عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني

عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

المؤلف:

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٢

الإسلام فحسب بل ادخل ثلاثمائة من مختلف الشعوب ، وان ضلاله ينبسط يوما فيوما على افريقية وآسية ، بينما المبشرون ينظرون ولا يستطيعون شيئا.

وقال الاستاذ مونته وهو استاذ اللغات الشرقية بجامعة جنيف في كتابه محمد والقرآن : ولقد منع القرآن الذبائح البشرية ووأد البنات والخمر والميسر ، وكان لهذه الإصلاحات تأثير غير متناه في الخلق بحيث ينبغي أن يعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صف أعاظم المحسنين للبشرية ، وقال ان الانقياد لإرادة الله تتجلى في القرآن بقوة لا تعرفها النصرانية.

وقال الدكتور ماركس وهو دكتور في الفلسفة في لندن : ففي كتاب الله أي القرآن آيات جمة تحض على طلب العلم والتعمّق في البحث والدرس ، ولا يسعني إلا أن ألفت نظرك إلى نقطة مهمة ، ألا وهي ان القرآن الحكيم قد صحح كثيرا من الأغلاط التي كان البشر يتخبط فيها إلى أن جاءنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلمنا الحقيقة على ضوء العقل من العصور الاولى للإسلام.

وقال رينه : ان الأب اليسوعي لا منسر صاح متأوها من كون القرآن ، جاء وصرف العرب عن حلاوة الإنجيل التي كانوا بدوا يذوقونها ، ولم يقدر أن يغفر للقرآن ذنب إدخاله في الإسلام ثلاثمائة مليون أو ٨٠٠ مليون نسمة من جميع أجناس البشر واستتبابه إلى يوم الناس هذا ينمو وينتشر في إفريقيا وآسيا بمرأى ومسمع من المبشرين المسيحيين.

وقال لابيني راوجست كونت وسبنسروهم من فطاحل الالمان وفرنسا والانكليز وغيرهم : القرآن المجيد كثيرا ما يحتاج إلى العلوم البشرية لأن المعارف الدنيوية والتجارب المفيدة والمباحث الدقيقة توضح آياته كما توضحها الاجتهادات العقلية والفيوضات الروحية ، ان كثيرا من الآيات القرآنية المبهمة لا تلبث أن يظهر معناها عند ما تظهر حقائق جديدة كانت خفية على الإنسان ، سمعت مرة إنجليزيا من المهتدين إلى الإسلام يقول : هل يتأتى لجميع فلاسفة العالم أن يثبتوا

٢٠١

غلطة في القرآن واحدة ولو ارتكنوا على كل ما في أيديهم من العلوم العصرية ، فلا يتأتى لهم ذلك ولو وجدوا فيه خطأ صغيرا ، ما كانوا إلا مظهريه ، ولكن أنى لهم ذلك والعلوم كل يوم في تبديل وتغير ، وكل لحظة تظهر بها معان باهرة للآيات ما كنا لنفهم معناها إلا بعد تقدم العلوم ، فلنضرب لكم مثلا كان الفلكيون يدعون أولا ان الأرض ثابتة والشمس متحركة ، ثم قالوا بل الأرض متحركة والشمس ثابتة ، ثم جاءوا اليوم يقولون علمنا الآن ان كلا في فلك يسبحون ، وان الشمس حقيقة تجري لمستقر لها ، فمن ذلك نتأكد ان العلوم تتغير وتترقى والقرآن ثابت لا يتغير بالحوادث ، فإن وجد في الكتاب الحكيم شيء لا نفهمه وجب علينا أن ننظر رقي العلوم ، ولا نشك لحظة في صحة القرآن.

وفي دائرة معارف فريد وجدي الجزء الخامس كتب المسيو شانلبيه وهو مدرّس العلوم الاجتماعية في كلية فرنسا : مباحث في حالة المسلمين ، منها ان اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن أهم رابطة وأوثق عروة بين أعضاء الاسرة الإسلامية الكبرى لأنه إذا كان لا يتكلم بهذا اللسان في المعاملات اليومية الجارية إلى أن قال فمما لا مشاحة فيه ان النطق به جار على السنة المسلمين كافة فيما يرتلونه من الآيات القرآنية بين بلاد الصين وإفريقية الجنوبية من جهة وبين جزائر الفلبين ومراكش من جهة أخرى فضلا عن ان الكتابة بها عامة بين سائر المسلمين الذين يقرءون القرآن.

قال المسيو جول لابوم الفرنسي : القرآن اكثر من الوعظ والزجر والترغيب والترهيب ، فلم يوجّه الكلام في واحدة للكبراء والقادة ، ولكنه وجهه للناس كافة.

وقال الكاتب الانكليزي وليز : من نظر إلى القرآن وجد فيه آراء علمية قانونية واجتماعية ، فالقرآن كتاب علمى وديني واجتماعي وتهذيبي واخلاقي

٢٠٢

وتاريخي وكثير من النظامات التي جاء بها القرآن يعمل بها في هذا العصر وستبقى إلى قيام الساعة.

وقال فس ج م رودويل في مقدمة القرآن : يجب أن تعترف اوربا بأنها مدينة للقرآن الذي بزغت شمس العلم منه في القرون الوسطى في اوربا.

وقال الفيلسوف دينورت : أن العلوم الطبيعية والفلسفية والرياضية والنجوم كلها أخذت من القرآن ، وهذه العلوم قد دخلت اوربا من القرآن بعد الميلاد.

وقال ماردريس المستشرق الفرنسي في مقدمة ترجمة القرآن : ان اسلوب القرآن هو اسلوب إلهي وهو يصل إلى كنه الحقائق والكائنات وهو الدستور الوحيد المبشر.

وقال جرجي زيدان المسيحي المؤرخ الشهير في تاريخه العرب قبل الإسلام ما يأتي : ان اقدم المصادر العربية لتاريخ العرب واقربها إلى الصحة القرآن ، فقد جاء فيه ذكر بعض القبائل البائدة كعاد وثمود وبعض أخبار ملوك اليمن كسيل العرم وغيره ، وفرعون احتفظ جسده في الاهرام في القاهرة ، وإذا قرأت تلك الأخبار فيه تجد ما ذكره القرآن صحيحا تؤيده الاكتشافات الحديثة.

وقال المستر بيكتول : لقد سرني ما علمته من رغبة شباب المدنية وانصرافهم إلى تلقي العلوم والمعارف وليست هذه الرغبة جديدة ، ذلك أن محمدا قد أمر بها ودعا إليها ، وذلك ان القرآن الكريم قد أوجبها على كل مسلم ومسلمة.

وقال جيبون : ان دين محمد خال من الشكوك والظنون والقرآن أكبر دليل على وحدانية الله بعد أن نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عبادة الأصنام والكواكب ، وهذا الدين أكبر من أن تدرك عقولنا الحالية أسراره.

وقال السير وليم ميور في كتابه حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان القرآن ممتلئ بأدلة عن الكائنات المحسوسة والدلائل العقلية على وجود الله تعالى وأنه هو الملك القدوس وأنه سيجزي عن عمله ان خيرا فخير وان شرا فشر ، وأن اتباع

٢٠٣

الفضائل واجتناب الرذائل فرض على العالمين ، وان الواجب على كل مكلف أن يعبد الله وهي علة سعادته وقس على هذا ، ما هو موضح بأدلة مؤكدة بليغة ويكثر في القرآن الشعر والمراد به حسن التمثيل وبديع التصوير لا الشعر بمعناه المتعارف ويمثل حقيقة البعث بأمثال كونية صادقة وتشبيهات مدهشة مثل قوله (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ).

وقال الدكتور موريس الفرنسي : ان القرآن أفضل كتاب أخرجته يد الصناعة الأزلية لبني البشر.

وقال الدكتور جان ساي العالم الفرنسي : اني أتعجب من هؤلاء الغربيين الذين ملئوا الدنيا بأقوالهم عن القرآن ، وكيف أعمالهم التعصب المسيحي أو اللاديني ومنعهم من أن يفقهوا بما في القرآن من هدى وحكمة ، وأرى أن يكون حتما واجبا على المسلمين أن يبشروا البشرية كلها بهذا القرآن الذي هو كتاب الانسانية كلها ، وأرى في المسلمين كفاية تامة للقيام ببيان تعاليمها ونشرها.

٢٠٤

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية

في المعاد الجسماني والروحاني

اعلم أن المعاد يطلق على ثلاثة معاني أحدها المعنى المصدري من العود وهو الرجوع إلى مكان ، وثانيها وثالثها مكان العود وزمانه ، ومآل الكل واحد وقد أيد المعاد جميع الشرائع والأديان وعدوا الاعتراف بعودة الإنسان إلى الحياة ركنا أساسيا في أديانهم.

والذي عليه الشيعة الإمامية الاثنى عشرية هو القول بالمعاد الروحاني والجسماني معا ، وأغلب المسلمين أيضا ذهب إلى هذا القول أي معاد هذا الذي كان في الدنيا بروحه وجسمه يوم القيامة.

قال الرازي في كتاب نهاية العقول :

قد عرفت أن من الناس من اثبت النفس الناطقة فلا جرم اختلفت أقوال أهل العالم في أمر المعاد على وجوه أربعة : أحدها قول من قال ليس إلا للنفس وهذا مذهب الجمهور من الفلاسفة. وثانيها قول من قال ليس إلا لهذا البدن ، وهذا قول نفاة النفس الناطقة ، وهم اكثر أهل الإسلام. وثالثها قول من أثبت المعاد للأمرين وهم طائفة كثيرة من المسلمين مع اكثر النصارى. ورابعها قول

٢٠٥

من نفي المعاد عن الأمرين ولا اعرف عاقلا ذهب إليه بل كان جالينوس من المتوقفين في أمر المعاد.

في المعاد وشرف علم المعاد وعلو مكانه

وسمو معرفة بعث الأرواح والأجساد :

اعلم ان هذه المسألة بما فيها من احوال القبر والبرزخ والبعث والحشر والنشر والحساب والكتاب والميزان ومواقف الصراط والجنة وطبقاتها وأبوابها والنار وأبوابها ودركاتها هي ركن عظيم في الإيمان وأصل كبير في الكلام والفلسفة وهي من أغمض العلوم وألطفها وأشرفها مرتبة وأرفعها منزلة وأعلاها شأنا وأدقها سبيلا وأخفاها دليلا إلا على ذي بصيرة ثاقبة وقلب منور بنور من الله تعالى ، ومن أحاديث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت قل من اهتدى إليها من أكابر الحكماء السابقين واللاحقين ، فأكثر الفلاسفة وان بلغوا جهدهم في احوال المبدأ من التوحيد والصفات وسلب النقائص والتغيرات في الأفعال والآثار ، لكنهم قصرت أفكارهم عن درك منازل المعاد لأنهم لم يقتبسوا أنوار الحكمة من مشكاة نبوة خاتم الأنبياء ومعادن الحكمة أهل البيت حتى رئيسهم في كتابه الشفاء اعترف بالعجز عن إثبات المعاد بالدليل العقلي ، بل قال نحن نقلد في هذه المسألة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانه أخبر عن المعاد وأنه مخبر صادق.

إثبات المعاد الجسماني :

إثبات المعاد الجسماني يحتاج إلى بيان مقدمات :

الاولى : ان الوجود في كل شيء هو الأصل في الموجودية والماهية أمر اعتبارية تبع له كما قرر في الفلسفة.

الثانية : ان تشخص كل شيء وما يتميز به هو عين وجوده الخاص ، وأن الوجود والتشخص متحدان ذاتا متغايران مفهوما واسما كما بيّن في محله.

٢٠٦

الثالثة : أن طبيعة الوجود قابلة للشدة والضعف بنفس ذاتها البسيطة التي لا تركيب فيها خارجا ولا زمنا ولا اختلاف بين أفرادها بميز ذاتي وبمصنف عرضي أو بمشخص زائد على أصل الطبيعة وإنما تختلف أفرادها وآحادها بالشدة والضعف الذاتي والتقدم والتأخر الذاتين كالنور.

الرابعة : أن الوجود مما يقبل الاشتداد والتضعيف يعني أنه يقبل الحركة الاشتدادية وأن الجوهر في جوهريته أي وجوده الخاص يقبل الاستحالة الذاتية.

الخامسة : أن كل مركب بصورته هو هو لا بمادته فالسرير سرير بصورته لا بمادته والسيف سيف بحدته لا بحديده والحيوان بنفسه لا بجسده وإنما المادة حاملة قوة الشيء وإمكانه وموضوعه انتقالاته وحركاته حتى لو فرضت صورة المركب قائمة بلا مادة لكان الشيء بتمام حقيقته موجودة وبالجملة نسبة المادة الى الصورة نسبة النقص الى التمام فالنقص يحتاج الى التمام والتمام لا يحتاج الى النقص.

السادسة : أن هوية البدن وتشخصه إنما يكونان بنفسه لا بجرمه فزيد مثلا زيد بنفسه لا بجسده ولأجل ذلك يستمر وجوده وتشخصه ما دامت النفس باقية فيه وإن تبدلت اجزاؤه وتحولت لوازمه من أينه وكمّه وكيفه ووضعه كما في طول عمره وكذا القياس لو تبدلت صورته الطبيعية بصورة مثالية كما في المنام وفي عالم القبر والبرزخ الى يوم البعث أو بصورة اخروية كما في الآخرة فإن الهوية الإنسانية في جميع هذه التحولات والتقلبات واحدة هي هي بعينها لأنها واقعة على سبيل الاتصال الوحداني التدريبي ولا عبرة بخصوصيات جوهرية وحدود وجودية واقعة في طريق هذه الجوهرية وإنما العبرة بما يستمر ويبقى وهي النفس لأنها الصورة التمامية في الإنسان التي هي أصل هويته وذاته وتجمع ماهيته وحقيقته ومنبع قواه وآلاته ومبدأ أبعاضه وأعضائه وحافظها ما دام الكون الطبيعي باقيا ثم نبدلها على التدريج بأعضاء روحانية وهكذا الى أن تصير بسيطة عقلية إذا بلغت الى كمالها العقلي بتقدير رباني وجذبة إلهية فإذا سئل عن بدن زيد مثلا هل هو عند الشباب ما هو عند الطفولة وعند الشيخوخة

٢٠٧

كان الجواب بطرفي النفي والاثبات صحيحا باعتبارين أحدهما اعتبار كونه جسما بالمعنى الذي هو مادة وهو في نفسه محصل والثاني اعتبار كونه جسما بالمعنى الذي هو جنس وهو أمر مبهم فالجسم بالمعنى الأول جزء من زيد غير محمول عليه متحد معه وأما إذا سئل عن زيد الشباب هل هو الذي كان طفلا وسيصير هو بعينه كهلا وشيخا كان الجواب واحدا وهو نعم لأن تبدل المادة لا يقدح في بقاء المركب بتمامه لأن المادة معتبرة لا على وجه الخصوصية والتعين بل على وجه الجنسية والابهام. إذا علمت هذه المقدمات ، فاعلم أن من تأمل وتدبر في هذه المقدمات لم يبق له شك وريب في مسئلة المعاد وحشر النفوس والأجساد ويعلم يقينا ويحكم بأن هذا البدن بعينه لا بدن آخر متباين له عنصريا كان كما ذهب إليه جمع من فلاسفة الإسلام ، أو مثاليا كما ذهب إليه الاشراقيون فهذا هو الاعتقاد الصحيح المطابق للشريعة والملة الموافق للبرهان والحكمة فمن صدّق وآمن بهذا فقد آمن بيوم الجزاء وقد أصبح مؤمنا حقا والنقصان عن هذا الايمان خذلان وقصور عن درجة العرفان. هكذا قرر صدر الفلاسفة في كتاب أسفاره.

اثبات المعاد الجسماني ببرهان آخر ذكره شيخنا

المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء :

وقال : إن من الواضح المعلوم بل المحسوس لكل ذي حس أن كل شخص من البشر مركب من جزءين : الجزء المحسوس وهو البدن العنصري الذي يشاهد بعين الباصرة ويشغل حيزا من الفضاء وجزء آخر يحسّ بعين البصيرة ولا تراه عين الباصرة ولكن يقطع كل أحد بوجود شيء من الانسان بل والحيوان غير هذا البدن بل هو المصرّف والمتصرّف في البدن ولولاه لكان هذا البدن جمادا لا حس فيه ولا حركة ولا شعور ولا إرادة ، إذا فيلزمنا للوصول إلى الحقيقة والغاية المتوخاة البحث عن هذين الجزءين فإذا عرفناهما حق المعرفة فقد عرفنا

٢٠٨

كل شيء واندفع كل إشكال إن شاء الله. (وأليك البيان) يشهد العيان والوجدان وهما فوق كل دليل وبرهان ، وإليهما يرجع أكثر الأدلة أن هذا البدن المحسوس الحي المتحرك بالإرادة لا يزال يلبس صورة ويخلعها ، وتفاض عليه اخرى. وهكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة فعظاما فجنينا فمولودا فرضيعا فغلاما فشابا فكهلا فشيخا فميتا فترابا. تكونت النطفة من تراب ثم عادت الى التراب. فهو لا يزال بعد أن أنشأه باريه من أمشاج ، فجعله سميعا بصيرا إما شاكرا أو كفورا ، في خلع ولبس. أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ، يخلع صورة ويلبس اخرى ، وينتقل من حال الى حال ومن شكل الى آخر ، مريضا تارة وسالما وهزيلا وسمينا ، وأبيضا وأسمرا وهكذا تعتوره الحالات المختلفة ، والأطوار المتباينة. وفي كل ذلك هو هو لم تتغير ذاته وإن تبدلت أحواله وصفاته ، فهو يوم كان رضيعا هو يوم صار شيخا هرما لم تتبدل هويته ، ولم تتغير شخصيته. بل هناك أصل محفوظ ليحمل كل تلك الأطوار والصور ، وليس عروضها عليه وزوالها عنه من باب الانقلاب فانقلاب الحقائق مستحيل في فطرة العقول ، فصورة المنوية لم تنقلب دموية أو علقية. ولكن صورة المني تبدلت بصورة الدم. وهكذا فالصور متعاقبة متبادلة ، لا متعاقبة منقلبة. كما قال الفيلسوف السبزواري في المنظومة : (إذ صورة لصورة لا تنقلب وهذه الصور كليا متعاقبة في الزمان لضيق وعائه مجتمعة في وعاء الدهر لسعته ، والمتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر ، ولا بد من محل حامل وقابل لتلك الصور المتعاقبة ما شئت فسمه مادة أو هيولى أو الأجزاء الأصلية كما في الخبر الآتي ، وكما أن المادة ثابتة لا تزول ، فكذلك الصور كلها ثابتة في محلها في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

ثم إن هذا البدن المحسوس العنصري لا ريب في أنه يتحصل من الغذاء وأن أجزائه تتحلل وتتبدل. فهذا الهيكل الجسماني بقوة الحرارة الغريزة التي فيه

٢٠٩

المحركة للقوى الحيوانية العاملة في بنائه وحفظه وتخريبه وتجديده كالجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة وغيرها لا يزال في هدم وبناء وإتلاف وتعويض كما قال الشاعر الحكيم في بيته المشهور :

المتلف الشيء ضامنه

وقاعدة المتلف ضامن

وفي بيان أوضح أن علماء (الفزيولوجيا) علم أعضاء الحيوان قد ثبت عندهم تحقيقا أن كل حركة تصدر من الانسان بل ومن الحيوان يلزمها يعني تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية والخلايا الجسمية ، وكل فعل إرادي أو عمل فكري لا بدّ وأن يحصل منه فناء في الأعصاب وإتلاف من خلايا الدماغ بحيث لا يمكن لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة. ومهما يبدو من الإنسان بل مطلق الحيوان عمل عضلي أو فكري فالجزء من المادة الحية التي صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماما ثم تأتي مادة جديدة تأخذ محل التالفة وتقوم مقامها في صدور ذلك العمل مرة ثانية وحفظ ذلك الهيكل من الانهيار والدمار ، وهكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر خلع ولبس كما قال عز شأنه : «أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد». ويكون قدر هذا الإتلاف بمقدار قوة الظهورات الحيوية والأعمال البدنية فكما اشتد ظهور الحياة وتكثرت مزاولة الأعمال الحاجية ازداد تلف المادة وتعويضها وتجديدها.

ومن هنا تجد أرباب الأعمال اليدوية كالبنائين والفلاحين وأضرابهم أقوى أجساما وأعظم أبدانا بخلاف ذوي الاعمال الفكرية الذين تقل حركاتهم وتسكن عضلاتهم ثم إن هذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة في الدم المتكوّن من ثلاث دعائم من دعائم الحياة واسسها الجوهرية الهواء والماء والغذاء ولو فقد الانسان واحدا منها ولو بمدّة قصيرة هلك وفقدت حياته.

وهذا العمل التجديدي عمل باطني سرّي لا يظهر في الخارج إلا بعد دقة في الفكر وتعمّق في النظر ولكن عوامل الاتلاف ظاهرة للعيان يقال عنها أنها

٢١٠

ظواهر الحياة وما هي في الحقيقة إلا عوامل الموت لأنها لا تتم إلا بإتلاف أجزاء انسجتنا البدنية وأليافنا العضوية فنحن في ساعة نموت ونحيا ونقبر وننشر حتى تأتينا الموتة الكبرى ونحيا الحياة الاخرى.

وعليه فإننا في وسط تنازع هذين العاملين عامل الإتلاف والتعويض يفني جسمنا ويتجدّد في مدار الحياة عدّة مرات بمعنى أن جسمنا الذي نعيش به من بدء ولادتنا الى منتهى أجلنا في هذه الحياة تفنى جميع أجزائه في كل برهة وتتحصّل أجزاء يتقوّم بها هذا الهيكل وليس فيها جزء من الأجزاء السابقة ولا يمكن تقدير هذه البرهة على وجه التحقيق يعني في أي مقدار به تتلاشى تلك الأجزاء جميعا وتجدد غيرها بموضعها.

والمنسوب الى العالم الفسيولوجي (مولينت) أن مدة بقائها ثلاثين يوما ثم تفنى جميعا أما المنقول عن (فلورنس) بأن المدة هي سبع سنين وقد أجرى العلماء المحققون في هذه الأمصار الامتحانات الدقيقة في بعض الحيوانات كالأرانب وغيرها فأثبت لهم البحث والتشريح تجدد كل انسجتها بل وحتى عظامها ذرّة ذرّة في مدة معيّنة.

وإذا ثبت هذا التغير ثبت وجود النفس المجردة بسهولة من قوة التذكر والتفكر فلو كانت قوة التذكر والتفكر مادية قائمة في خلايا الدماغ وأنها الجسد أو جزء من الجسد لكان اللازم أن تضطر في كل سبع سنين الى تجديد كل ما علمنا وتعلمناه سابقا.

والوجدان عندنا أن تجدد المادة المتواصل لم يندثر بسبب التفكر والتذكر منّا ولم يحدث أدنى تغير في ذاكرتنا ولم تخب أي شعلة من علومنا ومعارفنا وهو أقوى دليل على وجود قوة فينا مدركة شاعرة مجردة عن المادة باقية بذاتها مستقلة في وجودها بقيمومية مبدئها محتاجة الى آلاتها في تصرفها متحدة معها في أدنى مراتبها وأن دثور المادة لا يستوجب دثورها ولا دثور شيء من كمالاتها وملكتها ولا من مدركاتها ولا من معلوماتها كيف لا ولا تزال تخطر على بالنا

٢١١

في وقت الهرم امور وقعت لنا أيام الشباب بل أيام الصبا وما قبلها وكيفما كان فإن من الوضوح بمكان أن كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا وعدم تغيرها وتبدل جميع ذرات أجسامنا.

شبهة الآكل والمأكول في معاد الجسد :

وشبهة الآكل والمأكول ـ يدفعها من كان من فحول ـ كما قال السبزواري أن كسرة الخبز التي نأكلها وقطعة اللحم التي نمضغها وتدخل في جوفنا تقرر علينا بمدة صورة تخلع صورة وتلبس أخرى من الكيموس الى أن تصير دما ثم توزعه حكمة الله فتجعل من ذلك الدم لحما وعظما وشحما وعصبا وكبدا وقلبا وطحالا الى آخر ما يحتوي ويتكون منه هذا الهيكل الانساني والجسد الحيواني فكيف نشأ من هذه الكسرة تسعون نوعا من الانواع المختلفة والأجناس المتباينة فأين العظم من اللحم وأين الشحم من الغاز من المخ وأين المخ من الشعر وهكذا وهلمّ جرا كل هذا تكون من لقمة الخبز كل هذه الأنواع مندمجة أم انقلبت وتحولت من صورة الى صورة ومن حقيقة الى اخرى ومهما قيل فيها فإن تلك اللقمة التي تدخل في جوفنا وتتصرف بها المشية تلك التصاريف المتنوعة لم تدخل هي في كياننا ولم تصر جزءا من أجسامنا بل تطورت عدة أطوار وتعاقبها صورة بعد صورة ودخلت في معامل ميكانيكية وتحليلات كيماوية الى أن بلغت هذه المرحلة ونزلت في أجسامنا بتلك المنزلة.

وأن ما يرد من الاعتراض على إمكان بعث الإنسان الى الحياة روحا وجسدا واستحالة معادته على هيكله السابق بسبب ما يتداخل من كل جسم في جسم آخر مما يتعذر به معاقبة المذنب وقد شاركت في جسده أجزاء من جسد الصالح أو مكافأة الصالح جسدا وقد شاركت في تكوين جسده أجزاء من جسد الطالح فإن مثل الاعتراض يرده بما مر من التفاعلات والتحليلات ويضرب المثل بقوله فلو أن مؤمنا أكل كل لحم في بدن الكافر أو أكل الكافر كل لحم في بدن

٢١٢

المؤمن فلا لحم الكافر صار جزءا من بدن المؤمن ولا لحم المؤمن دخل في بدن الكافر بل اللحم لما دخل في الفم وطحنه الانسان وهو الهضم الأول زالت الصورة اللحمية منه وارتحلت الى رب نوعها (حافظ الصور) واكتسبت المادة صورة اخرى وهكذا صورة بعد صورة.

ومن القواعد المسلمة عند الحكماء بل عند كل ذي لب أن شبه الشيء بصورته لا بمادته فأين إذن تقع شبهة الآكل والمأكول؟

ويزيد هذا وضوحا أن جميع المركّبات العنصرية يطرد فيها ذلك الناموس العام ناموس التحول والتبدل والدثور والتجدد انظر حبة العنب مثلا فهل هي إلا ماء وسكر وهل فيها شيء من الخمر أو الخل أو الكحول ولكنها بالاختمار تصير خلا ثم خمرا ثم غازا أو بخارا وهكذا أترى أن العنب صار جزءا من الخل والخل صار جزءا من الخمر إذن فمن أين تجيء شبهة الآكل والمأكول كما (في الفردوس الأعلى) لشيخنا المصلح الأكبر الكاشف الغطاء (ره).

فلسفة المعاد :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).

هكذا يخاطبنا الله تعالى في كتابه الكريم. فمن شاهد هذه القوانين المحكمة الرصينة في عالم الوجود عالم الذرة (اتوم) وعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الانسان في الفيزياء والكيمياء والفلك العالي وفي علم الأحياء والمتبحرات يقطع بأن الذي رتبها ونظمها لا يلهو ولا يلعب وهو القائل : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ). وفي آية اخرى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). فإذا تتبع الإنسان حياته النفسية في هذه الدنيا وما عليه نفسه من مساوئ أخلاقية : حسد وبغضاء وحقد وغيبة وظلم وبغي وبطش بغير حق ، ثم ما يراه من حيف وظلم وقسوة وجفاء وبهتان وغيرها من آخرين ، وما يرى من تشاجر وتطاحن لامور مادية سخيفة وما يرى من ظلم واستعمار وغصب

٢١٣

للحقوق بين الناس ، وما يشاهد من حروب لا تبقى ولا تزر ، يقطع بأن الله الذي خلق هذا العالم المادي من سماء وأرض ، وما خلق فيه من جماد وحيوان ، وما أودع فيه من كمال ما بعده كمال ، لا يريد بهذا الانسان إلا الكمال ، وذلك لأنه يقطع بأن الكامل على الاطلاق وهو الله تعالى لا يصدر منه إلا الكمال ، ويقطع بأن البشر غير كامل في هذه الدنيا من النواحي النفسية والاخلاقية والاجتماعية ، وهو في هذه الحالة إلا من شذ فصار يتكامل على ما رسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه بالحيوانات الضارية يضر بعضه البعض إن وجد الى ذلك سبيلا ، يقطع بأن الله الذي أكمل كل شيء من مخلوقاته ، سوف يجعل لهذا الانسان عالما آخر (القيامة) كله اطمئنان وخلود وكله حبور وسرور ، عالما فيه (ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) سورة الزخرف ٧١.

عالما لا تشاجر فيه ولا تجاوز ولا اعتداء ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ، وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ، لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). سورة الاعراف ٢٣.

عالما ليس فيه ما يلوّث النفس الانسانية من سير (قمار) ولحم خنزير وفسق وفجور وخمرة تذهب بالعقل ، (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ). سورة الواقعة.

التكامل غاية الغايات في هذا الكون ، فمن أيقن به علم أن لا بد وأن تكون وراء هذه الحياة القلقة (المضطربة) حياة طمأنينة ودعة وهدوء وسرور وأن وراء هذه الحياة الناقصة حياة كاملة بكل ما في الكمال من معنى ليس لهذا الانسان أن يتصور مداه ما دام في هذه الدنيا.

اعتراف كبار علماء الفيزياويين

بالمعاد والبعث ويوم القيامة :

يقول عدد من الفيزياويّين المحدثين أن هنالك عالما آخر وراء العالم الذي

٢١٤

تنحصر فيه الفيزياء أن العالم الآخر وحدة روحية أو عقلية وما المادة سوى مظهر من مظاهرها أن العقل وحده هو الشيء الحقيقي وأن المادة هي من مخلوقات العقل.

وقد توصل ثمانية من العلماء من رجال الفلك بمرصد (مولارد) نتيجة بحث استغرق ٨ سنوات أن هذه الأرض إنما هي شظيّة من إحدى الشظايا التي تطايرت نتيجة لانفجار هائل حدث قبل عشرة آلاف مليون سنة على حدّ قوله تعالى في سورة الأنبياء ـ ٣٠ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) أي كانتا مرتوقتين مضمومتين ملتحمتين أي أن السماوات والأرض كانتا جميعا كتلة واحدة (ففتقناهما) أي ففصلنا بعضها عن بعض وجعلناها شموسا وكواكب ونجوما وأقمارا ، توابع للنجوم ومجرات إلى ما هنالك.

وقد استعمل هؤلاء في اكتشاف الفضاء عدة أجهزة جبّارة من بينها تلسكوب (يرقب) وجهاز التقاط للاشارات وحكموا أن الكون سوف ينتهي في يوم من الأيام.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) سورة ابراهيم ٣٩.

واعترفوا أن في الكون مسافات هائلة يعجز الذهن عن تخيلها (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) سورة الذاريات. كما أثبتوا أن هناك أجساما شمسية ميتة فوق حافة الكون وهذا ما يؤكد أن الكون يقترب من نهايته وهذا هو عين ما يدرس في جامعات العالم في فرع الفيزياء الرياضة العالية ، من أن الشمس آخذة بالافول والاندثار (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة لقمان ٣٢.

وأن هؤلاء العلماء الثمانية توصلوا أيضا الى أن كل الأجسام الموجودة في الكون من كواكب ونجوم وشموس وغير ذلك تنطلق في الفضاء بسرعة خيالية تاركة ثغرة في الوسط.

٢١٥

وأنه قد كانت لهذا الكون بداية قطعا كما جاء في القرآن الكريم (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) سورة العنكبوت. وان الكون لن يدوم الى الأبد وأنه يتغيّر مع الزمن حتى تقترب النهاية لشروع عالم آخر تتحقق فيه عوالم يوم القيامة.

فنرى أن العلم الحديث يقترب من الاعتراف بما جاء في القرآن الكريم عن البداية والنهاية (المعاد).

كل شيء آئل الى زوال وفناء :

كما أن العلم الحديث يقدر أنه عند بلوغ سنة ٠٠٠ ٠٠٠ ٤٧٠٠٠ بعد الميلاد سوف تتلقى شمسنا وثيقة إعدامها.

ومن الامور المعروفة عند علماء الطبيعة والفيزياء والفلك أن الكون الصلدة آخذة في الانحلال والتلاشي اثناء تحولها الى شعاع وأن وزن الشمس يقل كل يوم ٣٤٠ ألف مليون طن أي أن هذا القدر من مادتها يتلاشى لكي تشع كل ما تشعه يوميا وهذه الأشعة التي تنطلق فيها تسير في الكون وستظل سائدة فيه الى نهاية الدنيا وتحوّل المادة الى اشعاع عمل جار الآن في كل النجوم وان الأرض تخسر من وزنها يوميا بالاشعاع تسعين رطلا والله تعالى يقول (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) سورة الرعد ٤٢. وفي آية اخرى (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) سورة الأنبياء ٤٦.

فتشير الآيتان أن الأرض منذ أن خلقها الله تتناقص من أطرافها وهي ظاهرة كونية لم يلتفت إليها العلماء إلا في السنوات الاخيرة إذ أثبتت الابحاث العلمية عن شكل الأرض ان قطرها الواصل بين القطبين يتناقص بكمية قليلة جدا

٢١٦

إلا أن عملية التناقص هذه مستمرة منذ أن خلق الله تعالى الأرض حتى ان شكلها تطور بمرور الزمن من الشكل الكروي الى الشكل البيضوي تطورا مستمرا لا انقطاع فيه يقول تعالى: (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) أي (أزيلت).

وعليه كل شيء آئل الى زوال وفناء حتى يبدأ بعد ذلك بإذن الله وإرادته عالم من جديد (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ).

وفي هذه الآية إشارة الى يوم القيامة وتخبرنا بعلامة من علاماتها ، فالمعروف علميا أن كل نجم أو شمس كشمسنا لا بد وأن تطرأ عليه حالة يتمدد فيها سطحه قبل أن يصل الى حالة الاستقرار ، وشمسنا بالذات لم تمر بعد بهذا الدور وهي لا تزال في مقتبل عمرها وعند ما تتمدد يصل لهبها وغازات جوها المستعرة الى الأرض حسب قوله تعالى : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) سورة القيامة.

فالعلم الحديث يخبرنا بالمارد الذري السابح في الفضاء وهو (البروتون) Proton السالب الذي إذا اصطدم بشيء من الأشياء أرجعه في طرفة عين الى اشعاعات وطاقات بل جعله نسيا منسيا ، وقالوا إن هذا المارد يفني ما يصطدم به من مادة فيتحقق افناء المادة بهذا الاصطدام فلا يبقى شيء.

معجزة القرآن الكريم :

يقول الله تعالى في سورة يونس ٢٤ (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فوصف الله حالة الارض بعد أن يبلغ أهلها ذروة الطيش والغرور وكيف انها تكون هباء منشورا في طرفة عين.

٢١٧

يشير الله الى حركة الارض :

ثم ان الله تعالى بقوله في الآية المتقدمة (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) يشير إلى حركة الأرض حول نفسها ، وذلك لأن الليل والنهار يكونان على الكرة الأرضية في وقت واحد ، والله تعالى لا يتردد في عمله ولا يتردد في وقت يريد فيه إفناء الأرض هل يكون ذلك ليلا أم نهارا وهو خالق كل شيء والعالم بما سيكون فيشير قوله تعالى ليلا أو نهارا الى أن قسما من الأرض يتلقى أمر الإفناء من جانب الله تعالى ليلا والقسم الآخر في نفس اللحظة يتلقى هذا الأمر نهارا ، وهذا لا يتم إلا بحركة الأرض حول نفسها ، وحدوث الليل والنهار في نفس الوقت نتيجة هذا الدوران.

وملخص القول في المعاد :

ويتلخّص الايمان بالمعاد في أن يعتقد المسلم والشيعة الإمامية الاثنا عشرية خاصة أن الانسان عائد الى الحياة يوم يريد الله ذلك ، وان الذي يعود يوم القيامة يعود بنفسه المتعلقة به فليس المعاد للحساب عما فعل هو جسم الانسان فقط كما يرى البعض ولا مثيله ولا روحه كما يرى البعض الآخر وإنما يعود بروحه وجسمه.

أما ما نص على المعاد من الآيات القرآنية فهو كثير جدا : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) وقوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وقوله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) وقوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) وقوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ، قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى

٢١٨

وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) وقوله تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) وقوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سورة الزمر ٤٧.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) سورة يس ٨١.

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.) قال الفخر الرازي في تفسيره في هذه الآيات الى آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الامكان فنقول : المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلا ولا شبهة واكتفى بالابتعاد وادّعى الضرورة وهم الاكثرون ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الابتعاد كما قال تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الى غير ذلك من الآيات فكذا هاهنا قال : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) على طريق الابتعاد فبدأ أولا بابطال ابتعادهم بقوله : (نَسِيَ خَلْقَهُ) أي أنسى إنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي الى الاقدام اعضاء مختلفة والقوام ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الاجرام وهو النطق والعقل بهما استحقوا الإكرام ، فان كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهل لا يستبعدون ، اعادة

٢١٩

النطق والعقل الى محل كانا فيه ثم ان استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرّق حيث قال : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الاحساس فيه ، ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من العلم والقدرة فقال : ضرب لنا مثلا أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدنه الغريب ومنهم من ذكر شبهة وان كان آخرها يعود الى مجرد الاستبعاد وهي أنه بعد العدم لم يبق شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود وأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني كما خلق الانسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده وان لم يكن شيئا مذكورا.

شأن نزول الآية الكريمة :

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بن خلف خادم رسول الله ، وأتاه بعظم قد رمّ وبلي ففته بيده وقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم؟ فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك النار (وهذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية) ولذلك قال الفخر الرازي : الانصاف أنه لا يمكن الجمع بين الايمان بما جاء به النبي وبين انكار الحشر الجسماني (قلت ولا الجمع بين القول بقدم العالم على ما يقوله الفلاسفة وبين الحشر الجسماني ، لأن النفوس الناطقة على هذا التقدير غير متناهية فيستدعي حشرها جميعا ابدانا غير متناهية وأمكنة غير متناهية وقد ثبت تناهي الابعاد بالبرهان).

قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) سورة الأنبياء. وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) سورة الزمر ٦٨. وقوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا

٢٢٠