كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

عرض قائم بالمحل وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الصوت جوهر ينقطع بالحركة وهو خطأ لأن الجوهر يدرك باللمس والبصر والصوت ليس كذلك.

وذهب آخرون إلى أنه عبارة عن التموج الحاصل في الهواء من القلع أو القرع ، وآخرون قالوا إنه القلع أو القرع.

وهذان المذهبان باطلان وسبب غلطهم أخذ سبب الشيء مكانه فإن الصوت معلول للتموج المعلول للقرع أو القلع وليس هو أحدها لأنها تدرك بحس البصر بخلاف الصوت. إذا عرفت هذا فاعلم أن القلع أو القرع إذا حصل حدث تموج بين القارع والمقروع في الهواء وانتقل ذلك التموج إلى سطح الصماخ فأدرك الصوت ولا نعني بذلك أن تموجا واحدا ينتقل بعينه إلى الصماخ بل يحصل تموج بعد تموج عن صدم بعد آخر كما في تموج الماء إلى أن يصل إلى الحس.

قال : بشرط المقاومة.

أقول : القرع إنما يحصل معه الصوت إذا حصلت المقاومة بين القارع والمقروع فإنك لو ضربت خشبة على وجه الماء بحيث تحصل المقاومة فإنه يحدث الصوت ولو وضعتها عليه بسهولة لم يحصل الصوت ولا يشترط الصلابة لحصول الصوت من الماء والهواء ولا صلابة هناك.

قال : في الخارج.

أقول : ذهب قوم إلى أن الصوت ليس بحاصل في الخارج بل إنما يحصل عند الصماخ وهو ما إذا تموج الهواء وانتهى التموج إلى قرع سطح الصماخ فيحصل الصوت وهو خطأ وإلا لم تدرك الجهة ولا البعد كما في اللمس حيث كان إدراكه بالملاقاة. ولا يمكن أن يقال أن إدراك الجهة إنما كان لأن القرع توجه من تلك الجهة وإدراك البعد لأن ضعف الصوت وقوته يدل على القرب والبعد لأنا لو سددنا الأذن اليسرى لأدركنا باليمنى جهة الصوت الحاصل من الجهة اليسرى والضعف لو كان للبعد لم نفرق بين القوي البعيد

٢٢١

والضعيف القريب.

قال : ويستحيل بقاؤه لوجوب إدراك الهيئة الصورية.

أقول : الصوت يستحيل عليه البقاء خلافا للكرامية والدليل عليه أنا إذا سمعنا لفظة زيد أدركنا الهيئة الصورية أعني ترتيب الحروف وتقديم بعضها على بعض ولو كانت أجزاء الحروف باقية لم يكن إدراك هذا الترتيب أولى من باقي التركيبات الخمسة.

قال : ويحصل منه آخر.

أقول : الصوت إنما يحصل باعتبار التموج في الهواء الواصل إلى سطح الصماخ وقد بينا وجوده في الخارج فإذا تأدى التموج إلى جسم كثيف مقاوم لذلك التموج رده فحصل منه تموج آخر وحصل من ذلك التموج الآخر صوت آخر هو الصدى والظاهر أن هذا الصدى إنما يحصل من تموج الهواء الحاصل بين الهواء المتموج المتوجه إلى المقاوم وبين ذلك المقاوم لا من الهواء المتوجه بعد صدمه للمقابل وإن كان فيه احتمال ، وكلام المصنف ـ رحمه‌الله ـ محتمل لهما لأن قوله ويحصل منه آخر يحتمل كلا المعنيين.

قال : وتعرض له كيفية مميزة ، تسمى باعتبارها حرفا.

قوله : تعرض للصوت كيفية يتميز بها عن صوت آخر مثله تميزا في المسموع يسمى الصوت باعتبار تلك الكيفية حرفا وهي حروف التهجي وحصرها غير معلوم بالبرهان.

قال : إما مصوت أو صامت ، متماثل أو مختلف بالذات أو بالعرض.

أقول : تنقسم الحروف إلى قسمين مصوت وصامت فالمصوت هو حرف المد واللين أعني الواو والألف والياء وهي إنما تحصل في زمان ، وإما صامت وهو ما عداها والصامت إما متماثل كالجيم والجيم أو مختلف والمختلف إما بالذات كالجيم والحاء أو

٢٢٢

بالعرض وهو إما أن يكون أحد الجيمين مثلا ساكنا والآخر متحركا أو يكون أحدهما متحركا بحركة والآخر بضدها.

قال : وينتظم منها الكلام بأقسامه.

أقول : هذه الحروف المسموعة إذا تألفت تأليفا مخصوصا أي بحسب الوضع سميت كلاما فحد الكلام على هذا هو ما انتظم من الحروف المسموعة ويدخل فيه المفرد وهو الكلمة الواحدة ، والمؤلف التام وهو المحتمل للصدق والكذب وغير المحتمل لهما من الأمر والنهي والاستفهام والتعجب والنداء وغير التام التقييدي وغيره وإلى هذا أشار بقوله بأقسامه.

قال : ولا يعقل غيره.

أقول : يريد أن الكلام إنما هو المنتظم من الحروف المسموعة ولا يعقل غيره وهو ما أطبق عليه المعتزلة. والأشاعرة أثبتوا معنى آخر سموه الطلب والكلام النفساني غير مؤلف من الحروف والأصوات يدل هذا الكلام عليه وهو مغاير للإرادة لأن الإنسان قد يأمر بما لا يريد إظهارا لتمرد العبد عند السلطان فيحصل عذره في ضربه ، ومغاير لتخيل الحروف لأن تخيلها تابع لها ومختلف باختلافها وهذا المعنى لا يختلف وظاهر أنه مغاير للحياة والقدرة وغيرهما من الأعراض والمعتزلة بالغوا في إنكار هذا المعنى وادعوا الضرورة في نفيه وقالوا الأمر إنما يعقل مع الإرادة وليس الطلب مغايرا لها وحينئذ يصير النزاع هنا لفظيا.

المسألة الثامنة

في البحث عن المطعومات

قال : ومنها المطعومات التسع الحادثة من تفاعل الثلاث في مثلها.

أقول : المشهور عند الأوائل أن الجسم إن كان عديم الطعم فهو التفه وتعد التفاهة من

٢٢٣

الطعوم التسعة ، وإن كان ذا طعم لم ينفك عن أحد الطعوم الثمانية وهي الحلاوة والحموضة والملوحة والحرافة والمرارة والعفوصة والقبض والدسومة وهذه الطعوم التسعة تحصل من تفاعل ثلاث كيفيات هي الحرارة والبرودة والكيفية المعتدلة في مثلها في العدد أعني ثلاث كيفيات لا مثلها في الحقيقة وهي الكثافة واللطافة والكيفية المعتدلة فإن الحار إن فعل في الكثيف حدثت المرارة ، وفي اللطيف الحرافة ، وفي المعتدل الملوحة ، والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة ، وفي اللطيف الحموضة وفي المعتدل القبض ، والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدسومة وفي الكثيف الحلاوة وفي المعتدل التفاهة.

المسألة التاسعة

في البحث عن المشمومات

قال : ومنها المشمومات ولا أسماء لأنواعها إلا من حيث الموافقة والمخالفة.

أقول : من أنواع الكيفيات المحسوسة الروائح المدركة بحاسة الشم ولم يوضع لأنواعها أسماء مختصة بها كما وضعوا لغيرها من الأعراض بل ميزوا بينها من حيث الموافقة والمخالفة فيقال رائحة طيبة ورائحة منتنة ، أو من حيث إضافتها إلى المحل كرائحة المسك.

المسألة العاشرة

في البحث عن الكيفيات الاستعدادية

قال : والاستعدادات المتوسطة بين طرفي النقيض.

أقول : لما فرغ من البحث عن الكيفيات المحسوسة شرع في القسم الثاني من أقسام الكيف الأربعة وهي الكيفيات الاستعدادية وهي ما يترجح به القابل في أحد جانبي قبوله وهي متوسطة بين طرفي النقيض أعني الوجود والعدم وذلك لأن الرجحان لا يزال يتزايد في أحد طرفي الوجود والعدم إلى أن ينتهي إليهما فذلك الرجحان القابل للشدة

٢٢٤

والضعف المتوسط بين طرفي الوجود والعدم هو الكيف الاستعدادي وطرفاه الوجود والعدم وهذا الرجحان إن كان نحو الفعل فهو القوة وإن كان نحو الانفعال فهو اللاقوة.

المسألة الحادية عشرة

في البحث عن الكيفيات النفسانية

قال : والنفسانية حال أو ملكة.

أقول : هذا هو القسم الثالث من أقسام الكيف وهو الكيفيات النفسانية ونعني بها المختصة بذوات الأنفس وهي إما أن تكون سريعة الزوال وتسمى حالا لسرعة زوالها ، وأما بطيئة الزوال وتسمى ملكة والفرق بينهما ليس بفصول مميزة بل بعوارض خارجية وربما كان الشيء حالا ثم صار بعينه ملكة.

المسألة الثانية عشرة

في البحث عن العلم بقول مطلق

قال : منها العلم وهو إما تصور أو تصديق جازم مطابق ثابت.

أقول : من الكيفيات النفسانية العلم وقسمه إلى التصور وهو عبارة عن حصول صورة الشيء في الذهن ، وإلى التصديق الجازم المطابق الثابت وهو الحكم اليقيني بنسبة أحد المتصورين إلى الآخر إيجابا أو سلبا. وإنما شرط في التصديق الجزم لأن الخالي منه ليس بعلم بهذا المعنى وإن كان قد يطلق عليه اسم العلم بالمجاز وإنما هو الظن ، وشرط المطابقة لأن الخالي منها هو الجهل المركب ، وشرط الثبات لأن الخالي منه هو التقليد أما الجامع لهذه الصفات فهو العلم خاصة.

قال : ولا يحد.

أقول : اختلف العقلاء في العلم فقال قوم : إنه لا يحد لظهوره فإن الكيفيات

٢٢٥

الوجدانية لظهورها لا يمكن تحديدها لعدم انفكاكه عن تحديد الشيء بالأخفى والعلم منها ، ولأن غير العلم إنما يعلم بالعلم فلو علم العلم بغيره لزم الدور. وقال آخرون يحد فقال بعضهم إنه اعتقاد أن الشيء كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا ، وقال آخرون إنه اعتقاد يقتضي سكون النفس وكلاهما غير مانعين.

قال : ويقتسمان الضرورة والاكتساب.

أقول : يريد أن كل واحد من التصور والتصديق ينقسم إلى الضروري والمكتسب يريد بالضروري من التصور ما لا يتوقف على طلب وكسب ، ومن التصديق ما يكفي تصور طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو سلبا ، وبالمكتسب ضد ذلك فيهما.

المسألة الثالثة عشرة

في أن العلم يتوقف على الانطباع

قال : ولا بد فيه من الانطباع.

أقول : اختلف العلماء في ذلك فذهب جمهور الأوائل إلى أن العلم يستدعي انطباع المعلوم في العالم وأنكره آخرون ، احتج الأولون بأنا قد ندرك أشياء لا تحقق لها في الخارج فلو لم تكن منطبعة في الذهن كانت عدما صرفا ونفيا محضا فيستحيل الإضافة إليها.

واحتج الآخرون بوجهين : الأول أن التعقل لو كان هو حصول صورة المعقول في العاقل لزم أن يكون الجدار المتصف بالسواد متعقلا له والتالي باطل فكذا المقدم ، الثاني أن الذهن قد يتصور أشياء متقدرة فيلزم حصول المقدار فيه فيكون متقدرا والجواب عنهما سيأتي.

قال : في المحل المجرد القابل.

أقول : هذا إشارة إلى الجواب عن الإشكالين وتقريره أن المحل الذي جعلناه عاقلا

٢٢٦

مجرد عن المواد كلها والمجرد لا يتصف بالمقدار باعتبار حلول صورته فيه فإن صورة المقدار لا يلزم أن تكون مقدارا ، وأيضا هذه الصورة القائمة بالعاقل حالة في محل قابل لها فلهذا كان عاقلا لها أما الجسم فليس محلا قابلا لتعقل السواد فلا يلزم أن يكون متعقلا له.

قال : وحلول المثال مغاير.

أقول : هذا إشارة إلى كيفية حلول الصورة في العاقل وتقريره أن الحال في العاقل إنما هو مثال المعقول وصورته لا ذاته ونفسه ولهذا جوزنا حصول صورة الأضداد في النفس ولم نجوز حصول الأضداد في محل واحد في الخارج فعلم أن حلول مثال الشيء وصورته مغاير لحلول ذلك الشيء ولما كان هذا الكلام مما يستعان به على حل ما تقدم من الشكوك ذكره عقيبه.

قال : ولا يمكن الاتحاد.

أقول : ذهب قوم من أوائل الحكماء إلى أن التعقل إنما يكون باتحاد صورة المعقول والعاقل وهو خطأ فاحش فإن الاتحاد محال على ما تقدم ، ويلزمه أيضا المحال من وجه آخر وهو اتحاد الذوات المعقولة.

وكذلك ذهب آخرون إلى أن التعقل يستدعي اتحاد العاقل بالعقل الفعال وهو خطأ لما تقدم ولاستلزامه تعقل كل شيء عند تعقل شيء واحد.

قال : ويختلف باختلاف المعقول.

أقول : اختلف الناس هنا فذهب قوم إلى جواز تعلق علم واحد بمعلومين ومنعه آخرون وهو الحق لأنا قد بينا أن التعقل هو حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وصور الأشياء المختلفة تختلف باختلافها فلا يمكن أن تكون صورة واحدة لمختلفين فلا يتعلق علم واحد باثنين وإنما جوز ذلك من جعل العلم أمرا وراء الصورة.

٢٢٧

قال : كالحال والاستقبال.

أقول : هذا إشارة إلى إبطال مذهب جماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أن العلم بالاستقبال علم بالحال عند حضور الاستقبال فقالوا إن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد وإنما دعاهم إلى ذلك ما ثبت من أن الله تعالى عالم بكل معلوم فإذا علم أن زيدا سيوجد ثم وجد فإن زال العلم الأول وتجدد علم آخر لزم كونه تعالى محلا للحوادث وإن لم يزل كان هو المطلوب. وهذا خطأ فاحش فإن العلم بأن الشيء سيوجد علم بالعدم الحالي والوجود في ثاني الحال والعلم بأن الشيء موجود غير مشروط بالعدم الحالي بل هو مناف له فيستحيل اتحادهما والوجه في حل الشبهة المذكورة ما التزمه أبو الحسين هنا من أن الزائل هو التعلقات الحاصلة بين العلم والمعلوم لا العلم نفسه ، وسيأتي زيادة تحقيق في هذا الموضع إن شاء الله تعالى.

قال : ولا يعقل إلا مضافا فيقوى الإشكال مع الاتحاد.

أقول : اعلم أن العلم وإن كان من الكيفيات الحقيقية القائمة بالنفس فإنه لا يعقل إلا مضافا إلى الغير فإن العلم علم بالشيء ولا يعقل تجرده عن الإضافة حتى أن بعضهم توهم أنه نفس الإضافة الحاصلة بين العالم والمعلوم ولم يثبت أمرا حقيقيا مغايرا للإضافة إذا عرفت هذا فإن الإشكال يقوى مع الاتحاد هكذا قاله المصنف ـ رحمه‌الله ـ والذي يلوح منه أن العاقل والمعقول إذا كانا شيئا واحدا كما إذا عقل نفسه توجه الإشكال عليه بأن يقال انتم قد جعلتم العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم وهذا لا يتأتى هاهنا لاستحالة اجتماع الأمثال ويقوى الإشكال باعتبار الإضافة إذ الإضافة إنما تعقل بين شيئين لا بين الشيء الواحد ونفسه فلا يتحقق علم الشيء بذاته.

والجواب عن الأول أن العلم إنما يستدعي الصورة لو كان العالم عالما بغيره أما عالم ذاته فإن ذاته يكفي في علمه من غير احتياج إلى صورة أخرى.

وعن الثاني أن العاقل من حيث إنه عاقل مغاير له من حيث إنه معقول فأمكن

٢٢٨

تحقق الإضافة ، ولأن العالم هو الشخص والمعلوم هو الماهية الكلية.

وهذان رديان : أما الأول فلأن المغايرة بين العاقل من حيث إنه عاقل والمعقول من حيث إنه معقول متوقفة على التعقل فلو جعلنا التعقل متوقفا على هذا النوع من التغاير دار. وأما الثاني فلأن العالم هاهنا يكون عالما بجزئه وليس البحث فيه.

قال : وهو عرض لوجود حده فيه.

أقول : ذهب المحققون إلى أن العلم عرض وأكثر الناس كذلك في العلم بالعرض واختلفوا في العلم بالجوهر فالذين قالوا إن العلم إضافة بين العالم والمعلوم قالوا إنه عرض أيضا ، والذين قالوا إن العلم صورة اختلفوا فقال بعضهم إنه جوهر لأن حده صادق عليه إذ الصورة الذهنية ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع وهذا معنى الجوهر ، والمحققون قالوا إنه عرض أيضا لوجود حد العرض فيه فإنه موجود حال في النفس لا كجزء منها وهذا معنى العرض واستدلال القائلين بأنه جوهر خطأ لأن الصورة الذهنية يمتنع وجودها في الخارج وإنما الموجود ما هي مثال له.

المسألة الرابعة عشرة

في أقسام العلم

قال : وهو فعلي وانفعالي وغيرهما.

أقول : العلم منه ما هو فعلي وهو المحصل للأشياء الخارجية كعلم واجب الوجود تعالى بمخلوقاته ، وكما إذا تصورنا نقشا لم نستفد صورته من الخارج ثم أوجدنا في الخارج ما يطابقه ، ومنه انفعالي وهو المستفاد من الأعيان الخارجية كعلمنا بالسماء والأرض وأشباههما ، ومنه ما ليس أحدهما كعلم واجب الوجود تعالى بذاته.

قال : وضروري أقسامه ستة ، ومكتسب.

أقول : قد تقدم أن العلم إما ضروري وإما كسبي ومضى تفسيرهما وأقسام الضروري

٢٢٩

ستة : البديهيات وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته لا لسبب خارجي سوى تصور طرفيها كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء وغيره من البديهيات ، الثاني المشاهدات وهي إما مستفادة من حواس ظاهرة كالحكم بحرارة النار أو من الحواس الباطنة وهي القضايا الاعتبارية بمشاهدة قوى غير الحس الظاهر ، أو بالوجدان من النفس لا باعتبار الآلات مثل شعورنا بذواتنا وبأفعالنا ، الثالث المجريات وهي قضايا تحكم بها النفس باعتبار تكرار المشاهدات كالحكم بأن الضرب بالخشب مولم ، وتفتقر إلى أمرين المشاهدة المتكررة والقياس الخفي وهو أنه لو كان الوقوع على سبيل الاتفاق لم يكن دائما ولا أكثريا والفارق بين هذه وبين الاستقراء هو القياس ، الرابع الحدسيات وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي من النفس يزول معه الشك كالحكم باستفادة نور القمر من الشمس ، وتفتقر إلى المشاهدة المتكررة والقياس الخفي إلا أن الفارق بين هذه وبين المجربات أن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالاعتبارين ، الخامس المتواترات وهي قضايا تحكم بها النفس لتوارد أخبار المخبرين عليها بحيث يزول معه الشك بعدم الاتفاق بين المخبرين والتواطؤ السادس فطرية القياس وهي قضايا تحكم بها النفس باعتبار وسط لا ينفك الذهن عنه.

قال : وواجب وممكن.

أقول : العلم ينقسم إلى واجب وهو علم واجب الوجود بذاته ، وإلى ممكن وهو ما عداه ، وإنما كان الأول واجبا لأنه نفس ذاته الواجبة.

قال : وهو تابع بمعنى أصالة موازيه في التطابق.

أقول : اعلم أن التابع يطلق على ما يكون متأخرا عن المتبوع ، وعلى ما يكون مستفادا منه ، وهما غير مرادين في قولنا العلم تابع للمعلوم فإن العلم قد يتقدم المعلوم زمانا وقد يفيد وجوده كالعلم الفعلي وإنما المراد هنا كون العلم والمعلوم متطابقين بحيث إذا تصورهما العقل حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق وأن العلم تابع له وحكاية عنه وأن ما عليه

٢٣٠

العلم فرع على ما عليه المعلوم وعلى هذا التقدير يجوز تأخر المعلوم الذي هو الأصل عن تابعه فإن العقل يجوز تقدم الحكاية على المحكي.

قال : فزال الدور.

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أمران أحدهما أن يقال قد قسمتم العلم إلى أقسام من جملتها الفعلي الذي هو العلة في وجود المعلوم وهاهنا جعلتم جنس العلم تابعا فلزمكم الدور إذ تبعية الجنس تستلزم تبعية أنواعه وتقرير الجواب عن هذا أن نقول نعني بتبعية العلم ما قررناه من كون العلم والمعلوم متطابقين على وجه إذا تصورهما العقل حكم بأن الأصل في هيئة التطابق هو ما عليه المعلوم وأن ما عليه العلم فرع عليه ووجه الخلاص من الدور بهذا التحقيق أن العلم الفعلي محصل للمعلوم في الخارج لا مطلقا.

الثاني أن يقال المتبوع يجب أن يتقدم التابع بأحد أنواع التقدم الخمسة وهاهنا لا تقدم بالشرف ولا بالوضع لأنهما غير معقولين فبقي أن يكون التقدم هنا بالذات أو بالعلية أو بالزمان وعلى هذه التقادير الثلاثة يمتنع الحكم بتأخر المتبوع عن التابع في الزمان ولا شك في أن علم الله تعالى الأزلي ، والعلوم السابقة على الصور الموجودة في الخارج متقدمة بالزمان والمتأخر عن غيره بالزمان يمتنع أن يكون متقدما عليه بنوع ما من أنواع التقدمات بالاعتبار الذي كان به متأخرا عنه والجواب عنه ما تقدم أيضا.

المسألة الخامسة عشرة

في توقف العلم على الاستعداد

قال : ولا بد فيه من الاستعداد أما الضروري فبالحواس وأما الكسبي فبالأول.

أقول : قد بينا أن العلم إما ضروري وإما كسبي وكلاهما حصل بعد عدمه إذ الفطرة البشرية خلقت أولا عارية عن العلوم ثم يحصل لها العلم بقسميه فلا بد من استعداد سابق مغاير للنفس وفاعل للعلم فالضروري فاعله هو الله تعالى إذ القابل لا يخرج المقبول من

٢٣١

القوة إلى الفعل بذاته وإلا لم ينفك عنه وللقبول درجات مختلفة في القرب والبعد وإنما تستعد النفس للقبول على التدريج فتنتقل من أقصى مراتب البعد إلى أدناها قليلا قليلا لأجل المعدات التي هي الإحساس بالحواس على اختلافها والتمرن عليها وتكرارها مرة بعد أخرى فيتم الاستعداد لإفاضة العلوم البديهية الكلية من التصورات والتصديقات فهي كليات تلك المحسوسات.

وأما النظرية فإنها مستفادة من النفس أو من الله تعالى على اختلاف الآراء لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهية أما في التصورات فبالحد والرسم وأما في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدمات الضرورية.

المسألة السادسة عشرة

في المناسبة بين العلم والإدراك

قال : وباصطلاح يفارق الإدراك مفارقة الجنس النوع وباصطلاح آخر مفارقة النوعين.

أقول : اعلم أن العلم يطلق على الإدراك للأمور الكلية كاللون والطعم مطلقا ، ويطلق الإدراك على الحضور عند المدرك مطلقا فيكون شاملا للعلم وللإدراك الجزئي أعني المدرك بالحس كهذا اللون وهذا الطعم ولا يطلق العلم على هذا النوع من الإدراك ولذلك لا يصفون الحيوانات العجم بالعلم وإن وصفوها بالإدراك فيكون الفرق بين العلم والإدراك مطلقا على هذا الاصطلاح فرق ما بين النوع والجنس النوع هو العلم والجنس هو الإدراك.

وقد يطلق الإدراك باصطلاح آخر على الإحساس لا غير فيكون الفرق بينه وبين العلم هو الفرق ما بين النوعين الداخلين تحت الجنس وهو الإدراك مطلقا هنا.

المسألة السابعة عشرة

في أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول

قال : وتعلقه على التمام بالعلة يستلزم تعلقه كذلك بالمعلول.

أقول : العلم بالعلة يقع باعتبارات ثلاثة : الأول العلم بماهية العلة من حيث هي

٢٣٢

ذات وحقيقة لا باعتبار آخر وهذا لا يستلزم العلم بالمعلول لا على التمام ولا على النقصان.

الثاني العلم بها من حيث هي مستلزمة لذات أخرى وهو علم ناقص بالعلة فيستلزم علما ناقصا بالمعلول من حيث إنه لازم للعلة لا من حيث ماهيته.

الثالث العلم بذاتها وماهيتها ولوازمها وملزوماتها وعوارضها ومعروضاتها وما لها في ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير وهذا هو العلم التام بالعلة وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإن ماهية المعلول وحقيقته لازمة لماهية العلة وقد فرض تعلق العلم بها من حيث ذاتها ولوازمها.

المسألة الثامنة عشرة

في مراتب العلم

قال : ومراتبه ثلاث.

أقول : ذكر الشيخ أبو علي أن للتعقل ثلاث مراتب : الأولى أن يكون بالقوة المحضة وهو عدم التعقل عما من شأنه ذلك ، الثانية أن يكون بالفعل التام كما إذا علم الشيء علما تفصيليا ، الثالثة العلم بالشيء إجمالا كمن علم مسألة ثم غفل عنها ثم سئل عنها فإنه يحضر الجواب عنها في ذهنه وليس ذلك بالقوة المحضة لأنه في الوقت عالم باقتداره على الجواب وهو يتضمن علمه بذلك الجواب وليس علما بها على جهة التفصيل وهو ظاهر.

المسألة التاسعة عشرة

في كيفية العلم بذي السبب

قال : وذو السبب إنما يعلم به كليا.

أقول : اعلم أن الشيء إذا كان ذا سبب فإنه إنما يعلم بسببه لأنه بدون السبب ممكن وإنما يجب بسببه فإذا نظر إليه من حيث هو هو لم يحكم العقل بوقوعه ولا بعدمه وإنما يحكم

٢٣٣

بأحدهما إذا عقل وجود السبب أو عدمه فذو السبب إنما يحكم بوجوده أو عدمه بالنظر إلى سببه إذا ثبت هذا فإن ذا السبب إنما يعلم كليا لأن كونه صادرا عن الشيء تقييد له بأمر كلي أيضا وتقييد الكلي بالكلي لا يقتضي الجزئية.

وتحقيق هذا أنك إذا عقلت كسوفا شخصيا من جهة سببه وصفاته الكلية التي يكون كل واحد منها نوعا مجموعا في شخصه كان العلم به كليا والكسوف وإن كان شخصيا فإنه عند ذلك يصير كليا ويكون نوعا مجموعا في شخص والنوع المجموع في شخص له معقول كلي لا يتغير وما يستند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل فلا يتغير فإنه كلما حصلت علل الشخصي وأسبابه وجب حصول ذلك الجزئي فيقال إن هذا الشخصي أسبابه كذا وكلما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصي أو مثله فيكون كليا بعلله.

المسألة العشرون

في تفسير العقل

قال : والعقل غريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات.

أقول : هذا هو المحقق في تفسير العقل وقد فسره قوم بأنه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر وهو ضعيف لعدم الملازمة بين التلازم والاتحاد.

قال : ويطلق على غيره بالاشتراك.

قوله : لفظة العقل مشتركة بين قوى النفس الإنسانية وبين الموجود المجرد في ذاته وفعله معا ويندرج تحته عند الأوائل عقول عشرة سبق البحث فيها.

أما القوى النفسانية فيقال عقل علمي وعقل عملي أما العلمي فأول مراتبه الهيولاني وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروري أو كسبي.

وثانيها العقل بالملكة وهو الذي استعد بحصول العلوم الضرورية لإدراك النظريات

٢٣٤

فصار له بتلك الأوليات ملكة الانتقال إلى النظريات وأعلى درجات هذه المرتبة ما يسمى القوة القدسية وأدناها مرتبة البليد الذي تثبت أفكاره دون حصول مطالبه وبين هاتين الدرجتين درجات متفاوتة في القرب والبعد بحسب شدة الاستعداد وضعفه.

وثالثها العقل بالفعل وهو أن تكون النفس بحيث متى شاءت استحضرت العلوم النظرية المكتسبة من العلوم الضرورية لا على أنها بالفعل موجودة.

ورابعها العقل المستفاد وهو حصول تلك النظريات بالفعل وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوة.

وأما العمى فيطلق على القوة التي باعتبارها يحصل التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة ، وعلى المقدمات التي يستنبط بها الأمور الحسنة والقبيحة ، وعلى فعل الأمور الحسنة والقبيحة.

المسألة الحادية والعشرون

في الاعتقاد والظن وغيرهما

قال : والاعتقاد يقال لأحد قسميه.

أقول : الاعتقاد من الأمور الضرورية لكن اختلفوا في أنه هل هو من قبيل العلوم أو جنس مغاير لها فقال جماعة بالأول وذهب أبو الهذيل العلاف إلى الثاني وأبطله أبو علي الجبائي بأنه لو كان كذلك لكان إما مثلا للعلم وهو المطلوب أو ضدا فلا يجتمعان مع أنهما قد يجتمعان أو مخالفا فلا ينتفيان بالضد الواحد.

والتحقيق هنا أن نقول أن الاعتقاد أحد قسمي العلم وذلك لأنا قد بينا أن العلم يقال على التصور وعلى التصديق كأنه جنس لهما والاعتقاد هو التصديق وهو قسم من قسمي العلم.

٢٣٥

قال : فيتعاكسان في العموم والخصوص.

أقول : هذا نتيجة ما مضى والذي نفهم منه أن الاعتقاد قد ظهر أنه أحد قسمي العلم فهو أخص منه بهذا الاعتبار لأن العلم شامل للتصور والتصديق الذي هو الاعتقاد والاعتقاد باعتبار آخر أعم من العلم لأنه شامل للظن والجهل المركب واعتقاد المقلد فهذا ما ظهر لنا من قوله فيتعاكسان أي الاعتقاد والعلم في العموم والخصوص.

واعلم أن لنا في هذا الكلام على هذا التفسير نظرا وذلك لأن الاعتقاد إنما يكون قسما من العلم لو أخذ العلم التصديقي بالاعتبار الأعم الشامل للعلم بمعنى اليقين والظن والجهل المركب واعتقاد المقلد وحينئذ لا يتم التعاكس لأن الاعتقاد لا يكون أعم من العلم بهذا الاعتبار فالواجب أن يراد باعتبار اصطلاحين أو ما يؤدي معناه.

قال : ويقع فيه التضاد بخلاف العلم.

أقول : اعلم أن الاعتقاد منه ما هو متماثل ومنه ما هو مختلف والمختلف على قسمين متضاد وغير متضاد وهذا ظاهر لكن وجه التضاد عند أبي علي الجبائي تعلقه بالضدين فحكم بتضاد اعتقادي الضدين وقال به أبو هاشم أولا ثم حكم بأن تضاده إنما هو لتعلقه بالإيجاب والسلب لا غير أما العلم فلا يقع فيه تضاد لوجوب المطابقة فيه.

قال : والسهو عدم ملكة العلم وقد يفرق بينه وبين النسيان.

أقول : هذا هو المشهور عند الأوائل والمتكلمين وذهب الجبائيان إلى أن السهو معنى يضاد العلم وقد فرق الأوائل بينه وبين النسيان فقالوا إن السهو زوال الصورة عن المدرك خاصة دون الحافظ والنسيان زوالها عنهما معا.

قال : والشك تردد الذهن بين الطرفين.

أقول : الشك هو سلب الاعتقاد وتردد الذهن بين طرفي النقيض على التساوي وليس

٢٣٦

معنى قائما بالنفس وهو مذهب الأوائل وأبي هاشم وقال أبو علي إنه معنى يضاد العلم واختاره البلخي لتجدده بعد أن لم يكن وهو خطأ لعدم اتحاد المتعلق الذي هو شرط في تضاد المتعلقات.

قال : وقد يصح تعلق كل من الاعتقاد والعلم بنفسه وبالآخر فيتغاير الاعتبار لا الصور.

أقول : اعلم أن العلم والاعتقاد من قبيل النسب والإضافات يصح تعلقهما بجميع الأشياء حتى بأنفسهما فيصح تعلق الاعتقاد بالاعتقاد وبالعلم وكذا العلم يتعلق بنفسه وبالاعتقاد إذا عرفت هذا فإذا تعلق العلم بنفسه وجب تعدد الاعتبار إذ العلم كان آلة ينظر به وباعتبار تعلق العلم به يصير شيئا منظورا فيه وكون الشيء معلوما مغاير لاعتبار كونه علما فلا بد من تغاير الاعتبار أما الصور فلا وإلا لزم وجود صور لا تتناهى بالنسبة إلى معلوم واحد لأن العلم بالشيء لا ينفك عن العلم بالعلم بذلك الشيء عند اعتبار المعتبرين (واعلم) أن العلم بالعلم علم بكيفية وهيئة للعالم يقتضي النسبة إلى معلوم ذلك العلم وليس علما بالمعلوم كما ذهب إليه الجبائيان.

قال : والجهل بمعنى يقابلهما وآخر قسم لأحدهما.

أقول : اعلم أن الجهل يقال على معنيين بسيط ومركب فالبسيط هو عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة ، والمركب هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه وهو قسم للاعتقاد إذ الاعتقاد جنس للجهل وغيره ويسمى الأول بسيطا نظرا إلى عدم تركبه والثاني مركبا لتركبه من اعتقاد وعدم مطابقة.

قال : والظن ترجيح أحد الطرفين وهو غير اعتقاد الرجحان.

أقول : الظن ترجيح أحد الطرفين أعني طرف الوجود وطرف العدم ترجيحا غير مانع من النقيض ولا بد من هذا القيد ليخرج الاعتقاد الجازم.

واعلم أن رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان لأن الأول ظن لا غير والثاني قد

٢٣٧

يكون علما.

قال : ويقبل الشدة والضعف وطرفاه علم وجهل.

أقول : لما كان الظن عبارة عن ترجيح الاعتقاد من غير منع النقيض وكان للترجيح مراتب داخلة بين طرفي شدة في الغاية وضعف في الغاية كان قابلا للشدة والضعف ، وطرفاه العلم الذي لا مرتبة بعده للرجحان والجهل البسيط الذي لا ترجيح معه البتة أعني الشك المحض.

المسألة الثانية والعشرون

في النظر وأحكامه

قال : وكسبي العلم يحصل بالنظر مع سلامة جزأيه ضرورة.

أقول : قد بينا أن العلم ضربان ضروري لا يفتقر إلى طلب وكسب ، ونظري يفتقر إليه ، فالثاني هو المكتسب بالنظر وهو ترتيب أمور ذهنية للتوصل إلى أمر مجهول فالترتيب جنس بعيد لأنه كما يقع في الأمور الذهنية كذلك يقع في الأشياء الخارجية فالتقييد بالأمور الذهنية يخرج الأخير عنه.

ثم الترتيب الخاص قد يراد لاستحصال ما ليس بحاصل ، وقد لا يكون كذلك فالثاني ليس بنظر وهذا الحد قد اشتمل على العلل الأربع للنظر أعني المادة والصورة والغاية وفيه إشارة إلى الفاعل وهذه الأمور قد تكون تصورات هي إما حدود أو رسوم يستفاد منها علم بمفرد ، وقد تكون تصديقات يكتسب بها تصديق.

واعلم أن النظر لما كان مركبا اشتمل بالضرورة على جزء مادي وجزء صوري فالمادي هو المقدمات ، والصوري هو الترتيب بينها فإذا سلم هذان الجزءان بأن كان الحمل والوضع والربط والجهة على ما ينبغي وكان الترتيب على ما ينبغي حصل العلم بالمطلوب بالضرورة هذا في التصديقات وكذا في التصورات فإنه إذا كان الحد مشتملا

٢٣٨

على جنس قريب وفصل أخير وقدم الجنس على الفصل حصل تصور المحدود قطعا ، وإليه أشار المصنف بقوله مع سلامة جزأيه يعني الجزء المادي والجزء الصوري.

واعلم أن الناس اختلفوا هنا فقال من لا مزيد تحصيل له أن النظر لا يفيد العلم لأن العلم بإفادته للعلم إن كان ضروريا لزم اشتراك العقلاء فيه ، وإن كان نظريا تسلسل ، ولأن النظر لو استلزم العلم لم يختلف الناس في آرائهم لاشتراكهم في العلوم الضرورية التي هي مبادي النظرية. وذهب المحققون إلى أنه يفيد العلم بالضرورة فإنا متى اعتقدنا أن العالم ممكن وأن كل ممكن محدث حصل لنا العلم بالضرورة بأن العالم محدث فخرج الجواب عن الشبهة الأولى بقوله ضرورة ولا يجب اشتراك العقلاء في الضروريات فإن كثيرا من الضروريات يتشكك فيها بعض الناس إما لخفاء في التصور أو لغير ذلك وخرج الجواب عن الشبهة الثانية بقوله مع سلامة جزأيه وذلك لأن اختلاف الناس في الاعتقاد إنما كان بسبب تركهم الترتيب الصحيح وغفلتهم عن شرائط الحمل وغير ذلك من أسباب الغلط إما في الجزء المادي أو الصوري فإذا سلما حصل المطلوب لكل من حصل له سلامة الجزءين.

قال : ومع فساد أحدهما قد يحصل ضده

أقول : النظر إذا فسد إما من جهة المادة أو من جهة الصورة لم يحصل العلم وقد يحصل ضده أعني الجهل وقد لا يحصل والضابط في ذلك أن نقول إن كان الفساد من جهة الصورة لم تلزم النتيجة الباطلة وإن كان من جهة المادة لا غير كان القياس منتجا فإن كانت الصغرى في الشكل الأول صادقة والكبرى كاذبة في كل واحد كانت النتيجة كاذبة قطعا وإلا جاز أن تكون صادقة وأن تكون كاذبة وبهذا التحقيق ظهر بطلان ما يقال من أن النظر الفاسد لا يستلزم الجهل وإلا لكان المحق إذا نظر في شبهة المبطل أفاده الجهل وليس كذلك مع أنه معارض بالنظر الصحيح فإن شرط اعتقاد حقية المقدمات في الصحيح شرطناه نحن في الفاسد أيضا.

٢٣٩

قال : وحصول العلم عن الصحيح واجب.

أقول : اختلف الناس هنا فالمعتزلة على أن النظر مولد للعلم وسبب له والأشاعرة قالوا إن الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم عقيب النظر وليس النظر موجبا ولا سببا للعلم واستدلوا على ذلك بأن العلم الحادث أمر ممكن والله تعالى قادر على كل الممكنات فاعل لها على ما يأتي في خلق الأعمال فيكون العلم من فعله والمعتزلة لما أبطلوا القول باستناد الأفعال الحيوانية إلى الله تعالى بطل عندهم هذا الاستدلال ولما رأوا العلم يحصل عقيب النظر وبحسبه وينتفي عند انتفائه حكموا عليه بأنه سبب له كما في سائر الأسباب. والحق أن النظر الصحيح يجب عنده حصول العلم ولا يمكن تخلفه عنه فإنا نعلم قطعا أنه متى حصل لنا

اعتقاد المقدمتين فإنه يجب حصول النتيجة قالت الأشاعرة التذكر لا يولد العلم فكذا النظر بالقياس عليه والجواب الفرق بينهما ظاهر.

قال : ولا حاجة إلى المعلم.

أقول : ذهبت الملاحدة إلى أن النظر غير كاف في حصول المعارف بل لا بد من معونة من المعلم للعقل لتعذر العلم بأظهر الأشياء وأقربها من دون مرشد وأطبق العقلاء على خلافه لأنا متى حصلت المقدمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل لنا الجزم بالنتيجة سواء كان هناك معلم أو لا وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر الأشياء لا يدل على امتناعها مطلقا من دون المعلم وقد ألزمهم المعتزلة الدور والتسلسل لتوقف العلم بصدقه على العلم بتصديق الله تعالى إياه بواسطة المعجزة فلو توقفت المعرفة بالله تعالى عليه دار ولأن احتياج كل عارف إلى معلم يستلزم حاجة المعلم إلى آخر ويتسلسل. وهذان الإلزامان ضعيفان لأن الدور لازم على تقدير استقلال المعلم بتحصيل المعارف وليس كذلك بل هو مرشد إلى استنباط الأحكام من الأدلة التي من جملتها ما يدل على صدقه من المقدمات والتسلسل يلزم لو وجب مساواة عقل المعلم لعقولنا أما على تقدير الزيادة فلا.

٢٤٠