مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

والآية كما ترونها نصّ في إمامة علي (ع) بعد النبي (ص) ، وذلك أنّ المراد من قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) نفس علي (ع) بلا شك ، على ما تقدم نقله عن أكابر مفسّري أهل السنّة وحفّاظهم ، ولما كان الشخص لا يدعو نفسه حقيقة ، كما لا يأمرها ، فوجب أن يكون المدعو غيره ، وقد ثبت بإجماع أهل القبلة ، حتى الخوارج ، أنّ ذلك الغير هو علي بن أبي طالب (ع) ومن حيث أنّه لا يمكن أن تكون هذه النفس هي عين تلك النفس لأنّها ليست هي بل هي غيرها ، وجب أن يكون أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وبتعبير أوضح يعني أنّ نفس علي (ع) مثل نفس النبي (ص) ، وذلك يقتضي المشاركة والمساواة للنبي (ص) في جميع ما هو له (ص) من الصفات ، ولما ثبت بالدلائل القطعية أنّ محمدا (ص) كان نبيّا وكان أفضل من علي (ع) تركنا العمل بعموم المنزلة بالنسبة إليه (ص) فيهما خاصّة ويبقى ما عدا ذلك معمولا به ، ومن ذلك ما ثبت بإجماع المسلمين إنّ محمد (ص) كان أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين (ع) فوجب أن يكون علي (ع) أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين إلّا رسول الله محمد بن عبد الله (ص) ، نزولا على حكم عموم المنزلة في منطوق الآية.

كما أنّ في الآية نصوصا على مطلوبنا من وجوه :

الأول : إنّ النبي (ص) كان معصوما ومثله علي (ع) يكون معصوما والمعصوم أتقى وأحقّ بإمامة الأمّة من غيره لقوله تعالى فيما تقدّم (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

الثاني : إنّ النبي (ص) كان واجب الطاعة على الخلفاء الثلاثة وغيرهم ، فكذلك يكون علي (ع) واجب الطاعة عليهم وعلى غيرهم من الأمّة.

الثالث : إنّ النبي (ص) كان أفضل من جميع الصحابة بما فيهم

٨١

الخلفاء الثلاثة (رض) ومثله علي أفضل منهم ، والأفضل أحقّ بالإمامة بل لا تصحّ لغيره.

الرابع : إنّ النبي (ص) كان إماما ، وهاديا للأمّة ، بما فيهم الخلفاء الثلاثة (رض) ، ومثله علي (ع) يكون إماما ، وهاديا لهم جميعا ويؤيّد هذا ويؤكّده الحديث المقبول عند المؤالف والمخالف الذي أخرجه الإمام الرازي في (تفسيره الكبير) ص ٤٧٢ من جزئه الثاني كغيره من أهل السنن عند أهل السنّة عن النبي (ص) أنّه قال : «من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحا في طاعته ، وإبراهيم في خلّته ، وموسى في هيبته ، وعيسى في صفوته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب» فالحديث نصّ صريح في أنّه قد اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم (ع) ، وذلك يدلّ على أنّ عليّا (ع) أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين إلّا محمدا (ص).

ولكن الإمام الرازي حاول الردّ على هذا التقرير فقال : (والجواب أنّه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أنّ محمدا (ص) أفضل من علي (ع) فكذلك انعقد الإجماع بينهم على أنّ النبي (ص) أفضل ممّن ليس بنبي ، وأجمعوا على أنّ عليّا (ع) ما كان نبيّا فيلزم القطع بأنّ ظاهر الآية كما أنّه مخصوص في حقّ محمد (ص) فكذلك مخصوص في حقّ الأنبياء (ع)) انتهى كلام الرازي.

وأنتم ترون أنّ الرجل مع ما شاع عنه وذاع من تشكيكه في الأمور البديهية ، لم يناقش في الإجماع الذي قام على أنّ نزول الآية في أولئك الخمسة الأطهار (ع) ، ولم يناقش في أنّ المراد ب (أنفسنا) نفس علي (ع) ، ولم يناقش الشيعة في أفضلية علي (ع) من جميع الصحابة ، ولم يناقش في صحّة الحديث بين الفريقين ، وإنّما ناقش في دعوى تفضيل علي (ع) على سائر الأنبياء (ع) بما ادّعاه من انعقاد الإجماع على أنّ النبي (ص) أفضل ممّن ليس بنبي ، ولكن كان على الإمام الرازي أن

٨٢

لا يغفل عن نقل ذلك الإجماع لنا (على أنّ النبي أفضل ممّن ليس بنبي على الإطلاق بأسانيد تفيد العلم كما هو شريطة حجّية نقل الإجماع عند علماء أصول الفقه عند الفريقين ، وأنّى له ذلك والشيعة جميعا لا يعرفون مثل هذا الإجماع بل يرون بطلانه على الإطلاق بنصّ الآية ودليل الرواية.

قولهم إنّ البخاري لم يذكر آية المباهلة في جامعه

قال : يقول خصومكم إنّ البخاري لم يذكر حديث المباهلة في جامعه فلو كان صحيحا لأخرجه فيه ، وهذا ما يوجب الشكّ في وروده!.

قلت : ليس هذا بأول حديث لم يأت البخاري على ذكره في صحيحه وإن لم يذكره فقد ذكره مسلم في صحيحه ، وغيره ممّن حكم بصحّته على شرطه ، كالحاكم في (مستدركه) ، والذهبي (في تلخيصه) كما مرّ فهو حجّة عليه لثبوت صحّته على شرطه ، ثم إنّ ـ البخاري لم يستقص في جامعه جميع الأحاديث الصحيحة بإجماع أهل السنّة.

فالحديث الصحيح لا يضرّ بصحّته عدم إخراجه له خاصّة ، إذا كان صحيحا على شرطه ، كما في حديث المباهلة ، فلو كان كل حديث لم يذكره البخاري في جامعه ليس صحيحا ، وإن الصحيح ما ذكره في صحيحه ، لزم سقوط صحاح أهل السنّة عن آخرها ممّا لم يذكره في جامعه ، وفساد هذا لا يختلف فيه اثنان من أئمة أهل السنّة. نعم إنّما أضرّ البخاري نفسه بإعراضه عن الصحاح المحمدية الدالّة على إمامة علي (ع) بعد النبي (ص) ، فمثلا حديث الغدير الذي رواه ثلاثون صحابيا والذي كان نصّا جليّا على إمامته بعد النبي (ص) قد أهمله ،

٨٣

وحديث المؤاخاة بينه (ع) وبين رسول الله (ص) مع اشتهار صحّته بين الحفّاظ لم يذكره ، وحديث الطائر المشوي المشهور ، وبالصحّة مأثور ، قد أهمله إلى غير ما هنالك من الأحاديث الصحيحة الواردة في فضل الوصي وآل النبي (ص) قد أعرض عنها ولم يذكرها في صحيحه ، مع أنّها صحيحة على شرطه ، ولم يذكر في جامعه من أحاديث فضله ومناقبه (ع) إلّا القليل النزر.

٨٤

آية (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)

ومن الآيات التي تنصّ على إمامة علي (ع) بعد النبي (ص) قوله تعالى في سورة الرعد آية ٧ : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).

ويقول البغوي محيي السنّة عند أهل السنّة في تفسيره : لما نزل قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) وضع رسول الله (ص) يده على صدره وقال أنا المنذر ، وأومأ إلى منكب علي وقال : أنت الهاد ، بك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي).

فإذا كان مثل البغوي يقول جازما لما نزل قوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) من غير أن يذكر السند كان ذلك أدلّ دليل على صحّة الحديث عند الحفّاظ ، وأنّه لاشتهار صحّته لديهم لا يحتاج إلى ذكر سنده.

وقد أخرج الحديث غير البغوي جمع من مفسّري أعلام أهل السنّة وحفّاظهم.

فمنهم السيوطي في (الدر المنثور) ص ٤٥ من جزئه الرابع في تفسير الآية من تفسيره عن ابن عباس ، وأخرجه أيضا عن ابن مردويه عن ابن أبي حاتم وغيره من طريق علي (ع) ، وأخرجه عن ابن مردويه

٨٥

من طريق ابن عباس وحكم الحاكم بصحّة حديث علي (ع) وحكم المقدس في (المختارة) بصحّة حديث ابن عباس ويقول ابن حجر العسقلاني في كتابه (فتح الباري) ص ١٩١ من جزئه السابع : إنّ كتاب المختارة عند ابن تيمية أعلا صحّة من (مستدرك الحاكم).

وقال الإمام ابن تيمية في (منهاجه) ص ٤ من جزئه الرابع إنّ تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم و (المختارة) من الكتب المعتمدة ومثلها (تفسير البغوي).

ومنهم محمد إسحاق الفشاشيني في كتابه (الإسلام للصحيح) فإنّه حكى نزول الآية في علي (ع) عن ابن جرير في تفسيره كما في (روح البيان) ص ٢٣٠ من جزئه الثاني.

ويقول خاتمة الحفّاظ عند أهل السنّة ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) ص ١٩٢ من جزئه السابع منتقدا الإمام ابن تيمية في موضوع إخوة علي (ع) للنبي (ص) : (إنّ مرويات المختارة عنده (يعني ابن تيمية) معتمدة وممّا روى فيها حديث أخوّة علي (ع) للنبي (ص) ـ ثم قال ـ وقد صرّح بأنّ أحاديثها أصحّ وأقوى من أحاديث المستدرك).

ومنهم : الفخر الرازي في (تفسيره الكبير) ص ٢٣٠ من جزئه الثالث.

ومنهم : النيسابوري في تفسيره ص ٣٦٧ من جزئه الثاني.

ومنهم : الشيخ القندوزي في ص ٩٩ من (ينابيع المودة) من جزئه الأول.

ومنهم : ابن الصباغ المكي المالكي في ص ١٢٢ من كتابه (الفصول المهمّة).

٨٦

ومنهم : المتقي الهندي في ص ٣٤ من (منتخب كنز العمال) بهامش الجزء الخامس من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) وغير هؤلاء من مفسّري أهل السنّة وحفّاظهم.

وأنتم ترون الحديث نصّا صريحا في أحقيّة علي (ع) بالخلافة على الأمّة وذلك فإنّ انحصار مطلق الهداية بشخصه بعد النبي (ص) بقرينة (إنّما) يدلّ على كونه هاديا بعد النبي (ص) في سائر أوقاته فيكون الهادي من أمة محمد (ص) بعد عهد النبي (ص) محصورا فيه وتقدم غيره عليه مناف للحصر في الآية الدال على ثبوت الحكم للحصور ونفيه عن غيره ممّن تقدم عليه ، ولأنّ هادي القوم إمامهم بدليل قوله تعالى في سورة يونس آية ٣٥ : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى).

وخصوصية المورد لا يخصص عموم الحكم في الوارد عند العلماء جمعاء.

فإن قلتم : إنّ الحصر في الآية كما أنّه ينفي خلافة المتقدمين عليه كذلك ينفي إمامة الأئمة الأحد عشر عندكم ، فهي تضرّكم أكثر ممّا تضرنا.

فيقال لكم : لقد فات عليكم ولم تنتبهوا إلى أنّ إمامة الأئمة الأحد عشر عندنا مترتبة على إمامته (ع) وليست هي الأخرى متقدمة عليها لكي تنافيها وتنافي الحصر فيها.

* * *

٨٧
٨٨

آية الشاهد

ومن الآيات التي تنصّ على إمامة علي (ع) بعد النبي (ص) قوله تعالى في سورة هود (ع) آية ١٧ : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ).

فقد روى الجمهور ، ونقله عنهم ابن جرير في تفسيره ص ١٢ من جزئه الثاني عشر (إنّ الذي على بيّنة من ربّه رسول الله (ص) والشاهد الذي يتلوه هو علي بن أبي طالب) ، وقد أخرج الحديث جماعة من مفسّري أهل السنّة وأعلامهم.

فمنهم : السيوطي في (الدر المنثور) ص ٣٢٤ من جزئه الثالث عن ابن أبي حاتم وغيره من ثقات علمائهم.

ومنهم : الفخر الرازي في (تفسيره الكبير) ص ٦٨ من جزئه الخامس.

ومنهم : النيسابوري في تفسيره ص ٣١٧ من جزئه الثاني.

ومنهم : الثعلبي في تفسيره الكبير.

ومنهم : الحافظ أبو نعيم فقد أخرجه من ثلاثة طرق عن

٨٩

عبد الله بن عباس الأسدي والفلكي المفسّر عن مجاهد وعن عبد الله بن شداد وغيرهم من قدماء حفّاظ أهل السنّة.

ومنهم : ابن أبي الحديد المعتزلي في (شرح نهج البلاغة) ص ٢٣٦ من جزئه الثاني.

ويقول السيوطي في كتاب (الإتقان) ص ٢٢٥ من جزئه الثاني من النوع الثمانين : إنّ تفسير مجاهد هو المعتمد عند شيخ الحديث البخاري فلا يعتد بما يخالفه.

فالحديث كما ترونه نصّ في أنّ عليّا (ع) هو تالي النبي (ص) من غير فصل بينهما بتال آخر يعني ذلك أنّه هو الإمام الذي يلي الرسول (ص) دون غيره ممّن تقدم عليه.

ويكفينا من الآيات هذا المقدار لأنّا لو أردنا استقصاء جميع النصوص النبويّة والآيات القرآنية على خلافة علي (ع) بعد النبي (ص) لاحتجنا إلى كتب عديدة ولكن حسبنا هذا القدر فإنّ فيه عبرة لمن اعتبر.

٩٠

الإجماع محقّق فيما ذكرنا

قال : كيف يتّفق لكم ما ادّعيتم من الإجماع في سائر ما ذكرتم لعلي (ع) مع ما هو الظاهر المعلوم من خلاف الجمهور من أهل السنّة في ذلك ممّن يرون الخليفة بعد رسول الله (ص) أبا بكر ثم عمر ثم عثمان (رض) ثم عليّا (ع) وما يرونه من الدفع لتلك الآيات والأحاديث التي جئتم على ذكرها لا سيما الخوارج الذين هم ألد أعدائه وخصمائه؟.

قلت : كيف خفي عليكم الأمر وأنتم تعلمون أنه لا نعلم أحدا من الأمّة ، حتى الخوارج ، دفع إجماع المختلفين في الظاهر كما تقولون على تسليم ما أوردناه من الأحاديث النبويّة (ص) والآيات القرآنية التي نصّ فيها رسول الله (ص) على خلافة علي (ع) بعده (ص)؟ وكيف يتسنّى لهم أن ينكرونها أو يناقشوا في ورود ذلك عن النبي (ص) ، وهم أنفسهم قد أخرجوها في صحاحهم ، ونقلوها عن أسلافهم ، وتقبّلوها وأعملوا أفكارهم في استخراجها ، وتصحيحها ، إلّا أنّهم أوّلوها على غير وجوهها ، وحملوها على غير معانيها المطابقية لمنافاتها لما أحدثوه في السقيفة من اختيارهم غير علي (ع) للخلافة ، وأنتم تعلمون أنّ خلافهم للشيعة في حملها على غير معانيها لا يعدّ خلافا في صحة سندها

٩١

وتسليم روايتها؟ ألا ترون أنّ اختلاف المسلمين على تضارب مذاهبهم في تأويل القرآن وتفسيره لا يوجب إنكارهم لتنزيله ـ أمّا تأويلهم لها ، وحملها على غير معانيها الموضوعة لها بلا دليل يقرّه المنطق الصحيح ، فشيء لا يجوز في عرف الدين ، واللغة ، وإلّا لبطلت الشريعة وبطلت أحكامها وانسدّ باب التفهيم والتفهّم ، ولا يجوز قطعا أن يكون حادث السقيفة ناسخا لها فإنّ إجماعهم ، لو سلمناه جدلا ، وسلمنا حجّيته ، فهو مسبوق بتلك النصوص ومحجوج بها.

٩٢

ما زعمه بعض المعاصرين في الأحاديث

والغريب يا صاحبي من بعض المتعلمين (١) المعاصرين الذين تخرّجوا من الجامعات العصرية ، وحازوا على شهادات علمية عالية (كالدكتوراه مثلا) إذا رأوا حديثا فيه فضيلة لآل النبي (ص) (علي وفاطمة والحسن والحسين) (ع) قالوا : (هذا موضوع ، وذلك مزوّر ، وذاك مفتعل لا أصل له) ، وإن كان ذلك ممّا ترويه أئمة أهل السنّة في صحاحهم بل وإن كان ممّا اتّفق المسلمون جميعا على صحته ، وإذا رأوا آية نزلت فيهم ، وفسّرت بهم (ع) ، قالوا : هذا خلط وهراء فاقره الاحتقار والازدراء دون أن يشعر هؤلاء إلى أنّ ذلك ليس طعنا فيها بقدر ما هو طعن في أمانة حفّاظ الحديث عند أهل السنّة الذين أخرجوها بأسانيدها الصحيحة في صحاحهم ، ومسانيدهم ، وسجّلوها في تفاسيرهم ولم ينتبهوا إلى أنّهم قد أساءوا إليها بمقدار ما أساءوا

__________________

(١) فمن هؤلاء ، محسن عبد الناظر في كتابه الذي سمّاه (مسألة الإمامة والوضع في الحديث عند الفرق الإسلامية) المطبوع بمطبعة (الدار العربية للكتاب) سنة (١٩٨٣ م) فقد نسف الأحاديث النبوية نسفا وخاصّة ما ورد عن النبي (ص) في فضل علي وبنيه الطاهرين (ع) فحكم بوضعها من غير دليل يقرّه العقل والدين ، ولم يستند فيه إلى ركن وثيق اللهم إلّا الهوى وما تشتهي النفس وما تشاء ، وكذلك فعل غيره مثله ونعم الحكم الله والخصم رسول الله (ص)!.

٩٣

إليهم ، فهم لا يهمهم أن ينسبوا الكذب والدّجل إلى أئمة الحديث في نقلهم لها ما دام ذلك موجبا لصرف تلك الفضائل والمناقب عن الوصي وآل النبي (ص) ، وموافقا لفكرتهم.

ولكن مهما أوتي هؤلاء من ثقافة عصرية فهم يجهلون علم الدراية في طرق الحديث وإسناده ، ولا يميزون بين صحيحه وسقيمه ، ومتواتره وآحاده ، وليس من المعقول أن يكون أولئك العلماء من أئمة الحديث ونقّاده عند أهل السنّة الذين استفرغوا وسعهم ، وبذلوا جهدهم في سبيل تنقيب الأحاديث وتحقيقها وما من حديث إلّا خبروه ومخضوه ، وأحاطوا علما بصحّته وصدوره ، فاستخرجوا غثه من سمينه ، كلّهم جهلوا أنّ تلك الأحاديث موضوعة مفتعلة لا أصل لها إلّا هؤلاء ، ذلك ما لا يمكن أن يكون أبدا ولا يقول به العلماء.

٩٤

قول عبد الله الحضرمي في الأحاديث النبوية

وأغرب من ذلك يا صاحبي ما زعمه عبد الله الحضرمي في كتابه (ردّ على كتاب السقيفة) الذي ناقشناه بدقّة ، وأرجعنا كل طعنة من طعناته إلى نصابها ، يقول في ذلك الكتاب : (إنّ الأخبار والأحاديث التي استدلّ بها على إمامة علي (ع) واطمأن إليها صاحب السقيفة أنا لا أطمئن إليها وإن رواها فلان وخرّجها فلان ، فأنا لا أنظر إلى من روى وقال ، ولكن أنظر إلى ما قال ، وأحاسب كل راو ومؤرخ الحساب الدقيق).

وأنتم تعلمون كما يعلم العلماء إنّ في العلوم علما يقال له علم الدراية ، وفي ذلك العلم يبحث الباحث عن حال سند الحديث ومتنه ككونه صحيحا ، أو حسنا ، أو موثقا ، أو ضعيفا ، أو مرسلا ، أو مضمرا ، أو مرفوعا ، أو مقطوعا ، أو متواترا ، أو آحادا أو مشهورا ، أو مقبولا أو جيدا ، أو قويا ، أو ما شهد صحيح السند بصحّة ثبوت معناه.

وهناك علم آخر يقال له علم الرجال : وهو ما يبحث فيه عن رواة الأحاديث الواردة عن النبي (ص) من حيث الحالات التي لها دخل

٩٥

في قبول الحديث ، وردّه ، وتمييز رواته ، ككونه عدلا ، أو ثقة ، أو مجهول الحال ، وقد ألّف العلماء من الفريقين مؤلّفات عديدة في هذين العلمين تمكّنوا بواسطتهما أن يعرفوا سند الحديث ، ومتنه ، وصحّته ، وضعفه ، وتشخيص رواته ، وهذا هو الميزان المتّبع عند علماء المسلمين قديما وحديثا في قبول الحديث ، وعدم قبوله ، وهذه هي الطريقة المتّبعة عند جميع أهل الملل والنحل من غير المسلمين في الحكم على الأخبار ، بالصحّة أو الفساد.

أمّا الطريق الذي اختلقه الحضرمي في قبول الحديث وردّه فهو لا يتّفق كما تعلمون مع طريق المسلمين بوجه ، ولا غير المسلمين من سائر الأديان بحال ، لأنّه لا ينظر إلى من روى ولا يتعرّف عنه بحسب الموازين الموضوعة في هذا الشأن ، وإنّما ينظر إلى ما روى ، فإنّ وافق ذاك هواه وشيطانه ، كان مقبولا عنده وإن كان راويه إبليس ، بل وإن كان ما يرويه مخالفا للقوانين الشرعية ، والأحكام الإسلامية ، ومخالفا للقرآن ، ولكل ما جاء به النبي الأمين (ص) ممّا نقله إلينا الثقات العدول ، من المحقّقين ، ووصل إلينا متواترا أو مستفيضا وذلك لأنّه لا ميزان لديه في ضبطه ، ولا معيار يرجع إليه في ردّه أو قبوله إلّا هو نفسه ، وليس لهوى النفس طبعا ما يقيدها أو يربطها كما هو المفروض في تعبيره ، فهو يسير على هواه في ذلك كلّه إلى ما شاء له هواه.

وهذه الطريقة لم يبتكرها لحدّ اليوم غير الحضرمي لأنّا لم نجد في علماء أهلّ السنّة وحفّاظها من المتقدّمين منهم والمتأخرين بل ولا في جهّالها وحمقائها من لا يرجع إلى ذينك العلمين في قبول الأخبار أو عدم قبولها ، اجتهادا أو تقليدا ، والذي يشهد عليه يا صاحبي في هذا قوله : (إنّي ما فاتحت عالما أو جاهلا من أهل السنّة بهذا الشأن إلّا أنكر عليّ ذلك وساء ظنّه بعقيدتي واتّهمني في ديني).

٩٦

أجل يا حضرمي كيف لا يذكرون عليك ذلك ، ويسيئون الظنّ بعقيدتك ، ويتّهمونك في دينك ورأيك هذا في قبول الخبر وردّه لا يرتضيه عبّاد الأوثان ، فضلا عن ذوي الأديان ، لأنّه لا بدّ لهم من ميزان يرجعون إليه في دينهم وقبول أحكامهم.

فالحضرمي بهذا ونحوه كما ترون يريد أن يدسّ في الدين الإسلامي باسم الإسلام من العقائد اللادينية ما يأباه جميع الأديان السماوية وغير السماوية ، وكذلك بفعل التعصّب البغيض بصاحبه فيجرّه إلى ما لا تحمد عقباه والعاقبة الحساب.

فتحصل من كل ما ذكرناه أنّ الإجماع محقّق فيما أوردناه فلا سبيل إلى إنكاره.

قال : أجل لا سبيل إلى إنكاره ولكن لما ذا فعلوا ذلك ولم يتعبّدوا بظواهرها ، وأوّلوها على خلاف مداليلها ، وحملوها على غير معانيها المطابقية.

قلت : كيف يخفى عليكم ذلك وأنتم من عرفنا فضله ، وعلمه ، وسعة تفكيره ، فإنّهم إن لم يفعلوا ذلك لم يتسنّ لهم تصحيح ما أحدثوه في السقيفة من عقد البيعة لغير علي (ع) مع أنّه كان أحقّ بها وأهلها بحكم ما تقدّم من النصوص النبويّة لا سيما أنّكم قد عرفتم أنّ عقد ذلك ليس لهم ، ولا من حقّهم مطلقا ، لأنّه من عهد الله تعالى وأمره وحده ، ويرجع أمره إليه لا إلى أحد غيره مطلقا كما تقدم البحث عنه مستوفى.

* * *

٩٧
٩٨

الوجه في تقدم القوم على علي (ع)

قال : إذا كنتم تعتقدون بأنّ عليا (ع) هو الإمام بعد النبي (ص) دون غيره ، وأنّه أحقّ بها وأهلها ، فما الوجه في تقدّم الخلفاء (رض) عليه (ع) ، وادّعائهم الإمامة دونه ، وإظهارهم أنّهم (رض) أحقّ بها منه (ع)؟.

قلت : إنّ ذلك ليس ممّا أعتقده أنا وأريده ، وإنّما أراده الله تعالى ورسوله (ص) ، وجماعة المؤمنين أجمعين ، بحكم ما تقدّم من تنصيصهما عليه (ع) في الأحاديث الصحيحة المتواترة ، والآيات الكريمة المتّفق عليها بين الفريقين كما مرّ عليكم تفصيله.

وأمّا دفعهم له (ع) عن مقامه ، وأخذهم منه (ع) حقّه فليس بالأمر المستحيل ممّن ارتفعت عنهم العصمة ، وإن كانوا في ظاهر الأمر على أحسن الصفات وأعلاها.

قال : أجل ولكن لا يجوز ذلك على وجوه أصحاب النبي (ص) والمهاجرين الأوّلين والسابقين إلى الإسلام وأهل بيعة الرضوان الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه كما في سورتي التوبة والفتح.

٩٩

قلت أولا : إنّ وجوه أصحاب النبي (ص) ، ورؤساء المهاجرين والأنصار ، وأعيان السابقين إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله (ص) ، على التحقيق الذي يناصره الدليل ، والبرهان هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) أخو رسول الله (ص) ، ووزيره ، ووصيّه ، وخليفته ، بدليل حديث المؤاخاة المشهور الذي أخرجه الحفّاظ من أهل السنّة في باب فضائله من كتبهم المعتمدة ك (استيعاب) ابن عبد البر و (إصابة) ابن حجر العسقلاني و (الرياض النضرة) لمحبّ الدين الطبري و (حليّة الأولياء) ، لأبي نعيم وغيرهم كما تقدّم ، وبدليل حديث المنزلة المتقدّم ذكره في صحاح أهل السنّة ، وبدليل حديث الوصيّة الذي أخرجه البخاري في صحيحه ص ٨٣ من جزئه الثاني من كتاب الوصايا ، وفي باب مرض النبي (ص) ووفاته ص ٦٤ من جزئه الثالث ، وحكاه مسلم في صحيحه ص ١٤ من كتاب الوصية من جزئه الثاني وقد جاء فيه : «إنّهم ذكروا عند أم المؤمنين عائشة (رض) أنّ النبي (ص) أوصى إلى علي بن أبي طالب (ع) فقالت متى أوصى إليه؟» (الحديث) وأنتم تعلمون إنّ الذين قالوا يومئذ إنّ النبي (ص) أوصى إلى علي (ع) لم يكونوا خارجين عن أصحاب النبي (ص) ، أو التابعين الذين لا يهمهم مكاشفة أم المؤمنين عائشة (رض) بما لا يرضها ويخالف ما تقتضيه السياسة في ذلك الحين لذا ترونها قد ارتبكت ارتباكا عظيما عند سماعها قولهم يصورها لكم ردّها بأضعف الردود. وقد أورد الذهبي جملة من أحاديث الوصية والوراثة في أحوال شريك ص ٤٤٦ من كتابه (ميزان الاعتدال) من جزئه الأول وفي طريقه محمد بن حميد الرازي وهو من الثقات كما اعترف به الذهبي في ص ٥٠ من (ميزانه) من جزئه الثالث ، وأخرجه ابن سعد في ص ٦١ و ٦٣ من القسم الثاني من (طبقاته) من جزئه الثاني ، ونقله الحاكم في (مستدركه) والذهبي في

١٠٠