عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ١

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني

عقائد الإماميّة الإثنى عشريّة - ج ١

المؤلف:

السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣١١

والهيكل الذي بناه داود وسليمان وقدسه الله لبني اسرائيل.

قال في المناقب : اختلف الناس في المعراج : فالخوارج ينكرونه ، وقالت الجهمية عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا ، وقالت الامامية الاثنا عشرية والزيدية والمعتزلة بل عرج بروحه وبجسمه إلى بيت المقدس لقوله تعالى (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وإلى السماوات لقوله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى * ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى* فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى * فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى * ما كَذَبَ الْفُؤادُ) ما رأى.

ودلت عليه الروايات المتواترة عن أئمة الهدى وابن عباس وابن مسعود وجابر وحذيفة وانس وعائشة وأمّ هاني ، ونحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة وقد جعل الله معراج موسى الى الطور (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) ولابراهيم إلى السماء الدنيا (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) وعيسى الى السماء الرابعة (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ولادريس إلى الجنة (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) ولمحمد (ص) (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) وذلك لعلو في همته.

قال الطبرسي في مجمع البيان : فأما الموضع الذي أسري إليه أين كان ، فان الاسراء إلى بيت المقدس وقد نص به القرآن ولا يدفعه مسلم. وما قاله بعضهم إن ذلك كان في النوم فظاهر البطلان ، إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان.

وقد وردت روايات كثير في قصة المعراج في عروج نبينا (ص) إلى السماء ورواها كثير من الصحابة مثل ابن عباس وابن مسعود وانس وجابر بن عبد الله وحذيفة وعائشة وأم هاني وغير هم عن النبي (ص) وزاد بعضهم ونقص بعض.

وتنقسم جملتها الى ثلاثة أوجه :

٦١

«احدهما» ما يقطع على صحتها لتواتر الأخبار واحاطة العلم بصحته.

«وثانيها» ما ورد في ذلك مما تجوزه العقول ولا تأباه الأصول ، فنحن نجوزه ثم نقطع على أن ذلك كان في يقظته دون منامه.

«وثالثها» ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول الا أنه يمكن تأويله على وجه يوافق المعقول ، فالاولى تأويله على وجه يوافق الحق والدليل.

«ورابعها» ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله الاعلى التعسف البعيد ، فالأولى ان لا نقبله.

فأما الأول المقطوع به فهو أنه أسرى به على الجملة ، واما الثاني فمنه ما روي أنه طاف في السماوات ورأى الأنبياء والعرش والسدرة والجنة والنار ونحو ذلك ، وأما الثالث فنحو ما روي أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها وقوما في النار يعذبون فيها فيحمل على أنه رأى صفتهم او أسماءهم ، وأما الرابع فنحو ما روي أنه (ص) كلم الله جهرة ورآه وقعد معه على سريره ونحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه والله سبحانه متقدس عن ذلك ، وكذلك ما روي أنه شق بطنه وغسله لأنه (ص) طاهر مطهر من كل سوء وعيب ، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد.

وخلاصة الكلام هو من ضروريات الدين ومنكره خارج عن ربقة المسلمين ولذا قال الصادق (ع) : ليس منا من انكر أربعة المعراج وسؤال القبر وخلق الجنة والنار والشفاعة.

وقال الرضا (ع) : من لم يؤمن بالمعراج فقد كذب رسول الله (ص).

وفي أمالي الصدوق عن أبيه عن علي عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) : لما أسرى برسول الله (ص) الى بيت المقدس حمله جبرائيل على البراق فأتيا بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلى بها ، ورده فمر رسول الله في رجوعه بعير لقريش واذا لهم ماء في آنية وقد اضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه ، فشرب رسول الله (ص) من ذلك

٦٢

الماء واهرق باقيه ـ الحديث.

المعاد عند الامامية الاثنا عشرية

اعلم أن المعاد يطلق على ثلاثة معاني : احدها المعنى المصدري من العود وهو الرجوع الى مكان ، وثانيها وثالثها مكان العود وزمانه ، وحال الكل واحد.

وهو جسماني وروحاني : فالجسماني عبارة عن أن الله تعالى يعيد أبداننا بعد موتها ويرجعها الى هيئتها الأولى ، والروحاني عبارة عن بقاء الروح بعد مفارقة البدن سعيدة منعمة او معذبة شقية بما اكتسبته في الدنيا ، وهذا هو الذي قال به الفلاسفة ، وأول الثواب والعقاب والجنة والنار بهاتين الحالتين.

قال الرازي في كتاب نهاية العقول : قد عرفت أن من الناس من أثبت النفس الناطقة ، فلا جرم اختلفت اقوال اهل العالم في امر المعاد على وجوه أربعة :

«احدها» قول من قال إن المعاد ليس الا للنفس ، وهذا مذهب الجمهور من الفلاسفة.

«وثانيها» قول من قال المعاد ليس إلا لهذا البدن ، وهذا قول نفاة النفس الناطقة وهم اكثر أهل الاسلام.

«وثالثها» قول من أثبت المعاد للامرين ، وهم طائفة كثيرة من المسلمين مع اكثر النصارى.

«ورابعها» قول من نفى المعاد عن الأمرين ، ولا اعرف عاقلا ذهب إليه بل كان جالينوس من المتوقفين في أمر المعاد (١).

وبعبارة واضحة : المعاد هو الركن الخامس من اصول الدين ، وهو أن يعتقد المسلم بأن الله يبعث النفوس ويعيد لها الحياة من جديد في يوم القيامة متجسدة بنفس جسدها ليحاسب كل نفس بما عملت ، فليس من العدل أن يساوي المجرم

__________________

(١) حق اليقين شبر ج ٢ ص ٣٦

٦٣

وغير المجرم والمسىء والمحسن في الحياة ، وليست الدنيا هذه الا ممرا ومعبرا الى الآخرة يقتص فيها الله هناك من المذنبين والعابثين والأشرار وينتصف للمظلومين من الظالمين ويثيب الذين عملوا الصالحات على اعمالهم.

وقد أيد المعاد جميع الشرائع والأديان ، وعدوا الاعتراف بعودة الانسان الى الحياة ركنا أساسيا في أديانهم ، ويمكن حصر الأقوال العامة الدنية منها وغير الدنية عن المعاد في أربعة أقوال :

(الأول) انكار المعاد مطلقا لا جسما ولا روحا ، وهو قول الملحدين والماديين الذين ينكرون مبدأ الحياة ووجود الله فكيف بالمعاد والبعث من جديد.

(الثاني) الاعتراف بالمعاد الروحاني دون الجسماني ، بانين آراءهم على أن الأرواح بسيطة مجردة والبسيط المجرد باق والأجسام مركبة من شتى العناصر فاذا خرجت الروح تفككت اجزاء الجسم والتحق كل جسم بعنصره وانعدم لذلك لن يشمل المعاد شيئا غير الروح.

(الثالث) القول بالمعاد الجسماني فقط ، وهو ما يعتقد به بعض المسلمين الذين يقصرون المجرد على الله وحده ، فلا يعتقدون أن هناك روحا مجردة وانما كل ما في الوجود بعد الله أجسام يميز بعضها عن بعض اللطافة والكثافة.

(الرابع) وهو الذي عليه الشيعة الامامية الاثنا عشرية وهو القول بالمعاد الروحاني والجسماني معا ، وأغلب العامة المسلمين أيضا ذهب الى هذا القول ـ أي معاد هذا الجسد الذي كان في الدنيا بروحه وجسمه يوم القيامة ـ والدليل على ذلك أمور :

(الأول) من الواضح المعلوم أن كل شخص من البشر مركب من جزءين الجزء المحسوس وهو (البدن) الذي يشغل حيزا من الفضاء والذي يشاهد بالعين الباصرة ، والجزء الذي لا يحس بالعين الباصرة وانما يحس بالبصيرة ويشهد به العيان والوجدان هما فوق كل دليل أن هذا البدن المحسوس الحي المتحرك بالارادة

٦٤

لا يزال يلبس صورة ويخلعها وتفاض عليه أخرى ، وهكذا لا تزال تعتور عليه الصور منذ كان نطفة فعلقة فعظاما فجنينا فمولودا فرضيعا فغلاما فشابا فكهلا فشيخا فميتا فترابا.

وفي ذلك كله هو هو لم يتغير ذاته وان تبدلت احواله وصفاته ، فهو يوم كان رضيعا هو نفسه يوم صار شيخا هرما لم تتبدل هويته ولم تتغير شخصيته ، بل هناك اصل محفوظ يحمل كل تلك الأطوار والصور ، وليس عروضها عليه وزوالها عنه من باب الانقلاب ، فان انقلاب الحقائق مستحيل ، فالصورة المنوية لم تنقلب دموية او علقية ولكن زالت صورة المني وتبدلت بصورة الدم وهكذا فالصورة متعاقبة متبادلة لا متعاقبة منقلبة.

وهذه الصور كلها متعاقبة في الزمان لضيق وعائه مجتمعة في وعاء الدهر لسعته ، والمتفرقات في وعاء الزمان مجتمعات في وعاء الدهر ، ولا بد من محل حامل وقابل لتلك الصور المتعاقبة ما شئت فسمه مادة او هيولى ، وكما أن المادة ثابتة لا تزول فكذلك الصور كلها ثابتة ، والشيء كما نعرف لا يقبل ضده والموجود لا يصير معدوما والمعدوم لا يصير موجودا ، وان انقلاب الحقائق مستحيل.

الروح او النفس المجردة

لقد ثبت عند العلماء (الفسيولوجيين) تحقيقا أن كل حركة تصدر من الانسان بل ومن الحيوان تستوجب احتراق جزء من المادة العضلية والخلايا الجسمية ، وكل فعل ارادي او عمل فكرى لا بد وأن يحصل منه فناء في الأعصاب واتلاف من خلايا الدماغ بحيث لا يمكن لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة.

ومهما يبدر من الانسان بل مطلق الحيوان من عمل عضلي أو فكري فالجزء من المادة الحية التى صرفت لصدور هذا العمل تتلاشى تماما ثم تأتي مادة جديدة

٦٥

تأخذ محل التالفة وتقوم مقامها في صدور ذلك العمل مرة ثانية وحفظ ذلك الهيكل من الانهيار والدمار ، وهكذا كلما ذهب جزء خلفه آخر خلع ولبس ، وكلما ذهب اشتد ظهور الحياة وتكاثرت مزاولة الأعمال الخارجية ازداد تلف المادة وتعويضها وتجديدها ، وهذا التلف الدائم لا يزال يعتوره التعويض المتصل من المادة الحديثة الداخلة في الدم والماء والغذاء ، ولو فقد الانسان واحدا منها ولو بمدة قصيرة هلك وفقد حياته.

وهذا العمل التجديدي عمل باطني سري لا يظهر في الخارج إلا بعد دقة في الفكر وتعمق في النظر ، ولكن عوامل الإتلاف ظاهرة للعيان يقال عنها أنها ظواهر الحياة ، وما هي في الحقيقة الا عوامل الموت لأنها لا تتم إلا باتلاف اجزاء انسجتنا البدنية وأليافنا العضوية ، فنحن في كل ساعة نموت ونحيا ونقبر وننشر حتى تأتينا الموتة الكبرى ونحيا الحياة الأخرى.

وعليه فاننا في وسط تنازع هذين العاملين : عامل الاتلاف والتعويض يفني جسمنا ويتجدد في مدار الحياة عدة مرات ، بمعنى أن جسمنا الذي نعيش به من بدء ولادتنا الى منتهى أجلنا في هذه الحياة تفنى جميع اجزائه في كل برهة وتتحصل أجزاء يتقوم بها هذا الهيكل وليس فيها جزء من الاجزاء السابقة ، ولا يمكن تقدير هذه البرهة على وجه التحقيق يعني في أي مقدار به تتلاشى تلك الأجزاء جميعا وتجدد غيرها بموضعها.

والمنسوب الى العالم الفسيولوجي (مولنيت) أن مدة بقائها ثلاثين يوما ثم تفنى جميعا ، أما المنقول عن (فلورنس) بأن المدة هي سبع سنين ، وقد أجرى العلماء المحققون في هذه الأعصار الامتحانات الدقيقة في بعض الحيوانات كالأرانب وغيرها فأثبت لهم البحث والتشريح تجدد كل انسجتها بل وحتى عظامها ذرة ذرة في مدة معينة.

واذا ثبت هذا التغيير ثبت وجود النفس المجردة بسهولة من قوة التذكر والتفكر ، فلو كانت قوة التذكر والتفكر مادية قائمة في خلايا الدماغ وأنها

٦٦

الجسد او جزء من الجسد لكان اللازم أن تضطر في كل سبع سنين الى تجديد كل ما علمنا وتعلمناه سابقا.

والوجدان عندنا أن تجدد المادة المتواصل لم يندثر بسببه التفكر والتذكر منا ولم يحدث أدنى تغيير في ذاكرتنا ولم تخب أي شعلة من علومنا ومعارفنا ، وهو أقوى دليل على وجود قوة فينا مدركة شاعرة مجردة عن المادة باقية بذاتها مستقلة في وجودها بقيمومية مبدئها محتاجة الى آلاتها المادة في تصرفها متحدة معها في أدنى مراتبها ، وان دثور المادة لا يستوجب دثورها ولا دثور شيء من كمالاتها وملكاتها ولا من مدركاتها ولا من معلوماتها ، كيف لا ولا تزال تخطر على بالنا في وقت الهرم امور وقعت لنا أيام الشباب بل أيام الصبا وما قبلها.

وكيفما كان فان من الوضوح بمكان أن كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا وعدم تغيرها مع تغير وتبدل جميع ذرات أجسامنا.

شبهة الآكل والمأكول في معاد الجسد

ان كسرة الخبز التي نأكلها وقطعة اللحم التي نمضغها وتدخل في جوفنا تعتور عليها عدة صور تخلع صورة وتلبس أخرى من الكيموس إلى أن تصير دما ثم توزعه حكمة الله فتجعل من ذلك القدم لحما وعظما وشحما وعصبا وكبدا وقلبا وطحالا الى آخر ما يحتوي ، ويتكون منه هذا الهيكل الانساني والجسد الحيواني فكيف نشأ من هذه الكسرة سبعون نوعا من الأنواع المختلفة والاجناس المتباينة فأين العظم من اللحم واين الشحم من الغاز واين الغاز من المخ واين المخ من الشعر وهكذا وهلم جرا؟ كل هذا تكون من لقمة الخبز.

كل هذه الانواع مندمجة مطوية أم انقلبت وتحولت من صورة الى صورة ومن حقيقة إلى أخرى ، ومهما قيل فيها فان تلك اللقمة التي تدخل في جوفنا وتنصرف بها المشيئة تلك التصاريف المتنوعة لم تدخل هي في كياننا ولم تصر جزءا من أجسامنا ، بل تطورت عدة اطوار وتعاودتها صورة بعد صورة ودخلت في

٦٧

معامل ميكانيكية وتحليلات كيماوية إلى أن بلغت هذه المرحلة ونزلت من أجسامنا بتلك المنزلة.

وان ما يرد من الاعتراض على امكان بعث الانسان إلى الحياة روحا وجسدا واستحالة معاده على هيكله السابق بسبب ما يتداخل من كل جسم في جسم آخر مما يتعذر به معاقبة المذنب وقد شاركت في جسده أجزاء من جسد الصالح أو مكافأة الصالح جسدا وقد شاركت في تكوين جسده اجزاء من جسد الطالح.

فان مثل هذا الاعتراض يرده الشيخ الأعظم الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء النجفي (ره) بما مر من التفاعلات والتحليلات ويضرب المثل بقوله : فلو أن مؤمنا أكل كل لحم في بدن الكافر او أكل الكافر كل لحم في بدن المؤمن فلا لحم الكافر صار جزءا من بدن المؤمن ولا لحم المؤمن دخل في بدن الكافر بل اللحم لما دخل في الفم وطحنه الانسان وهو الهضم الأول زالت الصورة اللحمية منه وارتحلت الى رب نوعها (حافظ الصور) واكتسب المادة صورة أخرى وهكذا صورة بعد صورة.

ومن القواعد المسلمة عند الحكماء بل عند كل ذى لب (أن الشيء بصورته لا بمادته) فأين اذن تقع شبهة الآكل والمأكول.

ويزيد هذا وضوحا أن جميع المركبات العنصرية يطرد فيها ذلك الناموس العام ناموس التحول والتبدل والدثور والتجدد. انظر حبة العنب مثلا فهل هي إلا ماء وسكر وهل فيها شيء من الخمر أو الخل أو الكحول ولكنها بالاختمار تصير خلا ثم خمرا ثم غازا او بخارا وهكذا. أترى أن العنب صار جزءا من الخل والخل صار جزءا من الخمر ، إذن فمن اين تجيء شبهة الآكل والمأكول (١).

وعلى المسلم أن يؤمن بالمعاد بالدليل العقلي بصفته ركنا ، ولا يجوز تقبله

__________________

(١) الفردوس الأعلى.

٦٨

من قبل المدركين اعتباطا وبطريق التقليد. أما كيف يعود الميت ومتى يعود فان المسلم غير مكلف بمعرفته.

وان عدم جواز التقليد في اصول الدين يراد منه عدم كفاية الظن ووجوب لزوم القطع واليقين ، لا لزوم اقامة الحجج والبراهين وانما اقامة هذه الحجج لنفسه بحيث تقنع عقلا بصحته.

ويتلخص الإيمان بالمعاد في أن يعتقد المسلم والشيعي الامامي الاثنا عشري أن الانسان عائد إلى الحياة يوم يريد الله ذلك وان الذي يعود يوم القيامة يعود بنفسه المتعلقة به ، فليس المعاد للحساب عما فعل هو جسم الإنسان فقط كما يرى البعض ولا مثيله ولا روحه كما يرى البعض الآخر وإنما يعود بروحه وجسمه.

قال العلامة في شرح الياقوت : يتفق المسلمون على اعادة الأجساد خلافا للفلاسفة.

وقال المحقق الدواني في شرح العقائد العضدية : والمعاد أي الجسماني فانه المتبادر عن اطلاق الشرع ، إذ هو الذي يجب الاعتقاد به ويكفر من انكره حتى باجماع أهل الملل الثلاث وشهادة نصوص القرآن في المواضع المتعددة بحيث لا يقبل التأويل كقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) الى قوله (بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

قال المفسرون نزلت هذه الآية في أبي بن خلف ، خاصم رسول الله (ص) وأتاه بعظم قد رمّ وبلى ففته بيده وقال : يا محمد أترى الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال : نعم ويبعثك ويدخلك النار.

وهذا مما يقلع عرق التأويل بالكلية ، ولذلك قال الامام الرازي أنه لا يمكن الجمع بين الايمان بما جاء به النبي (ص) وبين انكار الحشر الجسماني.

قلت : ولا الجمع بين القول بقدم العالم على ما يقوله الفلاسفة وبين الحشر الجسماني ، لأن النفوس الناطقة على هذا التقدير غير متناهية ، فيستدعى حشرها

٦٩

جميعا ابدانا غير متناهية وأمكنة غير متناهية ، وقد ثبت تناهي الأبعاد بالبرهان انتهى واما ما نص على المعاد من الآيات القرآنية فهو كثير جدا ، فقد اكثر ذكر المعاد في القرآن الكريم والفرقان بطرق عديدة وسبل سديدة لصعوبته على الأفهام وكثرة ما فيه من الشبه والأوهام ، فتارة حكم تعالى بأنه كائن لا محالة من دون ذكر دليل ، بل انه يجب الاذعان به والتصديق من دون طلب دليل لذلك لا سيما بالنسبة إلى العوام والضعفاء كما في قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وقوله تعالى (أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وقوله تعالى (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).

وتارة ذكره الله مشفوعا بالقسم لكثرة الشبه والاشتباه فيه فقال تعالى في سورة النحل (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وقال تعالى في سورة التغابن (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ).

وتارة اثبت الله المعاد مستدلا بكونه قادرا على كل شيء وعلى امور تشبه الحشر والنشر ، فلا يستبعد قدرته تعالى على الحشر والنشر كقوله تعالى في الواقعة ردا على منكري المعاد (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

ووجه الاستدلال بها على ما في التفسير الكبير أن المني يحصل من فضلة الهضم الرابع ، وهو كالظل المنبث في اطراف أناق الأعضاء ، ولهذا تشترك الأعضاء في الالتذاذ بالوقاع ويجب غسلها كلها من الجنابة لحصول الانحلال عنها كلها ، ثم إن الله قد سلط قوة الشهوة على البنية حتى أنها تجمع تلك الأجزاء الظلية المتفرقة في أوعية المني.

والحاصل ان تلك الأجزاء كانت مفترقة جدا أولا في اطراف العالم ، ثم أنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان منبثة فى اطراف بدنه ثم جمعها بقوة المولدة في أوعية المني ، ثم أخرجها ماء دافقا الى قرار الرحم

٧٠

فاذا كانت هذه الأجزاء متفرقة فجمعها وكون منها ذلك الشخص فاذا تفرقت بالموت مرة أخرى فكيف يمتنع عليه جمعها مرة أخرى؟ فهذا تقرير هذه الحجة في هذا المنهج.

ومن هذا الطريق قوله تعالى في سورة الحج (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) الى قوله تعالى (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقال تعالى (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) وقال تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ* إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ).

وتارة بين تعالى قدرته على المعاد بذكره مرتبا على ذكر المبدأ ، اشارة إلى ان القادر على الايجاد قادر على الاعادة ، كما قال تعالى في سورة البقرة : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وقال تعالى في سورة الاسرى (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً* قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقال تعالى في سورة الروم (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) وقال تعالى في سورة يس (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ).

وروى الصدوق بسند صحيح عن الصادق (ع) قال : إذا أراد الله أن يبعث الخلق أمطر السماء على الأرض أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال ونبتت اللحوم.

وعن الامام زين العابدين (ع) قال : عجبا كل العجب لمن انكر الموت وهو يرى من يموت كل يوم وليلة ، والعجب كل العجب لمن انكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى.

٧١

الإمامة

والامامة هي الأصل الرابع في معتقدات الشيعة الامامية الاثنا عشرية ، وهى أصل الخلاف بين الشيعة وسائر الطوائف الاسلامية.

تعريف الإمامة

تعتقد الشيعة الامامية الاثنا عشرية أن الامامة رئاسة في الدين والدنيا ومنصب إلهي يختاره الله بسابق علمه ويأمر النبي (ص) بأن يدل الأمة عليه ويأمر هم باتباعه والامام حافظ الدين وتعاليمه من التغيير والتبديل والتحريف ، وحيث ان الاسلام دين عام خالد كلف به جميع عناصر البشر وتعاليمه فطرية أبدية أراد الله بقاءه الى آخر الدنيا ، فلا بد أن ينصب الله إماما لحفظه في كل عصر وزمان لكي لا يتوجه نقض الغرض المستحيل على الحكيم تعالى ، ولأجله أمر الله نبيه بأن ينص على علي (ع) بقوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ) إلى آخرها كما ستجيء ان شاء الله مفصلا.

ثم احد عشر إماما من ولد علي ظاهرا مشهورا أو غائبا مستورا ، وهذه سنة الله في جميع الأزمان في جميع الأنبياء من لدن آدم الى الخاتم صلى الله عليهم أجمعين.

تعريف آخر للامامة

ذكر في موسوعة العتبات المقدسة أن الشيعة الامامية تعتقد بأن الامامة منصب يعهد به النبي الى من يخلفه ليكون مرجعا من بعده يرجع إليه الناس في تفهم الشريعة الاسلامية وحكمتها وتوضيح رسالة الاسلام وفقهه ومغازيه ، ولكل امام أن يعهد بالامامة الى من يليه ، وهي وظائف دينية لا تتم بالانتخاب والاختيار من قبل الناس واجماعهم وانما هي تعاليم مقدسة يتلقاها امام عن امام عن النبي الذي (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) بنص القرآن ، ولا يقول

٧٢

شيئا ولا يعمل شيئا إلا ما يتفق مع رضا الله واشاءته فهي منصوص عليها من الله تعالى.

وإن البحث في الامامة كالبحث في النبوة عند الشيعة لا يجوز فيه تقليد الأجداد والآباء والزعماء ، وانما يجب تمحيص الأمر على ضوء القواعد العقلية ليتم الايمان بأن الامام هو خليفة النبي ونائبه العام المتبع في حفظ نواميس الشريعة واقامة كيان الملة والحافظ لقوانينها دينية كانت أو دنيوية ، وقد ذهب المسلمون في الخلافة عن النبي بعد وفاته مذاهب شتى وسلكوا مسالك متعددة أهمها من يرى أن الخلافة تجب عقلا على الله تعالى كالنبوة.

ومنهم من يرى أنها تجب عقلا على الناس ومنهم من يرى وجوبها عليهم سمعا

ومنهم من لا يرى وجوبها اثباتا لا في العقل ولا في السمع ، ومنهم يرى.

غير ذلك.

ولكن الأهم من تلك المذاهب مذهبان ما زالا ولا يزالان الى أن يشاء الله ما يشاء.

(المذهب الأول) من أوجبها عقلا على الله تبارك وتعالى ، وبهذا تؤمن الشيعة الامامية بأن الامامة تأتي بنص من الله والنبي (ص) ، وهو حين يختار خليفته فانما يصدع بأمر الله ويمتثل في هذا الاختيار مشيئته ليكون بعد النبي هاديا ومرشدا بما أمر الله ونهى عنه ، وكما تجب على المسلمين طاعة رسول الله وتحرم معصيته تجب طاعة الامام وتحرم معصيته لقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

(المذهب الثاني) من اوجبها على الناس ، فانه يجب عنده أن يختار الناس من أنفسهم إماما لهم ينصبونه عليهم ينشر فيهم العدل والانصاف ويدفع عنهم الضرر والخلاف ، ولا يلزم فيه الاتصاف بشيء غير وقوع الاختيار عليه (كما في الانسان وأول الواجبات ص ١٣٠).

٧٣

والحق الواقع هو المذهب الأول ، ويدل عليه وجوه من الدليل العقلي والنقلي :

(الأول) أن اللطف واجب على الله تعالى ، ولا ريب أن وجود الامام في كل زمان وعصر لطف من الله تعالى بعبده ، لأنه بوجوده فيهم يجمع شملهم ويتصل حبلهم وينصف الضعيف من القوي والفقير من الغنى ويرتدع الجاهل ويتيقظ العاقل ، فاذا عدم بطل الشرع ، واكثر أحكام الدين وأركان الاسلام كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء ونحو ذلك ، فتنتفى الفائدة المقصودة منها.

(الثاني) أنه قد دل العقل والنقل على انه يجب على الله أن يفعل بعباده ما هو الأصلح لهم ، ولا ريب أنه لا يتم انتظام أمر المعاد والمعاش والدين والدنيا إلا بنصب رئيس ومعلم يرشد الناس إلى الحق عند اختلافهم وجهلهم ويردهم إليه عند اختصامهم ومجادلاتهم (والمراد من الوجوب درك العقل لا أنه حاكم على الله تعالى).

(الثالث) أن العقل السليم والفهم المستقيم يحيل على العزيز الحكيم والرسول الكريم ـ مع كونه مبعوثا إلى كافة الأنام وشريعته باقية إلى يوم القيامة ـ أن يهمل امته مع نهاية رأفته وغاية شفقته بهم وعليهم ، ويترك بينهم كتابا في غاية الاجمال ونهاية الاشكال له وجوه عديدة ومحامل يحمله كل منهم على هواه ورأيه ، وأحاديث كذلك لم يظهر لهم منها إلا القليل ، وفيها ـ أي في الأحاديث ـ مع ذلك المكذوب والمفترى والمحرف ، ولا يعين لهذا الأمر العظيم رئيسا يعول في المشكلات عليه ويركن في سائر الأمور إليه ، إن هذا مما يحيله العقل على رب العالمين وعلى سيد المرسلين ، وكيف يوجب الله تعالى على الانسان الوصية والايصاء عند الموت لئلا يموت ميتة جاهلية ولئلا يدع اطفاله ومتروكاته بغير قيم وولي وحافظ ولا يوجب على النبي الايصاء والوصية مع أن رأفة الله بخلقه ورأفة

٧٤

النبي (ص) بأمته لا نسبة لهما بذلك.

(الرابع) أنه قد اعترف جمهور المخالفين بجريان عادة الله تعالى من آدم إلى خاتم الأنبياء أنه لم يقبض نبيا حتى عين له خليفة ووصيا ، وجرت عادة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه متى سافر عين خليفة فى المدينة ، وعلى هذا جرت طريقة الرؤساء والولاة ، فكيف تخلفت هذه السنة التى لن تجد لها تبديلا وهذه العادة التى لم يكن عنها تحويلا بالنسبة الى خاتم الأنبياء المرسل الى هذه الأمة المرحومة بأن يهملها ويتركها سدى؟؟ هذا كله مع انقطاع شرائع الأنبياء والرسل وبقاء التكليف في الشريعة الاسلامية الى يوم القيامة.

(الخامس) إن مرتبة الامامة كالنبوة كما عرفت ، فكما لا يجوز للخلق تعيين نبي فكذا لا يجوز لهم تعيين إمام. وأيضا العقول قاصرة والافهام حاسرة عن معرفة من يصلح لهذا المنصب العظيم والأمر الجسيم ، والوجدان يغني عن البيان ، فكم رأينا أهل العقل والتدبير والحل والعقد اتفقوا على تعيين وال في بلد أو قرية او حاكم ثم تبين لهم خطأهم في ذلك فغيروه وبدلوه ، فكيف تفى العقول الناقصة بتعيين رئيس عام على جميع الخلائق في امور الدين والدنيا وأيضا العصمة شرط في الامام كما تقدم ويأتي ، وهي من الأمور الباطنية التي لا يطلع عليها الا العالم بما في الضمائر والمطلع على ما في السرائر ، وقد تقدم جملة من ذلك في مشتركات النبوة والإمامة.

واما النقل فلوجوه :

(الأول) قوله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ولا ريب أن نصب الإمام من اعظم الدين وأهم مصالح المسلمين ، فيجب أن يكون واقعا قبل نزول الآية ، مع استفاضة الأخبار من طرق العامة والخاصة أن هذه الآية نزلت بعد نصب النبي (ص) عليا للامامة في غدير خم.

(الثانى) قوله تعالى (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ

٧٥

اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث دلت على أن لا اختيار للعباد في التصرف في ذلك ، وأن المختار لأمور الدين والدنيا هو الله تعالى دون خلقه ، فيجب أن يكون هو المختار المعين للامام كما في النبي ، مع أنه قد ذكر جملة من مفسريهم انها نزلت في الرد على من قال لم ما أرسل الله غير هذا الرسول.

(الثالث) الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة الدالة على أن الله تعالى بين كل شيء وكلم في كتابه كقوله تعالى (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله تعالى (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وقوله تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) وقوله تعالى (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). ومن المعلوم بالوجدان فضلا عن البرهان ان عقول الخلق لا تفي بذلك فلا بد أن يكون الله تعالى قد جعل احدا يعلم جميع ذلك ويرجع إليه الخلق هنالك. وأيضا ثبت أن جميع الأشياء مبينة في القرآن فكيف يجوز اهمال الإمامة التي هي اعظمها وأهمها؟!

(الرابع) قوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) حيث دلت على وجوب طاعة أولي الأمر كاطاعة الرسول ، ولهذا لم يفصل بينهما بالفعل لكمال الاتحاد والمجانسة ، بخلاف اطاعة الله واطاعة الرسول ، إذ لما كان بين الخالق والمخلوق كمال المباينة فصل بالفعل ، ومن المعلوم أن الله سبحانه لا يأمر المؤمنين ـ لا سيما الصلحاء العلماء الفضلاء ـ باطاعة كل ذي امر وحكم ، لأن فيهم الفساق والظلمة ومن يأمر بمعصية الله تعالى ، فيجب أن يكون أولو الأمر الذين امر الله بطاعتهم مثل النبي (ص) في عدم صدور الخطأ والنسيان والكذب والمعاصي ، ومثل هذا لا يكون منصوبا إلا من قبل الله تعالى العالم بالسرائر كما في النبي (ص).

(الخامس) قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) فقد روى العامة عن ابن عباس قال : كنا نقرأ هذه الآية على عهد رسول الله (ص) «بلغ ما أنزل أليك من ربك في علي» وروى

٧٦

غيره أنها نزلت في علي عليه‌السلام (١).

(السادس) قوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) الى قوله تعالى (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) فمن لم يهمله في تلك الحالات كيف يهمله بلا مربي ومعلم ومرشد. وقوله تعالى (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فحينئذ لا بدّ أن يكون فيهما ما يرفع جميع النزاعات ، ومنها النزاع في أمر الخلافة ، فينبغي أن يكون المرجع إليهما في ذلك.

(السابع) قوله تعالى (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فاذا لم يكن للنبي اختيار امر من الأمور فغيره أولى.

(الثامن) قوله تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ففيها دلالة صريحة على وجود الامام العالم بجميع الأشياء. الى غير ذلك من الآيات والروايات التي يأتي ذكرها ان شاء الله.

القول في شرائط الامام

وقد تقدم ذكرها في المشتركات ولنذكرها هنا على سبيل الاختصار ، وهي امور :

الأول : العصمة

العصمة معتبرة في الإمام وقد تقدم ذكرها ، لأنه حافظ الشرع قائم به فحاله كحال النبي (ص). ولأن الحاجة إلى الامام انما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم ورفع الفساد وحسم مادة الفتن ، وإن الإمام يمنع القاهرين من التعدى ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحارم ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفساق ويعزر من يستحق التعزير ، فلو جازت عليه المعصية او صدرت عنه لا نتفت هذه الفوائد. وأيضا العلة المقتضية لوجوب نصبه جواز الخطأ على المكلف

__________________

(١) انظر التفاصيل في الدر المنثور للسيوطي ج ٣ ص ٣٩٨.

٧٧

فلو جاز الخطأ على الامام لوجب افتقاره الى امام آخر ليكون لطفا له وللأمة أيضا فيتسلسل وللادلة المتقدمة.

الشرط الثاني : أن يكون أفضل من جميع الأمة

وبيان افضلية الامام من جميع امته من كل جهة أما عقلا فلقبح تقدم المفضول على الفاضل ورفع مرتبة المفضول وخفض مرتبة الفاضل.

وأما نقلا فلقوله تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ولقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) ولقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) واهل الذكر أهل العلم والقرآن ، ولقوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) الآية ، وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) والتقريب ما تقدم في المشتركات (١).

__________________

(١) ذكر في موسوعة العتبات المقدسة ص ٢٨٣ : ويعتقد الشيعة أن مجموعة من الصفات يجب أن تتوفر في الامام لكي يحق له أن يكون إماما ، فيجب أن يكون أفضل الناس في صفات الانسانية من الصدق والعدل والامانة والعفة وكرم الخلق ، ثم يجب أن يكون أفضل الناس من حيث العقل والعلم والحكمة وتكون قوة الإلهام عند الإمام والتغلغل في أعماق الحقائق ومعرفتها ، وهي التي تسمى بالقوة القدسية يجب أن تكون في غاية السمو. فلقد ثبت في الأبحاث النفسية وفي علم النفس أن كل انسان له ساعة او ساعات في حياته قد يعلم فيها بعض الأشياء من طريق الحدس الذي هو فرع من الإلهام بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوة على ذلك ، وهذه القوة تختلف شدة وضعفا وزيادة ونقصا في البشر باختلاف أفرادهم ، فيطفر ذهن الانسان في تلك الساعة الى المعرفة من دون أن يحتاج الى التفكير وترتيب المقدمات والبراهين وتلقين المعلمين ، ويجد كل انسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته ، فيجوز أن يبلغ من قوته الإلهامية أعلى الدرجات واكملها ، وهذا ما قرره الفلاسفة المتقدمون والمتأخرون.

٧٨

(الثالث) أن يكون منصوصا عليه ، لأن العصمة من الأمور الباطنية كما تقدم ، ويشترط أيضا كونه هاشميا.

وقد عد سلطان المحققين الخواجة نصير الدين الطوسي شرائط الإمام الى ثمانية :

(الأول) العصمة لما تقدم.

(الثاني) العلم بجميع ما تحتاج إليه الامة من امور الدين والدنيا ، لأن الغرض منه لا يحصل بدون ذلك ، والشاهد عليه نهج البلاغة.

(الثالث) كونه أشجع الأمة لدفع الفتن واستئصال أهل الباطل ونصرة الحق ، لأن فرار الرئيس يورث ضررا جسيما وو هنا عظيما بخلاف الرعية.

ونعم ما قاله الفيلسوف الشيخ محمد حسين الأصفهاني «ره» في ارجوزته في مقام شجاعة علي (ع) :

سل خندقا وخيبرا وبدرا

فانها بما أقول ادرى

سل أحدا وفيه بالنص الجلى

نادى الأمين لا فتى إلا علي

وبطشه هو العذاب الأكبر

وكادت الأرض بها تدمر

 (الرابع) أن يكون أفضل من جميع رعاياه في جميع الصفات الكمالية كالشجاعة والسخاوة والمروة والكرم والعلم وسائر الصفات لئلا يلزم تقديم المفضول على الفاضل

(الخامس) أن يكون مبرءا من العيوب الموجبة لنفرة الخلق في الخلق والخلق كالعمى والجذام والبرص والبخل والحرص وسوء الخلق ، والأصل كدناءة النسب والتولد من الزنا والصفات الدنية لمنافاتها اللطف.

(السادس) أن يكون ازهد الناس وأطوعهم لله واقربهم منه (وزهد علي صلوات الله عليه كالشمس في رابعة النار).

(السابع) أن تظهر منه المعاجز التي يعجز عنها غيره لتكون دليلا على إمامته.

(الثامن) أن تكون إمامته عامة غير منحصرة فيه لئلا يظهر الفساد ، وقد

٧٩

تقدم تفصيل هذه الأمور في المشتركات.

لمعرفة الامام طرق ثلاثة

(الأول) النص من النبي (ص) على الإمام بعده ، كما نص نبينا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله على خلافة علي في موارد عديدة سيأتى تفصيلها. ونص السابق على اللاحق كما سيظهر في الأئمة الاثنى عشر ، وهذا الطريق أسهلها واظهرها وانسب بلطف الله بعباده.

(الثاني) المعجز المقرون بدعوى الامامة ، ومعجزات علي (ع) في مواطن عديدة مشهورة في الآفاق.

(الثالث) افضليته من جميع الأمة ، وقد تقدم تفصيل ذلك.

القول في إمامة علي صلوات الله عليه

ذهب الامامية رضوان الله عليهم الى أن الإمام بعد رسول الله (ص) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، ومن بعده اولاده الطاهرون الى القائم المهدي. ولهم على ذلك أدلة عقلية ونقلية يحتاج استقصاؤها الى كتاب مفرد كبير الحجم ، وقد الف علماؤنا المتقدمون والمتأخرون رضوان الله عليهم في ذلك كتبا مبسوطة مشتملة على أدلة عقلية ونقلية ، وأنهى العلامة الحلي «ره» تلك الأدلة في كتابه الألفين إلى ألفي دليل ألف من العقل وألف من النقل ، واقتصروا في النقل على ما رواه جمهور المخالفين في كتبهم وصحاحهم دون ما تفرد بنقله الامامية ، ونحن نذكر مما ذكروه رضوان الله عليهم ونقلوه من كتبهم المعتمدة جملة وافية.

الأدلة العقلية والنقلية الدالة على إمامة امير المؤمنين (ع)

ذكر العلامة السيد عبد الله شبر في حق اليقين وجوها من الأدلة العقلية والنقلية :

٨٠