الكذب في الصورة الأولى بأن يفعل التورية أو يأتي بصورة الإخبار الكذب من غير قصد إليه. ولأن جهة الحسن هي التخلص وهي غير منفكة عنه وجهة القبح هي الكذب وهي غير منفكة

٣٠٤

عنه فما هو حسن لم ينقلب قبيحا وكذا ما هو قبيح لم ينقلب حسنا.

قال : والجبر باطل.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا الجبر حق فينتفي الحسن والقبح العقليان والملازمة ظاهرة وبيان صدق المقدم ما يأتي والجواب الطعن في الصغرى وسيأتي البحث فيها.

المسألة الثانية

في أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب

قال : واستغناؤه وعلمه يدلان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى.

أقول : اختلف الناس هنا فقالت المعتزلة إنه تعالى لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ونازع الأشعرية في ذلك وأسندوا القبائح إليه تعالى الله عن ذلك والدليل على ما اختاره المعتزلة أن له داعيا إلى فعل الحسن وليس له صارف عنه ، وله صارفا عن فعل القبيح وليس له داع إليه وهو قادر على كل مقدور ومع وجود القدرة والداعي يجب الفعل وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح ومن المعلوم بالضرورة أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا من جهات المفسدة فإنه يوجده وتحريره أن الفعل بالنظر إلى ذاته ممكن وواجب بالنظر إلى علته وكل ممكن مفتقر إلى قادر فإن علته إنما تتم بواسطة القدرة والداعي فإذا وجدا فقد تم السبب وعند تمام السبب يجب وجود الفعل. وأيضا لو جاز منه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده ووعيده لإمكان تطرق الكذب عليه ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وذلك يفضي إلى الشك في صدق الأنبياء ويمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه.

٣٠٥

المسألة الثالثة

في أنه تعالى قادر على القبيح

قال : مع قدرته عليه لعموم النسبة ولا ينافي الامتناع اللاحق.

أقول : ذهب العلماء كافة إلى أنه تعالى قادر على القبيح إلا النظام والدليل على ذلك أنا قد بينا عموم نسبة قدرته إلى الممكنات والقبيح منها فيكون مندرجا تحت قدرته. احتج بأن وقوعه منه يدل على الجهل أو الحاجة وهما منفيان في حقه تعالى. والجواب أن الامتناع هنا بالنظر إلى الحكمة فهو امتناع لاحق لا يؤثر في الإمكان الأصلي ولهذا عقب المصنف رحمه‌الله ـ الاستدلال على مراده بالجواب عن الشبهة التي له وإن لم يذكرها صريحا.

المسألة الرابعة

في أنه يفعل لغرض

قال : ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه.

أقول : اختلف الناس هنا فذهبت المعتزلة إلى أنه تعالى يفعل لغرض ولا يفعل شيئا لغير فائدة وذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض والمقاصد. والدليل على مذهب المعتزلة أن كل فعل لا يفعل لغرض فإنه عبث والعبث قبيح والله تعالى يستحيل منه فعل القبيح. احتج المخالف بأن كل فاعل لغرض وقصد فإنه ناقص بذاته مستكمل بذلك الغرض والله تعالى يستحيل عليه النقصان (والجواب) النقص إنما يلزم لو عاد الغرض والنفع إليه أما إذا كان النفع عائدا إلى غيره فلا كما نقول إنه تعالى يخلق العالم لنفعهم.

٣٠٦

المسألة الخامسة

في أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي

قال : وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن وللأمر والنهي

أقول : مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن والكافر سواء وقعت أو لا ، ويكره المعاصي سواء وقعت أو لا. وقالت الأشاعرة كل ما هو واقع فهو مراد سواء كان طاعة أو معصية. والدليل على ما ذهب إليه المعتزلة وجهان : الأول أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح على ما تقدم فكما أن فعل القبيح قبيح فكذا إرادته قبيحة ، وكما أن ترك الحسن قبيح فكذا إرادة تركه. الثاني أنه تعالى أمر بالطاعات ونهى عن المعاصي والحكيم إنما يأمر بما يريده لا بما يكرهه ، وينهى عما يكرهه لا عما يريده فلو كانت الطاعة من الكافر مكروهة لله تعالى لما أمر بها ، ولو كانت المعصية مرادة لله تعالى لما نهاه عنها وكان الكافر مطيعا بكفره وعدم إيمانه لأنه فعل ما أراده الله تعالى منه وهو المعصية وامتنع عما كرهه وذلك باطل قطعا.

قال : وبعض الأفعال مستندة إلينا والمغلوبية غير لازمة والعلم تابع.

أقول : لما فرغ من الاستدلال شرع في إبطال حجج الخصم وهي ثلاثة :

الأولى قالوا الله تعالى فاعل لكل موجود فتكون القبائح مستندة إليه بإرادته (والجواب) ما يأتي من كون بعض الأفعال مستندة إلينا.

الثانية أن الله تعالى لو أراد من الكافر الطاعة ، والكافر أراد المعصية وكان الواقع مراد الكافر لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا إذ من يقع مراده من المريدين هو الغالب (والجواب) أن هذا غير لازم لأن الله تعالى إنما يريد الطاعة من العبد على سبيل الاختيار وهو إنما يتحقق بإرادة المكلف ولو أراد الله تعالى إيقاع الطاعة من الكافر مطلقا سواء كانت عن اختيار أو إجبار لوقعت.

٣٠٧

الثالثة قالوا : كل ما علم الله تعالى وقوعه وجب وما علم عدمه امتنع فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال إرادتها منه وإلا لكان مريدا لما يمتنع وجوده. والجواب أن العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل وقد مر تقرير ذلك.

المسألة السادسة

في أنا فاعلون

قال : والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا.

أقول : اختلف العقلاء هنا فالذي ذهب إليه المعتزلة أن العبد فاعل لأفعال نفسه واختلفوا فقال أبو الحسين إن العلم بذلك ضروري وهو الحق الذي ذهب إليه المصنف ـ رحمه‌الله ـ وقال آخرون إنه استدلالي. وأما جهم بن صفوان فإنه قال : إن الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد وإضافتها إليهم على سبيل المجاز فإذا قيل فلان صلى وصام كان بمنزلة قولنا طال وسمن (وقال) ضرار بن عمرو والنجار وحفص الفرد وأبو الحسن الأشعري إن الله تعالى هو المحدث لها والعبد مكتسب ولم يجعل لقدرة العبد أثرا في الفعل بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى وهذا الاقتران هو الكسب وفسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى وكونه طاعة ومعصية صفتان واقعتان بقدرة العبد (وقال) أبو إسحاق الأسفراييني من الأشاعرة إن الفعل واقع بمجموع القدرتين. والمصنف التجأ إلى الضرورة هاهنا فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختيارا وبين حركة الحجر الهابط ومنشأ الفرق هو اقتران القدرة في أحد الفعلين به وعدمه في الآخر.

قال : والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب.

أقول : لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبه الخصم وتقرير الشبهة الأولى أن صدور الفعل من المكلف إما أن يقارن تجويز لا صدوره أو امتناع لا صدوره والثاني يستلزم الجبر والأول إما أن يترجح منه الصدور على لا صدوره لمرجح أو لا لمرجح والثاني

٣٠٨

يلزم منه الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح وهو محال والأول يستلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما يجب معه الترجيح وهو ينافي التقدير ويستلزم الجبر.

والجواب أن الفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن وواجب بالنظر إلى داعيه وذلك لا يستلزم الجبر فإن كل قادر فإنه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما في حق الواجب تعالى فإن هذا الدليل قائم في حقه تعالى ووجه المخلص ما ذكرناه ، على أن هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم فما أدري لم كان الجواب مسموعا هناك ولم يكن مسموعا هاهنا.

قال : والإيجاد لا يستلزم العلم إلا مع اقتران القصد فيكفي الإجمال.

أقول : هذا الجواب عن شبهة أخرى لهم وتقريرها أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة وبيان بطلان التالي أنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها وإنما نقصد الحركة إلى المنتهى وإن لم نقصد جزئيات تلك الحركة (والجواب) أن الإيجاد لا يستلزم العلم فإن الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع كالإحراق الصادر عن النار من غير علم فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد نعم الإيجاد مع القصد يستلزم العلم لكن العلم الإجمالي كاف فيه وهو حاصل في الحركات الجزئية بين المبدإ والمنتهى.

قال : ومع الاجتماع يقع مراده تعالى.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وتقريرها أن العبد لو كان قادرا على الفعل لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور فلو كان العبد قادرا على شيء لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه وأما بطلان التالي فلأنه لو أراد الله تعالى إيجاده وأراد العبد إعدامه فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح

٣٠٩

(والجواب) أن نقول يقع مراد الله تعالى لأن قدرته أقوى من قدرة العبد وهذا هو المرجح وهذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به المتكلمون على الوحدانية وهناك يتمشى لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين أما هنا فلا.

قال : والحدوث اعتباري.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماء الأشاعرة وهي أن الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله وهو الحدوث ونحن محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث (وتقرير الجواب) أن الفاعل لا يؤثر الحدوث لأنه أمر اعتباري ليس بزائد على الذات وإلا لزم التسلسل وإنما يؤثر في الماهية وهي مغايرة له.

قال : وامتناع الجسم لغيره.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنا لو كنا فاعلين في الأحداث لصح منا إحداث الجسم لوجود العلة المصححة للتعلق وهي الحدوث. والجواب أن الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتى يلزم تعميم الامتناع بل إنما امتنع صدوره عنا لأننا أجسام والجسم لا يؤثر في الجسم على ما مر.

قال : وتعذر المماثلة في بعض الأفعال لتعذر الإحاطة.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماؤهم وهي أنا لو كنا فاعلين لصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أولا من كل جهة لوجود القدرة والعلم والتالي باطل فالمقدم مثله وبيان بطلان التالي أنا لا نقدر على أن نكتب في الزمان الثاني مثل ما كتبناه في الزمان الأول من كل وجه بل لا بد من تفاوت بينهما في وضع الحروف ومقاديرها. (وتقرير الجواب) أن بعض الأفعال تصدر عنا في الزمان الثاني مثل ما صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات والأفعال وبعضها يتعذر علينا فيه ذلك لا لأنه ممتنع ولكن لعدم الإحاطة الكلية بما فعلناه أولا فإن مقادير الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها

٣١٠

إلا على سبيل الاتفاق.

قال : ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله تعالى.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا لو كان العبد فاعلا للإيمان لكان بعض أفعال العبد خيرا من فعله تعالى لأن الإيمان خير من القردة والخنازير والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله.

والجواب أن نسبة الخيرية هنا منتفية لأنكم إن عنيتم بأن الإيمان خير أنه أنفع فليس كذلك لأن الإيمان إنما هو فعل شاق مضر على البدن ليس فيه خير عاجل ، وإن عنيتم به أنه خير لما فيه من استحقاق المدح والثواب به بخلاف القردة والخنازير فحينئذ لا يكون الإيمان خيرا بنفسه وإنما الخير هو ما يؤدي إليه الإيمان من فعل الله تعالى بالعبد وهو المدح والثواب وحينئذ يكون المدح والثواب خيرا وأنفع للعبد من القردة والخنازير لكن ذلك من فعله تعالى (واعلم) أن هذه الشبهة ركيكة جدا وإنما أوردها المصنف ـ ره ـ هنا لأن بعض الثنوية أورد هذه الشبهة على ضرار بن عمرو فأذعن لها والتزم بالجبر لأجلها.

قال : والشكر على مقدمات الإيمان.

أقول : هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا لو كان العبد فاعلا للإيمان لما وجب علينا شكر الله تعالى عليه والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة فإنه لا يحسن منا شكر غيرنا على فعلنا.

والجواب أن الشكر ليس على فعل الإيمان بل على مقدماته من تعريفنا إياه وتمكيننا منه وحضور أسبابه والأقدار على شرائطه.

قال : والسمع متأول ومعارض بمثله والترجيح معنا.

أقول : هذا جواب عن الشبه النقلية بطريق إجمالي وتقريره أنهم قالوا قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً).

٣١١

والجواب أن هذه الآيات متأولة وقد ذكر العلماء تأويلاتها في كتبهم. وأيضا فهي معارضة بمثلها وقد صنفها أصحابنا على عشرة أوجه : أحدها الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) إلى آخرها.

الثاني الآيات الدالة على مدح المؤمنين على الإيمان وذم الكفار على الكفر والوعد والوعيد كقوله تعالى (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ).

الثالث الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف والظلم كقوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (وَما ظَلَمْناهُمْ) (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).

الرابع الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي والتوبيخ على ذلك كقوله تعالى (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

الخامس الآيات الدالة على التهديد والتخيير كقوله (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ).

٣١٢

السادس الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها كقوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ).

السابع الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به وثبوت اللطف منه كقوله تعالى (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ) (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

الثامن الآيات الدالة على استغفار الأنبياء (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ).

التاسع الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم كقوله تعالى (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ـ إلى قوله : (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) وقوله (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ).

العاشر الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية وطلب الرجعة كقوله (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا) (رَبِّ ارْجِعُونِ) (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة بما ذكروه على أن الترجيح معنا لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد والتخويف والإنذار وإنما طول المصنف ـ رحمه‌الله ـ في هذه المسألة لأنها من المهمات.

المسألة السابعة

في المتولد

قال : وحسن المدح والذم على المتولد يقتضي العلم بإضافته إلينا.

أقول : الأفعال تنقسم إلى المباشر والمتولد والمخترع فالأول هو الحادث ابتداء بالقدرة

٣١٣

في محلها. والثاني هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد ويسمونه المسبب ويسمون الأول سببا سواء كان الثاني حادثا في محل القدرة أو في غير محلها. والثالث ما يفعل لا لمحل فالأول مختص بنا والثالث مختص به تعالى والثاني مشترك

واعلم أن الناس اختلفوا في المتولد هل يقع بنا أم لا فجمهور المعتزلة على أنه من فعلنا كالمباشر وقال معمر إنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما عداها من الحوادث فهي واقعة بطبع المحل والإنسان عنده جزء في القلب توجد فيه الإرادة وما عداها يضيفه إلى طبع المحل وقال آخرون لا فعل للعبد إلا الفكر وهم بعض المعتزلة. وقال أبو إسحاق النظام إن فعل الإنسان هي الحركات الحادثة فيه بحسب دواعيه والإنسان عنده هو شيء منساب في الجملة والإرادة والاعتقادات حركات القلب وما يوجد منفصلا عن الجملة كالكتابة وغيرها فإنه من فعله تعالى بطبع المحل. وقال ثمامة إن فعل الإنسان هو ما يحدثه في محل قدرته فأما ما تعدى محل القدرة فهو حادث لا محدث له وفعل لا فاعل له. وقالت الأشعرية المتولد من فعله تعالى. والجماهير من المعتزلة التجئوا في هذا المقام إلى الضرورة فإنا نعلم استناد المتولدات إلينا كالكتابة والحركات وغيرهما من الصنائع ويحسن منا مدح الفاعل وذمه كما في المباشر والمصنف ـ رحمه‌الله ـ استدل بحسن المدح والذم على العلم بأنا فاعلون للمتولد لا عليه لأن الضروريات لا يجوز الاستدلال عليها نعم يجوز الاستدلال على كونها ضرورية إذا لم يكن هذا الحكم ضروريا وجماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أنه كسبي واستدلوا بحسن المدح والذم عليه فلزمهم الدور لأن حسن المدح والذم مشروط بالعلم بالاستناد إلينا فلو جعلنا الاستناد إلينا مستفادا منه لزوم الدور.

قال : والوجوب باختيار السبب لاحق.

أقول : هذا جواب عن إشكال يورد هنا وهو أن يقال إن المتولد لا يقع بقدرتنا لأن المقدور هو الذي يصح وجوده وعدمه عن القادر وهذا المعنى منفي في المتولد لأن عند اختيار السبب يجب المسبب فلا يقع بالقدرة المصححة (والجواب) أن الوجوب في المسبب عند اختيار السبب وجوب لاحق كما أن الفعل يجب عند وجود القدرة والداعي وعند فرض

٣١٤

وقوعه وجوبا لاحقا لا يؤثر في الإمكان الذاتي والقدرة فكذا هنا.

قال : والذم في إلقاء الصبي عليه لا على الإحراق.

أقول : هذا جواب عن شبهة لهم وهي أن المدح والذم لا يدلان على العلم باستناد المتولد إلينا فإنا نذم على المتولد وإن علمنا استناده إلى غيرنا فإنا نذم من ألقى الصبي في النار إذا احترق بها وإن كان المحرق هو الله تعالى (والجواب) أن الذم هنا على الإلقاء لا على الإحراق فإن الإحراق من الله تعالى عند الإلقاء حسن لما يشتمل عليه من الأعواض لذلك الصبي ولما فيه من مراعاة العادات وعدم انتقاضها في غير زمان الأنبياء ووجوب الدية حكم شرعي لا يجب تخصيصه بالفعل فإن الحافر للبئر يلزمه الدية وإن كان الوقوع غير مستند إليه.

المسألة الثامنة

في القضاء والقدر

قال : والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال أو الإلزام صح في الواجب خاصة أو الإعلام صح مطلقا وقد بينه أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث الأصبغ.

أقول : يطلق القضاء على الخلق والإتمام قال الله تعالى (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي خلقهن وأتمهن ، وعلى الحكم والإيجاب كقوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أوجب وألزم ، وعلى الإعلام والإخبار كقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) أي أعلمناهم وأخبرناهم ، ويطلق القدر على الخلق كقوله تعالى (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) ، والكتابة كقول الشاعر :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى التي كان سطر

والبيان كقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) أي بينا وأخبرنا بذلك.

إذا ظهر هذا فنقول للأشعري ما تعني بقولك أنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها إن

٣١٥

أردت به الخلق والإيجاد فقد بينا بطلانه وأن الأفعال مستندة إلينا ، وإن عنى به الإلزام لم يصح إلا في الواجب خاصة ، وإن عنى به أنه تعالى بينها وكتبها وأعلم أنهم سيفعلونها فهو صحيح لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته وهذا المعنى الأخير هو المتعين للإجماع على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا به من حيث إنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب لبطلان الكسب أولا وثانيا فلأنا نقول إن كان كون الكفر كسبا بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من حيث هو كسب وهو خلاف قولكم وإن لم يكن بقضاء وقدر بطل استناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر.

واعلم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه قد بين معنى القضاء والقدر وشرحهما شرحا وافيا في حديث الأصبغ بن نباتة لما انصرف من صفين فإنه قام إليه شيخ فقال له أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر فقال له الشيخ عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال له مه أيها الشيخ بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين فقال الشيخ كيف والقضاء والقدر ساقانا فقال ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل عبثا ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما فقال هو الأمر من الله تعالى والحكم وتلا قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

٣١٦

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

قال : أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي وجه تشبيهه عليه‌السلام المجبرة بالمجوس من وجوه : أحدها أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة البطلان وكذلك المجبرة.

وثانيها أن مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفى منه وكذلك المجبرة قالوا إنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منها.

وثالثها أن المجوس قالوا إن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره وإرادته ووافقهم المجبرة حيث قالوا إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته.

ورابعها أن المجوس قالوا إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس والمجبرة قالوا إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه فالإنسان القادر على الخير لا يقدر على ضده وبالعكس.

المسألة التاسعة

في الهدى والضلالة

قال : والإضلال الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والإهلاك والهدى مقابل والأولان منفيان عنه تعالى.

أقول : يطلق الإضلال على الإشارة إلى خلاف الحق وإلباس الحق بالباطل كما تقول أضلني فلان عن الطريق إذا أشار إلى غيره وأوهم أنه هو الطريق ويطلق على فعل الضلالة في الإنسان كفعل الجهل فيه حتى يكون معتقدا خلاف الحق. ويطلق على الإهلاك والبطلان كما قال تعالى (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) يعني يبطلها. والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني فيقال بمعنى نصب الدلالة على الحق كما تقول هداني إلى الطريق وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى يعتقد الشيء على ما هو به وبمعنى الإثابة كقوله تعالى (سَيَهْدِيهِمْ) يعني سيثيبهم والأولان منفيان عنه تعالى يعني الإشارة إلى خلاف الحق وفعل

٣١٧

الضلالة لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح وأما الهداية فالله تعالى نصب الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية في العقلاء ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه كلفهم به ويثيب على الإيمان فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف به وإذا قيل إنه تعالى يهدي ويضل فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى أنه يثيبهم ويضل العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم وقول موسى عليه‌السلام (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) فالمراد بالفتنة الشدة والتكليف الصعب يضل بها من يشاء أي يهلك من يشاء وهم الكفار.

المسألة العاشرة

في أنه تعالى لا يعذب الأطفال

قال : وتعذيب غير المكلف قبيح وكلام نوح عليه‌السلام مجاز والخدمة ليست عقوبة له والتبعية في بعض الأحكام جائزة.

أقول : ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين ويلزم الأشاعرة تجويزه والعدلية كافة على منعه والدليل عليه أنه قبيح عقلا فلا يصدر منه تعالى.

احتجوا بوجوه : الأول قول نوح عليه‌السلام (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) والجواب أنه مجاز والتقدير أنهم يصيرون كذلك لا حال طفوليتهم.

الثاني قالوا إنا نستخدمه لأجل كفر أبيه فقد فعلنا فيه ألما وعقوبة فلا يكون قبيحا.

والجواب أن الخدمة ليست عقوبة للطفل وليس كل ألم ومشقة عقوبة فإن الفصد والحجامة ألمان وليسا عقوبة نعم استخدامه عقوبة لأبيه وامتحان له يعوض عليه كما يعوض على أمراضه.

الثالث قالوا إن حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن ومنع التوارث والصلاة عليه ومنع التزويج (والجواب) أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه وليس بمنكر أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة ولا ألم له في منعه من الدفن والتوارث وترك الصلاة عليه.

٣١٨

المسألة الحادية عشرة

في حسن التكليف وبيان ماهيته ووجه حسنه وجملة من أحكامه

قال : والتكليف حسن لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه.

أقول : التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة. وحده إرادة من تجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام ويدخل تحت واجب الطاعة الواجب تعالى والنبي عليه‌السلام والإمام والسيد والوالد والمنعم ويخرج البواقي.

وشرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء إنما تكون تكليفا إذا لم يسبقه غيره إلى إرادة ما أراده ولهذا لا يسمى الوالد مكلفا بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة الله تعالى لها منه.

والمشقة لا بد من اعتبارها ليتحقق المحدود إذ التكليف مأخوذ من الكلفة.

وشرطنا الإعلام لأن المكلف إذا لم يعلم إرادة المكلف بالفعل لم يكن مكلفا.

إذا عرفت هذا فنقول التكليف حسن لأن الله تعالى فعله والله تعالى لا يفعل القبيح ووجه حسنه اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه وهي التعريض لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف لأن التكليف إن لم يكن لغرض كان عبثا وهو محال ، وإن كان لغرض فإن كان عائدا إليه تعالى لزم المحال ، وإن كان إلى غيره فإن كان إلى غير المكلف كان قبيحا ، وإن كان إلى المكلف فإن كان حصوله ممكنا بدون التكليف لزم العبث ، وإن لم يمكن فإن كان لنفع انتقض بتكليف من علم الله كفره وإن كان للتعريض فهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنقول الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة لأنه تعريض للثواب وللثواب منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم والمدح ولا شك أن التعظيم إنما يحسن للمستحق له ولهذا يقبح منا تعظيم الأطفال والأرذال كتعظيم العلماء وإنما يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة وهي الطاعات ومعنى قولنا إن التكليف تعريض للثواب أن المكلف جعل المكلف على الصفات التي تمكنه الوصول إلى الثواب وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه سيوصله إليه إذا فعل ما كلفه.

٣١٩

قال : بخلاف الجرح ثم التداوي ، والمعاوضات والشكر باطل.

أقول : هذه إيرادات على ما اختاره المصنف : الأول أن التكليف للنفع يتنزل منزلة من جرح غيره ثم داراه طلبا للدواء وكما أن ذلك قبيح فكذا التكليف.

الثاني أن التكليف طلبا للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع والإجارات وغيرها ولا شك أن المعاوضات تفتقر إلى رضا المتعاوضين حتى أن من عاوض بغير إذن صاحبه فعل قبيحا والتكليف عندكم لا يشترط فيه رضا المكلف.

الثالث لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا للنعم السابقة.

والجواب عن الأول بالفرق من وجهين : أحدهما أن الجرح مضرة والتكليف نفسه ليس بمضرة وإنما المشقة في الأفعال التي يتناولها التكليف. الثاني أن الجرح والتداوي إنزال مضرة لا غرض فيه إلا التخلص من تلك المضرة بخلاف التكليف.

وعن الثاني أن المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في التعامل جنسا ووصفا أما إذا لم يكن هناك معاوضة وبلغ النفع حدا يكون غاية ما يطلبه العقلاء لم يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتى أن العقلاء يسفهون الممتنع منه.

وعن الثالث أن الشكر لا يشترط فيه المشقة والله تعالى قادر على إزالة صفة المشقة عن هذه الأفعال فلو كان التكليف شكرا لزم العبث في صفة المشقة ولأن طلب الفعل الشاق شكرا يخرج النعمة عن كونها نعمة.

قال : ولأن النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنة النافع استعمالها في الرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية ، وتذكر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل مع زيادة الأجر والثواب.

أقول : لما ذكر المصنف ـ رحمه‌الله ـ حسن التكليف على رأي المتكلمين شرع في طريق الإسلاميين من الفلاسفة فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف ثم ذكر منافعه الدنيوية والأخروية وتحقيقه أن نقول إن الله خلق الإنسان مدنيا بالطبع لا كغيره من الحيوانات ، لا يمكن أن تبقى أشخاصه ولا تحصل لهم كمالاتهم إلا بالتعاضد والتعاون لأن الأغذية

٣٢٠