عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني

عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

المؤلف:

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٢

الإمام عليه‌السلام إن أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة ، إما أن تكون من الله خاصة أو من الله تعالى ومن العبد على وجه الاشتراك أو تكون من العبد خاصة ، فلو كانت من الله تعالى خاصة ، كان الله أولى بالحمد على صنعها والذم على قبحها ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم ، وإن كانت من الله تعالى ومن العبد على وجه الاشتراك كان الحمد لهما والذم عليهما معا ، وإذا بطل الوجهان ثبت أنها من العبد ، فإن عاقبه الله تعالى على جنايته بها فله ذلك ، وإن عفى عنه فهو أهل التقوى والمغفرة.

بطلان التفويض :

التفويض له معان ، الاول : تفويض الله الأمر إلى العباد بحيث لا يكون لأوامره تعالى ونواهيه وبواعثه وزواجره وتوفيقه وإحسانه وتأييده وتسديده وخذلانه مدخل فيه ويلزم إخراج القادر المطلق عن سلطانه ونسبة العجز الظاهر إلى من لا يدخل النقص في شأنه. الثاني : هو رفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال. الثالث : هو تفويض أمر الخلق والرزق إلى بعض عباده كما ذهب إليه المفوّضة وكل أقسامه باطلة عقلا ودينا ، فالعقل والكتاب ـ القرآن والسنة المحمدية وإجماع المسلمين على خلافه.

أما دليل بطلانه عقلا فهو لو صح التفويض لكان الله تعالى بعد أن خلق الخلق ومكنهم من أفعالهم عجز عن تدبير أمرهم وإدارة شئونهم ، ففوّض خلقه بذلك وهذا يثبت عجز الخالق وقدرة المخلوق ، وقد سبق إنا أثبتنا أن واجب الوجود لذاته لا يتصف بالعجز لأن العجز يجعله في عداد الممكنات أي المخلوقات المفتقرة إلى الكمال.

أما إبطاله بالكتاب والسنة فهو لا يحتاج إلى دليل لاشتمالهما على أوامر الله تعالى ونواهيه التي حددت للعباد أعمالهم وإلزامهم بفعل ما هو حسن ومنعهم من القبائح بالزجر والتخويف والوعد والوعيد ، ولم يكن الله تعالى في تمكين عباده

١٤١

مجبرا لهم عليها كما تقدم ، ولا مفوّضا إليهم أعمالهم ، وبالعكس جعل من كمال العبادة والطاعة تفويض العباد أمرهم إليه تعالى لقوله : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) سورة المؤمن / ٤٤.

أما بطلانه بدليل الإجماع هو أن المسلمين جميعا لم يختلفوا في أن الله تعالى كلف عباده بالطاعة والعبادة ونهاهم عن معصيته والكفر والشرك به.

وأما بطلانه بالسنة فقد ورد عن الإمامين الصادق والرضا عليهما‌السلام ما ينفي الجبر والتفويض.

وعن الحسن بن علي الوشاء ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قال : سألته ، فقلت له : الله فوّض الأمر إلى العباد ، فقال الله : أعز من ذلك ، قلت : فاجبرهم على المعاصي ، قال الله : أعدل واحكم من ذلك ، ثم قال : قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني ، عملت بالمعاصي بقوتي التي جعلتها فيك ، وعن سليمان بن جعفر الجعفري عن الرضا عليه‌السلام قال : ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا تخاصمون فيه أحدا إلا كسرتموه ، قلنا : إن رأيت ذلك ، فقال : إن الله عزوجل لم يطمع بالإكراه ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكه هو المالك ، لما ملككم والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن استمر بمعصية الله فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه.

ففي كتاب توحيد الصدوق (ره) في باب نفي الجبر والتفويض بسنده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين :

فالجبر والتفويض عند الشيعة الإمامية الاثنى عشرية باطل واعتقادهم هو أن العبد في أفعاله مختار وهو ما أشار به الإمام الصادق عليه‌السلام لا جبر ولا تفويض ، ولكنه أمر بين أمرين وأقربه فخر الرازي من أعاظم علماء العامة في

١٤٢

تفسيره حيث قال والحق ما قاله في هذا المقام جعفر بن محمد لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين :

الخير من الله تعالى والشر من نفس الانسان :

وقالت الإمامية الاثنى عشرية الخير من الله بمعنى أنه أراده وأمر به ، ومن العبد أيضا لأنه صدر منه باختياره ومشيته ، أما الشر فمن العبد فقط لأنه فاعله وليس من الله لأنه نهى عنه والقبائح يستحيل فعلها على الله عزوجل ، وقالت السنة : الخير والشر من الله وأنه هو الذي فعل ويفعل الظلم والشر وجميع القبائح لأنه خالق كل شيء.

والدليل على ما ذهبت إليه الإمامية قوله تعالى آية ٨١ من سورة النساء : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

وأيضا إذا كان الله تعالى هو خالق الشر والكفر والضلال في الإنسان ، ولا إرادة للإنسان ولا قدرة على مخالفته ، وإذا كان الله يجبر بعض العباد على الإيمان وبعض الآخر على الكفر.

كانت الشرائع والأديان والكتب المنزلة من عنده تعالى على أنبيائه ورسله عبثا ، وكانت دعوة الأنبياء الناس إلى الإيمان بالله وفعل الخير والتجنب من الشر والفساد باطلة كما تقدم مفصلا في مسألة الجبر.

١٤٣

عقيدة الامامية الاثنى عشرية

في القضاء والقدر

من الامور المختلف فيها بين المسلمين القضاء والقدر المنسوبين إلى الله تعالى قال : المجبرة إن القضاء والقدر الإلهيين هما خلق الأفعال من قبل الله خيرا كانت أو شرا وإلزام العباد بها دون أن يكون للعباد فيها إرادة واختيار ، وقالوا إن الله تعالى هو الذي قضى وقدر أي خلق وألزم كل ما يتعلق بعباده من الأفعال والأعمال فهو الذي قدّر الكفر على الكافرين وقضى به عليهم وهو الذي قدر الإيمان على المؤمنين وقضى به عليهم دون أن يكون للعباد قدرة على المخالفة أو يكون لهم اختيار في العمل والترك.

وقالت الشيعة الإمامية الاثنى عشرية وتبعهم في ذلك المعتزلة إن الله تعالى منزه عن فعل القبيح ومنه الإضلال والكفر وان عدله وغناه عن العباد ينافيان إجبار خلقه على ارتكاب الشر والقبيح ومنهما الكفر والضلال ، وأن حكمته تنافي إلزام العباد بما نهاهم عنه وحملهم على الفعل الذي لا يرتضيه ، وقد تقدم الدليل على ذلك في البحث عن الجبر والتفويض ، وقالوا إن للقضاء والقدر معاني غير الخلق والإجبار ، فمن معاني القضاء الأمر والإيجاب كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الاسراء / ٢٣. أي أمر وأوجب على العباد أن يعبدوه

١٤٤

ولا يعبدوا غيره ، فلو كان القضاء إلزاما بالجبر لما نهاهم عن عبادة غيره ، ومن معاني القضاء، الحكم كقوله تعالى : (لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الشورى / ١٤. أي لحكم فيما بينهم ، ومنها إتمام الشيء والوفاء به ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) القصص / ٢٩. أي لما أتم ووفي الأجل الذي كان بينه وبين شعيب ، ومنها الأخبار والإعلام كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) الاسراء / ٤. أي أخبرناهم وأعلمناهم ، ومنها الخلق كقوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) فصّلت / ١٢. أي خلقهن.

ومن معاني القضاء الإرادة ، كقوله تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) البقرة / ١١٧.

وللقدر كما للقضاء معاني شتى منها التقدير والتحديد ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) المؤمنون / ١٨. وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الحجر / ٢١.

ومن معانيه الإعلام والأخبار ، كقوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) النمل / ٥٧. أعلمنا وأخبرنا عنها أنها من الغابرين ، ومنها الخلق كقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ) ومنها التضيق ، كقوله تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي ضيق عليه رزقه الفجر / ١٦.

ومنها الكتابة كقول الشاعر :

واعلم بأن ذو الجلال قدره

في الصحف الاولى التي قد سطره

وهناك معاني أخر للقضاء والقدر ، وكلها لا تدل على أن الله تعالى قضى على بعض عباده الكفر وقدر على بعض آخر الإيمان بحيث لا يسعهم مخالفة ما قضى به وقدره عليهم كما يقول المجبرة وأحسن دليل على إبطال ما ذهبوا إليه هو أن المسلمين جميعا متفقون على وجوب الرضا بقدر الله وقضاه ، فلو كان الكفر

١٤٥

والضلال مقدّرين على العباد لوجب الرضا بهما ، والرضا بما لا يرضى الله عنه باطل بالإجماع وقبيح عقلا ، فمن قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) الزمر / ٧.

خلاصة المقال في القضاء والقدر :

انّا ذكرنا في الجزء الأول من عقائد الإمامية في جواب من قال إن أفعال العباد وما وجد واقع بقضاء الله وقدره إن أردت إن الله تعالى قضى عليهم بها أي حكم عليهم بها وألزمها عباده وأوجبها أو بيّن مقاديرها من حسنها وقبحها ومباحها وحظرها وفرضها ونفلها فهو صحيح لا غبار عليه ، قد دل عليه الكتاب والسنة وحكم به العقل الصحيح ، وكذا إن أريد به أنه بينها وكتبها وعلم أنه سيفعلونها لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينته لملائكته ، وعلى هذا ينطبق وجوب الرضا بقضاء الله وقدره ، وإن أريد أنه قضاها وقدرها بمعنى أنه تعالى خلقها وأوجدها ، فباطل لأنه تعالى لو خلق الطاعة والمعصية لسقط اللوم عن العاصي ، ولم يستحق المطيع ثوابا على عمله ، وأما أفعال الله تعالى فنقول أنها كلها بقدر أي سابقة في علمه تعالى.

وقد أوضح الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام القضاء والقدر لأحد أعيان الشيعة وهو أصبغ بن نباتة وكان من الملازمين له كما في الخبر المشهور.

إن أصبغ بن نباتة قام إلى الإمام علي بعد انصرافه من حرب الشام فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال الإمام عليه‌السلام : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطنا ولا هبطنا واديا ولا علونا قلعة إلا بقضاء الله وقدره ، فقال أصبغ : عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من أجر ، فقال الإمام : مه أيها الشيخ بل عظم الله أجوركم في سيركم وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين ، فقال أصبغ : كيف والقضاء والقدر ساقانا إلى

١٤٦

ذلك ، فقال الإمام : ويحك ظننت قضاء لازما وقدرا محتوما لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الامة ومجوسها ، إن الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف مسيرا لم يعص الله مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل عبثا ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار. فقال أصبغ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا لهما ، فقال الإمام : هو الأمر من الله تعالى والحكم ، وتلى قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، فقام أصبغ وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا منه إحسانا

وفي الصحيح عن الإمام الصادق عليه‌السلام سادس الأئمة قال : إن الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم أن الله تعالى أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ، ورجل يزعم أن الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد وهن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول إن الله كلف العباد ما يطيقون ، ولم يكلفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن حمد الله وإذا اساء استغفر الله فهو مسلم بالغ.

وجوب اللطف على الله تعالى :

مذهب الإمامية الاثنى عشرية والمعتزلة وجوب اللطف على الله تعالى وهو ما يقرّب العبد إلى طاعة الله ويبعده عن معصيته بغير الجاء أي إكراه ولا

١٤٧

إجبار ، إذ لا إكراه في الدين ولا دخل له في أصل القدرة ، إذ قد أعطى سبحانه كل مكلف قدرة الفعل والترك فيما كلفهم على ما كلفهم كما قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها).

من اللطف الواجب إرسال الرسل والأنبياء ونصب الأئمة والأوصياء في كل زمان لما يأتي من وجوب الأصلح على الله تعالى ووجوب نصب الحجج عقلا ونقلا.

جميع أفعال الله تعالى حكمة :

اعلم أن مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية أنه : جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب وحق ليس فيها ظلم ولا جور ولا كذب ولا عيب ولا فاحشة ، والفواحش والقبائح والكذب والجهل من أفعال العباد ، والله تعالى منزه عنها وبريء منها لما تقدم من علمه تعالى وقدرته ، ويلزم على القائلين بأنه تعالى خالق الخير والشر وأن لا مؤثر في الوجود غيره ، أن جميع الفواحش والقبائح كلها صادرة منه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

لا يجوز المعاقبة في أفعال غير اختيارية :

لا يجوز أن يعاقب الله الناس على فعله ولا يلومهم على صنعه فيهم كالسواد والبياض والطول والقصر والشباب والشيب ونحوها من الامور غير اختيارية.

وإنما يعاقب الله الإنسان على أفعاله القبيحة كالزنا واللواط ونحوهما ، ويلزم الأشاعرة القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة له تعالى ، أنه تعالى يعاقب الناس على ما لم يفعلوه بل على فعله فيهم كالقسم الأول تعالى الله عن ذلك.

أفعال الله معللة بالأغراض :

مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية الذي دلت عليه العقول وطابقه المنقول أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض لأنه حكيم ، وفعل الحكيم لا يخلو عن حكمة

١٤٨

والذي يفعل العبث بلا حكمة وغرض سفيه تعالى الله عن ذلك ، وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ، سبحانك ما خلقت هذا باطلا ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، والحديث الشريف كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف.

وذلك الغرض والنفع غير راجع إليه تعالى لأنه غني عن العالمين ، وإنما هو راجع إليهم بتحصيل الثواب في الجنان والرضوان والتخلص من العقاب والخسران ولا نقص في ذلك على الله تعالى فإنه تام في حدّ الذات وكامل من جميع الجهات وزعمت الأشاعرة أنه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض من الأغراض ولا لمصلحة ، ويجوز عليه أن يؤلم العبد بغير مصلحة ولا غرض تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

عقيدة الامامية في البداء :

قد ذكرنا في الجزء الأول من عقائد الإمامية أنه قد أجمعت الأنبياء وأئمة الدين طرا على تحقق البداء بالسنة إلى الله تعالى ، وفي الكافي عن مولانا الصادق عليه‌السلام ما عظم الله بمثل البداء ، وفيه عنه عليه‌السلام إن لم يبعث نبيا قط إلا صاحب سيرة صافية ، فما بعث الله نبيا قط حتى يقول له بالبداء ، وعنه عليه‌السلام في خبر هشام ما عظم الله وما عبد الله بشيء بمثل البداء ، وعنه عليه‌السلام لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه الخبر.

فلباب القول في معنى البداء :

هو بقاء اختياره تعالى بعد حدوث الأشياء كثبوت الاختيار له تعالى عند حدوثها ، فكما أنه تعالى قبل إيجاد الأشياء له أن يختار الإيجاد ، وله أن يختار العدم ، فكذا بعد الإيجاد له أن يختار الإبقاء ، وله اختيار عدم البقاء ، ففي كل آن هو في شأن من الإيجاد بالنسبة إلى ما لم يوجد بعد والإبقاء بالنسبة إلى ما وجد.

١٤٩

عن هشام بن سالم عن الصادق عليه‌السلام في قول الله تعالى وقالت : اليهود يد الله مغلولة ، فقال : كانوا يقولون قد فرغ من الأمر ـ الخبر.

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام لسليمان المروزي ما أنكرت من البداء يا سليمان والله تعالى يقول : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً). ويقول : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). ويقول : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). ويقول : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ). ويقول : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) الخ. فترى أن الإمام عليه‌السلام استدل على البداء بوجود الاختيار فيه تعالى وإيجاد الأشياء واختياره تعالى فيه حدوثا وبقاء إيجادا وعدما ، فراجع إلى الجزء الأول من العقائد.

عقيدة الشيعة في التكليف :

نعتقد أنه تعالى لا يكلف عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم ولا يكلفهم إلا ما وسعهم وما يقدرون عليه وما يطيقونه وما يعلمون لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم ، أما الجاهل المقصر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسئول عند الله تعالى ، ومعاقب على تقصيره إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية ، ونعتقد أنه تعالى لا بدّ أن يكلف عباده ويسن لهم الشرائع ، وما فيه صلاحهم وخيرهم ليدلهم على طريق الخير والسعادة الدائمة ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح ويزجرهم عما فيه الفساد والضرر عليهم وسوء عاقبتهم ، وإن علم أنهم لا يطيعونه لأن ذلك لطف ورحمة بعباده وهم يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الدنيا والآخرة ، ويجهلون الكثير مما يعود عليهم بالضرر والخسران ، والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته وهو من كماله المطلق الذي هو عين ذاته ويستحيل أن ينفك عنه ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمردين على طاعته غير منقادين إلى أوامره ونواهيه.

١٥٠

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية

في النبوة

نعتقد أن النبوّة وظيفة إلهية وسفارة ربانية يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيتهم ، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة ، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من دون مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات وتعليمهم الحكمة والمعرفة وبيان طرق السعادة والخير لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الآخرة.

وبعبارة واضحة : يجب على المسلم عن طريق العقل أن يؤمن بأن من العدل أن يرسل الله إلى عباده مبشرا وهاديا يعلم الناس الأحكام ويبين لهم الحلال من الحرام ويرشدهم إلى طريق الصواب ويحكم بينهم بالعدل ، وأن ذلك واجب على الله تعالى باعتباره لطفا منه ، واللطف واجب على الإله الذي مرت صفاته في تعريف ذاته من قبل ، وقد يكون الإيمان بوجوب إرسال الرسل يمثل جانبا من العدل بحيث لا يمكن أن يستقيم هذا العدل تماما من غير وجود بشير أو نذير أو هاد أو مرشد يتمثل في صورة نبي يأتي إلى عباده ليعلمهم ما ينبغي

١٥١

عليهم أن يتعلموه ليعلموا به ، وما ينبغي عليهم أن يتعلموه ليتجنبوه حتى يكونوا صلحاء.

وتعبير آخر : أن الشيعة الإمامية الاثنى عشرية تعتقد أن جميع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم والرسول الخاتم رسل من الله وعباده المكرمون أرسلهم الله لدعوة الخلق إليه ، وأن محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء بنص القرآن الكريم : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) وهو خاتم النبيين وسيد الرسل ، وأنه معصوم من الخطأ والخطيئة ، وأنه ما ارتكب معصية مدة عمره ، وما فعل إلا ما يوافق رضا الله سبحانه حتى قبضه الله إليه ، وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين القرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي ولتعليم الأحكام وتميز الحلال من الحرام ، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة كما أثبتنا في الجزء الأول من عقائد الإمامية ، وأن كل من اعتقد أو ادعى نبوّة بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو نزول وحي أو كتاب فهو كاذب كافر.

في بيان اضطرار الناس الى الرسول وخليفته :

إن احتياج الناس والخلق إلى الرسول والإمام بعده ووجوب إرسال الرسل ونصب الأئمة والخليفة على الله تعالى ضروري ، والبرهان على ذلك من وجوه :

الأول : إن ذلك من باب اللطف الواجب وهو ما يقرّب العبد إلى طاعة الله تعالى ويبعده عن معصيته بغير إيجاد ولا إكراه ولا إجبار ، إذ لا إكراه في الدين ولا دخل له في أصل القدرة ، إذ قد أعطى سبحانه كل مكلف قدرة الفعل والترك فيما كلفهم به كما قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ، فاللطف أمر زائد على ذلك.

الثاني : إنّا ذكرنا في بحث وجود الله تعالى أن الغرض والحكمة في إيجاد الخلق المعرفة والعبادة كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ،

١٥٢

وذلك يتوقف على تعيين واسطة بين الحق والخلق نبيّا كان أو إماما يعلمهم ذلك لاستحالة الإفاضة والانتفاضة بلا واسطة ، إذ لا ربط ولا نسبة بين النور والظلمة وكمال الكمال ومنتهى النقص فتستحيل المشاهدة والمكالمة إلا بالواسطة ، كما قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). وإنما كان الواسطة قابلا لذلك لأن له جهتين نورانية وجسمانية ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أول ما خلق الله نوري ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

الثالث : أنه كما لا بدّ في العناية الإلهية لنظام العالم من المطر ، ورحمة الله لم تقصر عن إرسال الماء مدرارا لحاجة الخلق ، فنظام العالم لا يستغني عمن يعرفهم موجب صلاح الدنيا والآخرة ، نعم من لم يهمل إنبات الشعر على الحاجبين المزينة وكذا تقعير الأخمص في القدمين ، كيف اهمل وجود رحمة للعالمين مع أن ما في ذلك من النفع العاجل والسلامة في العقبى والخير الآجل ، ولم يترك الجوارح والحواس حتى جعل لها رئيسا يصحح لها الصحيح ويتقن به ما شكت فيه وهو الروح ، كيف يترك الخلائق كلهم في حيرتهم وشكهم وضلالهم ، لا يقم لهم هاديا يردون إليه شكهم وحيرتهم كما تقدم.

ويجب أن يكون ذلك الواسطة إنسانا لأن مباشرة الملك لتعليم الإنسان على هذا الوجه مستحيل ، كما قال الله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ، ودرجة باقي الحيوانات أنزل ولأن خوارق العادات لا تحال عليهم والنفوس لا تركن إلا إلى أبناء نوعهم ، ولنهاية المباينة بين الإنسان الناسوتي والملك الملكوتي ، ولا يمكن الاستغناء عن الأنبياء بتوجيه الخطاب من الله تعالى بخلق الأصوات وإيجاد الكلمات لقيام الوجوه والاحتمالات وضعف عقول سائر الناس واحتمالهم أن يكون صدور ذلك من بعض الجان أو الشيطان

١٥٣

ولا بدّ من تخصصه بآيات من الله سبحانه دالة على أن شريعته من عند ربهم العالم القادر الغافر المنتقم يخضوا له ويلزم من وقف عليها أن يقر بتقدمه ورئاسته وهي المعجزات البينات والبراهين الواضحات نذكرها جملة منها في معجزات خاتم الأنبياء إنشاء الله.

الرابع : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً). وقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً). وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ). وقال : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). وغير ذلك من الآيات التي يؤمن بمنطوقها الشيعة الاثنى عشرية كركن ثالث من أركان الدين الخمسة ويناقشونها منطقيا حتى يؤمنوا بواقعها بالأدلة القاطعة.

الخامس : في الكافي عن هشام بن الحكم عن الصادق عليه‌السلام أنه قال للزنديق الذي سأله من أين اثبت الأنبياء والرسل؟ قال : إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه وعباده يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه المعتبرون عزوجل هم الأنبياء وصفوته في خلقه حكماء مؤدين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم مؤيدين عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.

١٥٤

فلسفة بعث الأنبياء :

السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية ، وهو أن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني ، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف ، وكيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه ، فرفع الله هذا الاختلاف بالنبوّة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم ، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والإيجاد ، فما هو مقدمته كذلك ، وقد قال تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه / ٥٠. فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهتدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه ، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة ، وقد قال تعالى أيضا : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) الاسراء / ٢٠. وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده ويعطيه ما يستحقه وأن عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى.

وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله السحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته ، فالإصلاح لو كان يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة ، وهي الجهة الإلهية التي هي النبوّة بالوحي.

ولذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه.

إنما بعث الله تعالى الأنبياء لرفع الاختلاف ولتكميل البشر بصورة تدريجية

١٥٥

في عوالم النفس ، ذلك لأن الإنسان إنسان بنفسه وروحه لا بعظامه وعضلاته.

وليس من وظائف الأنبياء تعليم الناس الفيزياء والرياضيات والكيمياء ، وذلك قوانين الفيزياء والدساتير لا تمت إلى النفس الإنسانية بصلة ولا علاقة بينها وبين مراحل تكميل النفس الإنسانية ، فالمهندس يعمل حسب ذكاء أودعه الله فيه ، وكذلك الفيزياء والكيمياء سواء كان مؤمنا أو كافرا.

١٥٦

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية

في عصمة الأنبياء والأوصياء

قال الصدوق (ره) : اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة أنهم معصومون مطهّرون من كل دنس ، وأنهم لا يذنبون ذنبا لا صغيرا ولا كبيرا ولا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم ، فقد جهلهم ومن جهلهم فهو كافر واعتقادنا فيهم أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل امورهم وأواخرها لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل.

قال العلامة ره : الثاني في وجوب عصمته العصمة لطف خفي يفعل الله تعالى بالمكلف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك لأنه لو لا ذلك لم يحصل الوثوق بقوله فانتفت فائدة بعثته الأنبياء وهو محال توضيح هذه النتيجة : أن العصمة على ثلاثة أقسام العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة والعصمة عن المعصية ، وهي ما فيه هتك العبودية ومخالفة مولوية ، ويرجع بالاخرة إلى قول أو فعل ينافي العبودية منافاة ما ، ونفى بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ أو المعصية.

١٥٧

القرآن يدل على عصمة الأنبياء (ع):

والقرآن يدل على عصمتهم عليهم‌السلام في جميع الجهات الثلث ، أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة فيدل عليه قوله تعالى في الآية : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ). فإنه في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير والإنذار وإنزال الكتاب (وهذا هو الوحي) ليبنوا للناس الحق في الاعتقاد والحق في العمل ، وبعبارة أخرى : لهداية الناس إلى حق الاعتقاد وحق العمل ، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم ، وقد قال تعالى : (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) طه / ٥٢. فبين أنه لا يضل في فعله ولا يخطئ في شأنه ، فإذا أراد شيئا فلا يضل في سلوكه ، وكيف لا وبيده الخلق والأمر وله الملك والحكم ، وقد بعث الأنبياء بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين ، ولا بدّ أن يكون ، وبالرسالة لتبليغها للناس ، ولا بدّ أن يكون ، قال تعالى أيضا : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الطلاق / ٣.

ويدل على العصمة عن الخطأ أيضا قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) الجن / ٢٨. فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم ويؤيدهم على الغيب بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم والإحاطة بما لديهم لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغير الشياطين وكل مغير غيرهم ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم.

ويدل على عصمتهم مطلقا حتى عن المعصية ، قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الأنعام / ٩٠. فجميعهم عليهم‌السلام كتب عليهم الهداية ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ

١٥٨

مُضِلٍّ) الزمر / ٣٦. وقال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الكهف / ١٧. فنفى عن المهتدين بهدايته كل مضل يؤثر فيهم الضلال فلا يوجد فيهم ضلال وكل معصية ضلال كما يشير إليه قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) يس / ٦٢. فعد كل معصية ضلالا بإضلال الشيطان بعد ما عدّها عبادة للشيطان فإثبات هدايته تعالى في حق الأنبياء عليهم‌السلام ، ثم نفى الضلال عمن اهتدى بهداه ، ثم عدّ كل معصية ضلالا تبرئة منه تعالى لساحة أنبيائه عن صدور المعصية منهم ، وكذا عن وقوع الخطأ في فهمهم الوحي وإبلاغهم إياه.

ويدل عليها أيضا قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) النساء / ٦٨. وقال أيضا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) الحمد / ٧. فوصف هؤلاء الذين أنعم عليهم من النبيين بأنهم ليسوا بضالين ولو صدر عنهم معصية لكانوا بذلك ضالين ، وكذا لو صدر عنهم خطأ في الفهم أو التبليغ ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى فيما يصف به الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ) مريم / ٥٩.

النبوّة والعصمة :

أظن أن تصور معنى النبوّة ملازم للعصمة ، فالذي عليه الشيعة الإمامية الاثنى عشرية مضافا إلى ما ذكرنا أنه يجب في الحجة أن يكون معصوما من الكبائر والصغائر منزها عن المعاصي قبل النبوّة وبعدها على سبيل العمد والنسيان ، ويدل عليه أمور :

الأول : أنه لو انتفت العصمة لم يحصل الوثوق بالشرائع والاعتماد عليها ، فإن الرسول إذا جوز عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا

١٥٩

أو يترك شيئا مما أوحى إليه أو يأمر من عنده فكيف يبقى اعتماد على أقواله.

الثاني : أنه ان ارتكب المعصية فإما أن يجب علينا اتباعه فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه واجتمع الضدان ، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة.

الثالث : أنه لو جاز أن يعص لوجب ايذاؤه والتبري منه لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن الله تعالى نص على تحريم ايذاء النبي فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

الرابع : أنه يلزم بعصيانه سقوط محله ورتبته عند عامة الناس فلا ينقادون إلى طاعته فتنفي فائدة البعثة.

الخامس : أنه لو لم يكن معصوما لانتفى الوثوق بقوله ووعده ووعيده فلا يطاع في أقواله وأفعاله فيكون إرسال الأنبياء عبثا.

السادس : أنه يقبح من الحكيم أن يكلف الناس باتباع من يجوز عليه الخطأ فيجب كونه معصوما ولأنه يجب صدقه ان لو كذب والحال ان الله امرنا باطاعته لقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ). (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) لسقط محله عن القلوب فتنتفي فائدة البعثة.

النبوة وروح القدس :

لا كمال للإنسان إلا بكمال روحه ولا كمال للروح إلا بكثرة الإحاطة فالروح المحيطة بما سوى الله تعالى هو الكمال المطلق وهو روح القدس والإنسان المؤيد بتلك الروح هو الإنسان الكامل فقط وهو محبة الله تعالى في خلقه.

وفي الكافي عن مولانا الإمام الباقر عليه‌السلام لجابر : يا جابر ان في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح : روح القدس وروح الايمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة. فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت

١٦٠