كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

المسألة السابعة

في نسبة العلة إلى المعلول

قال : وتجب المخالفة بين العلة والمعلول إن كان المعلول محتاجا لذاته إلى تلك العلة وإلا فلا.

أقول : العلة إن كان معلولها محتاجا لماهيته إليها وجب كونها مخالفة لها لاستحالة تأثير الشيء في نفسه وإن كانت علة لشخصيتها كتعليل إحدى النارين بالأخرى فإن المعلول لا يجب أن يكون مخالفا للعلة في الماهية ولا يكون أقوى منها ولا يساويها عند فوات شرط أو حضور مانع ويساويها لا مع ذلك والإحساس بسخونة الأجسام الذائبة أشد من سخونة النار لعدم الانفصال بسرعة للزوجته ولبطء حركة اليد فيه لغلظه.

المسألة الثامنة

في أن مصاحب العلة ليس بعلة وكذا مصاحب المعلول ليس معلولا

قال : ولا يجب صدق إحدى النسبتين على المصاحب.

أقول : يعني به أن نسبة العلية لا يجب صدقها على ما يصاحب العلة ويلازمها فإن مع العلة شرائط كثيرة ولوازم لا مدخل لها في العلية كحمرة النار فإنها لا تأثير لها في الإحراق وكذا ما يصاحب المعلول ويلازمه لا يجب صدق نسبة المعلولية عليه قال الشيخ أبو علي ابن سينا إن الفلك الحاوي يصاحب علة المحوي ولا يجب أن يكون متقدما بالعلية على المحوي لأجل مصاحبته لعلة المحوي فقد جعل ما مع القبل ليس قبلا ثم قال وجود الخلاء وعدم المحوي متقارنان فلو كان الحاوي علة للمحوي لكان متقدما عليه فيكون متقدما على ما يصاحبه أعني عدم الخلاء فيكون عدم الخلاء متأخرا عنه من حيث إنه مصاحب للمتأخر وهذا يدل على أن ما مع البعد يجب أن يكون بعدا فتوهم بعضهم أن الشيخ

١٢١

أوجب أن يكون ما مع البعد بعدا من حيث المعية والبعدية ولم يوجب أن يكون ما مع القبل قبلا وهذا فاسد لأنه لا فرق بين ما مع القبل وما مع البعد من حيث البعدية والمعية والقبلية والشيخ حكم في هذه الصورة الخاصة وكل ما يساويها بأن ما مع البعد يجب أن يكون بعدا لتحقق الملازمة الطبيعية بين عدم الخلاء ووجود المحوي بخلاف العقل والفلك المتباينين بالذات والاعتبار.

المسألة التاسعة

في أن العناصر ليست عللا ذاتية بعضها لبعض

قال : وليس الشخص من العنصريات علة ذاتية لشخص آخر منها وإلا لم تتناه الأشخاص ، ولاستغنائه عنه بغيره.

أقول : الشخص من العناصر كهذه النار مثلا ليس علة ذاتية لشخص آخر منها أي يكون علة لوجوده وإلا لوجدت أشخاص لا تتناهى دفعة واحدة لأن العلل الذاتية تصاحب المعلولات.

وأيضا فإن الشخص من العناصر يستغني عن الشخص الآخر بغيره إذ ليس شخص ما من أشخاص النار مثلا أولى بأن يكون علة لشخص آخر من بقية أشخاص النوع بل الشخص الذي هو معلول سبيله سبيل سائر الأشخاص في أن الشخص الذي هو العلة ليس هو أولى بالعلية من الشخص الذي هو معلوله وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علة بالذات فهو إذن علة بالعرض بمعنى أنه معد.

قال : ولعدم تقدمه.

أقول : هذا وجه ثالث على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر وتقريره أن العلة متقدمة على المعلول بالذات والشخصان إذا كانا من نوع واحد استحال تقدم أحدهما على الآخر تقدما ذاتيا لأن التقدم الذاتي ما يبقى للعلة مع وجود المعلول لأنه مقوم لها والتقدم

١٢٢

بالزمان يبطل مع وجود المعلول لأنهما إذا اجتمعا في زمان واحد فقد عدم تقدم ما فرض علة.

قال : ولتكافئهما.

أقول : هذا دليل رابع وتقريره أن الماء والنار مثلا متكافئان في أنه ليس النار أولى بأن تكون علة للماء من العكس والمتكافئان لا يصح أن يكون أحدهما علة للآخر.

قال : ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه.

أقول : هذا دليل خامس وتقريره أن ما يفرض علة من شخصيات النار فقد يعدم وما يفرض معلولا يكون باقيا بعده ويستحيل بقاء المعلول بعد علته الذاتية وبالعكس قد يعدم ما يفرض معلولا وما يفرض علة يكون باقيا بعده ويستحيل بقاء العلة منفكة عن المعلول.

المسألة العاشرة

في كيفية صدور الأفعال منا

قال : والفاعل منا يفتقر إلى تصور جزئي ليتخصص الفعل ثم شوق ثم إرادة ثم حركة من العضلات ليقع منا الفعل.

أقول : القوة البشرية إنما تفعل أثرها مع شعور وإدراك على الوجه النافع علما أو ظنا فافتقر الفعل الصادر عنها إلى مباد أربعة تصور لذلك الفعل جزئي فإن التصور الكلي لا يكون سببا لفعل جزئي لأن نسبة كل كلي إلى جزئياته واحدة فإما أن يقع كلها وهو محال أو لا يقع شيء منها وهو المطلوب فلا بد من تصور جزئي يتخصص به الفعل فيصير جزئيا فإذا حصل التصور بالنفع الحاصل من الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله فحصلت الإرادة الجازمة بعد التردد فتحركت العضلات إلى الفعل فوجد.

١٢٣

قال : والحركة إلى مكان تتبع إرادة بحسبها ، وجزئيات تلك الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية فيكون السابق من هذه علة للسابق من تلك ، المعدة لحصول أخرى فتتصل الإرادات في النفس والحركات في المسافة إلى آخرهما.

أقول : الفاعل منا لحركة ما من الحركات إنما يفعلها بواسطة القصد والإرادة المتعلقة بتلك المسافة فتلك الحركة تتبع إرادة بحسبها يعني الحركة إلى مكان مفروض تتبع إرادة متعلقة بالحركة إلى ذلك المخصوص وكل حركة فعلى مسافة منقسمة تكون الحركة في كل مسافة من تلك المسافات جزءا من الحركة الأولى وكل جزء من تلك الأجزاء يتبع تخيلا خاصا وإرادة جزئية متعلقة به فإذا تعلقت الإرادة بإيجاد الجزء الأول من الحركة ثم وجد الجزء الأول كان وصول الجسم إلى ذلك الجزء مع الإرادة الكلية المتعلقة بكمال الحركة علة لتجدد إرادة أخرى تتعلق بجزء آخر فإذا وجدت تلك الإرادة تعلقت بذلك الجزء فيتحرك الجسم وعلى هذا تتصل التخيلات والإرادات في النفس والحركة في الخارج فتكون كل حركة جزئية علة لإرادة خاصة وكل إرادة خاصة علة لحركة جزئية من غير دور

المسألة الحادية عشرة

في أن القوى الجسمانية إنما تؤثر بمشاركة الوضع

قال : ويشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع.

أقول : يشترط في صدق التأثير أعني صدق كون الشيء علة على المقارن أعني الصور والأعراض ، الوضع أعني الإشارة الحسية وهو كونه بحيث يشار إليه أنه هنا أو هناك وذلك لأن القوى الجسمانية أعني الصور والأعراض المؤثرة إنما تؤثر بواسطة الوضع على معنى أنها تؤثر في محلها أولا ثم فيما يجاور محلها بواسطة تأثيرها في محلها ثم فيما يجاور ذلك المجاور بواسطة المجاور وهكذا إنما تؤثر في البعيد بواسطة تأثيرها في القريب فإن النار لا تسخن كل شيء بل مادتها أولا ثم ما يجاورها وهذا الحكم بين لا يحتاج إلى برهان.

١٢٤

المسألة الثانية عشرة

في تناهي القوى الجسمانية

قال : والتناهي بحسب المدة والعدة والشدة التي باعتبارها يصدق التناهي وعدمه الخاص على المؤثر.

أقول : قوله والتناهي عطف على الوضع أي يشترط في صدق التأثير على المقارن أعني الصور والأعراض ، التناهي لأنه لا يمكن وجود قوة جسمانية تقوى على ما لا يتناهى.

وقبل الخوض في الدليل مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه للقوى واعلم أن التناهي وعدمه الخاص به أعني عدم الملكة وهو عدم التناهي عما من شأنه أن يكون متناهيا إنما يعرضان بالذات للكم أما المتصل كتناهي المقدار ولا تناهيه ، أو المنفصل كتناهي العدد ولا تناهيه ويعرضان لغيره بواسطته كالجسم ذي المقدار والعلل ذوات العدد فإن عروض التناهي وعدمه لهما ظاهر وأما ما يتعلق به شيء ذو مقدار أو عدد كالقوى التي يصدر عنها عمل متصل في زمان أو أعمال متوالية ففرض النهاية واللانهاية فيه يكون بحسب مقدار ذلك العمل أو عدد تلك الأعمال والذي بحسب مقدار ذلك العمل يكون إما مع وحدة العمل واتصال زمانه أو مع فرض الاتصال في العمل نفسه من غير نظر إلى وحدته أو كثرته فأصناف القوى ثلاثة.

الأول : قوى يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة محدودة في أزمنة مختلفة وهاهنا الشدة بحسب قلة الزمان فيكون ما لا يتناهى في الشدة واقعا لا في زمان وإلا لكان الواقع في نصفه أشد مما لا يتناهى في الشدة وهذه قوة بحسب الشدة.

والثاني : قوى يفرض صدور عمل ما منها على الاتصال في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء وهاهنا تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقل فيقع عمل غير المتناهية في زمان غير متناه وهذه قوة بحسب المدة.

١٢٥

والثالث : قوى يفرض صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم ولا محالة تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقل وهاهنا يقع لغير المتناهية عمل غير متناهي العدد وهذه قوة بحسب العدة. فقد ظهر من هذا أن التناهي وعدمه الخاص به إنما صدقا على المؤثر بأحد الاعتبارات الثلاثة.

قال : لأن القسري يختلف باختلاف القابل ومع اتحاد المبدإ يتفاوت مقابله.

أقول : لما مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه في القوى شرع في الدليل على مطلوبه الأول أعني وجوب تناهي تأثير القوى الجسمانية.

وتقريره أن القوى الجسمانية إما أن تكون قسرية أو طبيعية وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما.

أما الأول فلأن صدور ما لا يتناهى بحسب الشدة من الحركات عن القوتين محال لما مر ، وأما بحسب المدة أو العدة فلأنا لو فرضنا جسما متناهيا يحرك جسما آخر متناهيا من مبدإ مفروض حركات لا تتناهى بحسب المدة أو العدة ثم حرك بتلك القوة جسما أصغر من ذلك الجسم من ذلك المبدإ فإن تحريكه للأصغر أكثر من تحريكه للأكبر لقلة المعاوقة هنا ولكن المبدأ واحد فالتفاوت في الطرف الآخر فيجب تناهي الناقص مع فرض عدم تناهيه هذا خلف.

وهاهنا سؤال صعب وهو أن التفاوت في التحريكين جاز أن يكون بحسب الشدة ، وأجاب المصنف قدس الله روحه عن هذا السؤال في شرحه للإشارات بأن المراد بالقوة هاهنا هي التي لا نهاية لها بحسب المدة أو العدة لا الشدة.

وفيه نظر لأن أخذ القوة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث.

وأورد بعض تلامذة أبي علي عليه أنه لا وجود للحركات دفعة فلا يجوز الحكم عليها بالزيادة فضلا عن كون الزيادة مقتضية لتناهيها كما قاله الشيخ اعتراضا على المتكلمين حيث حكموا بتناهي الحوادث لازديادها كل يوم.

وأجاب الشيخ عنه بالفرق فإن الحوادث ليس لها كل موجود حتى يحكم عليها بالتناهي وعدمه ، والزيادة والنقصان بخلاف القوة هاهنا فإنها موجودة يحكم عليها بكونها

١٢٦

قوية على تحريك الكل أو البعض ولا شك في أن كون القوة قوية على تحريك الكل أعظم من كونها قوية على تحريك الجزء فأمكن الحكم بالتناهي هاهنا لوجود المحكوم عليه وتحققه بخلاف الحوادث.

وللسائل أن يعود فيقول التفاوت في القوة إنما هو باعتبار التفاوت في المقوي عليه أعني الحركات فإذا لم يكن الحكم على الحركات بالزيادة والنقصان لم يكن الحكم على القوة بالتفاوت.

قال : والطبيعي يختلف باختلاف الفاعل لتساوي الصغير والكبير في القبول ، فإذا تحركا مع اتحاد المبدإ عرض التناهي.

أقول : هذا بيان استحالة القسم الثاني وهو أن تكون القوة المؤثرة فيما لا يتناهى طبيعية وتقريره أنه يجب أن يكون قبول الجسم العظيم للتحريك عنها مثل قبول الصغير وإلا لكان التفاوت بسبب المانع وهو إما أن تكون الجسمية أو لوازمها أو أمرا طبيعيا والكل محال ، أو غريبا وقد فرضنا عدمه فلو حصل اختلاف لكان بسبب الفاعل فإن القوة في العظيم أكثر من القوة في الصغير لانقسام القوى الطبيعية بانقسام محالها فإذا حركت قوة الكل وقوة البعض جسميهما من مبدإ واحد مفروض فإن حركت الصغرى حركات غير متناهية كانت حركات الكبرى أكثر لأنها أعظم فتكون أقوى وإلا لكان حال الشيء مع غيره كحاله لا مع غيره هذا خلف فيقع التفاوت في الجانب الذي حكم فيه بعدم التناهي هذا خلف ، وإن تناهت حركات الأصغر تناهت حركات الأكبر لأن نسبة الأثر إلى الأثر كنسبة المؤثر إلى المؤثر وهذه نسبة متناه إلى متناه فكذا الأولى.

المسألة الثالثة عشرة

في العلة المادية

قال : والمحل المتقوم بالحال قابل له ومادة للمركب.

أقول : المحل إما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال ، وإلا لزم استغناء أحدهما عن

١٢٧

الآخر فلا حلول فالمحل المتقوم بالحال هو الهيولى والمقوم للحال هو الموضوع والهيولى باعتبار الحال تسمى قابلا ، وباعتبار المركب تسمى مادة.

قال : وقبوله ذاتي.

أقول : كون المادة قابلة أمر ذاتي لها لا غريب يعرض بواسطة الغير لأنه لو لا ذلك لكان عروض ذلك القبول في وقت حصوله يستدعي قبولا آخر ويلزم التسلسل وهو محال فهو إذن ذاتي يعرض للمادة لذاتها.

قال : وقد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكتسبها باعتبار الحال فيه.

أقول : لما ذكر أن قبول المادة لما يحل فيها ذاتي استشعر أن يعترض عليه بما يظن أنه مناقض له وهو أن يقال إن المادة قد تقبل شيئا ولا تقبل آخر ثم يعرض لها قبول الآخر ويزول عنها القبول الأول وهذا يعطي أن القبول من الأمور العارضة الحاصلة بسبب الغير لا من الأمور الذاتية اللازمة لها لذاتها.

وتحقيق الجواب أن نقول إن القبول ثابت في كلتا الحالتين لكن القبول منه قريب ومنه بعيد فإن قبول النطفة للصورة الإنسانية بعيد ، وقبول الجنين قريب فإذا حصل القرب بالنظر إلى عرض من الأعراض نسب القبول إليه وعدمه عن غيره وفي الحقيقة إنما حصل قرب القبول بعد بعده وسبب القرب والبعد هو الأعراض والصور الحالة في المادة فإن الحرارة إذا حلت المادة واشتدت أعدتها لقرب قبول الصورة النارية وخلع غيرها.

المسألة الرابعة عشرة

في العلة الصورية

قال : وهذا الحال صورة للمركب وجزء فاعل لمحله.

أقول : هذا الحال يعني به الحال في المادة وهو صورة للمركب لا للمادة لأنه بالنظر

١٢٨

إلى المادة جزء فاعل لأن الفاعل في المادة هو المبدأ الفياض بواسطة الصورة المطلقة.

قال : وهو واحد.

أقول : ذكر الأوائل أن الصورة المقومة للمادة لا تكون فوق واحدة لأن الواحدة إن استقلت بالتقويم استغنت المادة عن الأخرى وإن لم تستقل كان المجموع هو الصورة وهو واحد فالصورة واحدة.

المسألة الخامسة عشرة

في العلة الغائية

قال : والغاية علة بماهيتها لعلية العلة الفاعلية ، معلولة في وجودها للمعلول.

أقول : الغاية لها اعتباران يحصل لها باعتبارهما التقدم والتأخر بالنسبة إلى المعلول وذلك لأن الفاعل إذا تصور الغاية فعل الفعل ثم حصلت الغاية بحصول الفعل فماهية الغاية علة لعلية الفاعل إذ لو لا تلك الماهية وحصولها في علم الفاعل لما أثر ولا فعل الفعل فإن الفاعل للبيت يتصور الاستكنان أولا فيتحرك إلى إيجاد البيت ثم يوجد الاستكنان بحصول البيت فماهية الاستكنان علة لعلية الفاعل ووجوده معلول للبيت ولا امتناع في أن يكون الشيء الواحد متقدما ومتأخرا باعتبارين.

قال : وهي ثابتة لكل قاصد.

أقول : كل فاعل بالقصد والإرادة فإنه إنما يفعل لغرض ما وغاية ما وإلا لكان عابثا على أن البعث لا يخلو عن غاية أما الحركات الأسطقسية فقد أثبت الأوائل لها غايات لأن الحبة من البر إذا رميت في الأرض الطيبة وصادفها الماء وحر الشمس فإنها تنبت سنبلة وهذه التأدية على سبيل الدوام أو الكثرة فيكون ذلك غاية طبيعية ومنع ذلك جماعة لعدم الشعور في الطبيعة فلا يعقل لها غاية وأجابوا بأن الشعور يفيد تعيين الغاية لا تحصيلها.

١٢٩

قال : أما القوة الحيوانية المحركة فغايتها الوصول إلى المنتهى وهو قد يكون غاية الشوقية وقد لا يكون فإن لم تحصل فالحركة باطلة وإلا فهو إما خير أو عادة أو قصد ضروري أو عبث وجزاف.

أقول : القوة الحيوانية لها مباد على ما تقدم : أحدها القوة المحركة المنبثة في العضلات ، وثانيها القوة الشوقية ، وثالثها التخيل أو الفكر. وغاية القوة المحركة إنما هي الوصول إلى المنتهى وقد تكون هي بعينها غاية القوة الشوقية كمن طلب مفارقة مكانه والحصول في آخر لإزالة ضجره ، وقد تكون غيرها كمن يطلب غريما في موضع معين ، وفي هذا القسم إن لم تحصل غاية القوة الشوقية سميت الحركة باطلة بالنسبة إليها ، وإن حصلت الغايتان وكان المبدأ التخيل لا غير فهو الجزاف والعبث. وإن كان مع طبيعة كالتنفس فهو القصد الضروري ، وإن كان مع خلق وملكة نفسانية فهو العادة ، وإن كان المبدأ الفكر فهو الخير المعلوم أو المظنون.

قال : وأثبتوا للطبيعيات غايات وكذا للاتفاقيات.

أقول : أما إثبات الغايات للحركات الطبيعية فقد تقدم البحث فيه وأما العلل الاتفاقية فقد نفاها قوم لأن السبب إن استجمع جهات المؤثرية لزم حصول مسببه قطعا وإلا كان منتفيا فلا مدخل للاتفاق.

والجواب أن المؤثر قد يتوقف تأثيره على أمور خارجة عن ذاته غير دائمة الحصول معه فيقال لمثل ذلك السبب من دون الشرائط إنه اتفاقي إذا كان انفكاكه مساويا أو راجحا ولو أخذناه مع تلك الشرائط كان سببا ذاتيا.

المسألة السادسة عشرة

في أقسام العلة

قال : والعلة مطلقا قد تكون بسيطة وقد تكون مركبة.

أقول : يعني بالإطلاق ما يشتمل العلل الأربع أعني المادية والصورية والفاعلية

١٣٠

والغائية فإن كل واحدة من هذه الأربع تنقسم هذه الأقسام فالعلة الفاعلية عند المحققين قد تكون بسيطة كتحريك الواحد منا جسما ما ، وقد تكون مركبة كتحريك جماعة جسما أكبر.

ومنع بعض الناس من التركيب في العلل وإلا لزم نفيها لأن كل مركب فإن عدم كل جزء من أجزائه علة مستقلة في عدمه فلو عدم جزء من العلة المركبة لزم عدم العلة فإذا عدم جزء ثان لم يكن له تأثير البتة لتحقق العدم بالجزء الأول ، ولأن الموصوف بالعلة إما كل واحد من أجزائه فيلزم تعدد العلل وانتفاء التركيب وهو المطلوب أو بعضها وهو المطلوب أيضا مع انتفاء الأولوية ، أو المجموع وهو باطل لأن كل جزء لم يكن علة فعند الاجتماع إن لم يحصل أمر لم يكن المجموع علة وإن حصل عاد الكلام في علة حصوله.

وهذان ضعيفان لاقتضائهما انتفاء المركبات سواء كانت عللا أم لا وهو باطل بالضرورة والمادة المركبة كالزاج والعفص في الحبر. والصورة المركبة كالإنسانية المركبة من أشكال مختلفة. والغاية المركبة كالحركة لشراء المتاع ولقاء الحبيب.

قال : وأيضا بالقوة أو بالفعل.

أقول : هذه المبادئ الأربعة قد تكون بالقوة فإن الخمر فاعل للإسكار في الدن بالقوة ، وقد تكون بالفعل كالخمر مع الشرب.

والمادة قد تكون بالفعل كالجنين للإنسانية وقد تكون بالقوة كالنطفة.

والصورة بالقوة كالمائية الحالة في الهواء بالقوة وقد تكون بالفعل كالمائية الحالة في مادتها.

والغاية بالقوة هي التي يمكن جعلها كذلك وبالفعل هي التي حصل منها ذلك.

قال : وكلية أو جزئية.

أقول : هذه العلل قد تكون كلية كالبناء مطلقا وقد تكون جزئية كهذا البناء وكذلك البواقي.

١٣١

قال : وذاتية أو عرضية.

أقول : العلة قد تكون ذاتية وهي التي يستند المعلول إليها بالحقيقة كالنارية في الإحراق ، وقد تكون عرضية وهي أن تقتضي العلة شيئا ويتبع ذلك الشيء شيء آخر كقولنا السقمونيا مبرد فإنه بالعرض كذلك لأنه يقتضي بالذات إزالة السخونة ويتبعها حصول البرودة.

وكذلك البواقي فإن المادة الذاتية هي محل الصورة والعرضية هي تلك مأخوذة مع عوارض خارجة ، والصورة الذاتية هي المقومة كالإنسانية والعرضية هي ما يلحقها من الأعراض اللازمة أو المفارقة ، والغاية الذاتية هي المطلوبة لذاتها والعرضية هي ما يتبع المطلوب. وقد تطلق العلة العرضية على ما مع العلة.

قال : وعامة أو خاصة.

أقول : العلة العامة هي التي تكون جنسا للعلة الحقيقة كالصانع في البناء والخاصة كالباني فيه ولا يتحقق العموم والخصوص في الصور.

قال : وقريبة أو بعيدة.

أقول : العلة القريبة هي التي لا واسطة بينها وبين المعلول كالميل في الحركة ، والبعيدة هي علة العلة كالقوة الشوقية وكذا البواقي.

قال : ومشتركة أو خاصة.

أقول : المشتركة كالنجار لأبواب متعددة والخاصة كالنجار لهذا الباب.

قال : والعدم للحادث من المبادئ العرضية.

أقول : الحادث هو الموجود بعد أن لم يكن وهو إنما يتحقق بعد سبق عدم علته فلما

١٣٢

توقف تحققه على العدم السابق أطلقوا على العدم اسم المبدإ بالعرض ومبدؤه بالذات هو الفاعل لا غير.

قال : والفاعل في الطرفين واحد.

أقول : الفاعل في الوجود هو بعينه الفاعل في العدم على ما بينا أولا من أن علة العدم هي عدم العلة لا غير والمؤثر في طرفي المعلول هو العلة لا غير لكن مع حضورها تقتضي الوجود ومع عدمها تقتضي العدم.

قال : والموضوع كالمادة.

أقول : الموضوع أيضا من العلل التي يتوقف وجود الحال عليها ونسبته إلى الحال نسبة المادة إلى الصورة فهو من جملة العلل.

المسألة السابعة عشرة

في أن افتقار المعلول إنما هو في الوجود أو العدم

قال : وافتقار الأثر إنما هو في أحد طرفيه.

أقول : الأثر له ماهية وله وجود وعدم ، وافتقاره إلى المؤثر إنما هو في أن يجعله موجودا أو معدوما إذ التأثير إنما يعقل في أحد الطرفين أما الماهية فلا يعقل التأثير فيها فليس السواد سوادا بالفاعل بل وجوده وعدمه بالفاعل.

قال : وأسباب الماهية غير أسباب الوجود.

أقول : أسباب الماهية باعتبار الوجود الذهني هي الجنس والفصل وباعتبار الخارج هي المادة والصورة وأسباب الوجود هي الفاعل والغاية.

١٣٣

قال : ولا بد للعدم من سبب وكذا في الحركة.

أقول : قد بينا أن نسبة طرفي الوجود والعدم إلى الممكن واحدة فلا يعقل اتصافه بأحدهما إلا بسبب فكما افتقر الممكن في وجوده إلى السبب افتقر في عدمه إليه وإلا لكان ممتنع الوجود لذاته.

لا يقال : الموجود منه ما هو باق ومنه ما هو غير باق كالحركات والأصوات والأول يفتقر عدمه إلى السبب أما النوع الثاني فإنه يعدم لذاته.

لأنا نقول : يستحيل أن يكون العدم ذاتيا لشيء وإلا لم يوجد والحركة لها علة في الوجود فإذا عدمت أو عدم أحد شروطها عدمت وكذا الأصوات فلا فرق بين الحركات وغيرها.

قال : ومن العلل المعدة ما يؤدي إلى مثل أو خلاف أو ضد.

أقول : العلل تنقسم إلى المعد وإلى المؤثر ، والمعد يعني به ما يقرب العلة إلى معلولها بعد بعدها عنه وهو قريب من الشرط.

والعلة المعدة إما أن تؤدي إلى ما يماثلها كالحركة إلى المنتصف فإنها معدة للحركة إلى المنتهى وليست فاعلة لها بل الفاعل للحركة إما الطبيعة أو النفس لكن فعل كل واحد منهما في الحركة إلى المنتهى بعيد وعند حصول الحركة إلى المنتصف يقرب تأثير أحدهما في المعلول الذي هو الحركة إلى المنتهى ، وإما أن تؤدي إلى خلافها كالحركة المعدة للسخونة ، وإما أن تؤدي إلى ضد كالحركة المعدة للسكون عند الوصول إلى المنتهى.

قال : والإعداد قريب وبعيد.

أقول : الإعداد منه ما هو قريب وذلك كالجنين المستعد لقبول الصورة الإنسانية ، ومنه ما هو بعيد كالنطفة لقبولها وكذلك العلة المعدة قد تكون قريبة وهي التي يحصل المعلول عقيبها وقد تكون بعيدة وهي التي لا تكون كذلك وتتفاوت العلل في القرب والبعد على حسب تفاوت الإعداد وهو قابل للشدة والضعف.

١٣٤

قال : ومن العلل العرضية ما هو معد.

أقول : قد بينا أن العلة العرضية تقال باعتبارين : أحدهما أن تؤثر العلة شيئا ويتبع ذلك الشيء شيء آخر كقولنا الحرارة تقتضي الجمع بين المتماثلات فإنها لذاتها تقتضي الخفة فما هو أخف في المركب يقبل السخونة أشد فينفصل عن صاحبه ويطلب الصعود فيعرض له أن يجتمع مع مماثله ، والثاني أن يكون للعلة وصف ملازم فيقال له علة عرضية والأول علة معدة.

قال :

١٣٥
١٣٦

المقصد الثاني في :

الجواهر والأعراض

وفيه

فصول

١٣٧

الأول

في الجواهر

الممكن إما أن يكون موجودا في الموضوع وهو العرض أو لا وهو الجوهر.

أقول : لما فرغ من البحث عن الأمور الكلية المعقولة شرع في البحث عن الموجودات الممكنة وهي الجواهر والأعراض وفي هذا الفصل مسائل :

المسألة الأولى

في قسمة الممكنات بقول كلي :

كل ممكن موجود إما أن يكون موجودا لا في موضوع وهو الجوهر ، وإما أن يكون موجودا في موضوع وهو العرض ونعني بالموضوع المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه فإن المحل إما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال إذ لا بد من حاجة أحدهما إلى الآخر فالأول يسمى المادة والثاني يسمى الموضوع والحال في الأول يسمى صورة وفي الثاني يسمى عرضا فالموضوع والمادة يشتركان اشتراك أخصين تحت أعم واحد هو المحل ، والصورة والعرض يشتركان اشتراك أخصين تحت أعم واحد هو الحال. والموضوع أخص من المحل ، وعدم الخاص أعم من عدم العام فكل ما ليس في محل فهو ليس في موضوع ولا ينعكس ولهذا جاز أن يكون بعض الجواهر حالا في غيره ولما كان تعريف العرض يشتمل على القيد الثبوتي قدمه في القسمة على الجوهر.

١٣٨

قال : وهو إما مفارق في ذاته وفعله وهو العقل ، أو في ذاته وهو النفس ، أو مقارن فإما أن يكون محلا وهو المادة ، أو حالا وهو الصورة ، أو ما يتركب منهما وهو الجسم.

أقول : هذه قسمة الجوهر إلى أنواعه فإن الجوهر إما أن يكون مفارقا في ذاته وفعله للمادة وهو المسمى بالعقل ، أو مفارقا في ذاته لا فعله وهو النفس الناطقة فإنها مفارقة للمادة في ذاتها ووجودها دون فعلها لاحتياجها إلى الآلة في التأثير ولا يمكن أن يكون مفارقا في فعله دون ذاته لأن الاستغناء في التأثير يستدعي الاستغناء في الذات ، وإما أن يكون مقارنا للمادة فإما يكون محلا وهو الهيولى ، أو حالا وهو الصورة ، أو ما يتركب منهما وهو الجسم فهذه أقسام الجواهر.

قال : والموضوع والمحل يتعاكسان وجودا وعدما في العموم والخصوص وكذا الحال والعرض.

أقول : قد بينا أن الموضوع أخص من المحل فعدمه يكون أعم من عدم المحل فقد تعاكس الموضوع والمحل في العموم والخصوص باعتبار الوجود والعدم ، وكذا الحال والعرض فإن العرض أخص من الحال فعدمه أعم.

قال : وبين الموضوع والعرض مباينة.

أقول : الموضوع هو المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه والعرض لا يتقوم بذاته فبينهما مباينة.

قال : ويصدق العرض على المحل والحال جزئيا :

أقول : المحل قد يكون جوهرا وهو ظاهر وقد يكون عرضا على خلاف بين الناس فيه فيصدق بعض المحل عرض. والحال أيضا قد يكون جوهرا كالصورة الحالة في المادة ، وقد يكون عرضا وهو ظاهر فيصدق بعض الحال عرض فقد ظهر صدق العرض على المحل والحال جزئيا.

١٣٩

المسألة الثانية

في أن الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما

قال : والجوهرية والعرضية من ثواني المعقولات لتوقف نسبة إحداهما على وسط.

أقول : اتفق العقلاء على أن العرض من حيث هذا المفهوم ليس جنسا لما تحته بل هو أمر عرضي ، واختلفوا في الجوهر هل هو جنس لما تحته أو عارض والذي اختاره المصنف ـ رحمه‌الله ـ أنه عارض وجعل الجوهرية والعرضية من المعقولات الثانية فإن كون الذات مستغنية عن المحل أو محتاجة إليه أمر زائد على نفس الذات من الأمور الاعتبارية وحكم من أحكامها الذهنية واستدل عليه بأن الذهن يتوقف في نسبة إحداهما إلى الذات على وسط ولهذا احتجنا إلى الاستدلال على عرضية الكميات والكيفيات وجوهرية النفوس وأشباه ذلك وجنس الشيء لا يجوز أن يتوقف ثبوته له على البرهان وهذا الذي ذكره ـ رحمه‌الله ـ يدل على الزيادة لا على كونه من المعقولات الثانية.

قال : واختلاف الأنواع بالأولوية.

أقول : هذا دليل ثان على كون الجوهر عرضا عاما لجزئياته لا جنسا لها وذلك لأن بعض الجزئيات أولى بالجوهرية من بعض فإن الشخصيات أولى بالجوهرية من الكليات ولا تفاوت في الأجناس. وهو أيضا يدل على كون العرض عرضيا لوقوع التفاوت فيه بين جزئياته فإن الأعراض القارة أولى بالعرضية من غيرها.

قال : والمعقول اشتراكه عرضي.

أقول : إنا نعقل بين الجسم والعقل والنفس والمادة والصورة أمرا مشتركا هو الاستغناء عن المحل ولا نعقل بينها اشتراكا في غيره وهذا القدر أمر عرضي فالجوهرية إن جعلت عبارة عن هذا الاعتبار كانت عرضا عاما ، وإن جعلت عبارة عن الماهية المقتضية

١٤٠