كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

قال : نعم لا بد من الجزء الصوري.

أقول : يشير بذلك إلى ترتيب المقدمات فإنه لا بد مع حصول المقدمتين في الذهن من ترتيب حاصل بينهما ليحصل العلم بالنتيجة وهو الجزء الصوري للنظر إذ لو لا الترتيب لحصلت العلوم الكسبية لجميع العقلاء ولم يقع خلل لأحد في اعتقاده وقيل لا حاجة إليه وإلا لزم التسلسل أو اشتراط الشيء بنفسه وهو سهو فإن التسلسل يلزم لو قلنا بافتقار كل زائد إلى ترتيب وليس كذلك بل المفتقر إلى الترتيب إنما هو الأجزاء المادية خاصة.

قال : وشرطه عدم الغاية وضدها وحضورها.

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أن شرط النظر عدم العلم بالمطلوب الذي هو غاية النظر وإلا لزم تحصيل الحاصل ويشترط أيضا عدم ضدها أعني الجهل المركب لأنه باعتقاده حصول العلم له لا يطلبه فلا يتحقق النظر في طرفه ويشترط أيضا حضورها أعني حضور المطلوب الذي هو الغاية إذ الغافل عن الشيء لا يطلبه والنظر نوع من الطلب.

قال : ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته كان التكليف به عقليا.

أقول : اختلف الناس في وجوب النظر هل هو عقلي أو سمعي فذهبت المعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني أما المعتزلة فاستدلوا على وجوب النظر عقلا بأن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا ولا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب فهاهنا ثلاث مقدمات : إحداها أن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا واستدلوا على ذلك بوجهين : الأول أن معرفة الله تعالى دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ودفع الخوف واجب عقلا ، الثاني أن شكر الله تعالى واجب لأن نعمه على العبد كثيرة والمقدمتان ضروريتان والشكر لا يتم إلا بالمعرفة ضرورة ، الثانية أن معرفة الله تعالى لا تتم إلا بالنظر وذلك قريب من الضرورة إذ المعرفة ليست ضرورية قطعا فهي كسبية ولا كاسب سوى

٢٤١

النظر إذ التقليد يستند إليه وتصفية الخاطر إن انفلت عن ترتيب المقدمات لم يحصل منها علم بالضرورة ، الثالثة أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب وإلا لخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا أو لزم تكليف ما لا يطاق لأن الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه فحينئذ إما أن يجب على المكلف المشروط أو لا والثاني يلزم منه خروجه عن كونه واجبا مطلقا والأول يلزم منه تكليف ما لا يطاق إذ وجوب المشروط حال عدم الشرط إيجاب لغير المقدور وهو محال فثبت أن وجوب النظر عقلي ولا يجب سمعا خاصة وإلا لم يجب والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أن النظر إذا لم يجب إلا بالسمع لزم إفحام الأنبياء لأن النبي إذا جاء إلى المكلف وأمره باتباعه لم يجب على المكلف الامتثال حتى يعلم صدقه ولا يعلم صدقه إلا بالنظر فإذا امتنع المكلف من النظر حتى يعرف وجوبه عليه لم يجز استناد الوجوب إلى النبي لعدم العلم بصدقه حينئذ ولا وجوب عقلي فينتفي الوجوب على تقدير الوجوب السمعي (إذا عرفت هذا) فنقول : قوله ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان أشار بلفظة ما إلى المعرفة والعقليان أشار به إلى وجوب الشكر ووجوب دفع الخوف عن النفس. وقوله وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته يشير به إلى انتفاء الوجوب السمعي الذي هو ضد المطلوب لأن المطلوب هو الوجوب العقلي وضده هو الوجوب السمعي. وقوله على تقدير ثبوته يعني لو فرض الوجوب سمعيا لم يكن واجبا فهذا ما فهمناه من كلامه في هذا الموضع.

وأما الأشعرية فقد احتجوا بوجهين ، الأول قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) نفى التعذيب بدون البعثة فلا يكون النظر واجبا قبلها ، الثاني لو وجب النظر فإما لفائدة عاجلة والواقع مقابلها أو آجلة وحصولها ممكن بدون النظر فتوسط النظر عبث وكذا إن لم يكن لفائدة ثم قالوا ما ألزمتمونا به من الإفحام على تقدير الوجوب السمعي لازم لكم على تقدير الوجوب العقلي لأن وجوب النظر وإن كان عقليا إلا أنه كسبي فالمكلف إذا جاءه النبي وأمره باتباعه كان له أن يمتنع حتى يعرف صدقه ولا يعرف صدقه إلا بالنظر والنظر لا يجب عليه بالضرورة بل بالنظر فقبل النظر لا يعرف وجوبه فله أن يقول لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر وذلك يستلزم الإفحام أيضا.

٢٤٢

والجواب عن الأول التخصيص وهو حمل نفي التعذيب المتوقف على الرسالة على ترك التكليف السمعي ، أو تأول الرسول بالعقل جمعا بين الأدلة.

وعن الثاني أن الفائدة عاجلة وهي زوال الخوف وآجلة وهي نيل الثواب بالمعرفة الذي لا يمكن الابتداء به في الحكمة.

وعن الثالث أن وجوب النظر وإن كان نظريا إلا أنه فطري القياس فكان الإلزام عائدا على الأشاعرة دون المعتزلة.

قال : وملزوم العلم دليل والظن أمارة.

أقول : لما كان النظر متعلقا بما يستلزم العلم من الاعتقادات أو الظن وجب البحث عن المتعلق فالمستلزم للعلم يسمى دليلا والمستلزم للظن يسمى أمارة وقد يقال الدليل على معنى أخص من المذكور وهو الاستدلال بالمعلول على العلة.

قال : وبسائطه عقلية ومركبة لاستحالة الدور.

أقول : بسائط الدليل يعني به مقدماته فإن الدليل لما كان مركبا من مقدمتين كانت كل واحدة من تينك المقدمتين جزءا بسيطا بالنسبة إلى الدليل وإن كانت مركبة في نفس الأمر إذا عرفت هذا فالمقدمات قد تكون عقلية محضة وقد تكون مركبة من عقلي وسمعي ولا يمكن تركبها من سمعيات محضة وإلا لزم الدور لأن السمعي المحض ليس بحجة إلا بعد معرفة صدق الرسول وهذه المقدمة لو استفيدت بالسمع دار بل هي عقلية محضة فإذن إحدى مقدمات النقليات كلها عقلية والضابط في ذلك أن كل ما يتوقف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنقل وكل ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز إثباته بالعقل وما عدا هذين يجوز إثباته بهما.

قال : وقد يفيد اللفظي القطع.

أقول : قيل إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لتوقفه على أمور كلها ظنية وهي اللغة

٢٤٣

والنحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص والإضمار والنسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي والحق خلاف هذا فإن كثيرا من الأدلة اللفظية تعلم دلالتها على معانيها قطعا وانتفاء هذه المفاسد عنها.

قال : ويجب تأويله عند التعارض.

أقول : إذا تعارض دليلان نقليان أو دليل عقلي ونقلي وجب تأويل النقل أما مع تعارض النقلين فظاهر لامتناع تناقض الأدلة وأما مع تعارض العقلي والنقلي فكذلك أيضا وإنما خصصنا النقلي بالتأويل لامتناع العمل بهما وإلغائهما والعمل بالنقلي وإبطال العقلي لأن العقلي أصل للنقلي فلو أبطلنا الأصل لزم إبطال الفرع أيضا فوجب العدول إلى تأويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه.

قال : وهو قياس وقسيماه.

أقول : الضمير في وهو عائد على الدليل مطلقا واعلم أن الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام قياس واستقراء وتمثيل وإلى الأخيرين أشار بقوله وقسيماه وذلك لأن الاستدلال إما أن يكون بالعام على الخاص أو بالعكس أو بأحد المتساويين المندرجين تحت عام شامل لهما على الآخر فالأول هو أجلى الأدلة وأشرفها لإفادته اليقين وهو المسمى بالقياس أخذا من المحاذاة كان القائس يطلب محاذاة النتيجة للمقدمتين في العلم ، والثاني الاستقراء أخذا من قصد القرى قرية فقرية كأن المستقري يتبع الجزئيات والثالث التمثيل.

قال : فالقياس اقتراني واستثنائي.

أقول : القياس إما أن يكون المطلوب أو نقيضه مذكورا فيه بالفعل أو بالقوة والأول يسمى الاستثنائي والثاني الاقتراني مثال الأول إن كان هذا إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان ينتج أنه حيوان فالنتيجة مذكورة بالفعل ، أو نقول لكنه ليس بحيوان ينتج أنه ليس

٢٤٤

بإنسان فالنقيض مذكور في القياس بالفعل ، ومثال الثاني كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم ينتج كل إنسان جسم وهو مذكور في القياس بالقوة.

قال : فالأول باعتبار الصورة القريبة أربعة والبعيدة اثنان.

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أن القياس الاقتراني له اعتباران : أحدهما بحسب مادته أعني مقدماته ، والثاني بحسب صورته أعني الهيئة والترتيب اللاحقين به العارضين لمجموع المقدمات وهو ما يسمى باعتباره شكلا وهو بهذا الاعتبار على أربعة أقسام كل قسم سموه شكلا لأن الحد الأوسط إن كان محمولا في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الشكل الأول كقولنا كل (ج ب) وكل ب ا ، وإن كان محمولا فيهما فهو الثاني كقولنا كل (ج ب) ولا شيء من (ا ب) وإن كان موضوعا فيهما فهو الثالث كقولنا كل (ج ب) وكل (ج ا) وإن كان موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى فهو ، الرابع كقولنا كل (ج ب) وكل (ا ج) وهذه القسمة باعتبار الصورة القريبة وأما بالنظر إلى المادة فله اعتباران أيضا أحدهما باعتبار صورة كل مقدمة والثاني باعتبار مادتها فبالاعتبار الأول وهو اعتباره بالنظر إلى الصورة البعيدة ينقسم إلى قسمين حملي وشرطي فالحملي كما قلنا والشرطي كقولنا كلما كان (ا ب فج د) وكلما كان (ج د فه ز) ينتج كلما كان (ا ب فه ز) أو نقول كلما كان (ا ب) (فج د) وليس البتة إذا كان (ه ز فج د) أو نقول كلما كان (ا ب فج د) وكلما كان (ا ب فه ز) أو نقول كلما كان (ا ب فج د) وكلما كان (ه ز فا ب).

قال : وباعتبار المادة القريبة خمسة والبعيدة أربعة.

أقول : مقدمات القياس هي المادة البعيدة له باعتبار مقدمة مقدمة ومجموعها لا باعتبار صورة خاصة وشكل معين هي المادة القريبة ومقدمات القياس أربع : مسلمات ومظنونات ومشبهات ومخيلات هذا باعتبار المادة البعيدة وأما باعتبار المادة القريبة فأقسام القياس خمسة : البرهان والجدل والخطابة والسفسطة والشعر.

٢٤٥

قال : والثاني متصل فناتجه أمران وكذا غير الحقيقي من المنفصل ، ومنه ضعفه.

أقول : الثاني هو الاستثنائي وهو ضربان : الأول أن تكون مقدمته الشرطية متصلة وينتج منه قسمان : أحدهما استثناء عين المقدم لعين التالي ، والثاني استثناء نقيض التالي لنقيض المقدم. والثاني أن تكون منفصلة وهو قسمان أيضا : أحدهما أن تكون غير حقيقية ، والثاني أن تكون حقيقية فغير الحقيقية ضربان مانعة الجمع وينتج قسمان منها استثناء عين المقدم لنقيض التالي واستثناء عين التالي لنقيض المقدم ، ومانعة الخلو وينتج قسمان منها أيضا استثناء نقيض المقدم لعين التالي واستثناء نقيض التالي لعين المقدم ، وأما الحقيقية فإنها تنتج أربع نتائج من استثناء عين المقدم لنقيض التالي وبالعكس ، ومن استثناء عين التالي لنقيض المقدم وبالعكس.

قال : والأخيران يفيدان الظن وتفاصيل هذه الأشياء مذكورة في غير هذا الفن.

أقول : يريد بالأخيرين الاستقراء والتمثيل وهما يفيدان الظن لا العلم (واعلم) أن تفاصيل هذه الأشياء وبيان شرائطها مذكورة في علم المنطق وإنما انساق الكلام إليه هنا.

قال : والتعقل والتجرد متلازمان لاستلزام انقسام المحل انقسام الحال فإن تشابهت عرض الوضع للمجرد وإلا تركب مما لا يتناهى.

أقول : هذه المسألة وما بعدها من تتمة مباحث التعقل وقد ادعى هنا أن التعقل والتجرد متلازمان بمعنى أن كل عاقل مجرد وبالعكس (أما الأول) فاستدل عليه بعد ما تقدم بأن التعقل حال في ذات العاقل فذلك المحل إما أن ينقسم أو لا والثاني هو المراد والأول باطل لأن انقسام المحل يستدعي انقسام الحال إذ الحال إما أن يحل بتمامه في جزئي المحل أو في أحد جزأيه أو لا يحل في شيء منه والأول يلزم منه الانقسام إن كان الحال في أحد الجزءين غير الحال في الآخر أو تعدد الواحد إن اتحدا والثاني يفيد المطلوب

٢٤٦

والثالث خلاف الفرض فإذا ثبت ذلك فالجزءان إما أن يتشابها أو يختلفا والأول يستلزم وجود المقدار لما فرض مجردا والثاني يستلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء للصورة العقلية وذلك بحسب ما في المحل من الانقسامات الممكنة.

قال : ولاستلزام التجرد صحة المعقولية المستلزمة لإمكان المصاحبة.

أقول : هذا دليل الحكم الثاني وهو أن كل مجرد عاقل وتقريره أن كل مجرد فإنه يصح أن يكون معقولا بالضرورة إذ العائق عن التعقل إنما هو المادة لا غير وكلما صح أن يكون معقولا وحده صح أن يكون معقولا مع غيره وهو قطعي فإذن كل مجرد فإنه يصح أن يقارن غيره فنقول هذه الصحة إما أن تتوقف على ثبوت المجرد في العقل أو لا والأول محال لأن الثبوت في العقل نوع من المقارنة فيلزم توقف إمكان الشيء على وقوعه وهو باطل بالضرورة والثاني هو المطلوب.

وهذا الدليل عندي في غاية الضعف لأن توقف إمكان مقارنة المجرد المعقول للصورة المعقولة على ثبوت مقارنة المجرد للعقل لا يقتضي توقف الإمكان على الوقوع إذ الإمكان هنا عائد إلى مقارنة المعقول للمعقول وهي غير ، والثبوت عائد إلى مقارنة المعقول للعاقل وهي غير فلا يلزم ما ذكر من المحال.

المسألة الثالثة والعشرون

في أحكام القدرة

قال : ومنها القدرة وتفارق الطبيعة والمزاج بمقارنة الشعور والمغايرة في التابع.

أقول : لما فرغ من البحث عن العلم شرع في البحث عن القدرة وأشار بقوله ومنها أي ومن الكيفيات النفسانية لأنها صفة قائمة بذوات الأنفس.

واعلم أن الجسم من حيث هو غير مؤثر وإلا لتساوت الأجسام في ذلك وإنما يؤثر باعتبار صفة قائمة به ، والصفة المؤثرة إما أن تؤثر مع الشعور أو بدونه وعلى كلا التقديرين

٢٤٧

إما أن يتشابه التأثير أو يختلف فالأقسام أربعة أحدها الصفة المقترنة بالشعور المتفقة في التأثير وهي القوة الفلكية ، الثاني المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير وهي القوة الحيوانية أعني القدرة التي يأتي البحث عن أحكامها ، الثالث الصفة المؤثرة غير المقترنة بالشعور المتشابهة في التأثير وهي القوة الطبيعية ، الرابع غير المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير وتسمى النفس النباتية إذا عرفت هذا فنقول القدرة مغايرة للطبيعة والمزاج أما الأول فلوجوب اقترانها بالشعور بخلاف الطبيعة وأما الثاني فلأن المزاج كيفية متوسطة بين الحرارة والبرودة فيكون من جنسهما فتكون تابعة أعني تأثيره من جنس تأثيرهما وأما القدرة فإن تأثيرها مضاد لتأثيرهما وإلى هذا أشار بقوله والمغايرة في التابع.

قال : مصححة للفعل بالنسبة.

أقول : القدرة صفة تقتضي صحة الفعل من الفاعل لا إيجابه فإن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك معا فلو اقتضت الإيجاب لزم المحال ومعنى قوله بالنسبة أي باعتبار نسبة الفعل إلى الفاعل وذلك لأن الفعل صحيح في نفسه لا يجوز أن يكون للقدرة مدخل في صحته الذاتية لأن الإمكان للممكن واجب وأما نسبته إلى الفاعل فجاز أن يكون معللا هذا الذي فهمناه من قوله بالنسبة.

قال : وتعلقها بالطرفين.

أقول : هذا هو المشهور من مذهب الحكماء والمعتزلة وهو أن القدرة متعلقة بالضدين وقالت الأشاعرة إنما تتعلق بطرف واحد وهو خطأ لوقوع الفرق بين القادر والموجب.

قال : وتتقدم الفعل لتكليف الكافر وللتنافي ولزوم أحد محالين لولاه.

أقول : هذا مذهب الحكماء والمعتزلة وقالت الأشاعرة إنها مقارنة للفعل والضرورة قاضية ببطلان هذا فإن القاعد يمكنه القيام قطعا والأشاعرة بنوا مقالتهم على أصل لهم سيأتي بطلانه وهو أن العرض لا يبقى.

٢٤٨

ثم المعتزلة استدلوا على مقالتهم بوجوه ثلاثة : الأول أن القدرة لو لم تتقدم الفعل قبح تكليف الكافر والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله ، وبيان الملازمة أن تكليف ما لا يطاق قبيح فلو لم يكن الكافر متمكنا من الإيمان حال كفره لزم تكليف ما لا يطاق. الثاني لو لم تكن القدرة متقدمة على الفعل لزم استغناء الفعل عن القدرة مع فرض الحاجة إليها وهو تناف ظاهر وبيان الملازمة أن الحاجة إلى القدرة إنما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود وحالة الإخراج يستغني عن القدرة وقبله لا قدرة فلا حاجة إليها مع أن الفعل إنما يخرج بالقدرة وإلى هذا أشار المصنف بقوله وللتنافي. الثالث لو لم تكن القدرة متقدمة لزم إما حدوث قدرة الله تعالى أو قدم الفعل والقسمان محالان فالمقدم باطل وإلى هذا أشار بقوله ولزوم أحد محالين لولاه أي لو لا التقدم هذا ما خطر لنا في تفسير هذا الكلام.

ويمكن أن يكون قوله وللتنافي إشارة إلى دليل مغاير للدليل الثاني الذي ذكرناه وهو أن القدرة لو قارنت الفعل وقد بينا أن القدرة تتعلق بالضدين فيلزم حصول الضدين معا وهو تناف فيكون قوله ولزوم أحد محالين من تتمة هذا الكلام وهو أن نقول لو كانت القدرة مقارنة لزم اجتماع الضدين للقدرة عليهما وهو تناف فيلزم أحد محالين إما اجتماعهما مع تضادهما وتنافيهما أو إيجاب أحدهما فيتقدم على الآخر مع فرض المقارنة.

قال : ولا يتحد وقوع المقدور مع تعدد القادر.

أقول : لا يمكن وقوع مقدور واحد بقادرين وهو مما قد اختلف فيه والدليل عليه أنه لو وقع بهما لزم استغناؤه بكل واحد منهما عن كل واحد منهما حال حاجته إليه وهو باطل بالضرورة ويمكن تعلق القادرين بمقدور واحد بأن يكون ذلك الشيء مقدورا لكل واحد منهما وإن لم يقع إلا بأحدهما ولهذا قال ولا يتحد وقوع المقدور ولم يقل ولا يتحد المقدور.

قال : ولا استبعاد في تماثلها.

أقول : ذهب قوم من المعتزلة إلى أن القدر مختلفة وبنوه على أصل لهم وهو أنه لا

٢٤٩

تجتمع قدرتان على مقدور واحد وإلا لأمكن اتصاف ذاتين بهما فيجتمع على المقدور الواحد قادران وهو محال وإذا ثبت امتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد ثبت اختلاف القدر لأن التماثل في المتعلق يستلزم اتحاد المتعلق ونحن لما جوزنا تعلق القادرين بمقدور واحد اندفع هذا الدليل وحينئذ جاز وقوع التماثل فيها كغيرها من الأعراض.

قال : وتقابل العجز تقابل الملكة والعدم

أقول : العجز عند الأوائل وجمهور المعتزلة أنه عدم القدرة عما من شأنه أن يكون قادرا فهو عدم ملكة القدرة وذهبت الأشعرية إلى أنه معنى يضاد القدرة لأنه ليس جعل العجز عدما للقدرة أولى من العكس وهو خطأ فإنه لا يلزم من عدم الأولوية عندهم عدمها في نفس الأمر ولا من عدمها في نفس الأمر ثبوت العجز معنى.

قال : وتغاير الخلق لتضاد أحكامهما والفعل.

أقول : الخلق ملكة نفسانية تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير سابقة فكر وروية وهو مغاير للقدرة لتضاد أحكامهما لأن القدرة تتساوى نسبتها إلى الضدين والخلق ليس كذلك. والخلق أيضا يغاير الفعل لأنه قد يكون تكليفا.

المسألة الرابعة والعشرون

في الألم واللذة

قال : ومنها الألم واللذة وهما نوعان من الإدراك تخصصا بإضافة تختلف بالقياس.

أقول : من الكيفيات النفسانية الألم واللذة والمرجع بهما إلى الإدراك فهما نوعان منه تخصصا بإضافة تختلف بالقياس لأن اللذة عبارة عن إدراك الملائم ، والألم عبارة عن إدراك المنافي فهما نوعان من الإدراك تخصص كل واحد منهما بإضافة إلى الملائمة والمنافرة وهما أمران يختلفان بالقياس إلى الأشخاص إذ قد يكون الشيء ملائما

٢٥٠

لشخص ومنافرا لآخر.

قال : وليست اللذة خروجا عن الحالة الطبيعية لا غير.

أقول : نقل عن محمد بن زكريا الطبيب أن اللذة هي الخروج عن الحالة الطبيعية لأنها إنما تعرض بانفعال يعرض للحاسة يقتضيه تبدل حال وهو غير جيد فإنه أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ولهذا نلتذ بصورة نشاهدها من غير سابقة إبصار لها حتى لا تجعل اللذة عبارة عن الخلاص عن ألم الشوق.

قال : وقد يستند الألم إلى التفرق.

أقول : للألم سببان : أحدهما تفرق الاتصال فإن مقطوع اليد يحس بالألم بسبب تفرق اتصالها عن البدن وقد نازع في ذلك بعض المتأخرين بأن التفرق عدمي فلا يكون علة للوجودي وفيه نظر لأن التفرق ليس عدما محضا فجاز التعليل به على أن التفرق إنما كان علة بالعرض فإن العلة بالذات إنما هي سوء المزاج. الثاني سوء المزاج المختلف لأن الحمى توجب الألم ولا تفرق هناك وإنما قلنا المختلف لأن سوء المزاج المتفق لا يقتضي التألم.

قال : وكل منهما حسي وعقلي هو أقوى.

أقول : يريد قسمة الألم واللذة بالنسبة إلى الحس والعقل وذلك لأن جماعة أنكروا العقلي منهما والحق خلافه فإنا نلتذ بالمعارف وهي لذات عقلية لا تعلق للحس بها ونتألم بفقدانها بل هذه اللذة أقوى من اللذة الحسية ولهذا كثيرا ما تترك اللذة الحسية لأجل اللذة الوهمية لا العقلية فكيف العقلية وأيضا فإن الحس إنما يدرك ظواهر الأجسام ولا تعلق له بالأمور الكلية والعقل يدرك باطن الشيء ويميز بين الذاتيات والعوارض ويفرق بين الجنس والفصل فيكون إدراكه أتم فتكون اللذة فيه أقوى.

٢٥١

المسألة الخامسة والعشرون

في الإرادة والكراهة

قال : ومنها الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم.

أقول : من الكيفيات النفسانية الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم بالمعنى الأعم وذلك لأن الإرادة عبارة عن علم الحي أو اعتقاده أو ظنه بما في الفعل من المصلحة ، والكراهة علمه أو ظنه أو اعتقاده بما فيه من المفسدة ـ هذا مذهب جماعة ـ وقال آخرون إن الإرادة والكراهة زائدتان على هذا العلم مترتبتان عليه لأنا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشيء أو عنه مترتبا على هذا العلم. وهي تفارق الشهوة فإن المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه.

قال : وأحدهما لازم مع التقابل.

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أن أحدهما أي إرادة الشيء تستلزم كراهة ضده فإن الكراهة للضد أحدهما يعني أحد الأمرين إما الإرادة أو الكراهة لازم للإرادة للشيء مع تقابل المتعلقين أعني الشيء والضد وهذا حكم قد اختلف فيه فذهب الأكثر إليه وذهب قوم إلى أن إرادة الشيء نفس كراهة الضد وهو غلط من باب أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات.

ويحتمل أن يكون معنى قوله وأحدهما لازم مع التقابل أي أن أحدهما لازم للعلم قطعا إذ المعلوم إما أن يشتمل فعله على نوع من المصلحة أو على نوع من المفسدة فأحد الأمرين لازم لكن لا يلزمه أحدهما بعينه للتقابل بينهما بل اللازم واحد لا بعينه.

قال : ويتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل وغيره.

أقول : الذي يظهر لنا من هذا الكلام أن الإرادة والكراهة يتغاير اعتبارهما بالنسبة

٢٥٢

إلى الفاعل بالإرادة وغيره وذلك لأن الإرادة إن كانت لنفس فعل الفاعل من نفسه فهي عبارة عن صفة تقتضي تخصيصه بالإيجاد دون غيره مما عداه من الأفعال في وقت خاص دون غيره من سائر الأوقات ، وإن كانت لفعل الغير فإنها لا تؤخذ بهذا المعنى.

قال : وقد تتعلقان بذاتيهما بخلاف الشهوة والنفرة.

أقول : الإرادة قد تراد والكراهة قد تكره وهذا حكم ظاهر لكن الإرادة المتعلقة بالإرادة ليست هي الإرادة المتعلقة بالفعل لأن اختلاف المتعلقات يقتضي اختلاف المتعلقات أما الشهوة والنفرة فلا يصح تعلقهما بذاتيهما فالشهوة لا تشتهي وكذلك النفرة لا ينفر عنها لأن الشهوة والنفرة إنما تتعلقان بالمدرك لا بمعنى أنه يجب أن يكون موجودا فقد تتعلق الشهوة والنفرة بالمعدوم وهما غير مدركين.

قال : فهذه الكيفيات تفتقر إلى الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة مشروطة باعتدال المزاج عندنا.

أقول : هذه الكيفيات النفسانية التي ذكرها مشروطة بالحياة وهو ظاهر ثم فسر الحياة بأنها صفة تقتضي الحس والحركة وزادها إيضاحا بقوله مشروطة باعتدال المزاج ثم قيد ذلك بقوله عندنا ليخرج عنه حياة واجب الوجود فإنها غير مشروطة باعتدال المزاج ولا تقتضي الحس والحركة.

قال : فلا بد من البنية.

أقول : هذا نتيجة ما تقدم من اشتراط الحياة باعتدال المزاج فإن ذلك إنما يتحقق مع البنية وهذا ظاهر والأشاعرة أنكروا ذلك وجوزوا وجود حياة في محل غير منقسم بانفراده وهو ظاهر البطلان.

٢٥٣

قال : وتفتقر إلى الروح.

أقول : الحياة تفتقر إلى الروح وهي أجسام لطيفة متكونة من بخارية الأخلاط سارية في العروق تنبعث من القلب وحاجة الحياة إليها ظاهرة.

قال : وتقابل الموت تقابل العدم والملكة.

أقول : الموت هو عدم الحياة عن محل وجدت فيه فهو مقابل للحياة مقابلة العدم والملكة وذهب أبو على الجبائي إلى أنه معنى وجودي يضاد الحياة لقوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) والخلق يستدعي الإيجاد وهو ضعيف لأن الخلق هو التقدير وذلك لا يستدعي كون المقدور وجوديا.

المسألة السادسة والعشرون

في باقي الكيفيات النفسانية

قال : ومن الكيفيات النفسانية الصحة والمرض.

أقول : الصحة والمرض من الكيفيات النفسانية عند الشيخ أما الصحة فقد حدها في الشفاء بأنها ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مئوفة ، والمرض حالة أو ملكة مقابلة لتلك.

وهنا إشكال فإن المتضادين يدخلان تحت جنس واحد فالصحة إن دخلت في الحال والملكة فكذا المرض لكن أجناس المرض سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال فسوء المزاج إن كان هو الحرارة الزائدة مثلا فهو من الكيفيات الفعلية لا من الحال والملكة ، وإن كان هو اتصاف البدن بها فهو من مقولة أن ينفعل وسوء التركيب عبارة عن مقدار أو عدد أو وضع أو شكل أو انسداد مجرى يخل بالأفعال ولا شيء من هذه بحال ولا ملكة وتفرق الاتصال عدمي لا يدخل تحت مقولة.

٢٥٤

قال : والفرح والغم

أقول : الفرح أحد الكيفيات النفسانية وكذا الغم والسبب المعد للفرح كون حامله الذي هو الروح على أفضل أحواله في الكم والكيف ، والفاعل تخيل الكمال ، وأضداد هذه أسباب للغم.

قال : والغضب والحزن والهم والخجل والحقد.

أقول : هذه أيضا من الأعراض النفسانية واعلم أن جميع العوارض النفسانية تستلزم حركة الروح إما إلى داخل أو خارج والأول إن كانت كثيرة فكما في الفزع أو قليلة فكما في الحزن ، والثاني إما دفعة فكما في الغضب أو يسيرا يسيرا فكما في اللذة وقد يتفق أن يتحرك إلى جهتين دفعة واحدة إذا كان العارض يلزمه عارضان كالهم فإنه يوجد معه غضب وحزن فتختلف الحركتان ، وكالخجل الذي تنقبض الروح معه أولا إلى الباطن ثم يخطر بالبال انتفاء الضرر فتنبسط ثانيا ، ويعتبر في الحقد غضب ثابت وعدم سهولة الانتقام وعدم صعوبته.

المسألة السابعة والعشرون

في الكيفيات المختصة بالكميات

قال : والمختصة بالكمية إما المتصلة كالاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة ، أو المنفصلة كالزوجية والفردية.

أقول : لما فرغ من البحث عن الكيفيات النفسانية شرع في الكيفيات المختصة بالكميات ونعني بها الكيفية التي تعرض للكمية أولا وبالذات وللجسم ثانيا وبالعرض واعلم أن الكم على قسمين متصل ومنفصل أما المتصل فقد يعرض له الكيف مثل الاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة وأما المنفصل فقد

٢٥٥

يعرض له أيضا أنواع أخر من الكيف كالزوجية والفردية وغيرهما.

قال : فالمستقيم أقصر الخطوط الواصلة بين نقطتين وكما أنه موجود فكذا الدائرة.

أقول : رسم أرشميدس الخط المستقيم بأنه أقصر خط يصل بين نقطتين لأن كل نقطتين يمكن أن يوصل بينهما بخطوط غير مستقيمة مختلفة في الطول والقصر وبخط واحد مستقيم هو أقصرها (إذا عرفت هذا) فنقول الخط المستقيم موجود بالضرورة أما الدائرة وهي سطح مستو يحيط به خط واحد في داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية فقد اختلف الناس في وجودها فالذين أثبتوا ما لا ينقسم من ذوات الأوضاع نفوها والباقون أثبتوها وهو اختيار المصنف ـ رحمه‌الله ـ لأن الدائرة المحسوسة موجودة فإذا وصلنا بين المركز المحسوس منها وبين المحيط بخط ثم نقلنا طرف الخط الذي عند المحيط إلى جزء آخر فإن لم ينطبق عليه فإن كان لزيادة جزء أزلناه وإن كان لنقصان جزء ملأناه به وإن كان لنقصان أقل من جزء أو لزيادة أقل منه لزم انقسام الجوهر وإمكان العمل أيضا.

قال : والتضاد منتف عن المستقيم والمستدير فكذا عن عارضيهما.

أقول : إنه ربما توهم بعض الناس أن الخط المستقيم يضاد الخط المستدير للتنافي بينهما والتحقيق خلاف هذا فإن الضدين يجب اتحاد موضوعهما والموضوع هنا ليس بواحد إذ المستقيم يستحيل أن ينقلب إلى المستدير وبالعكس وأيضا فإن المستقيم قد يكون وترا لقسي غير متناهية كثرة وضد الواحد واحد لا غير وإذا انتفى التضاد عنهما فكذا عن عارضيهما ويفهم منه أمران : أحدهما أن التضاد منتف عن الاستقامة والاستدارة العارضتين للخط المستقيم والمستدير. والثاني أن التضاد منتف عن الحركتين الواقعتين على الخطين المستقيم والمستدير.

قال : والشكل هيئة إحاطة الحد أو الحدود بالجسم ومع انضمام اللون تحصل الخلقة.

أقول : ذكر القدماء أن الشكل ما أحاط به حد أو حدود والتحقيق أنه من باب

٢٥٦

الكيف فإنه هيئة تعرض للجسم بسبب إحاطة الحد الواحد أو الحدود به كالكرية والتربيع وهو مغاير للوضع بمعنى المقولة وإذا اعتبر الشكل واللون معا حصلت الخلقة.

قال : الثالث المضاف.

أقول : لما فرغ من البحث عن الكيف وأقسامه شرع في المضاف وهو المقولة الثالثة من المقولات العشر وهذا المقولة مع ما بعدها من المقولات كلها نسبية وهو قسم مقابل لما تقدم من المقولات وفي هذا القسم مسائل :

المسألة الأولى

في أقسامه

قال : وهو حقيقي ومشهوري.

أقول : المضاف قد يقال لنفس الإضافة أعني العارضة للشيء باعتبار قياسه إلى غيره كالأبوة والبنوة ويقال له المضاف الحقيقي فإنه لذاته يقتضي الإضافة وغيره إنما يقتضي الإضافة بواسطته ، ويقال للذات التي عرضت لها الإضافة بالفعل كالأب والابن ويسمى المضاف المشهوري. وقد يقال للذات نفسها مضاف مشهوري باعتبار كونها معروضة للإضافة.

المسألة الثانية

في خواصه

قال : ويجب فيه الانعكاس والتكافؤ بالفعل أو القوة

أقول : هاتان خاصتان مطلقتان للمضاف لا يشاركه فيهما غيره ، إحداهما وجوب الانعكاس فإنه كما أن الأب أب للابن فكذا الابن ابن للأب والمراد بالانعكاس الحكم

٢٥٧

بإضافة كل واحد منهما إلى صاحبه من حيث كان مضافا إليه كما مثلناه فإن لم تراع هذه الحيثية لم يجب الانعكاس كما تقول الأب أب للإنسان (الثانية) التكافؤ في الوجود بالفعل أو القوة والمتقدم مصاحب للمتأخر ذهنا.

قال : ويعرض للموجودات أجمع.

أقول : المضاف الحقيقي يعرض لجميع الموجودات كما يقال للواجب تعالى قادر عالم خالق رازق ويقال لنوع من الجواهر أنه أب وابن وغيرهما ويقال للخط طويل وقصير وللعدد قليل وكثير وللكيف أسخن وأبرد وللمضاف كالأقرب والأبعد وللأين أعلى وأسفل وللمتى أقدم وأحدث وللوضع أشد استقامة وانحناء وللملك أكسى وأعرى وللفعل أقطع وأصرم وللانفعال أشد تسخنا وتقطعا.

المسألة الثالثة

في أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان

قال : وثبوته ذهني وإلا تسلسل ولا ينفع تعلق الإضافة بذاتها.

أقول : اختلف العقلاء هنا فذهب قوم إلى أن الإضافة ثابتة في الأعيان لأن فوقية السماء ليست عدما محضا ولا أمرا ذهنيا غير مطابق وقال آخرون إنها عدمية في الأعيان ثابتة في الأذهان وهو اختيار المصنف ـ رحمه‌الله ـ وأكثر المحققين والدليل عليه وجوه ذكرها المصنف : أحدها أن الإضافة لو كانت ثابتة في الأعيان لزم التسلسل لأن حلولها في المحل إضافة أخرى وحلول ذلك الحلول ثابت يستدعي محلا وحلولا وذلك يوجب التسلسل.

أجاب الشيخ أبو علي بن سينا عن هذا بأن قال : يجب أن نرجع في حل هذه الشبهة إلى حد المضاف المطلق فنقول : المضاف هو الذي ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره ، فكل شيء في الأعيان يكون بحسب ماهيته إنما يقال بالقياس إلى غيره فذلك الشيء هو المضاف ، لكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة فالمضاف في الأعيان موجود. ثم إن

٢٥٨

كان في المضاف ماهية أخرى فينبغي أن يجرد ما له من المعنى المقول بالقياس إلى غيره فذلك المعنى هو بالحقيقة المعنى المقول بالقياس إلى غيره ، وغيره إنما هو مقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى ، وهذا المعنى ليس مقولا بالقياس إلى غيره بسبب شيء غير نفسه بل هو مضاف لذاته فليس هناك ذات وشيء هو الإضافة بل هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فتنتهي من هذا الطريق الإضافات. وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضع فله وجود آخر ـ مثلا وجود الأبوة في الأب ـ أمر زائد على ذات الأب ، وذلك الموجود أمر مضاف أيضا فليكن هذا عارضا من المضاف لذي المضاف وكل واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه لا لإضافة أخرى. فالكون محمولا مضاف لذاته ، والكون أبوة مضاف لذاته.

وهذا الكلام على طوله غير مفيد للمطلوب لأن التسلسل الذي ألزمناه ليس من حيث إن المضاف الذي هو المقولة يكون مضافا بإضافة أخرى حتى تقسم الأشياء إلى ما هو مضاف بذاته وإلى ما هو مضاف بغيره بل من حيث إن المضاف الحقيقي كالأبوة تفتقر إلى محل تتقوم به لعرضيتها وحلولها في ذلك المحل إضافة لها إلى ذلك المحل يستدعي محلا وحلولا ويتسلسل وإلى هذا أشار المصنف ـ رحمه‌الله ـ بقوله ولا ينفع تعلق الإضافة بذاتها أي تعلق الإضافة بالمضاف إليه لذاتها لا لإضافة أخرى.

قال : ولتقدم وجودها عليه.

أقول : هذا وجه ثان دال على أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان وتقريره أنها لو كانت ثبوتية لشاركت الموجودات في الوجود وامتازت عنها بخصوصية ما فاتصاف وجودها بتلك الخصوصية إضافة سابقة على وجود الإضافة فيلزم تقدم وجود الإضافة على وجودها وهو محال فالضمير في عليه يرجع إلى وجودها. ويحتمل عوده إلى المحل ويكون معنى الكلام أن الإضافة لو كانت موجودة لزم تقدمها على محلها لأن وجود محلها حقيقة له فاتصافه به نوع إضافة سابق على وجود الإضافة ، وأعاد الضمير إليه من غير ذكر لفظي لظهوره.

٢٥٩

قال : ولزم عدم التناهي في كل مرتبة من مراتب الأعداد.

أقول : هذا وجه ثالث وتقريره أن الإضافات لو كانت ثابتة في الأعيان لزم أن تكون كل مرتبة من مراتب الأعداد تجتمع فيه إضافات وجودية لا تتناهى لأن الاثنين مثلا له اعتبار بالنسبة إلى الأربعة وتعرض له بذلك الاعتبار إضافة النصفية ، وإلى الستة وتعرض له بحسبه إضافة الثلثية ، وهكذا إلى ما لا يتناهى وهو محال : أما أولا فلما بينا من امتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا ، وأما ثانيا فلأن تلك الإضافات موجودة دفعة ومترتبة في الوجود باعتبار تقدم بعض المضاف إليه على بعض فيلزم اجتماع أعداد لا تتناهى دفعة مترتبة وهو محال اتفاقا ، وأما ثالثا فلأن وجود الإضافات يستلزم وجود المضاف إليه فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأعداد دفعة من ترتبها وكل ذلك مما برهن على استحالته.

قال : وتكثر صفاته تعالى.

أقول : هذا وجه رابع وتقريره أن الإضافات لو كانت وجودية لزم وجود صفات الله تعالى متكثرة لا تتناهى لأن له إضافات لا تتناهى وذلك محال.

المسألة الرابعة

في باقي مباحث الإضافة.

قال : ويخص كل مضاف مشهوري مضاف حقيقي فيعرض له الاختلاف والاتفاق إما باعتبار زائد أو لا.

أقول : المضاف المشهوري كالأب يعرض له مضاف حقيقي كالأبوة وكذا الابن تعرض له البنوة فكل مضاف مشهوري يعرض له مضاف حقيقي ولا يمكن أن يكون مضاف حقيقي واحد عارضا لمضافين مشهوريين لامتناع قيام عرض واحد بمحلين فإذا كان كل مضاف مشهوري يعرض له مضاف حقيقي عرض حينئذ الاختلاف في المضاف

٢٦٠