عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني

عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ٢

المؤلف:

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٥٢

الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام في توحيد الله تعالى :

قال إن الله لا إله إلا هو كان حيا بلا كيف ولا أين ولا كان في شيء ولا كان على شيء ولا ابتدع لمكانه مكانا (ليس لكينونته مكان لا حادث ولا قديم) ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ولا يشبهه شيء مكوّن ولا كان خلوا من القدرة على الملك قبل إنشائه ولا يكون خلوا من القدرة بعد ذهابه.

كان عزوجل إلها حيا بلا حياة حادثة (وإنما هي حياة ذاتية أزلية هي عين ذاته) ملكا قبل أن ينشئ شيئا ومالكا بعد إنشائه ، وليس لله حد ولا يعرف بشيء يشبهه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ولا يهرم للبقاء (لأنه ليس بقاء زمنيا يهرم) ولا يصعق لذعرة شيء ولخوفه تصعق الأشياء كلها.

فكان الله حيا بلا حياة حادثة ولا كون موصوف ولا كيف محدود ولا أين موقوف ولا مكان ساكن بل حي لنفسه ومالك لم يزل له القدرة إنشاء ما شاء حين شاء بمشيته وقدرته ، كان أولا بلا كيف ويكون آخرا بلا أين (قبل كل شيء أزليا وبعد كل شيء أبديا) وكل شيء هالك إلا وجهه له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين البحار ج ٤ ص ٢٩٨.

الامام الرضا عليه‌السلام في خطبة توحيدية جامعة :

ان المأمون العباسي لما أراد أن يستعمل الرضا عليه‌السلام جمع بني هاشم فقال : إني أريد أن استعمل الرضا عليه‌السلام على هذا الأمر من بعدي فحسده بنو هاشم فقالوا له : يا أبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علما نعبد الله عليه فصعد عليه‌السلام المنبر فقعده مليا لا يتكلم مطرقا ثم انتفض انتفاضة واستوى قائما بعد الحمد والثناء وقال :

أول عبادة الله معرفته وأصل معرفة الله توحيده ونظام توحيد الله نفي الصفات عنه لشهادة العقول ان كل صفة وموصوف مخلوق وشهادة كل موصوف

١٠١

ان له خالقا ليس بصفة ولا موصوف وشهادة كل صفة وموصوف بالاقتران وشهادة الاقتران بالحدث وشهادة الحدث بالامتناع عن الأزل.

بيان :

هذه براهين ثلاثة على أن صفاته تعالى الذاتية ـ ليست زائدة على ذاته ، تتحيث الذات بحيثية زائدة لعروضها أو قرنها وكينونتها للذات :

١ ـ ان العقول شاهدة على أن كل صفة وموصوف مخلوق لحاجة الموصوف إلى الصفة بغية الكمال الذي لو لا الصفة لم يكن ، ولحاجة الصفة إلى الموصوف لقيامها به وحلولها فيه والمحتاج إلى غيره ، ممكن مهما كانت الحاجة داخل الذات أو خارجها.

٢ ـ ان الموصوف المعروض للصفة الكمالية مخلوق للحاجة والتركب فليكن خالقه لا صفة ولا موصوفا فإنهما حادثان مخلوقان ، والمخلوق لا يخلق مثله لعدم الأولوية والقدرة.

٣ ـ إن الصفة لا تتحقق إلا عارض الموصوف ولا الموصوف إلا معروض الصفة فهما مقترنان ، والاقتران آية الحدوث سواء كان حادثا بعد وجود المقترنين أم معهما ، ففي الاولى كان الاقتران حادثا وعروض الحادث على شيء آية حدوث ذلك الشيء حيث الأزلي لا يتصف بصفات الحادث.

وفي الثانية أيضا هما حادثان بشهادة التركب المندغم في ذاتيهما ، والحادث يمتنع من الأزل كما أن الأزل يمتنع من الحدث قضية تباينهما كليا من الذات وفي الصفات.

إذا فالصفات الزائدة على الذات منفية عنه تعالى كيفما كانت الزيادة حيث تستلزم تركبه وحاجته فحدوثه تعالى ثم نفي الصفات عن ذاته تعالى إطلاقا يستلزم نفي حياته تعالى وعلمه وقدرته فنفي ألوهيته.

١٠٢

إذا فكما أن ذاته تعالى خارجة عن الحدين حدّ الابطال وحدّ التشبيه ، فلا نقول أنه ليس ولا أنه شيء كالأشياء.

كذلك صفاته الذاتية خارجة عن الحدين حدّ الابطال فلا يقال ليست له صفة ، وحدّ التشبيه فلا يقال أنه موصوف كسائر خلقه لا هذا ولا ذاك. وإنما صفاته تعالى أمر بين أمرين وبرزخ بين عالمين.

خلاصة الكلمة التي تناسب ساحة الألوهية :

أن صفاته عين ذاته دون أن تزيد عليها أو تحيثها بمختلف الحيثيات والجهات بل أنه تعالى في وحدته وأحديته المطلقة كل الكمال الكمال الكل فأسماؤه وصفاته المختلفة تعبيرات عن ذات واحدة لا أن ذاته مجمع ذوات أو صفات مختلفة كلا فإنما أسمائه تعبير وأفعاله تفهيم ، فمن سوى الله حياته وعلمه وقدرته غير ذاته قد تتصف وقد تفقدها قد تزيد فيها وقد تنقص.

ولكن الله تعالى ذاته العلم كله وذاته القدرة :

كلها دون إختلاف بينها أنفسها ولا بينها وبين الذات إلا في تعبير اللغات وتعبير العبارات تقريبا لأفهامنا.

ما الدليل على أن لك صانعا :

من كلام الإمام الصادق عليه‌السلام مع أبي شاكر الديصاني.

أبو شاكر أتأذن لي في السؤال؟

الإمام عليه‌السلام؟ سل عما بدا لك.

أبو شاكر : ما الدليل على أن لك صانعا؟

الإمام عليه‌السلام : وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إما أن أكون صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين وإما أن أكون صنعتها ، وكانت موجودة أو صنعتها وكانت معدومة فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت

١٠٣

بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب العالمين. أبو شاكر قام وما أجاب جوابا (البحار : ج ٣ ص ٥٠).

هذا البرهان مستوحى من قوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ).

قول الامام العاشر في التوحيد :

في تحف العقول ص ٤٨٢ قال ابو الحسن الثالث علي بن محمد ان الله لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الذي تعجز الحواس ان تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده والأبصار عن الإحاطة به نأي في قربه وقرب في نأيه كيف الكيف بغير أن يقال كيف وأين الاين بلا أن يقال أين هو منقطع الكيفية والأينية الواحد الأحد جل جلاله وتقدست أسماؤه.

قال الصادق عليه‌السلام في التوحيد :

الناس في التوحيد على ثلاثة أوجه : مثبت وناف ومشبه فالنافي مبطل والمثبت مؤمن والمشبه مشرك.

قول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الله تعالى :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه ، وقال : من كان بالله أعرف كان من الله أخوف.

قول الامام الصادق عليه‌السلام في إثبات المبدأ :

وكان جعفر بن محمد يقول من زعم إن الله في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك قال أنه لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا.

١٠٤

عن الامام الصادق عليه‌السلام في لفظة الله :

ففي الكافي ذكر علي بن ابراهيم عن أبيه عن النضر بن سويد عن هشام بن الحكم أنه سئل أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله تعالى واشتقاقها والله مما هو مشتق.

قال : فقال عليه‌السلام لي : يا هشام الله مشتق من إله والإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟ قال : فقلت زدني ، قال عليه‌السلام : إن الله تعالى تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ، ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره.

يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق (الخ). ومعنى أله يأله إلها أي تحير العقول في كنهه الباري تعالى (مفهومه من أعرف الأشياء وكنهه في غاية الخفاء واستعماله بين الأنام يقتضي أن يكون في الوجود ذات معبود ينطلق من هذا الاسم ، فإن الاسم غير المسمى إذ الاسم عبارة عن اللفظ أو المفهوم منه والمسمى هو المعنى المقصود من اللفظ الذي هو مصداقه).

١٠٥

عقائد الامامية الاثنى عشرية

في التوحيد

قال الله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، وقال تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) ، وقال تعالى : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، وقال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

واعلم أن التوحيد في الجملة فطري والمراد من التوحيد معنيان أحدهما عدم الجزئية والثاني عدم الشريك ، فروي الصدوق (رض) في كتاب التوحيد مسندا عن هاني بن شريح قال إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أتقول إن الله واحد فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم ، فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال عليه‌السلام : يا أعرابي ان القول إن الله واحد على أربعة أقسام : فوجهان منهما لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد يقصد به باب الاعداد فهذا ما لا يجوز وقول القائل هو واحد لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد ، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة (كما قال النصارى) وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه جلّ ربنا عن ذلك وتعالى عنه ، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو

١٠٦

واحد ليس له في الأشياء شبيه كذلك ربنا وقول القائل أنه ربنا عزوجل أحدي المعنى يعنى به أنه لا ينقسم من وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل وإليه أشير قول الباقر الإمام الخامس عليه‌السلام كلما ميزتموه بأوهامكم بأدق معانيه فهو مخلوق لكم ومردود إليكم ، فالذي يدل على التوحيد بمعنى نفي الشريك امور :

الأول : ان من تأمل بفكر سليم وعقل مستقيم في هذا العالم الكبير الذي هو ما سوى الله رآه من مبدئه وهو عالم العقول والأرواح إلى منتهاه وهو عالم الأجسام كما قال الفيلسوف السبزواري :

بل جعل القوم أولو الفطانة

عناصرا كحجر المثانة

فبالنظام الجملي العالم

شخص من الحيوان لا بل آدم

عالم الأجسام كسلسلة مشتبكة منتظمة بعضها في بعض وكل جزء منها مرتبط بما يليه، فإن الفقير محتاج إلى الغنى وبالعكس والعالم إلى الجاهل وبالعكس وهكذا الصغير والكبير والجليل والحقير والأرض والسماء وكذا جميع الموجودات ، فالعالم كبيت واحد يفسده تعدد المدبر أو كبدن يفسده تعدد الروح وكما أنه إذا تعدد رئيسان في منزل أو حاكمان في بلد أو سلطانان في مملكة أورث اختلال نظامها وأوضاعها فكذا لا تنتظم السماوات والأرضون وما فيها وما بينهما بإلهين وكما أن ائتلاف أعضاء الشخص الواحد الإنساني منتظمة في رباط واحد منتفعا بعضها من بعض مع اختلافها وامتياز بعضها عن بعض يدل على أن مدبرها واحد وممسكها عن الانحلال قوة واحدة ومبدأ واحد.

فكذلك ارتباط الموجودات بعضها ببعض على الوصف الحقيقي والنظم الحكمي دليل على أن مبدعها ومدبرها وممسك رباطها أن تنفصم واحد حقيقي يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وإلى هذا اشير في القرآن بقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً

١٠٧

لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).

الثاني : ان وجود آثار الصانع من خلق مخلوقاته وإرسال رسله دليل عليه فانتفاء ذلك مما يفرض شريكه دليل على انتفائه إذ الفطرة السليمة شاهدة والعالم العادي قاض بأنه لو كان مع الصانع إله آخر لم تحتجب عن أحد آثاره ولوصل خبره إلى الناس ولعلم حاله مع الباري جلّ ذكره من التوافق وعدمه ولأرسل إلى الخلق رسلا بأوامر ونواهي ووعد ووعيد وتجويز كما ذكر مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصيته لولده الحسن أو محمد بن الحنفية على إختلاف الرواية واعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ولعرفت أفعاله وصفاته ولكنه إله واحد كما وصف نفسه.

الثالث : أن التفرد بالصنع كمال فوق كل كمال وسلب الكمال عن ذات الواجب محال فلا يكون له شريك ولا نظير.

الرابع : أنه تعالى غني بوجوب ذاته عما سواه فيكون غنيا عن الشريك ولأن الشركة نقص إذ التصرف الكامل لا يجوز لأحد الشريكين فيكون كل منهما ناقصا.

الخامس : وحدة العالم وهي دليل على وحدة فاعله ومبدعه ووحدة العالم معلوم بالضرورة لشدة الارتباط بين أجزائها واحتياج بعضها إلى بعض في الوجود والبقاء ، فكأن جميعها حقيقة واحدة إلهية المسماة بالفيض المقدس في لسان الحكماء وبالنفس الرحمانية في لسان آخرين وبالرحمة الواسعة في لسان الأخبار المروية عن الأئمة الاطهار :

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكل إلى ذاك الجمال تشير

فتلخص من جميع ذلك أن وحدة العالم تدل على وحدة إله العالم.

السادس : أن كلا منهما إن لم يقدر على إقامة النظام كانا عاجزين فيكونا

١٠٨

بالالوهية غير لائقين وإن قدر كل منهما على إقامة النظام كان الآخر عبثا ، وإن كان أحدهما قادرا والآخر عاجزا تعين الاول للالوهية.

السابع : ان كل من جاء من الأنبياء وأصحاب الكتب المنزلة إنما دعا للاستناد إلى واحد استند إليه الآخر ونفي الشريك وآخر عن الإله بأنه لا شريك له فإن كان من أرسلهم صادقا في ذلك ثبت المطلوب ، وإن كان كاذبا لم يكن لائقا للإلهية حتى يكون شريكا.

الثامن : أنه لو كان القديم اثنين متغايرين لزم أن يكون بينهما فرجة قديمة فتكون القدماء ثلاثة وإذا كانوا ثلاثة كانوا خمسة وإذا كانوا خمسة كانوا سبعة لما ذكر وهكذا إلى ما لا نهاية له والمدعى معترف بالبطلان فيما زاد على اثنين فالملزوم مثله.

وقال الصادق عليه‌السلام في جواب الزنديق الذي قال له لم لا يجوز أن يكون صانع العالم اكثر من واحد : لا يخلو قولك انهما اثنان من أن يكون قديمين قويين أو ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني ، وإن قلت انهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مفترقين من كل جهة ، فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جاريا واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد.

وفي كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما الدليل على أن الله واحد ، قال : اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال الله عزوجل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.

وعن الفضل بن شاذان قال : سأل رجل من الثنوية أبا الحسن الرضا عليه‌السلام وأنا حاضر فقال له : إني أقول أن صانع العالم اثنان فما الدليل على أنه واحد

١٠٩

فقال عليه‌السلام قولك اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك للواحد ، فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه.

وأما الدليل على التوحيد بالمعنى الثاني أنه أحدي الذات لا تركيب فيها فلأنه تعالى لو كان منقسما في وجود أو عقل أو وهم لكان محتاجا لأن كل ذي جزء فإنما هو بجزئه يتقدم وبتحققه يتحقق وإليه يفتقر وهو الله سبحانه غني عن العالمين.

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية في توحيد

الذات والصفات والأفعال والآثار :

أعلم أن مراتب التوحيد أربع : توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد الآثار ، وبعبارة أخرى توحيد العوام وتوحيد الخواص وتوحيد خاص الخاص وتوحيد أخص الخواص ، والاولى مدلول كلمة لا إله إلا الله والثانية معنى كلمة لا هو إلا هو والثالثة مفاد لا حول ولا قوة إلا بالله والرابعة تشير إلى أن لا مؤثر في الوجود إلا الله.

والشيعة تشارك سائر المسلمين في الاعتقاد بالمرتبة الاولى وتساهم بعض طوائف المسلمين في الاعتقاد بالمرتبة الثانية ، ولكن الشيعة تمتاز عنهم جميعا بعقيدة توحيد خاص الخاص وهو مجموع توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال ، وتمتاز أيضا بتوحيد أخص الخواص وهو مجموع توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الأفعال وتوحيد الآثار وأخذوها من أمامهم الأعظم سيد الموحدين ورئيس العارفين أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام حيث قال في نهج البلاغة أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفات فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه ومن جزاه فقد جهله ومن جهله فقد

١١٠

أشار إليه ومن أشار إليه فقد حده ومن حده فقد عده ومن قال فيتم فقد ضمنه ومن قال علام فقد أخلى منه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

تفصيل المقام في الله تعالى :

نعتقد أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شيء قديم لم يزل ولا يزال هو الاول والآخر عليم حكيم عادل حي قادر غني سميع بصير ولا يوصف بما توصف به المخلوقات فليس هو بجسم ولا صورة وليس جوهرا ولا عرضا وليس له ثقل أو خفة ولا حركة أو سكون ولا مكان ولا زمان ولا يشار إليه كما لا ندّ له ولا شبيه ولا ضد ولا صاحبة له ولا ولد ولا شريك ولم يكن له كفوا أحد لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.

ومن قال بالتشبيه من خلقه بأن صوّر له وجها ويدا وعينا أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر أو نحو ذلك فإنه بمنزلة الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزه عن النقص بل كلما ميزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا على حد تعبير الإمام الباقر عليه‌السلام كما ذكرنا حديثه وما أجله من حكيم وما أبعده من رأى علمي دقيق ، وكذلك يلحق بالكافر من قال أنه يترأى لخلقه يوم القيامة وإن نفي عنه التشبيه بالجسم لقلقة من اللسان ، فإن أمثال هؤلاء المدعين جحدوا على ظواهر الالفاظ في القرآن الحكيم أو الحديث الضعيف وأنكروا عقولهم وتركوها وراء ظهورهم فلم يستطيعوا أن يتصرفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.

التوحيد الذي يثبت به الاسلام :

اعلم أن التوحيد الذي يثبت به الاسلام له أربعة معاني :

١١١

الأول : توحيد الوجود بأن يكون واجب الوجود لا شريك له في وجوبه ووجوده كما مرّ مفصلا.

الثاني : توحيد صانع العالم ومدبّر النظام ، وقد خالف في ذلك الثنوية وعرفت جوابه.

الثالث : توحيد الإله وهو المستحق للعبادة ونفي الشريك عنه في استحقاق العبودية والمخالف في ذلك عبّاد الأصنام والأوثان ، فإن من يسجد لغير الله من الأصنام والأوثان لا يزعم أن وثنه ونحوه واجب الوجود لذاته ولا قديما ، ولكن زعموا أنه مستحق للسجود والعبادة ليقرّبهم الى الله كما حكى الله عنهم : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، وربما اعتذر بعضهم بأن توجههم الى الأصنام كتوجه أهل الاسلام الى بيت الله الحرام ، فردّ الله عليهم ذلك بقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ، فإن الله لم يأمر بهذا كما أمر بالتوجه الى حرمه والاستشفاع بأنبيائه ورسله ، وقد ردّ الله على هؤلاء في القرآن بآيات كثيرة مشتملة على براهين عقلية وأدلة يقينية ، قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، وقال تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) ، وقال تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

الرابع : التوحيد في الخلق والرزق كما قال تعالى : ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ) و (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) و (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) ومن يرزقكم من دون الله). والمخالف في هذا المقام المفوّضة والغلاة لعنهم الله حيث قالوا بأن الأمر في التدبير والخلق

١١٢

والرزق مفوّض إلى الأئمة ، نعوذ بالله من هذا الاعتقاد الفاسد ، والشيعة الاثنى عشرية بريئة من هذا الاعتقاد.

بيان اجمالي لمراتب التوحيد

في معتقدات الامامية الاثنى عشرية :

تعتقد الشيعة الامامية الاثنى عشرية بأنه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات ، فكما الاعتقاد يجب بتوحيده في الذات ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده.

كذلك يجب الاعتقاد ثانيا بتوحيده في الصفات وذلك بالاعتقاد بأن صفاته عين ذاته وبالاعتقاد بأنه لا شبيه له من صفاته الذاتية فهو من العلم والقدرة لا ينظر له وفي الخلق والرزق لا شريك له وفي كل كمال لا ندّ له.

وكذلك يجب الاعتقاد ثالثا بتوحيده في العبادة فلا يجوز عبادة غيره تعالى بوجه من الوجوه وكذا إشراكه في أي نوع من أنواع العبادة واجبة أو غير واجبة في الصلاة وغيرها من العبادات ، ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك كمن يرائي في عبادته ويتقرب الى غير الله تعالى ، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان لا فرق بينهما.

عقيدة الشيعة الامامية الاثنى عشرية في صفاته تعالى :

قد مرّ أن اكتناه حقائق الأشياء ليس في وسع البشر وما هو نصيبه ليس إلا معرفة الآثار ولا ريب أن الآثار تختلف حسب اختلاف المدارك والاعصار فربّ شيء لا يدرك آثاره إلا بعد قرون وأعصار ، وحيث أن آثار الأشياء مختلفة فمن أدرك أثرا من آثار شيء يحكم بأنه هو هذا الشيء ، ومن ثم جاء الاختلاف.

مثلا : العلم الذي به قوام حياة البشر ، حياته الروحانية ، كم اختلفوا فيه ،

١١٣

فمن قائل بأنه نحو وجود ، ومن قائل بأنه كيف نفساني ، ومن قائل بأنه فعل ، ومن قائل بأنه انفعال ، ومن قائل بأنه معنى سلبي أي سلب المادة عن النفس الى غير ذلك من الأقوال ، والكل صادق من وجهة نظره لأن الآثار متعددة وكل واحد أدرك أثرا منها ، واذا كان درك الحقائق الممكنة جوهرية كانت أو عرضية هكذا فما ظنك بصفات الباري تعالى التي هي فوق درك العقول كلها.

طريق معرفة الصفات :

الصفات عناوين خاصة يشار بها الى الذات ويعبّر بها عنه واللازم هو التأمل والدقة في الذات المعنون لها ثم النظر في أنه هل يبقى مجال للبحث عن الصفات أم لا ، فنقول الذات المعنون للصفات كما مرّ سابقا هو الكمال المطلق فوق ما نتصوره من معنى الكمال والإطلاق المحيط بما سواه فوق ما نتعقله من معنى المسلوب عنه جميع النقائص الواقعية والادراكية ، وحينئذ فمع توجه العقل بهذا النحو من الذات والإذعان به والحكم بتحققه هل يبقى مجال للبحث عن الصفات وهل له طريق إلا الإذعان بكلمة أمير المؤمنين عليه‌السلام : كمال الإخلاص نفي الصفات عنه ، فالبحث عن الصفات إن كان بحسب الواقع فهو مع فرض كون الذات عبارة عما ذكرناه تطويل بلا طائل وان كان بحسب مقام التعبير والتفهم فله وجه كما في الخطبة المعروفة عن مولانا الرضا عليه‌السلام أسمائه تعالى تعبير الخ.

وعلى أي حال بالغوا في البحث عن أي منها عين الذات وأي منها زائدة على الذات فغاية ما يجد العقل طريقا الى كماله المطلق هو سلب النقائص عنه سبحانه فيعبر عن سلب نقص الجهل بالعلم ، وعن سلب العجز بالقدرة وعن سلب منقصة عدم منشئية الأثر بالحياة الى غير ذلك ، هذا ولكن نحن نذكر هذه الصفات تبعا للقوم في الجملة.

الكلام في صفات الثبوتية التي يقال صفات الكمال والجمال :

اعلم أن صفات الكمال والجمال لا تنحصر لأن الخلو عن الكمال نقص وكل

١١٤

نقص منفي وكل كمال ثابت له تعالى وإلا لاستحال كونه صانعا لأن كل صانع لا يمكن أن يكون صانعا إلا اذا كان كاملا في صنعه فلا بد أن يكون صانع جميع العالم كاملا بكل كمال بالذات من جميع الجهات ، والمقصود من الصفات الثبوتية نفي أضدادها ، إذ صفاته تعالى لا كيفية لها ولا سبيل الى إدراكها ، فالقصور منها سبب أضدادها فهي مسلوب في الحقيقة ، فمعنى قوله تعالى قادرا عالما أي ليس بعاجز ولا جاهل لأن العجز والجهل نقصان لا يليق بالكامل بالذات من جميع الجهات وهكذا في جميع الصفات.

فصفات الله تعالى الثبوتية ثمانية : القدرة والعلم والحياة والإرادة والكراهة والادراك والكلام والسرمدية.

الأول في قدرته تعالى :

أنه قادر ليس بعاجز لا يعجز عن شيء من الأشياء ، والدليل على ذلك :

أولا : استحالة الصانعية والخالقية بدون القدرة التي هي من صفات الكمال.

ثانيا : أن العجز نقص لا يليق بالكامل وقد تقدم وجوب كمال الواجب.

ثالثا : صدور الأفاعيل العجيبة منه تعالى الدالة على كمال قدرته ، ويكفي في كمال قدرته التفكير في عجائب مخلوقاته التي خلقت من الانسان فضلا عن غيره ويتدبر فيما للأطفال في البكاء من المنافع العظيمة حيث أن في أدمغتهم رطوبة عظيمة إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثا جليلة وعللا عظيمة من ذهاب البصر وغيره ، وكيف جعلت آلات الجماع في الذكر والانثى جميعا على وفق الحكمة فجعل في الذكر آلة منتشرة تمتد حتى تصل النطفة الى الرحم إذ كان محتاجا الى أن يقذف ماءه في غيره ، وخلق للانثى وعاء قعر ليشتمل على الماءين جميعا ويحتمل الولد ويصونه ، وتفكر في منافع أعضاء البدن فاليدان للعلاج والرجلان للسعي والعينان للاهتداء والفم للاغتذاء والمعدة للهضم والكبد للتخليص والمنافذ لتنفيذ الفضول والأوعية لحملها والفرج لإقامة النسل وهكذا.

١١٥

ويتفكر في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير ، فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد ويستحيل في الكبد بلطف التدبير دما وتنفذه إلى البدن كله في مجاري مهيأة لذلك ، وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفايض قد اعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة والصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة ، وانظر إلى ما خص به الإنسان في خلقه تشريفا وتفضيلا على البهائم فإنه خلق ينتصب قائما ويستوى جالسا مستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما ، فلو كان مكبوبا على وجهه كذات الأربع لما استطاع أن يستعمل شيئا من الأعمال وإلى ما خصّ به الإنسان من الحواس من خلقه وشرف بها على غيره.

كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة وليتمكن من مطالعة الأشياء ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين والرجلين فتعرضها الآفات وتصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر اطلاعها نحو الأشياء ، وفكر في الأعضاء التي خلقت زوجا وفردا ، فإن الرأس مثلا لو كان زوجا لكان كلا على الإنسان لا فائدة فيه بخلاف اليدين والرجلين والعينين ونحوها ، فإن حكم تعددها لا يخفى ، وتأمل في الجفن على العين كيف جعل كالغشاء والاشفار كالعرى.

وتفكر في نعمة الله تعالى على الإنسان لا تعد ولا تحصى في مطعمه ومشربه وآلاتهما وتسهيل خروج الأذى منه ، وكيف جعل منفذ الخلاء من الإنسان في الستر موضع منه فلم يجعل بارزا من خلقته ولا ناشرا من بين يديه بل هو مغيب في موضع غامض من البدن مستور محجوب تلتقي عليه الفخذان وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فيواريانه ، فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء وجلس تلك الجلسة وجد ذلك المنفذ منه منصبا مهيئا لانحدار الثقل.

١١٦

وتفكر في هذه الطواحن التي جعلت للإنسان فبعضها محدد لقطع الطعام وقرضه وبعضها عرائض لمضغه ورضه.

وتفكر فيما أنعم الله على الإنسان من النطق بمفاد قوله تعالى علمه البيان الذي يعبر به عما في ضميره وما يخطر بقلبه ، ولو لا ذلك كان بمنزلة البهائم التي لا تخبر عن نفسها بشيء ، وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين وأخبار الباقين وبها ترقم العلوم والآداب وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحسابات ولولاه لاختلت امور الناس في معادهم ومعاشهم وفيما اعطي الإنسان علمه وما منع منه وستر عنه فأعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه من معرفة خالقه وتكاليفه وما فيه صلاح دنياه من الزراعة والغرس والنساجة والحياكة والخياطة والصيد وغير ذلك من الأعمال والأفعال وكيف ستر عنه العلم بعمره ، فإنه لو علمه قصيرا لم يتهنأ دينه ودنياه بالعيش مع ترقب الموت ولو علمه طويلا وثق بالبقاء وانهمك باللذات والمعاصي وفسد عليه دينه ودنياه ، وبالجملة تعداد مصنوعات الله ومقدوراته يحتاج إلى مجلدات كبيرة وما ذكرنا كما يدل على القدرة ، كذلك يدل على مسألة الصفات الكمالية ويكفي في ثبوت القدرة النقل أيضا ، قال الله تعالى في مواضع : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقال تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً).

الثاني : أنه تعالى مختار في أفعاله إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، وليس بموجب مضطر في صدور الأفعال عنه كالنار في الإحراق والشمس في الإشراق ، والدليل عليه مضافا إلى ما تقدم في أدلة القدرة ، ومضافا إلى النقل كقوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) ، وقوله تعالى : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) وغير ذلك من النقل القطعي أن الايجاب عجز والاضطرار نقص ، فلا يجوز عليه تعالى.

وبعبارة واضحة هو أنه تعالى أوجد كل الأشياء باختياره ، فلو لم يكن مختارا على خلقها وتكوينها لزم أن يكون مجبرا على خلقها من قبل قوة قاهرة

١١٧

تجبره على الخلق ، وحيث لم تكن هناك قوة قاهرة تجبره على الخلق مثبت أنه تعالى مختار.

الثالث : عالم حكيم ويدل عليه أنه تعالى لو لم يكن عالما لكان جاهلا ، والجهل من أهم عوامل النقص في الذات ، والذات لا تكمل إلا بإزالة كل ما ينقصها ، واحتمال وجود النقص في ذات واجب الوجود يجعله مفتقرا ومحتاجا إلى من يكمل فيه النقص ، وإن الله تعالى كامل بذاته لا يتصور فيه النقص وتشهد حكمته وتدبيره واتقانه خلق كل شيء على علمه.

فالدقة في الصنعة ومكنونات العالم والروعة في كل ما خلق من أكبر الأدلة على علمه بكل شيء كان وما سيكون وما هو كائن.

أما النقل فيدل عليه قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، وقال تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وقال تعالى : (أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). ويكفي في ثبوت علمه تعالى الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة بناء عليه لا يخفى خرافات المتكلمين وبعض فلاسفة العالم ، وأن العلم فيه تعالى حضوري أو حصولي بل إن الله تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها لا تخفى عليه خافية يعلم السر وأخفى وما تكن الصدور ولا يجهل شيئا ، والحكيم يطلق على معان : أحدها وضع الأشياء في محلها وضده الظلم والسفه ، وثانيها العلم بالأشياء كما هي عليه وضده الجهل ، وثالثها ترك القبيح الذي هو الإخلال بالواجب ، ورابعها العلم بالأشياء ومعرفتها بأفضل العلوم ، وأفضل العلوم العلم بالله تعالى وأجل الأشياء هو الله تعالى ، والله سبحانه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر المعلوم فهو الحكيم حقا لعلمه أجل الأشياء بأجل العلم ، ويدل على أنه حكيم ايجاد الموجودات ومكونات العالم بأحسن نظام ،

١١٨

وفي الذرة دلائل على وجود حكمته تعالى بل في كل زاوية الكون الحكمة متجلية كما ذكرنا في إثبات وجود المبدأ سابقا.

ويدل عليه قول الرضا عليه‌السلام في دعائه : سبحانه من خلق الخلق بقدرته واتقن ما خلق بحكمته ووضع كل شيء منه موضعه بعلمه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وأيضا كما أن جميع الممكنات أثر لوجوده فكذا جميع كمالاتها أثر لكمال والذي ينتهي إليه جميع العلوم لا يجهل شيئا.

علمه تعالى عام :

واعلم أن علمه تعالى عام يعم جميع المعلومات كلياتها وجزئياتها لوجهين :

الأول : لو لم يكن كذلك لزم الجهل ولو في البعض وهو نقص يجب تنزيهه تعالى عنه.

الثاني : أنه تعالى منزه عن المكان والزمان كما يأتي فلا نسبة بينه تعالى وبين مخلوقاته إلا وجوب ذاته وإمكان مخلوقاته وقدرته عليها.

وما زعمه بعض حكماء اليونان من عدم عموم علمه تعالى بل انحصاره كالعلم بأن الإنسان حيوان ناطق والحمار حيوان ناهق دون الجزئيات كزيد وعمرو وبكر ، ومرض كل منهم وصحته وطوله وقصره لأنها متجددة حادثة والعلم يتبع المعلوم فيلزم تغير العلم وتجدده فيكون تعالى محلا للحوادث فهو فاسد لأن علم الخالق لا يقاس بعلم المخلوق والعلم التابع للمعلوم إنما هو علم المخلوق دون الخالق إذ هو تعالى عالم إذ لا معلوم ، وعالم بما كان قبل أن يكون فلا تغير ولا حدوث في علمه الأزلي فله معنى العالمية إذ لا معلوم كما له تعالى معنى القادرية إذ لا مقدور ومعنى الخالقية إذ لا مخلوق ، ولنضرب لذلك مثالا للتفهيم ، فنقول إذا أراد زيد يوم السبت إنشاء كلام يوم الخميس فهو عالم يوم السبت بما ينشئ يوم الخميس

١١٩

وكذلك عالم يوم الجمعة بما أنشأ يوم الخميس ، فلا تغير ولا حدوث في علمه أصلا.

الرابع : في أنه تعالى حي كما قال تعالى هو الحي القيوم والمراد بالحياة صفته يتأتى معها العلم والقدرة ، ويدل على ذلك مضافا إلى النقل ثبوت القدرة والعلم له تعالى بما تقدم وثبوتهما دليل على الحياة بل لازمهما فهو الحي الذي لا يموت وتوضيح ذلك إنا لما رأينا هذا العالم من السماوات والأرضين وما بينهما علمنا أن له بانيا قادرا عالما بناه بقدرته وعلمه ، ولما رأيناه تجدد الحوادث فيه وانتظامه من الإماتة والإحياء ونمو النبات ونزول الماء وسكون الأرض وتحرك الهواء ودوران الفلك الدوار وسير الشمس والقمر بالليل والنهار والإفقار والإغناء والتمليك والإفناء والإضحاك والإبكاء والتمريض والشفاء ونحو ذلك علمنا أن فاعل هذه الأفاعيل حي ، واعلم أن حياة الممكنات إنما تحقق بعروض صفة زائدة لها ، وحياة الله تعالى عين ذاته كسائر صفاته غير زائدة عليها ، ومرجعها إلى القدرة والعلم ، ومرجع جميع الصفات إلى الذات المقدسة كما يأتي توضيحه إن شاء الله تعالى والتعبير بهذه العبارات للإفهام :

عباراتنا شتى وحسنك واحد

وكل إلى ذاك الجمال يشير

الخامس : قديم أزلي أبدي سرمدي ، إن من مستلزمات ذات العالم القادر والوجود الواجب الحياة والبقاء لأنهما لو عدما من ذاته كان ممكنا لا واجبا لأن الفناء والانعدام يستلزمان وجود المفنى والمعدم أو قوة تطرؤهما على الذات من الخارج ، وقد ذكرنا بأدلة قاطعة أن وجود الواجب الوجود هو ما يستلزمه بقاء المخلوقات والموجودات ، وقلنا إن من خصائص المادة الحركة ، والحركة تلزم وجود المحرك لها وبدون المحرك تتوقف الحركة ، فذاته تعالى باق إلى الأبد حتى فناء مخلوقاته لأن انعدام الحركة لا يوجب انعدام المحرك ، إما أنه قديم أبدي فإنه لو لم يكن قديما لكان حادثا ، والله ليس بحادث لأن الحدوث من صفات الممكنات.

١٢٠