عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني

عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

المؤلف:

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٢

كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) والشاهد علي بن أبي طالب ، وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ).

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، قال : (الموازين الأنبياء والأوصياء ومن الخلق من يدخل الجنة بغير حساب) فأما السؤال فهو واقع على جميع الخلق لقول الله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) يعني عن الدين وأما غير الدين فلا يسأل إلا من يحاسب ، قال الله عزوجل : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) يعني من شيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة دون غيرهم ، كما ورد في التفسير : وكل محاسب معذب ولو بطول الوقوف ولا ينجو من النار ولا يدخل الجنة أحد إلا برحمة الله تعالى والله يخاطب عباده من الأولين والآخرين بحساب عملهم مخاطبة واحدة يسمع منها كل أحد قضيته دون غيرها ، ويظن أنه مخاطب دون غيره لا يشغله مخاطبة عن مخاطبة ويفرغ من حساب الأولين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا ويخرج عزوجل لكل انسان كتابا يلقاه منشورا ينطق عليه بجميع أعماله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فيجعله الله محاسب نفسه والحاكم عليها بأن يقال له : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وليختم الله تبارك وتعالى على قوم أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم بما كانوا يكسبون ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، انتهى كلامه (ره).

وروى الصدوق (ره) في خصاله عن الباقر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا تزول قدما عبد يوم القيامة من بين يدي الله حتى يسأله عن أربع خصال ، عمرك فيما أفنيته ، وجسدك فيما أبليته ، ومالك من أين كسبته وأين وضعته ، وعن حبنا أهل البيت.

٢٦١

سؤال عن حب أهل البيت :

وبأسانيد عديدة عن الرضا قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أول ما يسأل عنه العبد حبنا أهل البيت.

وفي البصائر عن الصادق عليه‌السلام قال قال رسول الله : (أنا أول قادم على الله ثم يقدم عليّ كتاب الله ثم يقدم علي أهل بيتي ثم تقدم علي أمتي فيقفون فيسألهم ما فعلتم في كتابي (القرآن) وأهل بيت نبيكم).

وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) قال : يسأل السمع عما سمع والبصر عما يطرف والفؤاد عما عقد عليه.

٢٦٢

عقيدة الامامية الاثنى عشرية

في مظالم العباد

الظلم هو عبارة عن وضع الشيء في غير موضع له ، وذكر في نهج البلاغة قال عليه‌السلام: (وإن الظلم ثلاثة فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم مغفور لا يطلب فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله) قال الله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات ، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا ، القصاص هناك شديد ليس هو جرحا بالمدى.

في البحار طبع الجديد ج ٧ صفحة ٢٧٣ عن الحسن بن محبوب عن مالك بن عطية عن يونس بن عمار قال قال الصادق عليه‌السلام : الدواوين يوم القيامة ثلاثة ديوان فيه النعم وديوان فيه الحسنات وديوان فيه الذنوب ، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات فيتفرق عامة الحسنات وتبقى الذنوب ، وفيه أيضا عن ابن زيد عن أحدهما قال : (يؤتى يوم القيامة بصاحب الدين يشكو الوحشة (أي الهمّ) فإن كانت له حسنات أخذ منه لصاحب الدين وقال : وإن لم تكن له حسنات ألقى عليه من سيئات صاحب الدين ، وقال تعالى : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها. الخ.. وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

٢٦٣

يَظْلِمُونَ) وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والروايات الواردة في المقام.

وورد في الحديث رواه العامة والخاصة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وإنما المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).

وروى الصدوق (ره) عنه عليه‌السلام أنه قال : (من آذى مؤمنا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فهو ملعون (أي مبعد عن رحمة الله) في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وعنه عليه‌السلام أيضا أنه قال : (إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

ولنعم ما قيل في المقام :

ألم تعلم بأن الظلم عار

جزاء الظلم عند الله نار

وللمظلوم دار في الجنان

وللظلام في النيران دار

وقال أيضا :

لا تظلمني اذا ما كنت مقتدرا

فالظلم مقدرة تفضي الى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وعين الله لم تنم

في الوسائل باب جهاد النفس ص ٥٢٣ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما من يظلم مظلمة إلا أخذه الله بها في نفسه وماله فأما الظلم الذي بينه وبين الله فإذا تاب غفر له.

وعن جعفر بن محمد : من ارتكب أحدا بظلم بعث الله من ظلمه مثله أو على عقبه من بعده (وسائل ص ٤٢٤).

عن شيخ من النخع قال : قلت لأبي جعفر إني لم أزل واليا منذ زمن الحجاج الى يومي هذا فهل لي من توبة قال فسكت ثم أعدت عليه فقال لا حتى تؤدي الى كل ذي حق حقه (وسائل ٥٢٤).

٢٦٤

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية

في السؤال عن الرسل والامم وتطاير الكتب

وبعض أحوال يوم القيامة

قال الله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، وقال الله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) ، وقال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ، وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) ، وقال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ، وقال تعالى : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، وقال تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقال تعالى : (يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، وغير ذلك من الآيات والأخبار المتواترة الدالة على أصل السؤال وأنه حق لا ريب فيه ولا شبهة

٢٦٥

تعتريه فيجب الاعتقاد به إجمالا ، وفي جملة من الآيات أن السعداء يؤتون كتابهم بأيمانهم والأشقياء بيسارهم.

أول من يسأل من الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

روى القمي في تفسيره بسند كالصحيح عن ضريس عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى: (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ، قال الباقر عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة وحشر الناس للحساب فيمرون بأهوال يوم القيامة فينتهون الى العرصة ويشرف الجبار عليهم حتى يجهدوا جهدا شديدا قال ويقفون بفناء العرصة فأول من يدعى بنداء يسمع الخلائق أجمعين أن يهتف باسم محمد بن عبد الله النبي القرشي قال فيتقدم حتى يقف على يمين العرش قال ثم يدعى بصاحبكم علي ابن أبي طالب عليه‌السلام فيتقدم حتى يقف على يسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم يدعى بامة محمد فيقفون عن يسار علي ، ثم يدعى كل نبي وامته معه من أول النبيين الى آخرهم واممهم معهم فيقفون عن يسار العرش قال ثم أول من يدعى للمسألة القلم فيتقدم فيقف بين يدي الله عزوجل في صورة الآدميين فيقول الله هل سطرت في اللوح ما ألهمتك وأمرتك به من الوحي فيقول القلم نعم يا رب قد علمت اني قد سطرت في اللوح ما أمرتني وألهمتني به من وحيك فيقول الله فمن يشهد لك بذلك فيقول يا رب هل اطلع على مكنون سرك قال فيقول أفلجت حجتك أي أظهرتها وقوتها قال ثم يدعى باللوح فيتقدم في صورة الآدميين حتى يقف مع القلم فيقول له هل سطر فيك ما ألهمته وأمرته به من وحي فيقول اللوح نعم يا رب وبلّغته اسرافيل ثم يدعى باسرافيل فيقدم مع القلم واللوح في صورة الآدميين فيقول الله له هل بلّغك اللوح ما سطر فيه القلم من وحي فيقول نعم يا رب وبلغته جبرائيل فيدعى بجبرائيل فيتقدم حتى يقف مع اسرافيل فيقول الله له هل بلغك اسرافيل ما بلغ فيقول نعم يا رب وبلغته جميع أنبيائك وأنفذت إليهم جميع ما انتهى إليّ من أمرك وأديت رسالاتك الى نبي نبي ورسول رسول وبلغتهم كل وحيك وحكمتك وعلمك وكتبك وإن آخر من بلغته رسالتك

٢٦٦

ووحيك وحكمتك وعلمك وكتابك وكلامك محمد بن عبد الله العربي القرشي الحرمي حبيبك.

قال ابو جعفر عليه‌السلام : فأول من يدعى من ولد آدم للمسألة محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدنيه الله تعالى حتى لا يكون خلق أقرب الى الله تعالى يومئذ فيقول الله يا محمد هل بلغك جبرائيل ما أوحيت إليه وأرسلته به أليك من كتابي وحكمتي وعلمي وهل أوحى ذلك أليك فيقول رسول الله نعم يا رب قد بلغني جبرائيل جميع ما أوحيته إليه وأرسلته من كتبك وحكمتك وعلمك وأوحاه إلي فيقول الله لمحمد هل بلغت امتك ما بلغك جبرائيل من كتابي وقرآني فيقول رسول الله نعم فيقول الله فمن يشهد لك بذلك فيقول محمد يا رب وأنت الشاهد لي بتبليغ الرسالة وملائكتك والأبرار من امتي وكفى بك شهيدا فيدعى بالملائكة فيشهدون لمحمد بتبليغ الرسالة ثم يدعى بامة محمد فيسألون هل بلغكم محمد رسالتي وكتابي وحكمتي وعلمي وعلمكم ذلك فيشهدون لمحمد بتبليغ الرسالة والحكمة والعلم فيقول الله لمحمد هل استخلفت في امتك من بعدك حجة لي وخليفة في الأرض فيقول محمد نعم يا رب قد خلفت فيهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام أخي ووزيرى ووصيي وخير امتي ونصبته لهم علما في حياتي ودعوتهم الى طاعته وجعلته خليفة في امتي إماما تقتدي به الامة بعدي الى يوم القيامة ، فيدعى بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام فيقال له هل أوصى أليك محمد واستخلفك في امته ونصبك علما لامته وهل قمت فيهم من بعده مقامه فيقول علي نعم يا رب قد أوصى إلي محمد وخلفني في امته ونصبني لهم علما في حياته فلما قبضت محمدا أليك جحدتني امته ومكروا بي فيقال لعلي فهل خلفت من بعدك في امة محمد حجة وخليفة في الأرض يدعو عبادي الى ديني والى سبيلي فيقول علي نعم يا رب قد خلفت فيهم الحسن ابني وابن بنت نبيك فيدعى الحسن بن علي فيسأل عما سئل عنه علي بن أبي طالب قال ثم يدعى بإمام إمام وبأهل عالمه فيحتجون بحجتهم فيقبل الله عذرهم قال ثم يقول الله اليوم ينفع الصادقين صدقهم.

٢٦٧

وروي العياشي في تفسيره عن السجاد عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : إذا كان يوم القيامة ونصب الموازين ، وأحضر النبيون والشهداء وهم الأئمة يشهد كل إمام على أهل عالمه بأنه قد قام فيهم بأمر الله عزوجل ودعاهم إلى سبيل الله.

وفي تفسير العياشي في قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ، عن الصادق عليه‌السلام قال : يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة ، فلذلك قوله : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها).

وروي القمي في تفسير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أنها نزلت في قوم تعرض عليهم أعمالهم فينكرونها فيقولون ما عملنا منها شيئا فتشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم. فقال الصادقعليه‌السلام : فيقولون لله يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا ، وهو قوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) وهم الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ويشهد البصر بما نظر به إلى ما حرم الله ، وتشهد اليدان بما أخذتا ، وتشهد الرجلان بما سعتا مما حرم الله ، ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله ، ثم انطق كل شيء ، وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ، وما كنتم تستترون أي من الله أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، والجلود الفرج ، ولكن ظننتم ان الله لا يعلم كثيرا مما تعملون.

قال العلامة (ره) في الباب الحادي عشر :

يجب الإقرار بكل ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن ذلك الصراط والميزان

٢٦٨

وانطاق الجوارح وتطائر الكتب لإمكانها ، وقد أخبر الصادق بها فيجب الاعتراف بها.

وبيان ذلك لما ثبت نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته ، ثبت أنه صادق في كل ما أخبر بوقوعه سواء كان سابقا على زمانه كإخباره من الأنبياء السالفين وأممهم والقرون الماضية وغيرها ، أو في زمانه كإخباره بوجوب الواجبات وتحريم المحرمات ، وندب المندوبات والنص على الأئمة الاثنى عشر كما نقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متواترا ، وغير ذلك من الأخبار ، أو بعد زمانه ، فاما في دار التكليف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين أو بعد التكليف كأحوال الموتى وما بعده ، فمن ذلك عذاب القبر والصراط والميزان والحساب وانطاق الجوارح وتطائر الكتب وأحوال القيامة وكيفية حشر الأجسام وأحوال المكلفين في البعث ويجب الإقرار بذلك اجمع والتصديق به ، لأن ذلك كله أمر ممكن لا استحالة فيه ، وقد اخبر الصادق بوقوعه فيكون حقا.

٢٦٩

عقيدة الامامية الاثنى عشرية

في الصراط

لا خلاف فيه بين أحد من المسلمين وهو من ضروريات الدين والآيات متضافرة والأخبار به متواترة ، وقد ورد في روايات العامة والخاصة ، أنه جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة وعليه عقبات كثيرة ، وهو صراطان ظاهري وهو ما ذكر ، وباطني وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة كما ورد عنهم نحن الصراط ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا الصراط الممدود بين الجنة والنار ، وعن الصادق عليه‌السلام الصراط المستقيم امير المؤمنين عليه‌السلام ، فمن كان متمسكا بولائهم ومحبتهم ومتابعتهم في أقوالهم وأفعالهم ، فقد هدي إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة ، ومن خالفهم زل وضل ، وفي معاني الأخبار عن المفضل بن عمر، قال : سألت أبا عبد الله عن الصراط ، فقال : هو الطريق إلى معرفة الله عزوجل وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفروض الطاعة من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه ، مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه عن الصراط في الآخرة ، فتردى في نار جهنم.

وفي تفسير العسكري الصراط المستقيم صراطان : صراط في الدنيا وصراط

٢٧٠

في الآخرة. فأما الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر من الغلو وارتفع عن التقصير ، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل ، وأما الصراط في الآخرة فهو طريق المؤمنين إلى الجنة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة.

قال الصدوق (ره) اعتقادنا في الصراط أنه حق وأنه جسر جهنم ، وأن عليه ممر جميع الخلق ، قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) والصراط في وجه آخر اسم حجج الله ، فمن عرفهم في الدنيا وأطاعهم أعطاه الله عزوجل جوازا على الصراط الذي هو جسر جهنم يوم القيامة ، وقال النبي لعلي : إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرائيل على الصراط ، فلا يجوز على الصراط إلا من كانت معه براءة بولايتك.

وروي الشيخ الطوسي (ره) في أماليه من طرق المخالفين عن أنس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنم لم يجز عليه إلا من كان معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) يعني عن ولاية علي بن أبي طالب.

وروي الصدوق (ره) في الأمالي بإسناد معتبر عن الصادق عليه‌السلام قال : الناس يمرون على الصراط طبقات يعني على أقسام ، والصراط أدق من الشعرة ومن حدّ السيف ، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل عدو الفرس ، ومنهم من يمرجوا ، ومنهم من يمر مشيا ، ومنهم من يمر متعلقا ، قد تأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا.

وروى علي بن ابراهيم والصدوق (ره) بأسانيدهما عن الباقر عليه‌السلام قال : لما نزلت هذه الآية وجيء يومئذ بجهنم ، سئل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اخبرني الروح الأمين إن الله لا إله غيره إذا برز الخلائق وجميع الأولين والآخرين اتي بجهنم تقاد بألف زمام يقودها مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد لها هدة

٢٧١

وغضب وزفير وشهيق ، فلولا ان الله عز وجل أخرهم للحساب ، لأهلكت الجميع ثم يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البر منهم والفاجر ، فما خلق الله عز وجل عبدا من عباده ملكا ولا نبيا إلا ينادي ربي نفسي نفسي ، وأنت يا نبي الله تنادي أمتي أمتي نعم يوضع عليها الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف عليها ثلاث قناطر ، فاما واحدة فعليها الأمانة والرحمة ، وثانيها فعليها الصلاة ، واما الثالثة فعليها عدل رب العالمين إلى غير ذلك من الآيات والأخبار المتواترة فيقول إبراهيم الموسوي : إنا نعتقد بما أخبر به القرآن الكريم وأئمة الدين والاعتقاد الإجمالي كاف في المقام.

٢٧٢

عقيدة الامامية الاثنى عشرية

في الشفاعة يوم القيامة

يقع الكلام فيها من جهات :

الاولى : أنه لا خلاف بين المسلمين في ثبوت الشفاعة لسيد المرسلين خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمته بل في سائر الامم الماضين ، بل ذلك من ضروريات الدين ، قال الله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

الثانية : الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شئونه وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحياة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية ، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلى يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا ، فإن الجرم والجناية عندهم يتبع العقاب ، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلحّ المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه ، فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا ، إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم أو يتنصر قومه فينصرونه فيتخلص بذلك عن تبعة العقاب ونحو ذلك.

٢٧٣

تلك سنة جارية وعادة دائرة بينهم ، وكانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أن الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطرد فيها قانون الأسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي فيقدمون إلى آلتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم أو يتشفعون بها أو يفدون بشيء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى أنهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، وربما الحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الأبطال من يتنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، ويوجد عقائد متنوعة (شبيهة بتلك العقائد) بين الملل الإسلامية على إختلاف ألسنتهم وألوانهم بقيت بينهم بالتوارث ، وربما تلوّنت لونا بعد لون وجيلا بعد جيل.

والآيات الواردة في نفي الشفاعة في هذا المورد ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية والأقاويل الكاذبة. فقد قال عز من قائل : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) الانفطار / ١٩. وقال : (وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) البقرة / ١٦٦. وقال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ، وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الإنعام / ٩٦. وقال : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يونس / ٣٠. إلى غير ذلك من الآيات التي بيّن فيها ان الموطن خال عن الأسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الأقاويل والأوهام على طريق الإجمال ، ثم فصّل القول في نفي واحد منها وإبطاله ، فقال : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ، وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) البقرة / ٤٨. وقال : (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) البقرة / ٢٥٥. وقال : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) الدخان / ٤١. وقال : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ)

٢٧٤

المؤمن / ٣٥. وقال : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) الصافات / ٢٦. وقال : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) يونس / ١٩. وقال : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) المؤمن / ١٨ وقال : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) الشعراء. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة هذا.

القرآن يثبت الشفاعة في الجملة :

ثم إن القرآن لا ينفي الشفاعة من أصلها بل يثبتها بعض الإثبات (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) الزمر / ٤٥. وقال تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) البقرة / ٢٥٩. وقال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) يونس / ٣. وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء / ٢٩. وقال : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الزخرف / ٨٩. وقال : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) طه / ٩٠. وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه / ١٠٩. وقال تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) السبأ / ٢٢. وقال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) النجم / ٢٦. فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه مثل بعض الآيات المذكورة وبين ما يعممها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب.

٢٧٥

ومن هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة ، فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك والآيات المشبه تشبها لله سبحانه بنحو الأصالة ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه ، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه.

وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين آيات الشفاعة وبين آيات النافية لها كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره وإثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه. قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ) النحل ٦٦ وقال (عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) الأنعام ٥٩ ، وقال تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ). وإثبات الغيب لغيره بارتضائه تعالى. وقال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الجن / ٢٧. وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فإنها شائعة في اسلوب القرآن حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ثم يثبته لنفسه ثم يثبته لغيره بإذنه ومشيئته فتفيد أن الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها ، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها.

ما هي الشفاعة :

الشفاعة على ما عرفت من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون وهي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها من الامور التي نستعملها لإنجاح المقاصد ، وجل الموارد التي نستعملها فيها إما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير ، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر ،

٢٧٦

ومن هنا يظهر للمتأمّل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب.

الشفاعة إما تكوينية أو تشريعية :

أما الشفاعة من جهة التكوين. فانطباق معنى الشفاعة على شأن الأسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى فإنها تستفيد من صفاته تعالى العليا من الرحمة والخلق والإحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، وكلامه تعالى يحتمل أيضا ذلك (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). وأما من الجهة الثانية وهي النظر إليه من جهة التشريع ، فالذي ينبغي أن يقال أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) طه. وقوله : (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ) السبأ / ٢٢.

فمن الشفاعة التشريعية ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا وزلفى فهو شفيع يتوسط بينه وبين عبده ومنه التوبة كما قال تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) الزمر / ٥٤. ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشر.

ومنه الإيمان. قال تعالى : (آمِنُوا بِرَسُولِهِ) إلى قوله (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الحديد / ٢٨.

ومنه كل عمل صالح. قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) المائدة / ٣٥. والآيات فيه كثيرة.

ومنه القرآن لقوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المائدة / ١٦.

٢٧٧

ومنه كل ما له ارتباط بعمل صالح والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة.

ومنه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين قال : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الشورى / ٥.

ومنه المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين ، قال تعالى حكاية عنهم : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا) البقرة ٢٨٩.

ومنه الأنبياء والرسل :

الأنبياء والرسل يستغفرون لاممهم. قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) النساء / ٩٤.

وقال تعالى : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) إلى أن قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الأنبياء / ٢٩.

تتعلق الشفاعة بأهل المعاصي الكبيرة :

قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني عالم الأسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والإيمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة. وأما الشفاعة المتنازع فيها وهي شفاعة الأنبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن استحقه بالحساب فمتعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق وقد ارتضى الله دينه.

٢٧٨

الأخبار تثبت الشفاعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأئمة الاثنا عشر

عليهم‌السلام ولبعض المؤمنين يوم القيامة :

في الخصال من طرق العامة عن أنس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكل نبي دعوة قد دعا بها ، وقد سئل سؤالا وقد أخبأت دعوتي لشفاعتي لامتي يوم القيامة.

وعن الصادق عليه‌السلام عن أباه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ثلاثة يشفعون الى الله عزوجل فيشفعون الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء.

وفي العيون عن الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ، ثم قال : إنما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قال الراوي فقلت : للرضا (ع) يا ابن رسول الله فما معنى قوله عزوجل ولا يشفعون إلا لمن ارتضى؟ قال : لا يشفعون إلا لمن ارتضى دينه.

وفي الأمالي عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكبائر من امتي فيشفعن الله فيهم والله لا تشفعت فيمن آذى ذريتي).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : (من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا المعراج والمساءلة في القبر والشفاعة).

وفي العياشي عن سماعة بن مهران عن الكاظم عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : (يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ، ويؤمر الشمس فيركب على رءوس العباد ويلجهم العرق ويؤمر الأرض لا تقبل من عرفهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيه لهم على نوح ،

٢٧٩

ويدلهم نوح على ابراهيم ويدلهم ابراهيم على موسى ويدلهم موسى على عيسى ويدلهم عيسى فيقول عليكم بمحمد خاتم البشر) فيقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له من هذا والله أعلم فيقول : محمد فيقال افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخرّ ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له تكلم وسل تعط ، واشفع تشفع فيرفع رأسه يستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد احرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قول الله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

أقول : وهذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار والتفصيل بطرق متعددة من العامة والخاصة ، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة ، ولا ينافي ذلك كون غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأنبياء وغيرهم جائز الشفاعة لإمكان شفاعتهم فرعا لشفاعته ، فافتتاح الشفاعة بيده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي تفسير العياشي أيضا عن أحدهما عليه‌السلام في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، قال هي الشفاعة.

وفي تفسيره أيضا عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المؤمن هل له شفاعة قال نعم ، فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ ، قال نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوبا ، وما أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ قال وسأله رجل عن قول رسول الله أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، قال نعم قال يأخذ حلقة باب الجنة فيفتحها فيخر ساجدا فيقول الله ارفع رأسك اشفع تشفع اطلب تعط فيرفع رأسه ثم يخر ساجدا فيقول الله ارفع رأسك اشفع تشفع واطلب تعط ثم يرفع رأسه فيشفع فيشفع ويطلب فيعطى.

وفي تفسير الفرات عن محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن بشر بن شريح البصري قال لمحمد بن علي عليه‌السلام : أية آية في كتاب الله أرجى قال فما يقول فيها قومك قلت يقولون (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ

٢٨٠