منهاج الكرامة في معرفة الإمامة

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

منهاج الكرامة في معرفة الإمامة

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: عبدالرحيم مبارك
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-90423-6-9
الصفحات: ٢١٦

مناظرته المعروفة مع علماء العامّة في مجلس السلطان محمّد خدابنده ، وقد أهلّه ذكاؤه المفرط وقابلياته العلمية وبراعته في الفنون المختلفة لترويج المذهب الشيعي ، وسيأتي ذكر تشيّع السلطان المغولي المذكور ببركة جهود العلّامة «قدس‌سره».

وصفه علماء العامّة ـ مع نعتهم له بالرافضيّ الخبيث ـ بأنّه كان رضيّ الخلق حليما (١) ؛ وأنّه عالم الشيعة وفقيهم ، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته ؛ (٢) وأنّه كان مشتهر الذكر وحسن الأخلاق ولمّا بلغه كتاب ابن تيمية (وهو كتاب ردّ فيه على كتاب منهاج الكرامة) قال : لو كان يفهم ما أقول أجبته (٣). وأنّه تقدّم في دولة خربندا (٤) تقدّما زائدا ... وكان يصنّف وهو راكب (٥).

وقد امتازت تصنيفاته بكثرتها وتنوّعها ، فقد ألّف في الفقه الموسوعات الكبيرة مثل «منتهى المطلب في تحقيق المذهب» ، «مختلف الشيعة» ، «تذكرة الفقهاء» ، «إرشاد الأذهان في أحكام الإيمان» ، «تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة» ، «قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام» وغيرها.

كما ألّف المختصرات في الفقه ، «كتبصرة المتعلّمين» ، و«تلخيص المرام في معرفة الأحكام».

وألّف في علم الكلام ، وفي أصول الفقه ، وفي الحديث ، وفي المنطق ، وفي علم الرجال ، وفي فنون الحكمة والفلسفة والنحو والعربيّة وغيرها.

قصّة تأليف منهاج الكرامة :

نقل السيّد محسن الأمين في «أعيان الشيعة» عن التقي المجلسي في «شرح الفقيه»

__________________

(١) النجوم الزاهرة ٩ : ٢٦٦.

(٢) الوافي بالوفيات ١٣ : ٨٥ ، لسان الميزان ٢ : ٣١٧.

(٣) لسان الميزان ٢ : ٣١٧.

(٤) قال في أعيان الشيعة ٩ : ١٢٠ «وخدا بنده معناه عبد الله ، وعلى ألسنة العامّة خربندا».

(٥) الوافي بالوفيات ١٣ : ٨٥.

٢١

أنّ السلطان الجايتو محمّد المغولي الملقّب بشاه خربندا غضب على إحدى زوجاته ، فقال لها :

أنت طالق ثلاثا! ثمّ ندم ، فسأل العلماء ، فقالوا : لا بدّ من المحلّل ، فقال : لكم في كلّ مسألة أقوال ، فهل يوجد هنا اختلاف؟ فقالوا : لا

فقال أحد وزرائه : في الحلّة عالم يفتي ببطلان هذا الطلاق.

فقال العلماء : إنّ مذهبه باطل ، ولا عقل له ولا لأصحابه ، ولا يليق بالملك أن يبعث إلى مثله.

فقال الملك : امهلوا حتّى يحضر ونرى كلامه.

فبعث فأحضر العلّامة الحلّي ، فلمّا حضر جمع له الملك جميع علماء المذاهب ، فلمّا دخل على الملك أخذ نعله بيده ، ودخل وسلّم وجلس إلى جانب الملك.

فقالوا للملك : ألم نقل لك أنّهم ضعفاء العقول؟!

فقال : اسألوه عن كلّ ما فعل.

فقالوا : لما ذا لم تخضع للملك بهيئة الركوع؟

فقال : لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يركع له أحد ، وكان يسلّم عليه ، وقال الله تعالى (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً) ولا يجوز الركوع والسجود لغير الله.

قالوا : فلم جلست بجنب الملك؟

قال : لأنّه لم يكن مكان خال غيره.

قالوا : فلم أخذت نعليك بيدك وهو مناف للأدب؟

قال : خفت أن يسرقه أهل المذاهب كما سرقوا نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقالوا : إنّ أهل المذاهب لم يكونوا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ولدوا بعد المائة فما فوق من وفاته. كلّ هذا والترجمان يترجم للملك كل ما يقوله العلّامة.

فقال للملك : قد سمعت اعترافهم هذا ، فمن أين حصروا الاجتهاد فيهم ولم يجوّزوا الأخذ من غيرهم ولو فرض أنّه أعلم؟!

٢٢

فقال الملك ، ألم يكن أحد من أصحاب المذاهب في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا الصحابة؟

قالوا : لا

قال العلّامة : ونحن نأخذ مذهبنا عن عليّ بن أبي طالب ؛ نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخيه وابن عمّه ووصيّه ، وعن أولاده من بعده.

فسأله عن الطلاق ، فقال : باطل لعدم وجود الشهود العدول.

وجرى البحث بينه وبين العلماء حتّى ألزمهم جميعا ، فتشيّع الملك وخطب بأسماء الأئمة الاثني عشر ، وأمر فضربت السكّة بأسمائهم ، وأمر بكتابتها على المساجد والمشاهد (١).

عمره الشريف :

اخترمته المنيّة يوم السبت الحادي والعشرين من محرّم الحرام ، سنة ٧٣٦ ه‍. ق. فيكون قد عاش ثماني وسبعين سنة أمضاها في التدريس والتصنيف والمباحثات العلميّة ، ونقل جثمانه المقدّس إلى النجف الأشرف ، فدفن في حجرة عن يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة من جهة الشمال.

النسخ الخطيّة المعتمدة في تحقيق الكتاب :

١. النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الرضوية في مدينة مشهد المقدّسة تحت رقم ١٣٧٥٤.

عدد الأوراق : ٣٦

أبعاد النسخة : ٥ / ٢٤* ٥ / ١٧ سم

عدد الأسطر في كلّ صفحة : ١٩

وكتب في آخرها : هذه صورة خطّ المصنّف ، وكتب العبد الفقير إلى رحمة ربّه محمّد بن عليّ بن حسن الجباعي غفر الله له ولجميع إخوانه المؤمنين ، وذلك لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر رمضان المعظّم قدره الله برحمته ، حامدا لله تعالى

__________________

(١) أعيان الشيعة ٥ : ٣٩٩.

٢٣

ومصلّيا على خيرته من بريّته محمّد النبيّ والأصفياء من عترته.

فرغت من كتابة هذا الكتاب الشريف : العبد الأقل المنيف محمد باقر بن حاجي محمد الشريف في أواخر شهر جمادي الثاني سنة أربع وسبعين وتسعمائة ، غفر ذنوبي ولوالديّ ولجميع المؤمنين بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

ورمزت لهذه النسخة بحرف «ر»

٢. النسخة المحفوظة في خزانة مكتبة آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي العامّة في قم المقدّسة ضمن المجموعة ٤٩ تحت رقم «٢٠ پ ـ ٧٤ پ» ، تمّ نسخها بخطّ مسعود بن جار الله المطلبي في الخامس من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وتسعمائة.

ورمزت لها ب «ش ١».

٣. نسخة أخرى محفوظة في المكتبة المذكورة ضمن المجموعة (٢٥٢٣) تحت رقم «١ پ ـ ٦٧ ر» تمّ نسخها في آخر جمادى الثاني سنة إحدى وخمسين وتسعمائة.

ورمزت لها ب «ش ٢»

وقد اعتمدت طريقة التلفيق بين النسخ الثلاث المذكورة ، مع ذكر الاختلافات الواردة في كلّ منها ، وراجعت كذلك النسخة الحجريّة للكتاب وذكرت لفظها في الهامش في بعض الموارد القليلة اللازمة. وقد واجهنا في النسخ الثلاث أخطاء إملائية ولغويّة وإعرابيّة غير قليلة ، فقمنا بتصحيحها وأعدنا الكتابة برسم الخطّ الحديث.

الكتاب وعملنا فيه :

كتاب «منهاج الكرامة» هو كتاب ألّفه العلّامة «قدس‌سره» ـ كما سلفت الإشارة ـ لإثبات حقّانيّة مذهب التشيّع عقلا ونقلا ، وقد تناول فيه المذاهب المختلفة فناقش ما فيها من الإشكالات ، ثمّ تناول مذهب أهل البيت فذكر الأدلّة على وجوب اتّباعه ، وذكر نبذة

٢٤

مختصرة عن الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام وخصائصهم ، وعرّج على ذكر مطاعن الذين نازعوا أهل البيت حقّهم ، ودفعوهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ثمّ توسّع في ذكر مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام والآيات النازلة في حقّه ، وقد سعينا بعد إكمال تصحيح الكتاب في مجازاة المصنّف «قدس‌سره» في منهجه في هذا الكتاب ، فقصرنا تخريجاتنا على مصادر العامّة ولم تنقل عن مصادر الخاصّة إلّا القليل.

وقد ارتأينا أن نتوسّع في بعض المواضيع التي أحسسنا بضرورتها في الوقت الحاضر.

وقد واجهنا في الكتاب مواضيع متكررة ، أخرجنا المتقدّم منها ، وأشرنا في المتأخّر إلى تكراره وأحلنا القارئ الكريم على المواضيع المتقدّمة لمراجعتها ، وأمّا الآيات القرآنية ، فقد عرضناها على القرآن الكريم ، وصحّحنا ما ورد فيها من خطأ في النسخ ، دون الإشارة إلى ذلك ، ثمّ ألحقنا بالكتاب فهارس فنيّة تعين الباحث في العثور على ما يبغي مراجعته وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مشهد المقدّسة عبد الرحيم بن الشيخ حسين مبارك ١٤١٩ ه‍. ق.

٢٥
٢٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القديم الواحد ، الكريم الماجد ، المقدّس بكماله عن الشريك والضدّ والمعاند ، المتنزّه بوجوب وجوده عن الوالدة والصاحبة والولد والوالد ؛ أحمده حمد معترف بآلائه غير شاكّ ولا جاحد ، وأشكره على إنعامه المتضاعف المتزايد ، شكرا يعجز عنه الراكع والساجد ، والصلاة على سيّد كلّ زاهد وأشرف كلّ عابد ، محمّد المصطفى وعترته الأكارم والأماجد ، صلاة تدوم بدوام الأعصار والأوابد.

أما بعد ، فهذه رسالة شريفة ، ومقالة لطيفة ، اشتملت على أهم المطالب (١) في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ، وهي مسألة الإمامة ، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة ، وهي أحد أركان الإيمان ، المستحقّ بسببه الخلود في الجنان ، والتخلّص من غضب الرحمن ؛ فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات ولم يعرف إمام زمانه ، مات ميتة جاهليّة» (٢) ، خدمت بها خزانة السلطان الأعظم ، مالك رقاب الأمم ،

__________________

(١) في ش ١ : و

(٢) وهو حديث متّفق عليه بين علماء المسلمين ، وقد تناقله علماء الخاصّة والعامّة بأسانيد والفاظ مختلفة تتفق بأجمعها في مضمون واحد. وعلى سبيل المثال لا للحصر فقد أورده الكليني في الكافي ١ : ٣٧٦ ، باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى بسنده عن الفضيل بن يسار قال : ابتدأنا أبو عبد الله يوما وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات وليس عليه إمام فميتته ميتة جاهليّة. فقلت : قال ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : إي والله قد قال قلت : فكل من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهليّة؟ قال : نعم.

ثم أورد ثلاثة أحاديث أخرى في هذا الباب.

٢٧

__________________

وروى في ١ : ٣٧٨ ـ ٣٨٠ ، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام بسنده عن حمّاد بن عبد الأعلى ، قال : سألت أبا عبد الله عن قول العامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من مات وليس له إمام مات ميتة جاهليّة ، فقال : الحق والله ... الحديث بطوله. وروى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا ٢ : ٥٨ بسنده عن علي عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات وليس له إمام من ولدي ، مات ميتة جاهليّة.

وروى البرقي في المحاسن : ١٥٣ ـ ١٥٤ عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهليّة ... الحديث.

وروى في ص ١٥٤ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : إن الارض لا تصلح إلّا بالإمام ، ومن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهليّة ... الحديث. وروى في هذا الباب أربعة أحاديث أخرى.

وعقد العلامة المجلسي بابا في كتابه البحار في وجوب معرفة الإمام ، وانه لا يعذر الناس بترك الولاية ، وأنّ من مات لا يعرف إمامه أو شكّ فيه ، مات ميتة جاهلية وكفر ونفاق. انظر البحار ، ٢٣ : ٧٦ ـ ٩٥.

أمّا العامة فقد روى أحمد في مسنده ٤ : ٩٦ / الحديث ١٦٤٣٤ بسنده عن معاوية ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مات بغير إمام ، مات ميتة جاهليّة.

وفي ٣ : ٤٤٦ / الحديث ١٥٢٦٩ بسنده عن عبد الله بن عامر ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات وليست عليه طاعة ، مات ميتة جاهلية ؛ فإن خلعها من بعد عقدها في عنقه ، لقي الله تبارك وتعالى وليست له حجة.

ورواه البخاري في تاريخه ٦ : ٤٤٥ بسنده عن عبد الله بن عامر بلفظ من مات ولا طاعة عليه ، مات ميتة جاهليّة.

وروى الطبراني في معجمه الكبير : ١٠ / الحديث ١٠٦٨٧ بسنده عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، ومن مات ليس عليه إمام ، فميتته جاهليّة ... الحديث.

ورواه في معجمه الاوسط ٤ : ٢٤٣ / الحديث ٣٤٢٩ عن ابن عباس بلفظ قريب. وروى الديلمي في الفردوس ٥ : ٥٢٨ / الحديث ٨٩٨٢ عن علي عليه‌السلام مرفوعا في قوله تعالى (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) : بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وبسنّة نبيّهم.

وروى ابن سعد في طبقاته ٥ : ١٤٤ بسنده عن امية بن محمّد بن عبد الله بن مطيع ، أنّ عبد الله بن مطيع أراد أن يفرّ من المدينة ليالي فتنة يزيد بن معاوية ، فسمع بذلك عبد الله بن عمر ، فخرج إليه حتى جاءه ، قال : أين تريد يا ابن عم؟ فقال : لا أعطيهم طاعة ابدا فقال : يا بن عم ، لا تفعل ، فإني أشهد. أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من

٢٨

ملك ملوك طوائف العرب والعجم ، مولي النعم ، ومسدي الخير والكرم ، شاهنشاه المعظّم ، غياث الحقّ والملّة والدين ، أولجايتو خدابنده محمّد خلّد الله سلطانه ، وثبّت قواعد ملكه وشيّد أركانه ، وأمدّه بعنايته وألطافه ، وأيّده بجميل إسعافه ، وقرن دولته بالدوام إلى يوم القيامة ، قد لخّصت فيها خلاصة الدلائل ، وأشرت إلى رءوس المسائل ، من غير تطويل مملّ ، ولا إيجاز مخلّ ، وسمّيتها «منهاج الكرامة في معرفة الإمامة» ، والله الموفّق للصواب ، وإليه المرجع والمآب. ورتّبتها على فصول :

__________________

مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهليّة.

ونلاحظ كيف يحاول عبد الله بن عمر تأويل حديث رسول الله ليتماشى مع مهادنة الظلمة ، فإنّ من الجليّ لكل ذي بصيرة أنّ الإمام الذي يموت من جهله ميتة جاهلية ، هو محيي سنة رسول الله لا هادمها ، وهو ناصر الدين لا مقوضه ، وهو حامي المسلمين لا مستبيح دمائهم وأعراضهم.

أفلا يسأل المسلم نفسه : من هو إمامي في هذا العصر؟ وبمن سيد عوني ربّي يوم القيامة يوم يدعو كلّ أناس بإمامهم؟ وبيعة من أعقد في عنقي لأموت ـ حين أموت ـ على سنة الإسلام ، لا ميتة جاهلية؟

تلك أسئلة حريّ بالمسلم أن يفكر فيها ، وأن يسعى للإجابة عليها. وقد رسم المصنف «قدس‌سره» في هذا الكتاب الخطوط العريضة للمنهج الأكمل : منهاج الكرامة في معرفة الإمامة. فجزاه الله خير جزاء المحسنين والمجاهدين.

ونذكّر في الخاتمة بأنّ ما أوردناه عن علماء العامّة كان على سبيل المثال لا الحصر ، ونحيل الراغب على المصادر الحديثة للعامة والخاصة.

انظر : معجم أحاديث المهدي ٢ : ٢٤٧ ـ ٢٥٤ ، ملحقات إحقاق الحق ، ج ١٣ ؛ جامع الأحاديث للسيوطي (الجامع الصغير ، وزوائده ، والجامع الكبير) ، ينابيع المودّة.

٢٩
٣٠

الفصل الأول : في نقل المذاهب في هذه المسألة :

ذهبت الإماميّة إلى أنّ الله تعالى عدل حكيم ، لا يفعل قبيحا ولا يخلّ بواجب ، وأنّ أفعاله إنّما تقع لغرض صحيح وحكمة ، وأنّه لا يفعل الظلم ولا العبث ، وأنّه رحيم رءوف بالعباد ، يفعل بهم ما هو الأصلح لهم والأنفع ، وأنّه تعالى كلّفهم تخييرا لا إجبارا ، ووعدهم بالثواب (١) وتوعّدهم بالعقاب على لسان أنبيائه ورسله المعصومين ، بحيث لا يجوز عليهم الخطاء ولا النسيان ولا المعاصي وإلّا لم يبق وثوق بأقوالهم ، فتنتفى فائدة البعثة.

ثمّ أردف الرسالة بعد موت الرسول بالإمامة ، فنصب أولياء معصومين ، ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطائهم ، فينقادون إلى أوامرهم ، لئلّا يخلي الله تعالى العالم من لطفه ورحمته.

وأنّه تعالى لمّا بعث رسوله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قام بنقل الرسالة ، ونصّ على أنّ الخليفة بعده عليّ بن أبي طالب ، ثمّ من بعده ولده الحسن الزكيّ ، ثمّ على الحسين الشهيد ، ثمّ على عليّ بن الحسين زين العابدين ، ثمّ على محمّد بن عليّ الباقر ، ثمّ على جعفر بن محمّد الصادق ، ثمّ على موسى بن جعفر الكاظم ، ثمّ على عليّ بن موسى الرضا ، ثمّ على محمّد بن عليّ الجواد ، ثمّ على عليّ بن محمّد الهادي ، ثمّ على الحسن بن عليّ العسكريّ ، ثمّ على الخلف الحجّة محمّد بن الحسن

__________________

(١) في «ر» : الثواب.

٣١

عليهم‌السلام ؛ وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يمت إلّا عن وصيّة بالإمامة. (١)

وذهب أهل السنّة إلى خلاف ذلك كلّه ، فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالى ، وجوّزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب ، وأنّه تعالى لا يفعل لغرض ، بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض ، ولا لحكمة البتّة.

وأنّه تعالى يفعل الظلم والعبث ، وأنّه لا يفعل ما هو الأصلح للعباد ، بل ما هو الفساد في الحقيقة ؛ لأنّ فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مستندة إليه ، تعالى الله عن ذلك.

وأنّ المطيع لا يستحقّ ثوابا ، والعاصي لا يستحقّ عقابا ، بل قد يعذّب المطيع طول عمره ، المبالغ في امتثال أوامره تعالى ، كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها ، كإبليس وفرعون.

وأنّ الأنبياء غير معصومين ، بل قد يقع منهم الخطاء والزلل والفسوق والكذب والسهو ، وغير ذلك (٢).

__________________

(١) انظر : الاعتقادات للشيخ الصدوق : ٦٦ ـ ٧٠ ، و«اوائل المقالات» للشيخ المفيد : ٤٨ ـ ٤٩.

(٢) قال الشيخ المفيد في «اوائل المقالات» في عصمة الأنبياء :

أقول : إنّ جميع الأنبياء صلّى الله عليهم معصومون من الكبائر قبل النّبوة وبعدها ، وممّا يستخف فاعله من الصغائر كلّها. وأمّا ما كان من صغير لا يستخف فاعله ، فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة وعلى غير تعمّد ، وممتنع منهم بعدها على كلّ حال ، وهذا مذهب جمهور الإماميّة. ثم قال في عصمة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة :

أقول : إنّ نبيّنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ممن لم يعص الله عزوجل منذ خلقه الله عزوجل إلى أن قبضه ، ولا تعمّد له خلافا ، ولا أذنب ذنبا على التعمّد ولا النسيان ، وبذلك نطق القرآن وتواتر الخبر عن آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مذهب جمهور الإماميّة ، والمعتزلة بأسرها على خلافه.

وأمّا ما يتعلّق به أهل الخلاف من قول الله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأشباه ذلك في القرآن ، وما في الحجّة على خلاف ما ذكرناه ، فإنّه تأويل بضدّ ما توهموه ، والبرهان يعضده على البيان ، وقد نطق القرآن بما قد وصفناه ، فقال جلّ اسمه (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) فنفى بذلك عنه كل معصية ونسيان ...

انظر كلام الشيخ المظفّر في كتابه القيّم دلائل الصّدق ١ : ١٨٤ ـ ٢٠٢.

٣٢

وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينصّ على إمام بينهم ، وأنّه مات عن غير وصيّة ، وأنّ الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر بن أبي قحافة ، لمبايعة (١) عمر بن الخطّاب له برضا أربعة : أبي عبيدة ، وسالم مولى حذيفة ، وأسيد بن حضير ، وبشير بن سعيد (٢) ، ثمّ من بعده عمر بن الخطّاب بنصّ أبي بكر عليه ، ثمّ عثمان بن عفّان بنصّ عمر على ستّة (٣) هو أحدهم ، فاختاره بعضهم ، ثم علي بن أبي طالب عليه‌السلام لمبايعة (٤) الخلق له.

ثمّ اختلفوا ، فقال بعضهم : أنّ الإمام بعده ابنه الحسن ، وبعضهم قال : أنّه معاوية بن أبي سفيان ، ثمّ ساقوا الإمامة في بني أمية ، إلى أن ظهر السفّاح من بني العباس ، فساقوا الإمامة إليه ، ثمّ انتقلت الإمامة منه إلى أخيه المنصور ، ثمّ ساقوا الإمامة في بني العباس إلى المعتصم (٥) (إلى أربعين) (٦).

__________________

(١) في «ر» لمتابعة.

(٢) في «ش ١» : بشير بن سعد

(٣) وهم : عليّ عليه‌السلام ، عثمان ، طلحة ، الزبير ، سعد بن أبي وقّاص وعبد الرحمن بن عوف.

(٤) في «ر» لمتابعة.

(٥) في «ر» : المستعصم.

(٦) ما بين الاقواس ليس في «ر».

٣٣
٣٤

الفصل الثاني :

في أنّ مذهب الإماميّة واجب الاتّباع في أنّ مذهب الإماميّة واجب الاتّباع ، لأنّه لمّا عمّت البليّة على كافة المسلمين بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختلف الناس بعده ، وتعدّدت آراؤهم بحسب تعدّد أهوائهم :

فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه (١) أكثر الناس طلبا للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد ملك الريّ أيّاما يسيرة (٢) لمّا خيّر بينه وبين قتل الحسين عليه‌السلام ، مع علمه بأنّ في قتله النار وإخباره بذلك في شعره ، حيث قال :

فو الله ما أدري وإنّي لصادق

أفكّر في أمري على خطرين

أأترك ملك الريّ ، والري منيتي

أم اصبح مأثوما بقتل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب ، ولي في الريّ قرّة عين

وبعضهم اشتبه (٣) الأمر عليه ، ورأى طالب الدنيا مبايعا (٤) له ، فقلّده وبايعه (٥) ، وقصّر في نظره فخفي عليه الحقّ ، واستحقّ المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحقّ لغير مستحقّه ، بسبب

__________________

(١) في «ر» : وتابعه.

(٢) في هامش النسخة الحجرية ، طبع تبريز ١٢٥٦ ه‍. ق. : ملك الري عشر سنين ، والمراد بقوله «أيّاما يسيرة» هذه المدّة ، وقيل : سبع سنين.

(٣) في «ش ٢» أشبه.

(٤) في «ر» : متابعا.

(٥) في «ر» : تابعه.

٣٥

إهمال النظر.

وبعضهم قلّد لقصور فطنته ، ورأى الجمّ الغفير فبايعهم (١) ، وتوهّم أنّ الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (٢) (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٣)

وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحقّ ، وتابعه (٤) الأقلّون الّذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم تاخذهم في الله تعالى لومة لائم ، بل أخلص (٥) لله تعالى واتّبع ما أمر به من طاعة من يستحقّ التقديم.

وحيث حصلت (٦) للمسلمين هذه البليّة وجب على كلّ واحد (٧) النظر في الحقّ ، واعتماد الإنصاف ، وأن يقرّ الحقّ مقرّه ، ولا يظلم مستحقه ؛ فقد قال الله تعالى (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٨)

وإنّما كان مذهب الإماميّة واجب الاتباع لوجوه :

الأوّل :

لمّا نظرنا في المذاهب (٩) وجدنا أحقّها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل ، وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه ، أحسن [ها في] المسائل الأصولية والفروعيّة ،

__________________

(١) في «ر» : فتابعهم.

(٢) ص : ٢٤.

(٣) سبأ : ١٣.

(٤) في «ش ١» : وبايعه.

(٥) في «ش ١» و«ش ٢» : أخلصوا لله تعالى واتّبعوا ما أمروا به.

(٦) في «ر» : حصل.

(٧) في «ر» : أحد

(٨) هود : ١٨.

(٩) في «ش ١» : المذهب. وهو تصحيف.

٣٦

مذهب الإماميّة.

لأنّهم اعتقدوا أنّ الله تعالى هو المخصوص بالأزليّة والقدم ، وأنّ كلّ ما سواه محدث ؛ لأنّه واحد.

وأنّه ليس بجسم ، ولا في مكان ، وإلّا لكان محدثا ، بل نزّهوه عن مشابهة المخلوقات ، وأنّه تعالى قادر على جميع المقدورات.

وأنّه عدل حكيم لا يظلم أحدا ، ولا يفعل القبيح ، وإلّا لزم الجهل والحاجة ، تعالى الله عنهما ، ويثيب المطيع ؛ لئلا يكون ظالما ، ويعفو عن العاصي أو يعذّبه بجرمه من (١) غير ظلم له.

وأنّ أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة ، وإلّا لكان عابثا ، وقد قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (٢) ، وأنّه أرسل الأنبياء لإرشاد العالم.

وأنّه تعالى غير مرئيّ ، ولا مدرك بشيء من الحواسّ ؛ لقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٣) ، وأنّه (٤) ليس في جهة.

وأنّ أمره ونهيه وإخباره حادث ؛ لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره. وأنّ الأنبياء معصومون عن الخطاء والسهو والمعصية ، صغيرها وكبيرها ، من أوّل العمر إلى آخره (٥) ، وإلّا يبق وثوق بما يبلّغونه ، فانتفت فائدة البعثة ، ولزم التنفير عنهم ، وأنّ الأئمّة معصومون كالأنبياء في ذلك ؛ لما تقدّم.

و[لأنّ الشيعة] أخذوا أحكامهم الفروعيّة عن الأئمة المعصومين ، الناقلين عن جدّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الآخذ ذلك من الله تعالى بوحي جبرئيل عليه‌السلام إليه ، يتناقلون ذلك عن الثقات

__________________

(١) سقط من «ش ١».

(٢) الأنبياء : ١٦.

(٣) الأنعام : ١٠٣.

(٤) في «ش ١» : لأنّه.

(٥) انظر كتاب «تنزيه الأنبياء» للسيد المرتضى «قدس‌سره» ، وقد فاضل الشيخ المفيد «قدس‌سره» في كتاب «أوائل المقالات» بين الأنبياء والملائكة ، فقال : اتّفقت الإمامية على أنّ أنبياء الله تعالى ورسله من البشر أفضل من الملائكة ، ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث ، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك. أوائل المقالات : ٥٥.

٣٧

خلفا عن سلف ، إلى أن تتّصل الرواية بأحد المعصومين ، ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والاجتهاد ، وحرّموا الأخذ بالقياس والاستحسان.

أمّا باقي المسلمين ، فقد ذهبوا كلّ مذهب :

فقال بعضهم ـ وهم جماعة الأشاعرة ـ أنّ القدماء كثيرون مع الله تعالى ، وهي المعاني التي يثبتونها موجودة في الخارج ، كالقدرة والعلم وغير ذلك ، فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى ؛ هو العلم ، وفي كونه قادر إلى ثبوت معنى هو القدرة ، وغير ذلك ، ولم يجعلوه قادرا لذاته ، ولا عالما لذاته ، ولا رحيما لذاته ، ولا مدركا لذاته ، بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها ، فجعلوه محتاجا ، ناقصا في ذاته ، كاملا بغيره ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال : إنّ النصارى كفروا لأنّهم قالوا أنّ

القدماء ثلاثة ، والأشاعرة أثبتوا قدماء (١) تسعة ، وقال جماعة الحشويّة والمشبّهة أنّ الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق ، وأنّه يجوز عليه المصافحة ، وأنّ المخلصين من المسلمين يعانقونه (٢) في الدّنيا (٣).

وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوّز رؤيته في الدنيا ، وأن يزورهم ويزورونه (٤).

وحكي عن داود الظاهريّ أنّه قال : اعفوني عن اللحية والفرج ، واسألوني عمّا وراء ذلك ، وقال أنّ معبوده جسم ولحم ودم ، وله جوارح وأعضاء وكبد ورجل ولسان وعينين (٥) وأذنين ، وحكي أنّه قال : هو مجوّف (٦) من أعلاه إلى صدره ، مصمت ما سوى

__________________

(١) في «ر» : أنّ القدماء.

(٢) في «ر» : يعاينونه

(٣) الملل والنحل ١ : ١٤٨.

(٤) الملل والنحل ١ : ١٣٦ ، قال : «ومن مذهب الأشعري أنّ كلّ موجود يصح أن يرى ، فإنّ المصح للرؤية إنما هو الوجود ، والباري تعالى موجود ، فيصح أن يرى».

(٥) في «ش ١» و«ش ٢» : وعين.

(٦) في «ر» : أجوف.

٣٨

ذلك ، وله شعر قطط ، (حتى قالوا : اشتكت) (١) عيناه فعادته الملائكة ، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه ، وأنّه يفضل من العرش عنه من كلّ جانب أربع أصابع. (٢)

وذهب بعضهم إلى أنّه تعالى ينزل في كلّ ليلة جمعة (٣) على شكل أمرد حسن الوجه راكبا على حمار ، حتى أنّ بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا ، يضع كلّ ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا ؛ لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح ، فيشتغل الحمار بالأكل ، ويشتغل الربّ بالنداء «هل من تائب» ، هل من مستغفر (٤)؟ تعالى الله عن مثل هذه العقائد الرديّة (٥) في حق الله تعالى.

وحكي عن بعض المنقطعين التاركين (الدنيا) (٦) من شيوخ الحشوية ، أنه اجتاز عليه في بعض الأيّام نفّاط ومعه أمرد حسن الصورة ، قطط الشعر ـ على الصفات التي يصفون ربّهم بها ـ فألحّ الشيخ في النظر إليه وكرّره ، وأكثر تصويبه إليه ، فتوهّم فيه النّفاط ، فجاء إليه ليلا ، وقال : أيّها الشيخ ، رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام ، وقد أتيت به إليك ، فإن كان لك فيه نيّة (٧) فانت الحاكم ، فحرد (٨) عليه ، وقال : إنّما كرّرت النظر إليه لأنّ مذهبي أنّ الله تعالى ينزل على صورة هذا الغلام ، فتوهّمت أنّه الله ، فقال له النفّاط : ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة.

وقالت الكراميّة : أنّ الله تعالى في جهة فوق ، ولم يعلموا أنّ كل ما هو في جهة فهو محدث ،

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من «ش ١».

(٢) الملل والنحل ١ : ١٤٩.

(٣) في «ش ١» و«ش ٢» : الجمعة.

(٤) الملل والنحل ١ : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٥) في «ش ١» : الدنيّة.

(٦) وردت في «ش ١» فقط.

(٧) في «ش ٢» : حاجة أو نيّة.

(٨) أي غضب.

٣٩

ومحتاج إلى تلك الجهة (١)

وذهب آخرون إلى أنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد ، وآخرون إلى أنّه لا يقدر على عين مقدور العبد ، وذهب الأكثر منهم إلى أنّ الله تعالى يفعل القبائح ، وأنّ جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله تعالى وقدره ، وأنّ العبد لا تأثير له في ذلك ، وأنّه لا غرض لله تعالى في أفعاله ، ولا يفعل لمصلحة العباد شيئا ، وأنّه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة ، وهذا يستلزم أشياء شنيعة :

منها : أن يكون الله تعالى أظلم من كلّ ظالم ؛ لأنه يعاقب الكافر على كفره ، وهو قدّره عليه ، ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان ، فكما أنّه يلزم الظلم لو عذّبه على لونه وطوله وقصره ـ لأنّه لا قدرة له فيها ـ كذا يكون ظالما لو عذّبه على المعصية الّتي فعلها فيه.

ومنها : إفحام الأنبياء وانقطاع حجّتهم ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قال للكافر : «آمن بي وصدّقني» ، يقول له : «قل للذي بعثك يخلق فيّ الإيمان أو القدرة المؤثّرة فيه ، حتّى أتمكن من الإيمان فأومن ، وإلّا فكيف تكلّفني الإيمان ولا قدرة لي عليه ، بل خلق فيّ الكفر ، وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى» ، فينقطع النبيّ ولا يتمكن من جوابه. ومنها : تجويز أن يعذب الله تعالى سيّد المرسلين على طاعته ، ويثيب إبليس على معصيته ، لأنه يفعل (الأشياء) (٢) لا لغرض ، فيكون فاعل الطاعة سفيها ؛ لأنّه يتعجّل بالتعب من الاجتهاد في العبادة ، وإخراج ماله في عمارة المساجد والرّبط والصدقات من غير نفع يحصل له ؛ لأنه قد يعاقبه على ذلك ، ولو فعل ـ عوض ذلك ـ ما يلتذّ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه ، فاختيار الأوّل يكون سفها عند كلّ عاقل ، والمصير إلى هذا المذهب يؤدّي إلى خراب العالم واضطراب أمر الشريعة المحمّديّة (٣).

__________________

(١) الملل والنحل ١ : ١٥٩.

وانظر دلائل الصدق ١ : ١٣٥. والكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمّد بن كرام.

(٢) في «ش ٢» يفعل أشياء.

(٣) في «ش ٢» : غفور حليم.

٤٠