كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤٦

الكثرة فالكثرة إن كانت عدمية كانت الوحدة عدما للعدم فتكون ثبوتية ، وإن كانت وجودية كان مجموع العدمات أمرا وجوديا وهو محال ، وإن كانت ثبوتية فإن كانت ثابتة في الخارج لزم التسلسل وإن كانت ثابتة في الذهن فهو المطلوب فإذن الوحدة أمر عقلي اعتباري يحصل في العقل عند فرض عدم انقسام الملحوق وهي من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى وكذا الكثرة لأنه لا يمكن أن تتصور وحدة أو كثرة قائمة بنفسها بل إنما تتصور عارضة لغيرها.

المسألة التاسعة

في التقابل بين الوحدة والكثرة

قال : وتقابلهما لإضافة العلية والمعلولية والمكيالية والمكيلية لا لتقابل جوهري بينهما.

أقول : إن الوحدة وإن كانت تعرض لجميع الأشياء حتى الكثرة نفسها لكنها لا تجامع الكثرة في موضوع واحد بالقياس إلى شيء واحد فإن موضوع الكثرة من حيث صدق الكثرة عليه لا يمكن صدق الوحدة عليه فبينهما تقابل قطعا.

إذا عرفت هذا فنقول إنك ستعلم أن أصناف التقابل أربعة إما تقابل السلب والإيجاب أو العدم والملكة أو التضايف والتضاد وليس بين الوحدة والكثرة تقابل جوهري أي ذاتي يستند إلى ذاتيهما بوجه من الوجوه الأربعة لأن الوحدة مقومة للكثرة ومبدأ لها وهما ثبوتيتان فليستا بسلب وإيجاب ، ولا عدم وملكة ، ولا متضايفتين لأن المقوم متقدم والمضايف مصاحب ، ولا متضادتين لامتناع تقوم أحد الضدين بالآخر فلم يبق بينهما إلا تقابل عرضي وهو باعتبار عروض العلية والمعلولية والمكيالية والمكيلية العارضتين لهما فإن الوحدة علة للكثرة ومكيال لها والكثرة معلولة ومكيلة فبينهما هذا النوع من التضايف فكان التقابل عرضيا لا ذاتيا.

١٠١

المسألة العاشرة

في أقسام الواحد

قال : ثم معروضهما قد يكون واحدا فله جهتان بالضرورة فجهة الوحدة إن لم تقوم جهة الكثرة ولا تعرض لها فالوحدة عرضية ، وإن عرضت كانت موضوعا أو محمولات عارضة لموضوع أو بالعكس ، وإن قومت فوحدة جنسية أو نوعية أو فصلية ، وقد يتغاير فموضوع مجرد عدم الانقسام لا غير وحدة بقول مطلق وإلا نقطة إن كان له مفهوم زائد ذو وضع ، أو مفارق إن لم يكن ذا وضع ، هذا إن لم يقبل القسمة وإلا فهو مقدار أو جسم بسيط أو مركب.

أقول : قد بينا أن الوحدة والكثرة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى إذا عرفت هذا فموضوعهما أعني المعروض إما أن يكون واحدا أو كثيرا فإن كان واحدا كانت جهة وحدته غير جهة كثرته بالضرورة لاستحالة كون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد واحدا وكثيرا وإذا ثبت أنه ذو جهتين فإما أن تكون جهة الوحدة مقومة لجهة الكثرة أو لا فإن لم تكن مقومة فإما أن تكون عارضة لها أو لا فإن لم تكن عارضة فهي الوحدة بالعرض كما تقول نسبة الملك إلى المدينة كنسبة الرائس إلى السفينة وكذلك حال النفس إلى البدن كحال الملك إلى المدينة فإنه ليس هناك نسبة واحدة ولا حالة واحدة بل هما نسبتان وحالتان فالوحدة بينهما عرضية.

وإن كانت الوحدة عارضة للكثرة فأقسامه ثلاثة : أحدها أن تكون موضوعا كما تقول الإنسان هو الكاتب فإن جهة الوحدة هنا هي الإنسانية وهي موضوع. الثاني أن تكون محمولات عرضت لموضوع واحد كقولنا الكاتب هو الضاحك فإن جهة الوحدة ما هو موضوع لهما أعني الإنسان. الثالث أن تكون موضوعات لمحمول واحد كقولنا القطن هو الثلج فإن جهة الوحدة هي صفة لهما أعني البياض.

وأما إن كانت جهة الوحدة مقومة لجهة الكثرة فهي جنس إن كانت مقولة على كثرة مختلفة بالحقائق في جواب ما هو ، ونوع إن كانت الحقائق متفقة ، وفصل إن كانت

١٠٢

مقولة في جواب أي ما هو في جوهره.

وإن كان موضوعهما كثيرا أعني يكون موضوع الوحدة شخصا واحدا فإما أن يكون ذلك الموضوع هو موضوع مجرد عدم الانقسام لا غير أعني أن يكون وجود ذلك الشخص هو أنه شيء غير منقسم وليس له مفهوم وراء ذلك وهو الوحدة نفسها ، أو يكون له مفهوم آخر فإن كان ذا وضع فهو النقطة وإلا فهو العقل والنفس.

هذا إن لم يقبل القسمة وإن كان الموضوع للوحدة قابلا للقسمة فإما أن تكون أجزاؤه مساوية لكله أو لا والأول هو المقدار إن كان قبوله للانقسام لذاته وإلا فهو الجسم البسيط ، والثاني الأجسام المركبة.

قال : وبعض هذه أولى من بعض بالوحدة.

أقول : الواحد من المعاني المقول على ما تحته بالتشكيك فإن بعض أفراده أولى باسمه من بعض فإن نفس الوحدة الحقيقية أولى بالواحد من العرضية ، والواحد بالشخص أولى به من الواحد بالنوع ، وهو أولى به من الواحد بالجنس ، والوحدة من أقسام الواحد أولى به من غيرها وهذا ظاهر.

قال : والهو هو على هذا النحو.

أقول : الهو هو أن يكون للكثير من وجه وحدة من وجه فقياس الهو هو قياس الوحدة فكما يقال الوحدة إما في وصف عرضي أو ذاتي كذلك الهو هو وبالجملة أقسام الوحدة هي أقسام الهو هو لكن مع الكثرة فلا يعرض للشخص الواحد بخلاف الوحدة.

قال : والوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه.

أقول : الوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه فإن الوصف العرضي وهو المضاف إليه الوحدة إن كان كيفا سمي مشابهة ، وإن كان في الكم سمي مساواة ، وإن كان في الإضافة سمي مناسبة ، وإن كان في الخاصة سمي

١٠٣

مشاكلة ، وإن كان في اتحاد الأطراف سمي مطابقة ، وإن كان في اتحاد وضع الأجزاء سمي موازاة ، وباقي الأعراض ليس لها أسماء خاصة.

وأما الوصف الذاتي الذي تضاف إليه الوحدة أيضا إن كان في الجنس سمي مجانسة وإن كان في النوع سمي مماثلة.

قال : والاتحاد محال فالهوهو يستدعي جهتي تغاير واتحاد على ما سلف.

أقول : اتحاد الاثنين غير معقول لأنهما بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان وإن عدما فلا اتحاد وإن عدم أحدهما دون الآخر فلا اتحاد لاستحالة اتحاد المعدوم بالموجود وليس قولنا هو هو اتحادا مطلقا بل معناه أن الشيئين يتحدان من وجه ويتغايران من وجه بمعنى أن الشيء الذي يقال له أحدهما يقال له الآخر.

قال : والوحدة مبدأ العدد المتقوم بها لا غير.

أقول : هاهنا بحثان الأول الوحدة مبدأ العدد فإن العدد إنما يحصل منها ومن فرض غيرها من نوعها فإنك إذا عقلت وحدة مع وحدة عقلت اثنينية ، ونبه بهذا أيضا على أنها ليست عددا.

الثاني العدد إنما يتقوم بالوحدات لا غير فليست العشرة متقومة بخمسة وخمسة ولا بستة وأربعة ولا بسبعة وثلاثة ولا بثمانية واثنين بل بالواحد عشر مرات ، وكذلك كل عدد فإن قوامه من الوحدات التي تبلغ جملتها ذلك النوع وتكون كل واحدة من تلك الوحدات جزءا من ماهيته فإنه ليس تركب العشرة من الخمستين أولى من تركبها من الستة والأربعة وغيرها من أنواع الأعداد التي تحتها ، ولا يمكن أن يكون الكل مقوما لحصول الاكتفاء بنوع واحد من التركيب وإلى هذا أشار أرسطو بقوله لا تحسبن أن ستة ثلاثتان بل ستة مرة واحدة.

قال : وإذا أضيف إليها مثلها حصلت الاثنينية وهي نوع من العدد ثم تحصل أنواع لا

١٠٤

تتناهى بتزايد واحد واحد مختلفة الحقائق هي أنواع العدد.

أقول : إذا أضيف إلى الوحدة وحدة أخرى حصلت الاثنينية وهي نوع من العدد ـ وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الاثنين ليس من العدد لأنه الزوج الأول فلا يكون نوعا من العدد كالواحد الذي هو الفرد الأول. وهذا خطأ لأن خواص العدد موجودة فيه وتمثيله بالواحد لا يفيد اليقين ولا الظن ـ فإذا انضم إليهما واحد آخر حصلت الثلاثة وهي نوع آخر من العدد ، فإذا انضم آخر حصلت الأربعة وهي نوع آخر مخالف للأول وعلى هذا كلما زاد العدد واحدا حصل نوع آخر من العدد. وهذه الأعداد أنواع مختلفة في الحقيقة لاختلافها في لوازمها كالصمم والمنطقية وأشباههما ولما كان التزايد غير متناه بل كل مرتبة يفرضها العقل يمكنه أن يزيد عليها واحدا فيحصل عدد آخر مخالف لما تقدمه بالنوع كانت أنواع العدد غير متناهية.

قال : وكل واحد منها أمر اعتباري يحكم به العقل على الحقائق إذا انضم بعضها إلى بعض في العقل انضماما بحسبه.

أقول : كل واحد من أنواع العدد أمر اعتباري ليس بثابت في الأعيان بل في الأذهان يحكم به العقل على الحقائق كأفراد الإنسان أو الفرس أو الحجر أو غيرها إذا انضم بعض تلك الأفراد إلى البعض سواء اتحدت في الماهية أو اختلفت فيها بل يؤخذ مجرد الانضمام في العقل انضماما بحسب ذلك النوع من العدد فإنه إذا انضم واحد إلى واحد حصل اثنان ولو انضمت حقيقة مع حقيقة مع ثالثة حصلت الثلاثة وهكذا.

وإنما لم يكن العدد ثابتا في الخارج لأنه لو كان كذلك لكان عرضا قائما بالمحل لاستحالة جوهريته واستقلاله في القيام بنفسه لأنه لا يعقل إلا عارضا لغيره فذلك الغير أما أن تكون له وحدة باعتبارها يحل فيه العرض الواحد أو لا يكون فإن كان الأول فتلك الوحدة إن وجدت في الآحاد لزم قيام العرض الواحد بالمحال المتعددة ، وإن قام بكل واحد وحدة على حدته لم يكن لذلك المجموع وحدة باعتبارها يكون محلا للعدد وقد فرض خلافه ، وإن كان الثاني فالعدد إما أن يكون موجودا في كل واحد من الأجزاء أو في

١٠٥

أحدها وعلى التقديرين يكون الواحد عددا هذا خلف.

قال : والوحدة قد تعرض لذاتها ومقابلها وتنقطع بانقطاع الاعتبار.

أقول : قد بينا أن الوحدة والكثرة من ثواني المعقولات فالوحدة تعرض لكل شيء يفرض العقل فيه عدم الانقسام حتى أنها تعرض لنفس الوحدة فيقال وحدة واحدة لكن تنقطع بانقطاع الاعتبار وتعرض الوحدة أيضا لما يقابلها فيقال كثرة واحدة.

قال : وقد تعرض لها شركة فتتخصص بالمشهوري وكذا المقابل.

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أن الوحدة قد تعرض لها الشركة مع غيرها من الوحدات في مفهوم عدم الانقسام أعني مفهوم مطلق الوحدة وذلك إذا أخذت الوحدات متخصصة بموضوعاتها فإن وحدة زيد تشارك وحدة عمرو في مفهوم كونها وحدة وحينئذ تتخصص كل وحدة عن الأخرى بما تضاف إليه فإن وحدة زيد تتخصص عن وحدة عمرو بإضافتها إلى زيد وزيد هو المضاف المشهوري لأنه واحد بالوحدة والوحدة مضاف حقيقي فإن الوحدة وحدة للواحد والواحد واحد بالوحدة وذات الواحد مضاف مشهوري أعني ذات زيد وعمرو وغيرهما فإذا أخذت الوحدة مضافة إلى زيد تخصصت وامتازت عن وحدة عمرو.

وكذلك مقابل الوحدة أعني الكثرة فإن عشرية الأناسي مساوية لعشرية الأفراس في مفهوم العشرية والكثرة وإنما تتمايزان بالمضاف إليه أعني الأناسي والأفراس وهما المضافان المشهوريان.

وقد يمكن أن يفهم من هذا الكلام أن مجرد الوحدة أعني نفس عدم الانقسام أمر مشترك بين كل ما يطلق عليه الواحد فليس واحدا حقيقيا أما الذات التي يصدق عليها أنها واحدة أعني المشهوري فإنها ممتازة عن غيرها فهي أحق باسم الواحد فيخصص المشهوري بالواحد الحقيقي وكذا البحث في الكثرة والأول أنسب.

١٠٦

قال : وتضاف إلى موضوعها باعتبارين وإلى مقابلها بثالث وكذا المقابل.

أقول : أقرب ما يمكن أن يفسر به هذا الكلام أن الوحدة وحدة للواحد أعني الموضوع لها الذي تقوم الوحدة به فلها إضافة بهذا الاعتبار وهي عرض قائم بالموضوع فلها إضافة الحلول وهاتان إضافتان عرضتا لها بالنسبة إلى موضوعها وتعرض لها إضافة ثالثة بالنسبة إلى ما يقابلها أعني الكثرة وهي نسبة التقابل.

ومثل هذا النسب الثلاث تعرض لمقابل الوحدة أعني الكثرة.

المسألة الحادية عشرة

في البحث عن التقابل

قال : ويعرض له ما يستحيل عروضه لها من التقابل.

أقول : يعني به أن المقابل للوحدة أعني الكثرة يعرض له ما يستحيل عروضه للوحدة وهو التقابل فإن التقابل لا يمكن أن يعرض للواحد وإنما يعرض للكثير من حيث هو كثير ومفهوم التقابل هو عدم الاجتماع في شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة.

قال : المتنوع إلى أنواعه الأربعة أعني السلب والإيجاب وهو راجع إلى القول والعقد ، والعدم والملكة وهو الأول مأخوذا باعتبار خصوصية ما ، وتقابل الضدين وهما وجوديان ويتعاكس هو وما قبله في التحقيق والمشهورية ، وتقابل التضايف.

أقول : ذكر الحكماء أن أصناف التقابل أربعة وذلك لأن المتقابلين إما أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا ، أو يكونا وجوديين ، ولا يمكن أن يكونا عدميين لعدم التقابل بين الأمور العدمية إذ السلب المطلق إنما يقابله الإيجاب إما مطلق أو خاص ولا يقابله سلب مطلق لأنه نفسه ولا سلب خاص لأنه جزئي تحته والسلب الخاص إنما يقابله إيجاب خاص لا سلب مطلق لأنه جزئي له ولا سلب خاص لأن مقابليهما إن لم يتقابلا

١٠٧

فظاهر أنهما لا يتقابلان وكذلك إن تقابلا لصدقهما معا على غير المتقابلين وهذا كله ظاهر.

إذا ثبت هذا فنقول المتقابلان إما أن يؤخذا باعتبار القول والعقد ، أو بحسب الحقائق أنفسها ، والأول هو تقابل السلب والإيجاب كقولنا زيد كاتب ، زيد ليس بكاتب.

والثاني إما أن يكون أحدهما عدميا أو يكونا وجوديين والأول هو تقابل العدم والملكة وهو يقارب تقابل السلب والإيجاب لكن الفرق بينهما أن السلب والإيجاب في الأول مأخوذ باعتبار مطلق والثاني مأخوذ باعتبار شيء واحد.

واعلم أن الملكة هو وجود الشيء في نفسه والعدم هو انتفاء تلك الملكة عن شيء من شأنه أن يكون له كالعمى والبصر.

وإن كانا وجوديين فإن عقل أحدهما بالقياس إلى الآخر فهو تقابل التضايف كالأبوة والبنوة وإلا فهو تقابل التضاد كالسواد والبياض.

واعلم أن تقابل التضاد يعاكس تقابل العدم والملكة في التحقيق والمشهورية وذلك لأن الضدين في المشهور يطلقان على كل وجوديين متقابلين لا يعقل أحدهما بالقياس إلى الآخر وفي التحقيق على أخص من ذلك وهو أن يقيد ما ذكر بأن يكون بينهما غاية التباعد فالسواد والحمرة ضدان بالمعنى الأول لا الثاني.

وأما تقابل العدم والملكة فيطلق العدم فيه بحسب التحقيق على عدم شيء عن شيء وبحسب الشهرة على معنى أخص من ذلك وهو أن يقيد الشيء بأن يكون نوعا أو جنسا قريبا أو بعيدا على اختلاف التفسير فيقال هو عدم شيء عما من شأنه أن يكون له بحسب نوعه أو جنسه القريب فعدم البصر عن الحائط عدم ملكة بحسب المعنى الأول وسلب بالمعنى الثاني فقد ظهر أن تقابل الضدين بحسب التحقيق أخص منه بحسب الشهرة ، وتقابل العدم والملكة بالعكس.

قال : ويندرج تحته الجنس باعتبار عارض.

أقول : لما بين انقسام التقابل إلى الأنواع الأربعة حتى صار كالجنس لها ذكر أن مطلق التقابل يندرج تحت أحد أنواعه أعني التضايف فإن التقابل من حيث هو تقابل

١٠٨

نوع من التضايف وذلك لأن المقابل لا يعقل إلا مقيسا إلى غيره لكن باعتبار عروض التقابل فإن المقابل لا من هذه الحيثية قد لا يكون مضايفا فإن ذات السواد وذات البياض لا باعتبار التقابل ليسا من المتضايفين فإذا أخذ السواد مقابلا للبياض كان نوعا من المضاف المشهوري فقد ظهر أن الجنس أعني المقابل من حيث هو مقابل يندرج تحت التضايف باعتبار عروض التقابل ولا استبعاد في أن يكون الشيء أخص أو مساويا من نوعه باعتبار عارض يعرض له.

قال : ومقوليته عليها بالتشكيك وأشدها فيه الثالث.

أقول : التقابل يقال على أصنافه الأربعة لا بالسوية بل بالتشكيك فإن تقابل الضدين أشد في التقابل من تقابل السلب والإيجاب وذلك لأن ثبوت الضد يستلزم سلب الآخر وهو أخص منه دون العكس فهو أشد في العناد للآخر من سلبه.

وقيل إن تقابل السلب والإيجاب أشد من تقابل التضاد لأن الخير لذاته خير وهو ذاتي وإنه ليس بشر وأنه عرضي واعتقاد أنه شر يرفع العرضي وأنه ليس بخير يرفع الذاتي فيكون منافاة السلب أشد.

قال : ويقال للأول تناقض ويتحقق في القضايا بشرائط ثمان.

أقول : تقابل السلب والإيجاب إن أخذ في المفردات كقولنا زيد لا زيد فهو تقابل العدم والملكة ، وإن أخذ في القضايا سمي تناقضا كقولنا زيد كاتب ، زيد ليس بكاتب وهو إنما يتحقق في القضايا بثمان شرائط.

(الأول) وحدة الموضوع فيهما فلو قلنا زيد كاتب ، عمرو ليس بكاتب لم تتناقضا وصدقتا معا.

الثاني وحدة المحمول فلو قلنا زيد كاتب ، زيد ليس بنجار لم تتناقضا وصدقتا معا.

الثالث وحدة الزمان فلو قلنا زيد موجود الآن ، زيد ليس بموجود أمس أمكن صدقهما.

١٠٩

الرابع وحدة المكان فلو قلنا زيد موجود في الدار ، زيد ليس بموجود في السوق أمكن صدقهما.

الخامس وحدة الإضافة فلو قلنا زيد أب أي لخالد ، زيد ليس باب أي لعمرو أمكن صدقهما.

السادس وحدة الكل والجزء فلو قلنا الزنجي أسود أي بعضه ، الزنجي ليس بأسود أي ليس كل أجزائه كذلك أمكن صدقهما.

السابع وحدة الشرط فلو قلنا الأسود قابض للبصر أي بشرط السواد ، الأسود ليس بقابض للبصر أي لا بشرط السواد أمكن صدقهما.

الثامن وحدة القوة والفعل فلو قلنا الخمر في الدن مسكر بالقوة ، الخمر في الدن ليس بمسكر بالفعل لم تتناقضا وصدقتا معا.

قال : هذا في القضايا الشخصية أما المحصورة فبشرط تاسع وهو الاختلاف فيه فإن الكلية ضد ، والجزئيتان صادقتان.

أقول : اعلم أن القضية أما شخصية أو مسورة أو مهملة وذلك لأن الموضوع إن كان شخصيا كزيد سميت القضية شخصية ، وإن كان كليا يصدق على كثيرين فإما أن يتعرض للكلية والجزئية فيه أو لا والأول هو القضية المسورة كقولنا كل إنسان حيوان ، بعض الإنسان حيوان ، لا شيء من الإنسان بحجر ، بعض الإنسان ليس بكاتب.

والثاني هو المهملة كقولنا الإنسان ضاحك وهذه في قوة الجزئية فالبحث عن الجزئية يغني عن البحث عنها.

إذا عرفت هذا فنقول الشرائط الثمان كافية في القضية الشخصية أما المحصورة فلا بد فيها من شرط تاسع وهو الاختلاف في الكم فإن الكليتين متضادتان لا تصدقان ويمكن كذبهما كقولنا كل حيوان إنسان ، لا شيء من الحيوان بإنسان ، والجزئيتان قد تصدقان كقولنا بعض الحيوان إنسان ، بعض الحيوان ليس بإنسان ، أما الكلية والجزئية فلا يمكن صدقهما البتة ولا كذبهما كقولنا كل إنسان حيوان ، بعض الإنسان ليس بحيوان فهما المتناقضان

١١٠

قال : وفي الموجهات عاشر وهو الاختلاف فيها بحيث لا يمكن اجتماعهما صدقا وكذبا.

أقول : لا بد في القضايا الموجهة من الاختلاف في الجهة بحيث لا يمكن صدقهما معا ولا كذبهما ونعني بالجهة كيفية القضية من الضرورة والدوام والإمكان والإطلاق فإنهما لو لم يختلفا في الجهة أمكن صدقهما أو كذبهما كالممكنتين فإنهما تصدقان مع الشرائط التسع كقولنا بعض الإنسان كاتب بالإمكان ، لا شيء من الإنسان بكاتب بالإمكان وكالضرورتين فإنهما تكذبان كقولنا بعض الإنسان بالضرورة كاتب ، لا شيء من الإنسان بالضرورة كاتب وليس مطلق الاختلاف في الجهة كافيا في التناقض ما لم يكن اختلافا لا يمكن اجتماعهما معه فإن الممكنة والمطلقة المتخالفتين كما وكيفا لا تتناقضان كما قلنا في الممكنتين أما الممكنة والضرورية إذا اختلفتا كما وكيفا فإنهما تتناقضان وكذا المطلقة والدائمة.

قال : وإذا قيد العدم بالملكة في القضايا سميت معدولة وهي تقابل الوجودية صدقا لا كذبا لإمكان عدم الموضوع فيصدق مقابلاهما.

أقول : لما ذكر حكما من أحكام التناقض شرع في بيان حكم من أحكام تقابل العدم والملكة وهو أن العدم إذا اعتبر في القضايا سميت القضية معدولة وهو ما يتأخر فيها حرف السلب عن الربط كقولنا زيد هو ليس بكاتب وهي تقابل الوجودية في الصدق لامتناع صدق الكتابة وعدمها على موضوع واحد في وقت واحد من جهة واحدة ويجوز كذبهما معا عند عدم الموضوع وإذا كذبا حينئذ صدق مقابل كل واحد منهما فيصدق مقابل الموجبة المعدولة وهي السالبة المعدولة ، ومقابل الموجبة المحصلة وهي السالبة المحصلة لإمكان صدق السلب في الطرفين عن الموضوع المنفي.

قال : وقد يستلزم الموضوع أحد الضدين بعينه أو لا بعينه ، أو لا يستلزم شيئا منهما عند الخلو أو الاتصاف بالوسط.

أقول : هذه أحكام التضاد وهي أربعة : الأول أن أحد الضدين بعينه قد يكون لازما

١١١

للموضوع كسواد القار ، وقد لا يكون فإما أن يكون أحدهما لا بعينه لازما للموضوع كالصحة والمرض للبدن ، أو لا يكون فإما أن يخلو عنهما معا كالفلك الخالي عن الحرارة والبرودة أو يتصف بالوسط كالفاتر.

قال : ولا يعقل للواحد ضدان.

أقول : هذا حكم ثان للتضاد وهو أنه لا يعرض بالنسبة إلى شيء واحد إلا لواحد فلا يضاد الواحد الاثنين لأن الواحد إذا ضاد اثنين فإما بجهة واحدة أو بجهتين فإن كان بجهة واحدة فهو المطلوب وهو أن ضد الواحد واحد هو ذلك القدر المشترك بينهما ، وإن كان بجهتين كان ذلك وجوها من التضاد لا وجها واحدا وليس البحث فيه.

قال : وهو منفي عن الأجناس.

أقول : هذا حكم ثالث للتضاد وهو أنه منفي عن الأجناس ولا ينتقض بالخير والشر لأنهما ليسا جنسين ولا ضدين من حيث ذاتيهما بل تقابلهما من حيث الكمالية والنقص.

قال : ومشروط في الأنواع باتحاد الجنس.

أقول : هذا حكم رابع للتضاد العارض للانواع وهو اندراج تلك الأنواع تحت جنس واحد أخير ولا ينتقض بالشجاعة والتهور لأن تقابلهما من حيث الفضيلة والرذيلة العارضتين لا من حيث ذاتيهما.

قال : وجعل الجنس والفصل واحد.

أقول : الجنس والفصل في الخارج شيء واحد لأنه لا يعقل حيوانية مطلقة موجودة بانفرادها انضمت إليه الناطقية فصارت إنسانا بل الحيوانية في الخارج هي الناطقية فوجودهما واحد ، وهذه قاعدة قد مضى تقريرها والذي يخطر لنا أن الغرض بذكرها هاهنا الجواب عن إشكال يورد على اشتراط دخول الضدين تحت جنس واحد وتقريره أن كل

١١٢

واحد من الضدين قد اشتمل على جنس وفصل والجنس لا يقع به التضاد لأنه واحد فيهما فإن وقع التضاد فإنما يقع بالفصول لكن الفصول لا يجب اندراجها تحت جنس واحد وإلا لزم التسلسل فلا تضاد حقيقي في النوعين بل في الفصلين الذين لا يجب دخولهما تحت جنس واحد.

وتقرير الجواب أن الفصل والجنس واحد في الأعيان وإنما يتميزان في العقل فجعلاهما واحد هو النوع فكان التضاد عارضا في الحقيقة للأنواع لا للفصول الاعتبارية لأن التضاد إنما هو في الوجود لا في الأمور المتعلقة فهذا ما فهمته من هذا الكلام ولعل غيري يفهم منه غير ذلك.

١١٣

الفصل الثالث

في العلة والمعلول

قال : كل شيء يصدر عنه أمر إما بالاستقلال أو الانضمام فإنه علة لذلك الأمر والأمر معلول له.

أقول : لما فرغ من البحث عن لواحق الماهية شرع في البحث عن العلة والمعلول لأنهما من لواحق الماهية وعوارضها وهما من الأمور العامة أيضا ونفس اعتبار العلية والمعلولية من المعقولات الثانية ومن أنواع المضاف.

وفي هذا الفصل مسائل : الأولى ـ في تعريف العلة والمعلول وهما وإن كانا من المتصورات القطعية لكن قد يعرض اشتباه ما فيذكر على سبيل التنبيه والتمييز ما يزيل ذلك الاشتباه فإذا فرضنا صدور شيء عن غيره كان الصادر معلولا والمصدور عنه علة سواء كان الصدور على سبيل الاستقلال كما في العلل التامة ، أو على سبيل الانضمام كجزء العلة فإن جزء العلة شيء يصدر عنه أمر آخر لكن لا على سبيل الاستقلال فهو داخل في الحد.

المسألة الثانية

في أقسام العلة

قال : وهي فاعلية ومادية وصورية وغائية.

أقول : العلة هي ما يحتاج الشيء إليه وهي إما أن تكون جزءا من المعلول أو خارجة عنه والأول إما أن يكون جزءا يحصل به الشيء بالفعل أو بالقوة والأول الصورة والثاني

١١٤

المادة وإن كانت خارجة فإما أن تكون مؤثرة أو يقف التأثير عليها فالأول فاعل والثاني غاية.

المسألة الثالثة

في أحكام العلة الفاعلية

قال : فالفاعل مبدأ التأثير وعند وجوده بجميع جهات التأثير يجب وجود المعلول.

أقول : الفاعل هو المؤثر والغاية ما لأجله الأثر والمادة والصورة جزءاه وإذا وجد المؤثر بجميع جهات التأثير وجب وجود المعلول لأنه لو لم يجب لجاز وجود الأثر عند وجود الجهات بأجمعها وعدمه فتخصيص وقت الوجود به إما أن يكون لأمر زائد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن المؤثر المفروض أولا تاما هذا خلف ، وإن كان الثاني لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال.

قال : ولا تجب مقارنة العدم.

أقول : ذهب قوم إلى أن التأثير إنما يكون لما سبق بالعدم وهو على الإطلاق غير سديد بل المؤثر إن كان مختارا وجب فيه ذلك لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد وهو إنما يتوجه إلى شيء معدوم وإن كان موجبا لم يجب فيه ذلك.

قال : ولا يجوز بقاء المعلول بعده وإن جاز في المعد.

أقول : ذهب قوم غير محققين إلى أن احتياج الأثر إلى المؤثر إنما هو آن حدوثه فإذا أوجد الفاعل الفعل استغنى الفعل عنه فجاز بقاؤه بعده وتمثلوا في ذلك بالبناء الباقي بعد الباني وغيره من الآثار وهو خطأ لأن علة الحاجة وهي الإمكان ثابتة بعد الإيجاد فثبتت الحاجة والبناء ليس علة مؤثرة في وجود البناء الباقي وإنما حركته علة لحركة الأحجار ووضعها على نسبة معينة ثم بقاء الشكل معلول لأمر آخر.

١١٥

هذا في العلل الفاعلية أما العلل المعدة فإنها تعدم وإن كانت معلولاتها موجودة كالحركة المعدة للوصول وللحرارة.

قال : ومع وحدته يتحد المعلول.

أقول : المؤثر إن كان مختارا جاز أن يتكثر أثره مع وحدته ، وإن كان موجبا ذهب الأكثر إلى استحالة تكثر معلوله باعتبار واحد وأقوى حججهم أن نسبة المؤثر إلى أحد الأثرين مغايرة لنسبته إلى الآخر فإن كانت النسبتان جزئية كان مركبا وإلا تسلسل.

وهي عندي ضعيفة لأن نسبة التأثير والصدور تستحيل أن تكون وجودية وإلا لزم التسلسل وإذا كانت من الأمور الاعتبارية استحالت هذه القسمة عليها.

قال : ثم تعرض الكثرة باعتبار كثرة الإضافات.

أقول : لما بين أن العلة الواحدة لا يصدر عنها إلا معلول واحد لزم أن تكون الموجودات بأسرها في سلسلة واحدة بحيث يكون أي موجود فرضته علة لأي موجود فرضته أو معلولا له إما قريبة أو بعيدة فلا يوجد شيئان يستغني أحدهما عن الآخر والوجود يكذب هذا فأوجبوا وقوع كثرة في المعلول الأول غير حقيقية بل إضافية يمكن أن يتكثر بها التأثير قالوا لأن المعلول الأول بالنظر إلى ذاته ممكن وبالنظر إلى علته واجب وله ماهية ووجود مستفاد من فاعله وهو يعقل ذاته لتجرده ويعقل مبدأه وهذه جهات كثيرة إضافية يقع بها التكثر ولا تثلم وحدته ويصدر عنه باعتبار كل جهة شيء.

وهذا الكلام عندنا في غاية السقوط لأن هذه الجهات لا تصلح للتأثير لأنها أمور اعتبارية ومساوية لغيرها ولا تكون شروطا فيه.

قال : وهذا الحكم ينعكس على نفسه.

أقول : يريد بذلك أن مع وحدة المعلول تتحد العلة وهو عكس الحكم الأول فلا يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان بالتأثير لأنه بكل واحد منهما واجب مستغن عن الآخر فيكون حال الحاجة إليهما مستغنيا عنهما هذا خلف.

١١٦

قال : وفي الوحدة النوعية لا عكس.

أقول : إذا كانت العلة واحدة بالنوع كان المعلول كذلك ولا يجب من كون المعلول واحدا بالنوع كون العلة كذلك فإن الأشياء المختلفة تشترك في لازم واحد كاشتراك الحركة والشمس والنار في السخونة لأن المعلول يحتاج إلى مطلق العلة وتعين العلة جاء من جانب العلة لا المعلول.

قال : والنسبتان من ثواني المعقولات وبينهما مقابلة التضايف.

أقول : يعني أن نسبة العلية والمعلولية من المعقولات الثانية لاستحالة وجود شيء في الأعيان هو مجرد علية أو معلولية وإن كان معروضهما موجودا وبينهما مقابلة التضايف فإن العلة علة المعلول ، والمعلول معلول العلة وقد نبه بقوله وبينهما مقابلة التضايف على امتناع كون الشيء الواحد بالنسبة إلى شيء واحد علة ومعلولا وهو الدور المحال لأن كونه علة يقتضي الاستغناء والتقدم وكونه معلولا يقتضي الحاجة والتأخر فيكون الشيء الواحد مستغنيا عن الشيء الواحد متقدما عليه ، ومحتاجا إليه متأخرا عنه هذا خلف.

قال : وقد يجتمعان في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين لا يتعاكسان فيهما.

أقول : قد تجتمع نسبة العلية والمعلولية في الشيء الواحد بالنسبة إلى أمرين فيكون علة لأحد الشيئين ومعلولا للآخر كالعلة المتوسطة فإنها معلولة العلة الأولى ، وعلة المعلول الأخير لكن بشرط أن لا يكون ذانك الأمران يتعاكسان في النسبتين بأن تكون العلة الأولى معلولة للمعلول الأخير والمعلول الأخير علة لها وإلا جاء الدور المحال.

المسألة الرابعة

في إبطال التسلسل

قال : ولا يتراقى معروضاهما في سلسلة واحدة إلى غير النهاية لأن كل واحد منها ممتنع الحصول بدون علة واجبة لكن الواجب بالغير ممتنع أيضا فيجب وجود علة لذاتها هي طرف.

١١٧

أقول : لما أبطل الدور شرع في إبطال التسلسل وهو وجود علل ومعلولات في سلسلة واحدة غير متناهية ونبه على الدعوى بقوله ولا يتراقى معروضاهما يعني معروض العلية والمعلولية في سلسلة واحدة إلى غير النهاية واحتج عليه بوجوه : الأول أن كل واحد من تلك الجملة ممكن وكل ممكن ممتنع حصوله بدون علته الواجبة فكل واحد من تلك الآحاد ممتنع حصوله بدون علته الواجبة ثم تلك العلة الواجبة إن كانت واجبة لذاتها فهو المطلوب لانقطاع السلسلة حينئذ ، وإن كانت واجبة بغيرها كانت ممكنة لذاتها فكانت مشاركة لباقي الممكنات في امتناع الوجود بدون العلة الواجبة فيجب وجود علة واجبة لذاتها هي طرف السلسلة فتكون السلسلة منقطعة وفي هذا الوجه عندي نظر.

قال : وللتطبيق بين جملة قد فصل منها آحاد متناهية وأخرى لم تفصل منها.

أقول : هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع التسلسل وهو المسمى ببرهان التطبيق وهو دليل مشهور وتقريره أنا إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا ـ يتناهى ووضعناها جملة ثم قطعنا منها جملة متناهية ثم أطبقنا إحدى الجملتين بالأخرى بحيث يكون مبدأ كل واحدة من الجملتين واحدا فإن استمرتا إلى ما لا يتناهى كانت الجملة الناقصة مثل الزائدة هذا خلف ، وإن انقطعت الناقصة تناهت ويلزم تناهي الزائدة لأن ما زاد على المتناهي بمقدار متناه فهو متناه.

قال : ولأن التطبيق باعتبار النسبتين بحيث يتعدد كل واحد منها باعتبارهما يوجب تناهيهما لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من حيث السبق.

أقول : هذا وجه ثالث وهو راجع إلى الثاني وهو برهان التطبيق لكن على نحو آخر استخرجه المصنف ـ رحمه‌الله ـ مغاير للنحو الذي ذكره القدماء وتقريره أنا إذا أخذنا العلل والمعلولات سلسلة واحدة غير متناهية فإن كل واحد من تلك السلسلة علة باعتبار ومعلول باعتبار فيصدق عليه النسبتان باعتبارين ويحصل له التعدد باعتبار النسبتين فإن الواحد من تلك السلسلة من حيث إنه علة مغاير له من حيث إنه معلول فإذا أطبقنا كل ما صدق عليه نسبة المعلولية على كل ما صدق عليه نسبة العلية واعتبرت هذه السلسلة من حيث

١١٨

كل واحد منها علة تارة ومن حيث كل واحد منها معلولة أخرى كانت العلل والمعلولات المتباينات بالاعتبار متطابقتين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق ومع ذلك يجب أن تكون العلل أكثر من المعلولات من حيث إن العلل سابقة على المعلولات في طرف المبتدإ فإذن المعلولات قد انقطعت قبل انقطاع العلل والعلل الزائدة عليها إنما زادت بمقدار متناه فتكون الجملتان متناهيتين.

قال : ولأن المؤثر في المجموع إن كان بعض أجزائه كان الشيء مؤثرا في نفسه وعلله ولأن المجموع له علة تامة وكل جزء ليس علة تامة إذ الجملة لا تجب به وكيف تجب الجملة بشيء هو محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة.

أقول : هذا وجه رابع على إبطال التسلسل وتقريره أنا إذا فرضنا جملة مترتبة من علل ومعلولات إلى ما لا يتناهى فتلك الجملة من حيث هي جملة ممكنة لتركبها من الآحاد الممكنة وكل ممكن له مؤثر فلتلك الجملة مؤثر فإما أن يكون المؤثر هو نفس تلك الجملة وهو محال لاستحالة كون الشيء مؤثرا في نفسه ، وإما أن يكون خارجا عنها والخارج عن جملة الممكنات واجب فتنقطع السلسلة وإما أن يكون جزءا من تلك الجملة وهذا محال وإلا لزم كون الشيء مؤثرا في نفسه وفي علله التي لا تتناهى وذلك من أعظم المحالات. وأيضا فإن المجموع لا بد له من علة تامة وكل جزء ليس علة تامة إذ الجملة لا تجب به وكل جزء لا يصلح أن يكون علة تامة للمجموع وكيف تجب الجملة بجزء من أجزائها وذلك الجزء محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة.

المسألة الخامسة

في متابعة المعلول للعلة في الوجود والعدم

قال : وتتكافى النسبتان في طرفي النقيض.

أقول : الذي يفهم من هذا الكلام أن نسبة العلية مكافئة لنسبة المعلولية في طرفي

١١٩

الوجود والعدم بالنسبة إلى معروضيهما على معنى أن نسبة العلية إذا صدقت على معروض ثبوتي كانت نسبة المعلولية صادقة على معروض ثبوتي وبالعكس ، وإذا صدقت نسبة العلية على معروض عدمي صدقت نسبة المعلولية على معروض عدمي وبالعكس وذلك يتم بتقرير مقدمة هي أن عدم المعلول إنما يستند إلى عدم العلة لا غير وبيانه أن عدم المعلول لا يستند إلى ذاته وإلا لكان ممتنعا لذاته هذا خلف بل لا بد له من علة إما وجودية أو عدمية والأول باطل لأن عند وجود تلك العلة الوجودية إن لم يختل شيء من أجزاء العلة المقتضية لوجود المعلول ، ولا من شرائطها لزم وجود المعلول نظرا إلى تحقق علته التامة ، وإن اختل شيء من ذلك لزم عدم المعلول فيكون عدم المعلول مستندا إلى ذلك العدم لا غير.

وإذا تقررت هذه المقدمة فنقول العلة الوجودية يجب أن يكون معلولها وجوديا لأنه لو كان عدميا لكان مستندا إلى عدم علته على ما قلنا لا إلى وجود هذه العلة ، والمعلول الوجودي يستند إلى العلة الوجودية لا العدمية لأن تأثير المعدوم في الموجود غير معقول.

المسألة السادسة

في أن القابل لا يكون فاعلا

قال : والقبول والفعل متنافيان مع اتحاد النسبة لتنافي لازميهما.

أقول : ذهب الأوائل إلى أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا لشيء واحد وعبر عنه المصنف بقوله القبول والفعل متنافيان يعني لا يجتمعان بل يتنافيان لكن مع اتحاد النسبة يعني أن يكون المفعول الذي تقع نسبة الفعل إليه هو بعينه المقبول الذي تقع نسبة القبول إليه لتنافي لازميهما وهو الإمكان والوجوب وذلك لأن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعل إلى المفعول نسبة الوجوب فلو كان الشيء الواحد مقبولا لشيء ومعلولا له أيضا لزم أن تكون نسبة ذلك الشيء إلى فاعله بالوجوب والإمكان هذا خلف.

١٢٠