عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني

عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

المؤلف:

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٢

وبعبارة واضحة أنه تعالى قديم أزلي أبدي سرمدي ليس مسبوقا بعلة ولا يعتريه عدم ، بل هو الأول بلا أول يكون قبله والآخر بلا آخر يكون بعده ولم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ، قال تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) والدليل على ذلك مضافا إلى النقل الصحيح أنه لو جاز عليه ذلك لاحتاج إلى مؤثر في إيجاده وإعدامه فيكون ذلك المؤثر أولى بأن يكون هو الواجب ، ولأنه لو لم يكن كذلك لم يكن وجوده واجبا ولا أزليا فيكون محتاجا ، تعالى الله عن ذلك بل هو الغنى بذاته عما سواه.

سئل مولانا إمامنا الباقر عليه‌السلام عن الله متى كان ، فقال : متى لم يكن حتى أخبرك متى كان.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام إنما يقال : متى كان لما لم يكن ، فإما ما كان فلا يقال : متى كان ، كان قبل القبل بلا قبل وبعد البعد بلا بعد.

السادس : مدرك متكلم اجمع المسلمون على أن الله تعالى يدرك حقائق الكون ودقائق الوجود ، ومن إدراكه أنه سميع بصير كما لا خلاف بين المسلمين ان الله تعالى متكلم وكيفية سمعه وأبصاره وكلامه تختلف عن كيفية سمع مخلوقاته وأبصارهم وتكلمهم لأنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون بآلة السمع وجهاز الابصار واللسان ، أما هو تعالى فإنه يتكلم بخلق الأصوات والكلمات في بعض مخلوقاته فتنطق بما يريد وتتكلم بما يدل على إرادته مثال ذلك كلامه مع النبي موسى عليه‌السلام كما في القرآن : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء ١٦٤) فإنه تعالى خلق الكلام في الشجرة في البقعة المباركة ، وذلك كما جاء في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) سورة القصص / ٣٠.

كما أنه تعالى يسمع ويبصر لأنه يدرك المسموعات والمبصرات بعلمه وبقدرته ودليل ذلك قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ

١٢١

الْخَبِيرُ) ويدل أيضا على ذلك ما تقدم في العلم من أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي من جملتها المدركات فيكون مدركا بهذا المعنى وهو المطلوب.

السابع : مريد كاره : ذكرنا فيما تقدم أن الله تعالى مختار ومن الاختيار أنه يريد ويكره ، فلولا وجود الإرادة فيه لما خلق الدنيا وما فيها ، ووجود الإرادة تثبت وجود إرادة الشيء ونفي ضده ، ولما كان الله تعالى حكيما فإنه يريد الخير ويكره الشر ، يريد من عباده الطاعة ويكره منهم العصيان ، ولو لا وجود الإرادة والكره لما كان الله مختارا ولكان مجبرا على أفعاله ، والدليل على أنه تعالى مريد لأفعاله أنه خصّص إيجاد الحوادث بوقت دون وقت وعلى صفة دون اخرى مع عموم قدرته وكون الأوقات والصفات كلها صالحة للإيجاد بمقتضى القدرة ، فلا بد من مرجّح للوقت والشكل لاستحالة الترجيح بلا مرجّح عقلا وذلك هو الإرادة ، فيكون تعالى مريدا لأفعاله وهو المطلوب.

الثامن : في أنه تعالى صادق ولا يجوز عليه الكذب مطلقا لأن الكذب قبيح وهو تعالى منزّه عن القبائح ، والكذب للإصلاح إنما جاز للمخلوق لارتكاب أقل القبيحين لأجل عجزهم وعدم قدرتهم على دفع فساد الصدق ، والله تعالى لا يوصف بعجز ، ولأن الصدق كمال وضده نقص والواجب يجب أن يكون كاملا من جميع الجهات كما تقدم.

صفاته تعالى عين ذاته وجودا وعينا :

الصفات الكمالية كالعلم والقدرة والاختيار والحياة والإرادة والكراهة والسمع والبصر والسرمدية ونحوها من صفات الكمال هي عين ذاته تعالى وجودا وعينا وفعلا وتأثيرا ، بمعنى أن ذاته تعالى بذاته يترتب عليه آثار جميع الكمالات ويكون هو من حيث ذاته مبدأ لانتزاعها منه ومصدقا لحملنا عليه ، وان كانت هي غيره من حيث المفهوم والمعنى ، وذلك لجواز أن يوجد الأشياء المختلفة والحقائق المتباينة بوجود واحد ونظير ذلك للافهام المخلوق ، فإنه مع كونه

١٢٢

واحد يصدق عليه أنه مقدور معلوم ومحيى ومراد ومخلوق ومرزوق باعتبارات متعددة وحيثيات مختلفة ، وبالجملة فليست صفاته تعالى مغايرة للذات كما في صفاتنا فإن علمنا وقدرتنا وحياتنا مثلا غير ذواتنا بل زائدة عليها ضرورة فإنا كنا معدومين ثم وجدنا وكنا جاهلين فعلمنا وكنا عاجزين فقدرنا وهكذا... والله تعالى ليس كمثله شيء ولا يشبه خلقه فصفاته عين ذاته غير زائدة عليها.

ويدل عليه ما تقدم من العلم والقدرة من أنها لو كانت غير ذاته لكان تعالى محتاجا في كامليته الى صفاته واذا كان محتاجا كان ممكنا فلا يكون واجبا صانعا وقد تقدم بطلانه ، وأيضا إن الصفة متأخرة عن الموصوف فيلزم أن يكون الله تعالى عاجزا جاهلا في وقت ثم صار قادرا عالما تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا.

صفات الله السلبية :

المراد بالصفات السلبية الصفات المضادة للصفات الثبوتية الذاتية كالجهل المضاد للعلم والعجز المضاد للقدرة والفناء المضاد للبقاء وهكذا وجود الشريك لله المنافي لوحدانيته فليس لله تعالى ضد ولا كفؤ ولا ندّ ولا هو بجوهر كالجسم والمادة ولا هو عرض كاللذة والشهوة والكيفية ولا متحيز في مكان ولا حال في وجود موجود آخر ولا شكل له ولا صورة ولا هو في جهة دون جهة ومكان دون مكان لا تدركه العيون والأبصار.

أما انه ليس بجوهر ولا عرض لأن الجواهر والأعراض من الموجودات الممكنة المفتقرة إلى من يؤثر فيها الوجود أو هي من مستلزمات الموجودات كملازمة العقل والروح والشهوة للأجسام الحية ، وكونه ليس بمادة ولا جسم لأن من خصائص الجسم والمادة الحركة ومن مستلزمات الحركة وجود المحرك فسواء كان الجسم بسيطا أو مركبا فهو مفتقر الى من يخرجه من العدم ويخلقه لأنه قبل الوجود كان معدوما وإخراجه من العدم لا يتم إلا بوجود آخر وليس

١٢٣

لله تعالى شكل ولا صورة لأن الشكل من مستلزمات الأجسام والصورة لا تنتقش في العين إلا بعد وجود الشكل والشكل لا ينتقش في الذهن إلا بعد تصوّر الجسم فالجسم والشكل والصورة من مستلزمات وجود الممكن.

فلا يصح أن يقال عن الله تعالى أين هو وكيف هو ، لأن السؤال عن الأينونة والكيفية يستلزم أن يكون للمسئول عنه كيفية خاصة ومتحيزا في جهة ومكان وهذا ما لا يجوز على واجب الوجود الخالق للمكان والموجد للكيفية ، كما لا يصح أن يقال عنه تعالى أنه حل في موجود من الموجودات كما تدّعي النصارى أنه حلّ في المسيح ، وما ادعاه بعض الصوفية أن الله تعالى حل في جسمه لأن الحلول هو قيام وجود في وجود آخر على سبيل التبعية الأمر الذي يجعل التابع محتاجا إلى المتبوع ، ولا يمكن رؤيته تعالى بالعيون والأبصار.

ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتصوره الانسان ويصفه بما يخرجه عن كونه واجب الوجود ويجعله شبيها أو مقارنا للمخلوقات في الذات أو الصفة كما تعتقد الشيعة الإمامية الاثنى عشرية.

وأن ما استدل به جماعة من المسلمين من غير الشيعة من أن لله تعالى يدا ووجها وعينا وساق وأنه متربّع على العرش شأنه شأن الملوك والسلاطين واستدلوا على ذلك بآيات من القرآن الحكيم كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) وغيرها من الآيات على ما ذكر الشيخ عبد الله بن علي القصيمي في كتاب (الصراع بين الاسلام والوثنية) وأن كل ما قالوه في ذلك غير وارد وغير صحيح بعقيدة الشيعة الجعفرية.

قال الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية :

إن ما ورد في القرآن من نسبة الوجه واليد والاستواء لله تعالى كلها مجازات استعملت في غير معانيها الحقيقية ، ولا ينكر أحد بأن في القرآن الكريم ألفاظ استعملت على سبيل المجاز كما استعملت في الحديث الشريف ، وكلمات البلغاء

١٢٤

من العرب ، وأن استعمال اليد والوجه والساق والاستواء في وصف الله تعالى على معانيها الحقيقية يوجب التجسيم والقول بأن لله يد مثل يد الانسان ووجه مثل وجه الانسان وأنه متربّع على العرش كما يتربع كسرى على عرشه ، يجعل لواجب الوجود جسما مركّبا من الأعضاء كسائر مخلوقاته.

ونضيف على ما سبق من كلمات الامام علي عليه‌السلام التي تنفي أن يكون لله تعالى جارحة ، يد أو ساق أو يمكن لمسه ورؤيته وذلك فيما قاله عليه‌السلام يرد على ذعلب اليماني وقد سأله :

هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟

فقال علي عليه‌السلام : أفأعبد لما لا أرى.

فقال ذعلب : وكيف تراه؟

فقال عليه‌السلام : لا تراه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين ، متكلم لا برويّة ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسة ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتجيل القلوب من مخافته.

ومن كلماته عليه‌السلام :

الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر ، الدال على قدمه بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده.

صفات أفعاله تعالى :

اعلم أن صفات الله سبحانه وتعالى تنقسم الى ثلاثة أقسام :

ثبوتية ذاتية وسالبية أي ممتنعة لا يمكن أن يوصف بها وصفات أفعاله ، وقد تقدم شرح الصفات الثبوتية والسلبية.

١٢٥

أما صفات أفعاله فهي الصفات الناتجة من أفعاله وهي غير مستلزمة لذاته ولا منتفية عنه كالمحيي والمميت والمعطي والمعزّ والمذلّ وغيرها من الصفات التي تتحقق عند صدور الفعل منه تعالى ، هذه الصفات هي غير مستلزمة لذاته لأنها لو كانت ذاتية لما جاز فعل ضدها كالمحيي ، فلو كان الإحياء من صفاته الذاتية لما جاز أن يميت الأحياء ، وهكذا لو كان العطاء من الصفات الذاتية لما صح منه المنع ، والله تعالى هو المحيي والمميت والمعطي والمانع والمعز والمذل يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء يعفو عمن يشاء ويعذّب من يشاء ، فلو كان العفو صفة ذاتية لما جاز أن يعذب أحدا.

ولا خلاف بين المسلمين في أن الله تعالى متصف بالصفات الذاتية منتف عنه الصفات المضادة لها السلبية ، فصفات الذات كالوجود والعلم والقدرة والحياة السرمدية ونحوها هي عين ذاته كما تقدم ، وصفات فعل كالخالقية والرازقية والإحياء والإماتة فهي حادثة وهي امور اعتبارية انتزعت باعتبار المخلوق والمرزوق والمحيي والمميت ، وليست هذه الصفات قديمة وإلا لزم قدم العالم فقد كان الله ولم يكن خالقا ولا رازقا ولا محييا ولا مميتا ، وهذه الصفات ليست صفات كمال حتى يلزم النقص من انتفائها عنه تعالى بل الكمال إنما هو قدرته تعالى على الخلق وعلمه بمصلحة وقت إيجادهم ، بل ربما كان استمرار هذه الصفات وقدمها وأبديتها نقصا ، كما إذا كان الصلاح من إيجاد مزيد في هذا اليوم لا قبله ولا بعده فإيجاده قبل ذلك أو بعده نقص على الله تعالى وكذا الكلام في إغنائه وإفقاره وإماتته وإحيائه ونحوها.

والضابط في الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات الذات ما اتصف الله تعالى بها وامتنع اتصافه بضدها كالعلم والقدرة والحياة ونحوها ، فلا يجوز أن يقال إن الله عالم بكذا وغير عالم بكذا وقادر على كذا وغير قادر على كذا وسميع وبصير بكذا وغير سميع وبصير بكذا ونحو ذلك.

وصفات الفعل ما يتصف تعالى بها وبضدها فيقال إن الله تعالى خلق زيدا

١٢٦

ولم يخلق ابنه وأحيا زيدا وأمات عمرا وأفقر بكرا وأغنى خالدا ونحو ذلك.

قال الباقر عليه‌السلام : هل سمّي عالما قادرا إلا لأنه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين ، وكلما ميّزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ، والباري تعالى واهب الحياة ومقرر الموت... الحديث.

وعنه أيضا يا ابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه وبصرك لو وضع عليه خرّة ابرة لغطّاه تريد أن تعرف بهما ملكوت السموات والأرض ان كنت صادقا فهذه الشمس خلق من خلق الله فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول.

ملخص المقال في صفات الله تعالى :

قد مرّ أن اكتناه الحقائق ليس في وسع البشر وما هو نصيبه ليس إلا معرفة الآثار ، وذكرنا أيضا أن الصفات عناوين خاصة يشار إليها الى الذات ويعبّر بها عنه ، واللازم هو التأمل والدقة في الذات المعنون لها ثم النظر في أنه هل يبقى مجال للبحث عن الصفات أم لا ، فنقول : الذات المعنون للصفات كما مرّ سابقا هو الكمال المطلق فوق ما نتصوره من معنى الكمال والإطلاق المحيط بما سواه فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة المسلوب عنه جميع النقائص الواقعية والإدراكية وحينئذ مم توجه العقل بهذا النحو من الذات والإذعان به والحكم بتحققه هل يبقى للبحث عن الصفات ونفي الصفات هل له طريق إلا الإذعان بكلمة أمير المؤمنين عليه‌السلام كمال الإخلاص نفى الصفات عنه فالبحث عنها تطويل بلا طائل.

العدل من اصول الدين :

وبه يتم التوحيد بل تتوقف عليه سائر الاصول من النبوة والإمامة والمعاد وهو وان كان داخلا في جملة صفاته تعالى وقد تقدم الكلام فيه مبرهنا في جملة

١٢٧

الصفات لأن معنى قولنا عادل أنه حكيم ليس بظالم ، فهو إما من الصفات الكمالية أو الجلالية ولكنه أفرد لكثرة متعلقاته واصوله.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام :

التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه.

وبالجملة فالعدل هو اعتقاد أنه تعالى عادل في مخلوقاته غير ظالم لهم لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب ولا يجوز في قضائه ولا يحيف في حكمه.

الله تعالى لا يفعل القبيح :

لا خلاف بين الناس من أن فعل الخير حسن وفاعله يستحق المدح وفعل الشر قبيح وفاعله يستحق الذم واختلف الناس في مصدرهما.

قالت المجوس : إن مصدر الخير من الله تعالى ومصدر الشر من الشيطان.

وقالت الثنوية : إن مصدر الخير من النور ومصدر الشر من الظلمة.

واختلف المسلمون في مصدرهما.

قالت الشيعة الإمامية الاثنى عشرية وتبعتها المعتزلة : إن الله تعالى هو مصدر الخير والفيض سبقت رحمته غضبه وهو الرحمن الرحيم ، وأنه منزّه عن فعل القبيح ومنه الشر لأن من صفاته الذاتية العلم ومن صفاته الحسن الحكمة ، وفعل القبيح منه تعالى يستلزم إما نفي العلم عنه بقبح فعل الشر أو نفي الحكمة عنه تعالى لسوء التدبير ، وإن نفي العلم عنه بقبيح فعل الشر يوجد النقص في علمه وإكمال النقص فيه يحتاج الى من يكمله ليكون عالما مطلقا له تمام العلم ووجود من يكمل فيه هذا النقص يجعله ممكن الوجود كسائر المخلوقات المفتقرة الى الكمال ويخرج عن كونه واجب الوجود ، وأن نفي الحكمة عنه يجعله غير قادر على إيجاد الفعل على الوجه الأكمل ، ولا يحسن تدبير الأشياء تدبيرا متقنا ويحمله على أن يأمر بما نهى عنه وينهى بما أمر به لأن من مستلزمات الحكيم أن

١٢٨

يفعل الأشياء على الوجه الأكمل ويتصرف في الامور تصرفا حسنا ويدبّرها تدبيرا متقنا وإن فعل الشر مذموم وفاعله يستحق الذم.

والمسلمون أجمع متفقون على أن الله تعالى حكيم ومدبّر وحمده واجب على العباد وأنه نهى عن فعل القبيح ووعد مرتكب القبائح بعذاب أليم ولهم أدلة اخرى ستأتي في سياق الرد على من جوّز على الله تعالى فعل القبيح.

وقالت الأشاعرة وأصحاب الجبر : ان مصدر الخير والشر وخالقهما واحد وهو الله تعالى لأنه خلق كل شيء وقدّر كل شيء وأوجد كل شيء ومنها الشر والقبيح وأن استثناء فعل القبيح عنه ينافي كونه خالقا لكل شيء واستدلوا على رأيهم هذا بأن القدرة لم تسبق الفعل والفعل لم يكن متأخرا عن القدرة لأنه حال فيها ، والله لو لم يفعل الشر كانت قدرته ناقصة وثبت عجزه في خلق بعض الأشياء كالشر والفساد ، فالخير والشر والكفر والايمان والهدى والضلال والحسنات والسيئات كلها من فعل الله تعالى.

فردّ الشيعة الإمامية الاثنى عشرية على دعوى الاشاعرة والمجبرة بأدلة نذكر ما يكفي المطلوب من تلك الأدلة.

أولا : قال الشيعة إن قدرة الله تعالى على فعل كل شيء واستطاعته على إيجاد كل شيء ، لا ينافي امتناعه من فعل بعض الأشياء لامور منها أنه لم يكن مجبرا على خلق الأشياء لأن الإجبار يسلب عنه تعالى الاختيار كما شرحناه ، ومنها أنه لم يكن قد خلق الأشياء عن طريق العلة والمعلول والسبب والمسبب كالنار والاحتراق بحيث إذا وجدت النار وجد الاحتراق ، فقدرة الله تعالى التي هي عين ذاته لا تجبره على فعل الشيء.

ثانيا : ان كل فعل يصدر من فاعل عاقل لا بدّ وأن يسبق الفعل وجود الإرادة في إيجاده ، فإذا كان فعل الكفر من الله لزم أن تكون له إرادة في فعله ، فإرادة الله تعالى الكفر لعباده ينافي قوله تعالى ولا يرضى لعباده الكفر.

١٢٩

ثالثا : إن ما ذهب إليه الأشاعرة من أن القدرة لم تسبق الفعل ، والفعل لم يتأخر عن القدرة لأنه حال فيها هو زعم باطل وقول لا دليل عليه ، والبرهان ثابت في عكسه وهو ان إيجاد كل فعل يصدر من عاقل يتوقف على أمرين الإرادة والقدرة ، فالإرادة هي المحركة للقدرة ، والقدرة هي الموجدة للفعل ، فلا فعل بلا إرادة كما لا حركة بدون محرّك مثال ذلك فعل المشي المقصود المتوقف على حركة القدمين بفعل الإرادة والقدرة على الحركة إذ لو لا إرادة المشي والقصد منه ووجود القوة لتحريك القدمين لم يحصل المشي المقصود.

رابعا : ان لإيجاد فعل القبيح عوامل وبواعث تحمل الفاعل على ارتكاب فعل القبيح كالجهل والحاجة والعبث والاستهتار ولسوء التدبير والتصرّف والتشفي والضرر بالآخرين لمجرّد اللذة والشهوة هذه العوامل وغيرها لا يمكن أن يوصف بها الله تعالى لأنه عالم بالأشياء قبل حدوثها وحال حدوثها وبعد حدوثها ، وأنه غني عن عباده وغير مفتقر إليهم ، وأنه لم يخلق شيئا عبثا ، وأنه حكيم لا يسيء التصرف والتدبير ، ولأنه رءوف عطوف رحمن رحيم سبقت رحمته غضبه وتمم خيره الموجودات كلها ، وأنه أحسن خلق كل شيء واتقن تدبير كل ما خلق.

خامسا : لو كان الله تعالى هو الفاعل للقبيح وهو مصدر الشرور والسيئات كلها لما نهى عنها بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) النحل / ٩٠ ، وبمقتضى الحكمة لا يجوز له أن يفعل ما نهى عنه ولا ينهي عما يفعله.

وليس في شرائع الدنيا وأديان الناس من وصف إلهه بأنه مصدر الشر والقبيح حتى من صنع إلهه بيده وعبده كالمشركين وعبدة الأصنام ، فالمجوسية الضالة والثنوية الملحدة لم تسند فعل الشر إلى فاعل الخير كما تقدم.

١٣٠

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية

في الجبر والاختيار والتفويض

إن من أهم البحوث العقائدية عند المسلمين هو البحث عن الجبر والاختيار والتفويض ، وقد ذهب علماء الإسلام في البحث عنها مذاهب شتى ودونوا العديد من الكتب والمؤلفات ومما تجدر الإشارة إليه أن كل من كتب وألف سلك فيما كتب مسلكا علميا لا يهتدي إلى فهمه إلا من ألم بعلم الكلام الفلسفة الإلهية إلماما تاما وعرف مصطلحاتها وتمكن من حلّ قضاياها على ضوء القواعد العلمية الخاصة بعلم الفلسفة الإلهية ، ولما كانت معرفة ذلك من واجب عامة المكلفين لمساسها بالعقيدة والمبادئ الإسلامية ، وجدنا من الواجب بسط الموضوع بسطا واضحا يسهل فهمه على عامة المكلفين.

الجبر : لغة هو الإكراه والقهر ، والمراد منه في الفلسفة الإلهية علم الكلام هو إجبار الله تعالى عباده على الفعل خيرا كان أو شرا حسنا كان أو قبيحا دون أن يكون للعبد إرادة واختيار وقدرة على الرفض والامتناع.

التفويض : لغة هو ايكال فعل الشيء إلى الآخرين على وجه الاستقلال في التصرّف دون أن يكون للمفوض (بكسر الواو) سلطان على فعل المفوض (بفتح الواو) والمراد منه في هذا البحث هو أن الله تعالى فوّض أفعال العباد إليهم يفعلون

١٣١

ما يشاءون على وجه الاستقلال دون أن يكون لله سلطان على أفعالهم وأباح لهم فعل ما يشتهون.

الاختيار : لغة هو وجود الإرادة والتمكن في الفاعل على فعل الشيء وتركه والمراد منه هنا هو إن الله تعالى كلّف عباده ببعض الافعال ونهاهم عن بعضها وأمرهم بطاعته فيما أمر به ونهى عنه بعد أن أوضح لهم الدليل وهداهم إلى ما يريد فعله وما يريد تركه بواسطة الأنبياء والمرسلين ، وجعل لهم الاختيار فيما يفعلون دون أن يجبر أحدا على الفعل خيرا كان أو شرا إيمانا كان أو كفرا وترك لعباده الاختيار فيما يفعلون بعد أن منحهم القوة في الفعل والترك ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها ، وإذا عرفت أيها القارئ الكريم ما هو الجبر وما هو التفويض والاختيار هلم نبحث ما اختلف فيه المسلمون.

قالت الأشاعرة والجهمية والمرجئة بالجبر كما عرفت معناه إن الله تعالى هو الخالق لكل شيء ، ومنه الخير والشر والهدى والضلال والكفر والإيمان وكل أفعال العبد مستندة إليه تعالى وليس للعبد قدرة وإرادة واختيار في فعل الشيء وتركه لأنه مجبر ومكره على كل ما يفعله من خير وشر ، فالقدرة والمقدور واقعان بقدرة الله وليس لقدرة العبد أثر في أفعاله واستدلوا على ذلك بأدلة أهمها هي :

أولا : إن الله تعالى لو أراد من الكافر الإيمان وأراد الكافر الكفر وحصلت إرادة الكافر كان الله تعالى مغلوبا وكانت إرادة الكافر الكفر أقوى من إرادة الله تعالى له الإيمان ، ولما كان الله لا يغلب على أمره ، كانت إرادة الكفر للكافر من الله.

ثانيا : إن كل ما علم الله تعالى وقوعه فهو واقع لا محالة وما علم امتناع وقوعه فهو يمتنع حتما ، فإذا علم الله وقوع الكفر من الكافر استحالت على الكافر إرادة الايمان.

١٣٢

ثالثا : قالوا ان في القرآن من الآيات ما يثبت إن الله تعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم ، وان الحسنات والسيئات آتية من الله تعالى وكلها من عنده ، ومن تلك الآيات قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الصافات / ٩٦. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) النساء / ٧٨. وهكذا تمسكوا بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ابراهيم / ٤ وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) النحل / ٩٣. وغيرها من الآيات التي وردت فيها كلمة الهدى والضلال كما سيأتي في بيان الردّ لهذا الفريق من المسلمين.

بطلان الجبر :

وقالت الشيعة الإمامية الاثنى عشرية بالاختيار وهو أن الله تعالى كلف عباده بما يريد ونهاهم عما لا يريد بعد ان أقام الحجة وأوضح لهم الدليل وهداهم إلى ما يريده منهم وما نهاهم بعد أن أعطاهم القوة على فعل الشيء وتركه واستدلوا على رأيهم هذا بقوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الإنسان / ٣. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) البلد / ٨. (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) البقرة / ٢٥٦. (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف / ٢٩ إلى غير ذلك من الآيات.

وقالوا لو كان الله تعالى يجبر بعض عباده على فعل الشر والكفر والقبيح ويجبر البعض الآخر على الهدى والإيمان والخير لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد ولتساوى المؤمن والكافر بالطاعة ، لأن كل واحد منهما يفسد إرادة الله تعالى ولا يخالف أمره وثبت إن الله تعالى يريد الشيء ويكره ، يأمر بفعل وينهي عنه ويرغم الكافر على الكفر ويعاقبه عليه ويجبر المؤمن على الايمان ليثيبه عليه.

١٣٣

امور تدل على بطلان الجبر :

أولا : قالت الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في مقام الردّ على من قال بالجبر لو كان الله تعالى يجبر بعض العباد على الإيمان والخير والهدى ، وتجبر الآخرين على الكفر والشر والضلال ، وكان البعض منهم مكرها على الطاعة ، والآخر مرغما على العصيان لبطل التكليف وألغيت كل التعاليم والأوامر الصادرة منه تعالى إلى المكلفين لأن من شروط التكليف أن يقع الفعل من الفاعل بمحض اختياره وإرادته ، أما إذا كان المكلف مرغما والمأمور مجبرا على تنفيذ الأمر ، وكان المكلف (بكسر اللام) قد خلق الفعل في الفاعل وأوجده فيه دون أن يكون له اختيار وإرادة في خلق الفعل ولا قوة له ولا قدرة على مخالفته والامتناع من حدوثه لم يتم الفعل تكليفا لأن المكلف به محقق الوجود ، وما كلف به العبد تحصيل حاصل ولا معنى لتكليف العبد بفعل حاصل بقدرة المكلف بكسر اللام وإرادته لأنه متمم الوقوع إن شاء العبد ذلك أو لم يشأ إرادة العبد أم لم يرده لأنه مسلوب الإرادة والاختيار.

ثانيا : إذا كان المؤمن مجبرا على الإيمان والكافر على الكفر بإرادة الله وقدرته ومشيئته، كان الكافر والمؤمن متساوين في الطاعة ، لأن الكافر لم يختر الكفر بإرادته والمؤمن لم يرد الإيمان باختياره ، ووجب على الله تعالى أن يعامل المؤمن والكافر معاملة واحدة فيعاقبهما معا أو يثيبهما معا لأنهما لم يختار الكفر والإيمان لنفسهما ، وإنما تم الاختيار بإرادة الله ومشيئته لهما ، وعلى هذا الزعم يبطل الحساب والعقاب والجنة والنار والوعد والوعيد ، ويكون الظالم الشريد والخير العادل والمؤمن والكافر في حكم واحد ووجب أن يشطب من تعاليم الله تعالى كلمة الطاعة والمعصية والكفر والإيمان.

ثالثا : لو كان الكافر مجبرا على الكفر والظالم مكرها على فعل الظلم لكان للكافر والظالم الحجة على الله إذا أدخلهما النار وعاقبهما على فعلهما لأنه هو الخالق

١٣٤

فيهما الكفر والظلم وهذا يخالف ما جاء في القرآن الكريم : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الانعام / ١٤٩.

رابعا : إذا كان الله تعالى هو خالق الشر والكفر والضلال في الإنسان ولا إرادة للإنسان ولا قدرة على مخالفته ، وإذا كان الله يجبر بعض العباد على الإيمان وبعض الآخر على الكفر ، كانت الشرائع والأديان والكتب المنزلة من عنده على أنبيائه ورسله عبثا ، وكانت دعوة الأنبياء الناس إلى الإيمان بالله وفعل الخير والتجنب من الشر والفساد باطلة ، ولا أثر للشرائع والأديان في توجيه الإنسان ولا يترتب عليها شيء من أفعال الإنسان ولا تلزم الناس أحكامها لأنهم جميعهم مسيّرون بإرادة الله الذي خلق فيهم أفعالهم من خير وشر وكفر وإيمان ولا قدرة لهم على مخالفة ما أراده الله لهم ، وكانت دعوات الأنبياء للناس : آمنوا بالله ، اقيموا العدل اجتنبوا الفحشاء ، لا أثر لها في نفوس العباد لأن الذي خلق الله فيه الكفر لا يقدر على الإيمان ومن خلق فيه الايمان لا يقدر على الكفر كما يقول الأشاعرة والمجبرة والجهمية وغيرهم.

خامسا : لو صح ما ذهب إليه الأشاعرة ورفاقهم من أن الإنسان لا إرادة له ولا اختيار فيما يفعل من خير وشر ، وإن القدرة والمقدورة واقعان بقدرة الله تعالى وليس للعبد قدرة وإرادة واختيار لكانت القوانين الشرعية والوضعية الخاصة بالعقاب والتأديب غير ملزمة للإنسان ، وأنها مهما وصفت بالعدل كانت ظالمة للإنسان الذي يرتكب الشر ويقترف الجرائم بفعل غيره فهو إذ يقتل يقتل لا بإرادته وهو إذ يسرق لا يسرق باختياره ، وإنما يفعل ذلك مجبورا ومكرها ومرغما على فعل القتل والسرقة ، لا سبيل له غير تنفيذ إرادة من قهره وأجبره فأخذ القاتل بالقتل وقطع يد السارق ومعاقبة أي مجرم في ذلك ظلم لا يتفق مع العدل وترك القاتل يقتل والمفسد يفسد في الأرض لا يتفق والمحافظة على الكيان البشري ولا يقول به أي إنسان لأن في العقاب سلامة المجتمع وأمنه ،

١٣٥

وفي القصاص من القاتل حياة الإنسان وبقاءه ، كما في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة / ١٧٩.

سادسا : على زعم المجبرة واتباعهم لا يوجد في الدنيا من هو أظلم من الله تعالى الله عما يقول الجاهلون : وأي ظلم أعظم وأفظع من ظلم الله تعالى للإنسان والعياذ بالله لأنه على زعم المجبرة يجبر الإنسان على فعل الشر ويكرهه عليه ثم يعاقبه في الدنيا بحكم ما شرعه من الأحكام الموجبة للعقاب ، وفي الآخرة يأخذه ويدخله النار ويخلده في عذاب أليم جزاء لما ارتكبه من فعل الشر المرغم عليه إن فلت من عقاب الدنيا.

ولنا أن نسأل المجبرة إذا كان الله تعالى أجبر بعض عباده على الإيمان وأكره بعض الآخر على الكفر ، فما وجه السؤال في ولتسئلن عما كنتم تعملون.

أيسألهم عن فعل خلقه هو فيهم وأجبرهم بقدرته وقوته على عمله.

والجواب لا يخرج من وجهين إما أن يكون السؤال عن عملهم الذي عملوه باختيارهم فيبطل بذلك الجبر ويثبت الاختيار ، وإما أن يكون السؤال عن أفعال أرادها لهم ، وأجبرهم على القيام بها. فعلى هذا لا وجه للسؤال إذ هو العالم بكل شيء والفاعل لكل شيء ، فلا العالم بالشيء يحتاج أن يسأل عنه ، ولا الفاعل للشيء يحتاج إلى من يعلمه فعله الذي تم على يده ، ثم أليس هو الفاعل والعامل والخالق لأفعال عباده من خير وشر وحسن وقبيح ، والعباد مجبرون على تنفيذ ما أراده الله لهم ، فما هو الشيء الذي يترتب على سؤال العباد من المسئولية التي نفاها الله تعالى عن المكره والمرغم على فعل الشيء بقوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

القرآن الكريم ينفي الجبر :

من أدلة الشيعة الإمامية الاثنى عشرية على نفي الجبر عن الله تعالى وإثبات

١٣٦

الاختيار للعبد في أفعاله هي ما ورد في القرآن المجيد من الآيات البيّنات الدالة على وجود الاختيار للإنسان ، وأنه لم يكن مجبرا ولا مكرها في كل ما يعمله ويفعله من خير وشر ، وقد صنف بعض العلماء من الشيعة الآيات الكريمة الدالة على ذلك بعشرة أصناف :

الصنف الاول :

الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد ونسبته إليه ، وإنه مطلق التصرف فيما يفعله من خير أو شر وهي على سبيل المثال لا الحصر ، قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) البقرة / ٧٩. (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد / ١١. (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) يوسف / ٨. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ) المائدة / ٣٠. (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) المدثر / ٣٨. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) الطور / ٢١. (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فصّلت / ٤٦. (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) البقرة / ٢٨٩.

الصنف الثاني :

الآيات الدالة على نفي الظلم من الله تعالى ويكاد يكون الظلم مصداقا لكل الشرور بل هو محور الشر وركيزة القبائح كلها ، وقد تكرر نفي الظلم عن الله تعالى في مواطن عديدة وفي آيات كثيرة ، ومنها قوله تعالى ينفي عن نفسه الظلم ويسنده إلى العبد : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الحج / ١٠ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) غافر / ١٧ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً

١٣٧

عَظِيماً) آية ٤٠. (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) النحل / ١١٨.

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يس / ٥٤.

الصنف الثالث :

الآيات الدالة على وجود الإرادة والاختيار في العباد على احداث أفعالهم وأنهم مخيّرون في ما يعملونه من خير وشر وحسن وقبح نورد منها على سبيل المثال قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فصلت / ٤٠. (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) الكهف / ٢٩ (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) المدثر / ٥٤ ـ ٥٥. (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) المزمل / ١٩.

الصنف الرابع :

الآيات الدالة على ذم المخالفين لأوامر الله تعالى عن طريق الاستفهام الإنكاري : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) الاسراء / ٩٤. (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ـ (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) الاعراف / ١٢. (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) البقرة / ٢٨. (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) المدثر / ٤٩. (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) آل عمران / ٧١.

الصنف الخامس :

الآيات الدالة على أن الله تعالى يجزي العباد على أعمالهم وما كسبته أيديهم وهي كثيرة ، منها قوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) غافر / ١٧. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجاثية / ٢٨

١٣٨

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) الانعام / ١٦٠ (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه / ١٥. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ) الانعام / ٩٣. (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إبراهيم / ٥١. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) طه / ١٢٤.

الصنف السادس :

الآيات الدالة على المسارعة إلى الأعمال الخيرية لطلب المغفرة من الله تعالى وتلبية أوامره وتعاليمه ، منها قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) آل عمران / ١٣٣. (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) الاحقاف / ٣٢ (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) الزمر / ٥٤. (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ).

الصنف السابع :

الآيات الدالة على اعتراف المجرمين بذنوبهم في يوم القيامة ، منها (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا : بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) الملك / ٨ ـ ٩. (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) الملك / ١١. (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) المدثر / ٤٢.

الصنف الثامن :

الآيات الدالة على ندم المجرمين وطلبهم العودة إلى الدنيا ليعملوا الصالحات عند ما يحدق بهم العذاب واعترافهم بذنوبهم وما عملوها من السيئات ، منها قوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) المؤمن / ١١. (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً ـ وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ

١٣٩

ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) السجدة / ١٢. (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الزمر / ٥٨.

الصنف التاسع :

الآيات الدالة على الاستعانة بالله وطلب الرحمة والهداية منه على الأعمال الخيرة ، منها قوله تعالى : (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) الاعراف / ١٢٨. (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الاعراف / ٢٠٠. (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) النحل / ٩٨. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الحمد / ٤.

الصنف العاشر :

الآيات الدالة على طلب المغفرة والعفو والصفح منه تعالى على ما صدر ما يخالف أمر الله تعالى ، كقوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الاعراف / ٢٣. (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) البقرة / ٢٨٥. (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ص ٢٤ (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) آل عمران / ١٣. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) إبراهيم / ٤١. (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) الشعراء / ٨٦. (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) مريم / ٤٧.

من المناسب أن نذكر الحديث الذي دار بين الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام وبين أبي حنيفة كما يرويه الشيخ المفيد في كتابه تصحيح الاعتقاد. قال إن أبا حنيفة سأل الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه‌السلام عن أفعال العباد ، فقال

١٤٠