كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

نقول الأفلاك ممكنة فلها علة فهي إن كانت غير جسم ولا جسماني ثبت المطلوب ، وإن كانت العلة جسمانية لزم الدور ، وإن كانت جسما فإما أن يكون الحاوي علة للمحوي أو بالعكس والثاني محال لأن المحوي أضعف من الحاوي فلو كان المحوي علة لزم تعليل الأقوى الذي هو الحاوي بالأضعف الذي هو المحوي وهو محال والأول وهو أن يكون الحاوي علة في المحوي محال أيضا وبيانه يتوقف على مقدمات : إحداهما أن الجسم لا يكون علة إلا بعد صيرورته شخصا معينا وهو ظاهر لأنه إنما يؤثر إذا صار موجودا بالفعل ولا وجود لغير الشخصي ، الثانية أن المعلول حال فرض وجود العلة يكون ممكنا وإنما يلحقه الوجوب بعد وجود العلة ووجوبها ، الثالثة أن الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان إذا عرفت هذا فنقول لو كان الحاوي علة للمحوي لكان متقدما بشخصه المعين على وجود المحوي فيكون المحوي حينئذ ممكنا فيكون انتفاء الخلاء ممكنا لأنه مصاحب لوجود المحوي لكن الخلاء ممتنع لذاته والجواب بعد تسليم امتناع الخلاء لا نسلم كون الامتناع ذاتيا

إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب فنقول : قوله لا علية بين المتضايفين ، الذي يفهم من هذا الكلام أنه لا علية بين الحاوي والمحوي وسماهما المتضايفين لأنه أخذهما من حيث هما حاو ومحوي وهذان الوصفان من باب المضاف. وقوله وإلا لأمكن الممتنع ، إشارة إلى ما بيناه من إمكان الخلاء الممتنع لذاته على تقدير كون الحاوي علة. وقوله أو علل الأقوى بالأضعف ، إشارة إلى ما بيناه من كون الضعيف علة في القوي على تقدير كون المحوي علة للحاوي. وقوله لمنع الامتناع الذاتي ، إشارة إلى ما بيناه في الجواب من المنع من كون الخلاء ممتنعا لذاته فهذا ما فهمناه من هذا الموضع.

المسألة الثانية

في النفس الناطقة

قال : وأما النفس فهي كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة.

أقول : هذا هو البحث عن أحد أنواع الجوهر وهو البحث عن النفس الناطقة وقبل

١٨١

البحث عن أحكامها شرع في تعريفها وقد عرفها الحكماء بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة لأن الجسم إذا أخذ بمعنى المادة كانت النفس المنضمة إليه الذي يحصل من اجتماعهما نبات أو حيوان أو إنسان صورة ، وإذا أخذ بمعنى الجنس كانت كمالا لأن طبيعة الجنس ناقصة قبل الفصل وقد عرفوا النفس بالكمال دون الصورة لأن النفس الإنسانية غير حالة في البدن فليست صورة له وهي كمال له واعلم أن الكمال منه أول وهو الذي يتنوع به الشيء كالفصول ، ومنه ثان وهو ما يعرض للنوع بعد كماله من صفاته اللازمة والعارضة فالنفس من القسم الأول وهي كمال لجسم طبيعي غير صناعي كالسرير وغيره ، وليست كمالا لكل طبيعي حتى البسائط بل هي كمال لجسم طبيعي آلي تصدر عنه أفعاله بواسطة الآلات ومعناه كونه ذا آلات يصدر عنه بتوسطها وغير توسطها ما يصدر من أفاعيل الحياة التي هي التغذي والنمو والتوليد والإدراك والحركة الإرادية والنطق.

المسألة الثالثة

في أن النفس الناطقة ليست هي المزاج

قال : وهي مغايرة لما هي شرط فيه لاستحالة الدور.

أقول : ذهب المحققون إلى أن النفس الناطقة مغايرة للمزاج وعليه ثلاثة أوجه الأول ما ذكر الأوائل أن النفس الناطقة شرط في حصول المزاج لأن المزاج إنما يحصل من اجتماع العناصر المتضادة فعلة ذلك الاجتماع يجب أن تكون متقدمة عليه وكذا شرط الاجتماع وهو النفس الناطقة فلا تكون هي المزاج المتأخر عن الاجتماع لاستحالة الدور. وفي هذا الوجه نظر لأنهم عللوا حدوث النفس بالاستعداد الحاصل من المزاج فكيف جعلوا الآن حدوث الاجتماع من النفس. وللشيخ هنا كلام طويل ليس هذا موضع ذكره.

١٨٢

قال : وللممانعة في الاقتضاء

أقول : هذا هو الوجه الثاني : وتقريره أن المزاج يمانع النفس في مقتضاها كما في الرعشة فإن مقتضي النفس الحركة إلى جانب ومقتضي المزاج الحركة إلى جانب آخر وتضاد الآثار يستدعي تضاد المؤثر فهاهنا الممانعة بين النفس والمزاج في جهة الحركة. وكذلك قد يقع بينهما الممانعة في نفس الحركة إما بأن تكون الحركة نفسانية لا يقتضيها المزاج كما في حال حركة الإنسان على وجه الأرض فإن مزاجه يقتضي السكون عليها ونفسه تقتضي الحركة ، أو بأن تكون طبيعية لا تقتضيها النفس كما في حال الهوى.

قال : ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر.

أقول : هذا هو الوجه الثالث : الدال على أن النفس مغايرة للمزاج وتقريره أن الإدراك إنما يكون بواسطة الانفعال فإن اللامس إذا أدرك شيئا لا بد وأن ينفعل عن الملموس فلو كان اللامس هو المزاج لبطل عند انفعاله وحدثت كيفية مزاجية أخرى ، وليس المدرك هو الكيفية الأولى لبطلانها ووجوب بقاء المدرك عند الإدراك ، ولا الثانية لأن المدرك لا بد وأن ينفعل عن المدرك والشيء لا ينفعل عن نفسه.

المسألة الرابعة

في أن النفس ليست هي البدن

قال : ولما تقع الغفلة عنه.

أقول : ذهب من لا تحصيل له إلى أن النفس الناطقة هي البدن وقد أبطله المصنف بوجوه ثلاثة :

الأول : أن الإنسان قد يغفل عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة وهو متصور لذاته ونفسه فوجب أن يغايرها فقوله ولما تقع الغفلة عنه عطف على قوله لما هي شرط فيه أي والنفس مغايرة لما هي شرط فيه ولما تقع الغفلة عنه أعني البدن.

١٨٣

قال : والمشاركة به.

أقول : هذا هو الوجه الثاني : الدال على أن النفس ليست هي البدن وتقريره أن البدن جسم وكل جسم على الإطلاق فإنه مشارك لغيره من الأجسام في الجسمية فالإنسان يشارك غيره من الأجسام في الجسمية ويخالفه في النفس الإنسانية وما به المشاركة غير ما به المباينة فالنفس غير الجسم فقوله والمشاركة به عطف على قوله الغفلة عنه أي وهي مغايرة لما تقع الغفلة عنه والمشاركة به.

قال : والتبدل فيه

أقول : هذا هو الوجه الثالث وتقريره أن أعضاء البدن وأجزائه تتبدل كل وقت ويستبدل ما ذهب بغيره فإن الحرارة الغريزية تقتضي تحليل الرطوبات البدنية فالبدن دائما في التحلل والاستخلاف والهوية باقية من أول العمر إلى آخره والمتبدل مغاير للباقي فالنفس غير البدن فقوله والتبدل فيه عطف على قوله والمشاركة به أي وهي مغايرة لما تقع المشاركة به والتبدل فيه.

المسألة الخامسة

في تجرد النفس

قال : وهي جوهر مجرد لتجرد عارضها.

أقول : اختلف الناس في ماهية النفس وأنها هل هي جوهر أم لا والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجرد أم لا والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلمين كبني نوبخت من الإمامية والمفيد منهم والغزالي والحليمي والراغب من الأشاعرة أنها جوهر مجرد ليس بجسم ولا جسماني وهو الذي اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ واستدل على تجردها بوجوه :

١٨٤

الأول تجرد عارضها وهو العلم وتقرير هذا الوجه أن هاهنا معلومات مجردة عن المواد فالعلم المتعلق بها يكون لا محالة مطابقا لها فيكون مجردا لتجردها فمحله وهو النفس يجب أن يكون مجردا لاستحالة حلول المجرد في المادي.

قال : وعدم انقسامه.

أقول : هذا هو الوجه الثاني وهو أن العارض للنفس أعني العلم غير منقسم فمحله أعني المعروض كذلك وتقرير هذا الدليل يتوقف على مقدمات : إحداهما أن هاهنا معلومات غير منقسمة وهو ظاهر فإن واجب الوجود غير منقسم وكذا الحقائق البسيطة ، الثانية أن العلم بها غير منقسم لأنه لو انقسم لكان كل واحد من جزئيه إما أن يكون علما أو لا يكون ، والثاني باطل لأنه عند الاجتماع إما أن يحصل أمر زائد أو لا فإن كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بعلم هذا خلف ، وإن كان الأول فذلك الزائد إما أن يكون منقسما فيعود البحث ، أو لا يكون فيكون العلم غير منقسم وهو المطلوب وإن كان كل جزء علما فإما أن يكون علما بكل ذلك المعلوم فيكون الجزء مساويا للكل هذا خلف ، أو ببعضه فيكون ما فرضناه غير منقسم منقسما هذا خلف ، الثالثة أن محل العلم غير منقسم لأنه لو انقسم لانقسم العلم لأنه إن لم يحل في شيء من أجزائه لم يحل في ذلك المحل ، وإن حل فإما أن يكون في جزء غير منقسم وهو المطلوب ، أو في أكثر من جزء فإما أن يكون الحال في أحدهما عين الحال في الآخر وهو محال بالضرورة ، أو غيره فيلزم الانقسام ، الرابعة أن كل جسم وكل جسماني فهو منقسم لأنا قد بينا أن لا وجود لوضعي غير منقسم وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت تجرد النفس. وفيه نظر للمنع من المساواة مطلقا عند المساواة في تعلق الجزء بكل المعلوم كالكل.

قال : وقوتها على ما تعجز المقارنات عنه.

أقول : هذا هو الوجه الثالث وتقريره أن النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنها تقوى على ما لا يتناهى لأنها تقوى على تعقلات

١٨٥

الأعداد غير المتناهية وقد بينا أن القوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجردة وفيه نظر لأن التعقل قبول لا فعل وقبول ما لا يتناهى للجسمانيات ممكن.

قال : ولحصول عارضها بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا.

أقول : هذا هو الوجه الرابع وتقريره أن النفس لو حلت جسما من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقل له أو كانت لا تعقله البتة والتالي باطل بقسميه فكذا المقدم بيان الشرطية أن القوة العاقلة إذا حلت في قلب أو دماغ لم يخل إما أن تكفي صورة ذلك المحل في التعقل أو لا تكفي فإن كفت لزم حصول التعقل دائما لدوام تلك الصورة للمحل ، وإن لم تكف لم تعقله البتة لاستحالة أن يكون تعقلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلها فيها وإلا لزم اجتماع المثلين وأما بطلان التالي فظاهر لأن النفس تعقل القلب والدماغ في وقت دون وقت.

ولنرجع إلى ألفاظ الكتاب فقوله ـ رحمه‌الله ـ ولحصول عارضها يعني بالعارض التعقل. قوله بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا ، أي ولحصول العارض وهو التعقل بالنسبة إلى ما يعقل محلا من قلب أو دماغ حصولا منقطعا لا دائما.

قال : ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض.

أقول : هذا وجه خامس يدل على تجرد النفس العاقلة وتقريره : أن النفس تستغني في عارضها وهو التعقل عن المحل فتكون في ذاتها مستغنية عنه لأن استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض لأن العارض محتاج إلى المعروض فلو كان المعروض محتاجا إلى شيء لكان العارض أولى بالاحتياج إليه فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض.

وبيان استغناء التعقل عن المحل أن النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة وكذا تدرك آلتها وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها كل ذلك من غير آلة متوسطة بينها وبين هذه المدركات فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن الآلة فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا فقوله ـ رحمه‌الله ـ ولاستلزام استغناء العارض ، عنى

١٨٦

بالعارض هنا التعقل ، وقوله استغناء المعروض ، عنى به النفس التي يعرض لها التعقل

قال : ولانتفاء التبعية.

أقول : الذي فهمناه من هذا الكلام أن هذا وجه آخر دال على تجرد النفس وتقريره أن القوة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها والنفس بالضد من ذلك فإنها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة تقوى وتكثر تعقلاتها فلو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلها وليس كذلك فلما انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دل ذلك على أنها ليست جسمانية.

قال : ولحصول الضد.

أقول : هذا وجه سابع يدل على تجرد النفس وتقريره أن القوة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكل لأنها تنفعل عنها ولهذا فإن من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تاما والقوى النفسانية بالضد من ذلك فإن عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضد ما يحصل للقوة الجسمانية عند كثرة الأفعال فهذا ما خطر لنا في معنى قوله ـ رحمه‌الله ـ ولحصول الضد.

المسألة السادسة

في أن النفس البشرية متحدة بالنوع

قال : ودخولها تحت حد واحد يقتضي وحدتها.

أقول : اختلف الناس في ذلك فذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة بالنوع متكثرة بالشخص وهو مذهب أرسطاطاليس. وذهب جماعة من القدماء إلى أنها مختلفة بالنوع واحتج المصنف ـ رحمه‌الله ـ على وحدتها بأنها يشملها حد واحد والأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حد واحد.

وعندي في هذا نظر فإن التحديد ليس لجزئيات النفس حتى يلزم ما ذكره بل لمفهوم

١٨٧

النفس وهو المعنى الكلي وذاك كما يحتمل أن يكون نوعا يحتمل أن يكون جنسا فإن قال إن حد الكلي حد لكل نفس نفس إذ لا يعقل من كل نفس سوى ما قلناه في التحديد منعنا ذلك وألزمناه الدور لأن الأشياء المتكثرة إنما يصح جعلها في حد واحد لو كانت متحدة في الماهية فلو استفدنا وحدتها من الدخول في الحد الواحد لزم الدور والتحديد ليس راجعا إلى المفهوم من النفس بل إلى حقيقتها في نفس الأمر وإلا لكان الحد حدا بحسب الاسم لا حدا بحسب الحقيقة.

قال : واختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها.

أقول : هذا جواب عن شبهة من استدل على اختلافها وتقرير الدليل أنهم قالوا وجدنا النفوس البشرية تختلف في العفة والفجور والذكاء والبلادة وليس ذلك من توابع المزاج لأن المزاج قد يكون واحد والعوارض مختلفة فإن بارد المزاج قد يكون في غاية الذكاء وكذا حار المزاج قد يكون في غاية البلادة وقد يتبدل والصفة النفسانية باقية ، ولا من الأشياء الخارجية لأنها قد تكون بحيث تقتضي خلقا والحاصل ضده فعلمنا أنها لوازم للماهية وعند اختلاف اللوازم يختلف الملزوم.

والجواب أن الملزومات مختلفة وليست هي النفس وحدها بل النفس والعوارض المختلفة ومجموع النفس مع العوارض إذا كان مختلفا لا يلزم أن يكون كل جزء أيضا مختلفا فهذه الحجة مغالطية ، هذا صورة ما أجاب به المصنف في بعض كتبه عن هذه الحجة وفي هذا نظر والأقرب في الجواب ما ذكره هنا وهو أن هذه عوارض مفارقة غير لازمة فاختلافها لا يقتضي اختلاف معروضها.

المسألة السابعة

في أن النفوس البشرية حادثة

قال : وهي حادثة وهو ظاهر على قولنا ، وعلى قول الخصم لو كانت أزلية لزم اجتماع الضدين أو بطلان ما ثبت أو ثبوت ما يمتنع.

أقول : اختلف الناس في ذلك فالمليون ذهبوا إلى أنها حادثة وهو ظاهر على قواعدهم

١٨٨

لما ثبت من حدوث العالم وهي من جملة العالم ولأجل ذلك قال المصنف ـ رحمه‌الله ـ وهو ظاهر على قولنا.

وأما الحكماء فقد اختلفوا هاهنا فقال أرسطو إنها حادثة وقال أفلاطون إنها قديمة ، والمصنف ـ رحمه‌الله ـ ذكر هاهنا حجة أرسطو أيضا على الحدوث.

وتقرير هذه الحجة أن النفوس لو كانت أزلية لكانت إما واحدة أو كثيرة والقسمان باطلان فالقول بقدمها باطل أما الملازمة فظاهرة وأما بطلان وحدتها فلأنها لو كانت واحدة أزلا فإما أن تتكثر فيما لا يزال أو لا تتكثر والثاني باطل وإلا لزم أن يكون ما يعلمه زيد يعلمه كل أحد وكذا سائر الصفات النفسانية لكن الحق خلاف ذلك فإنه قد يعلم زيد شيئا وعمرو جاهل به ولو اتحدت نفساهما لزم اتصاف كل واحد بالضدين. والأول باطل أيضا لأنها لو تكثرت لكانت النفسان الموجودتان الآن إما أن يقال كانتا حاصلتين قبل الانقسام فقد كانت الكثرة حاصلة قبل فرض حصولها هذا خلف ، وإما أن يقال حدثتا بعد الانقسام وهو محال وإلا لزم حدوث النفسين وبطلان النفس التي كانت موجودة وأظن أن قوله ـ رحمه‌الله ـ وإلا لزم اجتماع الضدين إشارة إلى هذه اللوازم الناشئة عن هذا القسم من المنفصلة لأن القول بالوحدة فيما لا يزال يستلزم اتصاف النفوس بالضدين والقول بالكثرة فيما لا يزال مع حصولها يستلزم تكثر ما فرضناه واحدا وهو جمع بين الضدين أيضا والقول بالكثرة مع تجددها يستلزم بطلان النفس الواحدة وحدوث هاتين النفسين مع فرض قدمهما وهو جمع بين الضدين أيضا.

وأما بطلان كثرتها أزلا فلأن التكثر إما بالذاتيات أو باللوازم أو بالعوارض والكل باطل أما الأول فلما ثبت من وحدتها بالنوع ، وكذا الثاني لأن كثرة اللوازم تستلزم كثرة الملزومات وأظن أن قوله أو بطلان ما ثبت إشارة إلى هذا لأن القول بالكثرة الذاتية يستلزم بطلان وحدتها بالنوع وقد أثبتناه.

وأما الثالث فلأن اختلاف العوارض للذوات المتساوية إنما يكون عند تغاير المواد لأن نسبة العارض إلى المثلين واحدة ومادة النفس البدن لاستحالة الانطباع عليها وقبل البدن لا مادة وإلا لزم التناسخ وهو محال.

١٨٩

وأظن أن قوله أو ثبوت ما يمتنع إشارة إلى هذا.

المسألة الثامنة

في أن لكل نفس بدنا واحدا وبالعكس

قال : وهي مع البدن على التساوي.

أقول : هذا حكم ضروري أو قريب من الضروري فإن كل إنسان يجد ذاته ذاتا واحدة فلو كان لبدن نفسان لكان تلك الذات ذاتين وهو محال فيستحيل تعلق النفوس الكثيرة ببدن واحد. وكذا العكس فإنه لو تعلقت نفس واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس وكذا باقي الصفات النفسانية وهو باطل بالضرورة.

المسألة التاسعة

في أن النفس لا تفنى بفناء البدن

قال : ولا تفنى بفنائه.

أقول : اختلف الناس هاهنا فالقائلون بجواز إعادة المعدوم جوزوا فناء النفس مع فناء البدن ، والمانعون هناك منعوا هنا. أما الأوائل فقد اختلفوا أيضا والمشهور أنها لا تفنى : أما أصحابنا فإنهم استدلوا على امتناع فنائها بأن الإعادة واجبة على الله تعالى على ما يأتي ولو عدمت النفس لامتنعت إعادتها لما ثبت من امتناع إعادة المعدوم فيجب أن لا تفنى ، وأما الأوائل فاستدلوا بأنها لو عدمت لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محل مغاير لها لأن القابل يجب وجوده مع المقبول ولا يمكن وجود النفس مع العدم فذلك المحل هو المادة فتكون النفس مادية فتكون مركبة هذا خلف ، على أن تلك المادة يستحيل عدمها لاستحالة التسلسل.

وهذه الحجة ضعيفة لأنها مبنية على ثبوت الإمكان واحتياجه إلى المحل الوجودي وهو

١٩٠

ممنوع ، سلمنا لكن ذلك ينتقض بالجواهر البسيطة فإنها ممكنة ومعنى إمكانها قبولها للعدم فتكون مادية ، سلمنا لكن لم لا يجوز القول بكون النفوس مركبة من جوهرين مجردين أحدهما يجري مجرى المادة والآخر يجري مجرى الصورة وبقاء الجوهر المادي لا يكفي في بقاء جوهر النفس ، ثم ينتقض ذلك بإمكان الحدوث فإنه قد تحقق هناك إمكان من دون مادة قابلة فكذا إمكان الفساد.

المسألة العاشرة

في إبطال التناسخ

قال : ولا تصير مبدأ صورة لآخر وإلا بطل ما أصلناه من التعادل.

أقول : اختلف الناس هاهنا فذهب جماعة من العقلاء إلى جواز التناسخ في النفوس بأن تنتقل النفس التي كانت مبدأ صورة لزيد مثلا إلى بدن عمرو وتصير مبدأ صورة له ويكون بينهما من العلاقة كما كان بين البدن الأول وبينها.

وذهب أكثر العقلاء إلى بطلان هذا المذهب والدليل عليه أنا قد بينا أن النفوس حادثة وعلة حدوثها قديمة فلا بد من حدوث استعداد وقت حدوثها ليتخصص ذلك الوقت بالإيجاد فيه والاستعداد إنما هو باعتبار القابل فإذا حدث وتم وجب حدوث النفس المتعلقة به فإذا حدث بدن تعلقت به نفس تحدث عن مباديها فإذا انتقلت إليه نفس أخرى مستنسخة لزم اجتماع النفسين لبدن واحد وقد بينا بطلانه ووجوب التعادل في الأبدان والنفوس حتى لا توجد نفسان لبدن واحد وبالعكس.

المسألة الحادية عشرة

في كيفية تعقل النفس وإدراكها

قال : وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات للامتياز بين المختلفين وضعا من غير إسناد.

أقول : اعلم أن التعقل هو إدراك الكليات والإدراك هو الإحساس بالأمور الجزئية ،

١٩١

وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أن النفس تعقل الأمور الكلية بذاتها من غير احتياج إلى آلة وتدرك الأمور الجزئية بواسطة قوى جسمانية هي محال الإدراك ، والحكم الأول ظاهر فإنا نعلم قطعا أنا ندرك الأمور الكلية مع اختلال كل عضو يتوهم آلة للتعقل وقد سلف تحقيق ذلك ، وأما الحكم الثاني وهو افتقارها في الإدراك الجزئي إلى الآلات فلأنا نميز بين الأمور المتفقة بالماهية المختلفة بالوضع لا غير كما أنا نفرق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي نتخيلها ونميز بينهما مع اتحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع فليس الامتياز بينهما بذاتي ، ولا بما يلزم الذات لفرض تساويهما بل بأمور عارضة ثم اختصاص كل واحدة منهما بعارضها ليس في الوجود الخارجي لأن المتخيل قد لا يكون موجودا في الخارج فليس الامتياز إذن للمأخوذ عنه بل للآخذ فإن كان محل إحداهما هو بعينه محل الأخرى استحال اختصاص إحداهما بكونها يمنى والأخرى بكونها يسرى لأن نسبة العارض إليهما واحدة فبقي أن يكون المحل مختلفا حتى يكون الجانب الذي تحل فيه إحداهما غير الجانب الذي تحل فيه الأخرى.

إذا عرفت هذا فقوله وتعقل بذاتها إشارة إلى ما ذكرناه من أن التعقل للأمور الكلية لذات النفس من غير آلة وقوله وتدرك بالآلات ، إشارة إلى أن إدراك الأمور الجزئية إنما يكون بواسطة قوى جسمانية وقوله للامتياز بين المختلفين وضعا ، إشارة إلى ما مثلناه من الامتياز بين العينين وقوله من غير إسناد أي من غير إسناد إلى الخارج.

المسألة الثانية عشرة

في القوى النباتية

قال : وللنفس قوى تشارك بها غيرها وهي الغاذية والنامية والمولدة

أقول : لما كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه ولما كان البدن مركبا من العناصر المتضادة وكان تأثير الجزء الناري فيه الإحالة احتيج في بقائه إلى إيراد بدل ما يتحلل منه فاقتضت حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة يمكنها

١٩٢

بها استخلاف ما ذهب بما يأتي وذلك إنما يكون بالغذاء. ثم لما كان البدن أول خلقته محتاجا إلى زيادة في مقداره على ما يناسب في أقطاره بأجسام تنضم إليه من خارج وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة يمكنها بها تحصيل جواهر قابلة للتشبه بالبدن تنضم إليه على تناسب في أقطاره هي النامية. ثم لما كان البدن ينقطع ويعدم واقتضت عناية الله تعالى الاستحفاظ بهذا النوع وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة تحيل بعض الجواهر المستعدة لقبول الصورة الإنسانية إلى تلك الصورة وهي القوة المولدة فكانت النفس ذات قوى ثلاث الغاذية والنامية والمولدة وهذه القوى مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات فالغاذية هي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المغتذي ليخلف بدل ما يتحلل ، والنامية هي التي تزيد في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي ليبلغ إلى تمام النشوء ، والمولدة هي التي تفيد المني بعد استحالته في الرحم الصور والقوى والأعراض واعلم أن إسناد التصوير إلى هذه القوة باطل وسيأتي بيانه إن شاء الله.

قال : وأخرى أخص يحصل بها الإدراك إما للجزئي أو للكلي.

أقول : للنفس أيضا قوى أخص من الأولى هي الإدراك إما للجزئي وهو الإحساس ، وإما للكلي وهو التعقل فالإحساس مشترك بينه وبين الحيوان خاصة فهو أخص من القوى الأولى المشتركة بينها وبين النبات ، والتعقل أخص من الإحساس لأنه لا يحصل للحيوان بل للإنسان.

قال : فللغاذية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة.

أقول : القوة الغاذية يتوقف فعلها على أربع قوى ليتم الاغتذاء وهي الجاذبة للغذاء ، والماسكة له لتهضمه الهاضمة ، والهاضمة وهي التي تحيل الغذاء الذي جذبته الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى قوام يتهيأ لأن تجعله الغاذية جزءا بالفعل من المغتذي ، والدافعة للفضلات.

١٩٣

قال : وقد تتضاعف هذه لبعض الأعضاء.

أقول : قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة التي تجذب بقوتها غذاء كلية البدن ، والتي تمسكه هناك ، والتي تغيره إلى ما يصلح لأن يصير دما ، والتي تدفعه إلى الكبد. وفيها أيضا قوة جاذبة لما تغتذي به المعدة خاصة وقوة ماسكة وقوة هاضمة وقوة دافعة

قال : والنمو مغاير للسمن.

أقول : النمو هو زيادة الجسم بسبب اتصال جسم آخر به من نوعه وتكون الزيادة مداخلة في أجزاء المزيد عليه وهو مغاير للسمن ، وكذا الذبول مغاير للهزال فإن الواقف في النمو قد يسمن كالشيخ إذا صار سمينا فإن أجزاءه الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها فلا يتحقق النمو ، وكذلك النامي قد يهزل.

قال : والمصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة عن قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا.

أقول : أثبت الحكماء للنفس قوة يصدر عنها التصوير والتشكيل بشكل نوع ذي القوة ، والحق ما ذهب إليه المصنف من أن ذلك محال لأن هذه الأشكال والصور أمور محكمة متقنة فلا تصدر عن طبيعة غير شاعرة بما يصدر عنها بل يجب إسنادها إلى مدبر حكيم. وأيضا فإن هذه التشكيلات أمور مركبة والقوة البسيطة لا تصدر عنها أشياء كثيرة بل شكلها في محلها البسيط هو الكرة فتكون هذه المركبات على شكل الكرات وهو باطل بالضرورة.

المسألة الثالثة عشرة

في أنواع الإحساس

قال : وأما قوة الإدراك للجزئي فمنه اللمس وهو قوة منبثة في البدن كله.

أقول : لما فرغ من البحث عن الأمر العام أعني القوة النباتية شرع الآن في البحث عما

١٩٤

هو أخص منه وهو القوة الحيوانية أعني الإحساس المشترك بين الإنسان وغيره من الحيوانات وبدأ باللمس لأن باقي الحواس يراد لجلب النفع وهذا لدفع الضرر ولما كان دفع الضرر أولى من جلب النفع لا جرم قدم البحث فيه على غيره من القوى الحساسة. واعلم أن اللمس كيفية قائمة بالبدن منبثة في ظاهره أجمع يدرك بها النافي والملائم.

قال : وفي تعدده نظر.

أقول : اختلف الناس في أن اللمس هل هو قوة واحدة أو قوى كثيرة فالجمهور على أنها قوى أربع : الأولى الحاكمة بين الحار والبارد ، الثانية الحاكمة بين الرطب واليابس الثالثة الحاكمة بين الصلب واللين ، الرابعة الحاكمة بين الخشن والأملس لأن القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من أمر واحد.

قال : ومنه الذوق ويفتقر إلى توسط الرطوبة اللعابية الخالية عن المثل والضد.

أقول : الذوق قوة قائمة بسطح اللسان لا يكفي فيه الملامسة بل لا بد من متوسط هي الرطوبة اللعابية الخالية عن الطعوم لأنها إن كانت ذات طعم مماثل للمدرك لم يتحقق الإدراك لأن الإدراك إنما يكون بالانفعال والشيء لا ينفعل عن مماثله ، وإن كانت ذات طعم مضاد لم تؤد الكيفية على صرافتها بصحة كما في المرضى.

قال : ومنه الشم ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل ، أو ذي الرائحة إلى الخيشوم.

أقول : الشم قوة في الدماغ تحملها زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي نابتتان من مقدم الدماغ وقد فارقتا لين الدماغ قليلا ولم تلحقهما صلابة العصب. ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل عن ذي الرائحة إلى الخيشوم أو وصول أجزاء من ذي الرائحة إليه لأنه إنما يدرك بالملاقاة.

وقد ذهب قوم إلى أن الشم إنما يكون بأن تتحلل أجزاء الجسم ذي الرائحة وتنتقل مع الهواء المتوسط إلى الحاسة لأن الدلك والتبخير يهيج الرائحة ويذكيها.

١٩٥

وقال آخرون إن الهواء المتوسط يتكيف بتلك الكيفية لا غير وإلا لنقص وزن الجسم ذي الرائحة مع استنشاقها والمصنف ـ رحمه‌الله ـ قد نبه بكلامه على تجويز الأمرين فإن الشم قد يحصل بكل واحد منهما.

قال : ومنه السمع ويتوقف على وصول الهواء المنضغط إلى الصماخ.

أقول : ذهب قوم إلى أن السمع إنما يحصل عند تأدي الهواء المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ ولهذا تدرك الجهة ويتأخر السماع عن الإبصار لتوقف الأول على حركة الهواء دون الثاني والمصنف ـ رحمه‌الله ـ مال إلى هذا هاهنا وفيه نظر لأن الصوت قد يسمع من وراء الجدار مع امتناع بقاء الشكل على حاله لو أمكن نفوذ الهواء.

قال : ومنه البصر ويتعلق بالذات بالضوء واللون.

أقول : المبصرات إما أن يتعلق الإبصار بها أولا وبالذات أو ثانيا وبالعرض والأول هو الضوء واللون لا غير والثاني ما عداهما من سائر المبصرات كالشكل والحجم والمقدار والحركة والوضع والحسن والقبح وغير ذلك من أصناف المرئيات.

قال : وهو راجع فينا إلى تأثر الحدقة.

أقول : الإدراك عند جماعة من الفلاسفة والمعتزلة راجع إلى تأثر الحاسة فالإبصار بالعين معناه تأثر الحدقة وانفعالها عن الشيء المرئي هذا في حقنا نحن ولهذا قيده المصنف ـ رحمه‌الله ـ بقوله فينا لأن الإدراك ثابت في حقه تعالى ولا يتصور فيه التأثر وذهبت الأشاعرة إلى أنه معنى زائد على تأثر الحدقة.

قال : ويجب حصوله مع شرائطه.

أقول : شروط الإدراك سبعة : الأول عدم البعد المفرط ، الثاني عدم القرب المفرط ولهذا لا يبصر ما يلتصق بالعين ، الثالث عدم الحجاب ، الرابع عدم الصغر المفرط ، الخامس أن يكون

١٩٦

مقابلا أو في حكم المقابل ، السادس وقوع الضوء على المرئي إما من ذاته أو من غيره ، السابع أن يكون المرئي كثيفا بمعنى وجود الضوء واللون له ، إذا عرفت هذا فنقول عند المعتزلة والأوائل أن عند حصول هذه الشرائط يجب الإدراك بالضرورة فإن سليم الحاسة يشاهد الشمس إذا كانت على خط نصف النهار بالضرورة ولو تشكك العقل في ذلك جاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وأصوات هائلة وإن كنا لا ندركها وذلك سفسطة.

أما الأشاعرة فلم يوجبوا ذلك وجوزوا حصول جميع الشرائط مع انتفاء الإدراك ، واحتجوا بأنا نرى الكبير صغيرا والسبب فيه رؤية بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الجميع في الشرائط وهو خطأ لوقوع التفاوت بالقرب والبعد فلهذا أدركنا بعض الأجزاء وهي القريبة دون الباقي ويتحقق التفاوت بخروج خطوط ثلاثة من الحدقة إلى المرئي أحدها عمود والباقيان ضلعا مثلث قاعدته المرئي فالعمود أقصر لأنه يوتر الحادة والضلعان أطول لأنهما يوتران القائمة.

قال : بخروج الشعاع.

أقول : اختلف الناس في كيفية الإبصار فقال قوم إنه بخروج شعاع متصل من العين إلى المرئي على هيئة مخروط رأسه عند الحدقة وقاعدته عند المرئي وهو اختيار المصنف ـ رحمه‌الله ـ ، وقال أبو علي إن الإبصار إنما يكون بانطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية والقولان عندي باطلان أما الأول فلأن الشعاع إما جسم أو عرض والثاني يستحيل عليه الانتقال ، والأول باطل لامتناع أن يخرج من العين على صغرها حجم متصل منها إلى كرة الثوابت وأيضا فإن حركة الشعاع ليست طبيعية لعدم اختصاصها بجهة دون أخرى فلا تكون قسرية وظاهر أنها ليست إرادية ، ولأن الشعاع جسم لطيف جدا فيلزم تشوشه عند هبوب الرياح فلا يحصل الإبصار للمقابل وأما الثاني فلأنه يستحيل انطباع العظيم في الصغير.

قال : فإن انعكس إلى المدرك أبصر وجهه.

أقول : الشعاع إذا خرج من العين واتصل بالمرئي وكان صقيلا كالمرآة انعكس عنه إلى كل ما نسبته إلى المرئي كنسبة العين إليه ولهذا وجب تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس

١٩٧

ووجب أن يشاهد بالمرآة كل ما وضعه إليها كوضع الرائي فإن انعكس الشعاع إلى الرائي نفسه أدرك وجهه ، وإذا انتفت الصقالة لم يحصل الانعكاس كالأشياء الخشنة التي نشاهدها فإنه لا ينعكس عنها شعاع إلى غيرها لعدم الملاسة. هذا علة أصحاب الشعاع في رؤية الإنسان وجهه بالمرآة. وأما القائلون بالانطباع فقالوا إنه تنطبع في المرآة صورة الرائي ثم تنطبع في العين من تلك الصورة صورة أخرى. وهو باطل لأن الصورة لو انطبعت في المرآة لم تتغير بتغير وضع الرائي.

قال : وإن عرض تفرق السهمين تعدد المرئي.

أقول : هذا إشارة إلى علة الحول عند القائلين بالشعاع والسبب في الحول عندهم أن النور الممتد من العين على شكل المخروط قوته في سهم المخروط فإذا خرج من العينين مخروطان والتقى سهماهما عند المبصر واتحدا أدرك المدرك الشيء كما هو ، وإن لم يلتق السهمان عند شيء واحد بل حصل الإدراك بطرف المخروط لا بوقوع السهم عليه رأى الرائي الشيء الواحد شيئين.

أما القائلون بالانطباع فإنهم قالوا الصورة تنطبع أولا في الرطوبة الجليدية وليس الإدراك عندها وإلا لأدركنا الشيء الواحد شيئين كما إذا لمسنا باليدين كان لمسين لكن الصورة التي في الجليدية تتأدى بواسطة الروح المصبوب في العصبتين المجوفتين إلى ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقي المخروطان هناك وعند الملتقى روح مدرك وحينئذ تتحد عند الروح من الصورتين صورة واحدة ، وإن لم ينفذ المخروطان نفوذا على سبيل التقاطع انطبع من كل شبح ينفذ عن الجليدية خيال بانفراده وهو الحول.

المسألة الرابعة عشرة

في أنواع القوى الباطنة المتعلقة بإدراك الجزئيات

قال : ومن هذه القوى بنطاسيا الحاكمة بين المحسوسات

أقول : أثبت الأوائل للنفس قوى جزئية خمس باطنة : الأولى بنطاسيا وهي الحس

١٩٨

المشترك وهو المدرك للصور الجزئية التي تجتمع عنده مثل المحسوسات. الثانية خزانته وهي الخيال. الثالثة الوهم وهو قوة تدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كالصداقة الجزئية والعداوة الجزئية. الرابعة خزانته وهي الحافظة. الخامسة القوة المتصرفة في الصور الجزئية والمعاني الجزئية بالتركيب والتحليل فتركب صورة إنسان يطير ، وجبل ياقوت وهذه القوة تسمى متخيلة إن استعملتها القوة الوهمية ، ومتفكرة إن استعملتها القوة الناطقة.

إذا عرفت هذا فنقول الدليل على ثبوت الحس المشترك وجوه : أحدها أنا نحكم على صاحب لون معين بطعم معين فلا بد من حضور هذين المعينين عند الحاكم لكن الحاكم وهو النفس إنما يدرك الجزئيات بواسطة الآلات على ما تقدم فيجب حصولهما معا في آلة واحدة وليس شيء من الحواس الظاهرة لذلك فلا بد من إثبات قوة باطنة هي الحس المشترك وإلى هذا الدليل أشار بقوله الحاكمة بين المحسوسات.

قال : لرؤية القطرة خطا والشعلة دائرة.

أقول : هذا دليل ثان على إثبات الحس المشترك وتقريره أنا نرى القطرة النازلة خطا مستقيما ، والشعلة التي تدار بسرعة دائرة مع أنه ليس في الخارج كذلك ولا في القوة الباصرة لأن البصر إنما يدرك الشيء على ما هو عليه ، ولا النفس لأنها لا تدرك الجزئيات فلا بد من قوة أخرى يحصل بها إدراك القطرة حال حصولها في المكان الأول ثم إدراكها حال حصولها في المكان الثاني ويرتسم الحصول الثاني قبل انمحاء الصورة الأولى عن القوة الشاعرة فتتصل الصورتان في الحس المشترك فترى النقطة كالخط والشعلة كالدائرة.

قال : والمبرسم ما لا تحقق له.

أقول : هذا دليل ثالث على إثبات هذه القوة وتقريره أن صاحب البرسام يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج وإلا لشاهدها كل ذي حس سليم فلا بد من قوة ترتسم فيها تلك الصور حال المشاهدة ، وكذا النائم يشاهد صورا لا تحقق لها في الخارج والسبب فيه

١٩٩

ما ذكرناه وقد بينا أن تلك القوة لا يجوز أن تكون هي النفس فلا بد من قوة جسمانية ترتسم فيها هذه الصور.

قال : والخيال لوجوب المغايرة بين القابل والحافظ.

أقول : هذه القوة الثانية المسماة بالخيال وهي خزانة الحس المشترك الحافظة لما يزول عنه بعد غيبوبة الصور التي باعتبارها تحكم النفس بأن ما شوهد ثانيا هو الذي شوهد أولا واستدلوا على مغايرتها الحس المشترك بأن هذه القوة حافظة والحس المشترك قابل والحافظ مغاير للقابل لامتناع صدور الأثرين عن علة واحدة ، ولأن الماء فيه قوة القبول وليس فيه قوة الحفظ فدل على المغايرة وهذا كلام ضعيف بينا ضعفه في كتاب الأسرار.

قال : والوهم المدرك للمعاني الجزئية.

أقول : هذه القوة الثالثة المدركة للمعاني الجزئية وتسمى الوهم وهي مغايرة للنفس الناطقة لما تقدم من أن النفس لا تدرك الجزئيات لذاتها وأشار إليه بقوله الجزئية ، وللحس المشترك لأن هذه القوة تدرك المعاني والحس يدرك الصور المحسوسة وأشار إليه بقوله للمعاني ، وللخيال لأن الخيال شأنه الحفظ والوهم شأنه الإدراك فتغايرا كما قلنا في الحس والخيال وأشار إليه بقوله المدرك.

قال : والحافظة.

أقول : هذه القوة الرابعة المسماة بالحافظة وهي خزانة الوهم ودليل إثباتها كما قلناه في الخيال سواء. وهذه تسمى المتذكرة باعتبار قوتها على استعادة الغائبات ولهم خلاف في أن المتذكرة هي الحافظة أو غيرها.

قال : والمتخيلة المركبة للصور والمعاني بعضها مع بعض.

أقول : هذه القوة الخامسة المسماة بالمتخيلة باعتبار استعمال الحس لها والمتفكرة

٢٠٠