مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

١
٢

٣

٤

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

ولله الحمد على عظيم آلائه ، والشكر على جزيل نعمائه ، وصلى الله على سيدنا نبيّه محمد وآله الأطهار خلفائه ، وأوصيائه ، وأصحابه الأخيار ، والتابعين الأبرار.

وبعد فهذه مناظرات علمية ، ومباحث إسلامية ، تدور حول الإمامة العامة ، والحكومة المطلقة القائمة ، بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، لنرى هل يا ترى أن هناك نصوصا على خلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع) أدلى بها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حال حياته ومدى صحّتها؟ وتقييم شرعية الخلافة التي تسلّمت قيادة الأمّة فور أن اختار الله تعالى رسوله (ص) إلى جواره ، جرت هذه المحاورة بيني وبين أحد إخواني من أعلام الفكر الإسلامي في جوّ هادئ وفق خطة واضحة لا تدعو إلى تكدير الخواطر ، وجرح الضمائر ، وتفكيك عرى الإخاء السائد بيني وبينه ، الأمر الذي يبذل كل ما لدينا من جهد في سبيل تحقيقه ، وتقوية أركانه بين صفوف المسلمين. وإنّما كان ذلك ضمن دائرة الموادعة ، تتطلع إلى طريق سوي ، توقف الفريقين في النهاية في محطة الوئام ، والاستسلام على حد يقطع دابر الجدال بينهم ،

٥

ويستأصل شأفة ما يبعث الهمّ والغمّ في نفوسهم ، وترفع الغشاوة عن أبصارهم ، ليرجعوا إلى الأصل الديني الواجب عليهم اتّباعه ، فيعتصموا بحبل الله جميعا وينضووا تحت لواء الحق ، ويسيروا إلى العلم النافع ، والعمل الصالح ، إخوة بررة ، مستمسكين بمبدإ واحد ، وعقيدة واحدة ، يشدّ بعضهم بعضا.

ولقد اتّفقنا في هذه المباحث على أن ينظر أحدنا إلى الآخر نظر المتفهم الذي يريد تحليل الحقائق تحليلا فنيا ، ليصل إليها من جميع أطرافها ، لا نظر الساخط المخاصم.

وقد فرضنا على أنفسنا أن نعالج هذه المسألة بالنظر في أدلّة الفريقين ، ونتوخى الحقيقة من الطريق المجمع عليه بين الطائفتين كما وإني رأيت بدافع الضرورة أن أودعها في هذا الكتاب ، وأضعها بين يدي إخواني المسلمين ، راجيا منهم أن ينظروا فيها نظر الصيرفي الناقد ، لما بين يديه من نقود ، وخاصة الطبقة المتعلمة منهم ، ممن لابس الحياة العلمية ، فمحّص حقائقها وتحلل من القيود والأغلال ، ونبذ التقليد الأعمى ونظر إلى الحقائق بمنظار علمي دقيق ، ودرسها دراسة متقنة على ضوء العلم الصحيح ، فإن ظفر كتابي هذا بالقرّاء المنصفين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ، فذلك ما أبتغيه وهو أقصى ما أرجوه من هذه المناظرة ، وإلّا فما أردت إلّا الإصلاح وأداء الواجب ما استطعت إليه سبيلا.

ثم إنّ أملي منهم ، لحسن ظنّي بهم ، أن يبدوا ما عندهم من آراء ونقود ، على أن تكون بنّاءة ، وغير خارجة عن دائرة آداب النقد ، فإنّا نتقبّل ذلك بكل فخر وترحاب ، لأنّا لا نريد من وراء ذلك إلّا الوقوف على الحقيقة والصواب ، ولم نقصد بها إلّا وحدة الصف ، وتوحيد الكلمة على الحق والهدى ، وما توفيقي إلّا بالله تعالى عليه توكّلت وإليه أنيب.

٦

فاتحة الكلام

قلت لصاحبي قبل أن نخوض في هذه المباحث يجب علينا أن نضع أمر التقليد عن ظهورنا لئلّا نكون من الذين ذمّهم الله تعالى ووبّخهم على تقليد الآباء والأمهات في الدين بلا دليل حيث قالوا على ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الزخرف آية ٢٣ (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) وقال تعالى في سورة الصافات آية ٦٩ و ٧٠ : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ* فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) وقال تعالى في سورة المائدة آية ١٠٤ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) إلى غير ذلك من الآيات الناهية أشدّ النهي وأبلغه عن تقليدهم بلا حجة ولا برهان ، فعلينا إذن أن نفحص بدقّة عن العقيدة الحقّة التي تسوقنا إليها البراهين والحجج المقبولة عند الفريقين ، لأنّا بحمد الله تعالى مجهّزون بأنواع العلوم والدراسات التي تعيننا على هذا الأمر ، وتيسّر لنا الوصول إلى الحقيقة لأن أخذنا بعقيدة الآباء والأمهات واعتناقنا لها تقليد بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير ، إذا لم نقم عليه دليلا شرعيا ، ولا برهانا عقليا لجواز أن تكون تلك العقيدة باطلة فلا تكون مسقطة للمسئولية ولا مبرّئة للذمّة قطعا. والتحقيق يجب أن يحتمل كل منّا أنّه على خطأ ما لم يثبت عنده بطلان ما ذهب إليه صاحبه بدليل العقل والنقل. فليبذل إذن كل واحد منّا أقصى جهده في المزيد من التوغل في درس مواضيع هذه المباحث ، وسبر غورها ، ليتوصل إلى الحقيقة من أقوى طرقها وأمتن أواخيها. ومن ثم يلزمنا أن نستعد لمجابهة هذه الحقيقة بشجاعة وإقدام غير آبهين بالأسوار الاجتماعية المحيطة بنا ، وعلينا أن نخترقها من غير هياب ، لنعثر على ضالتنا المنشودة في سبيل نيل الهداية ، وتحقيق السعادة الأبدية.

٧

ومن الواضح أنّ أكثر ما لدى الناس أشياء مستوحاة من البيئة التي نشئوا فيها ، وسرت إلى أذهانهم من المحيط الذي عاشوا فيه ، لم تبلغ حدّ الرسوخ في أدمغتهم ، ولم تتمكن من عقولهم ، فما علينا إلّا أن نبحث عن الحق أين ما كان بدليله فنتبعه. وقديما قيل في المثلات والعبر كما أن المريض في جسمه يجب عليه أن يشرح للطبيب حالاته الظاهرية كافة ، منذ بدء إحساسه بالمرض إلى النهاية ، ليكون الطبيب على بصيرة في وصف الدواء لعلاجه ، كذلك على المبتلي بالأمراض العقائدية الموروثة أن يستعرض حالاته الباطنية ، من مبدأ تميّزه الفكري حتى النهاية التي ارتسمت له فيها صور تلك العقائد ، ويعرضها على الخبراء العارفين ، لينبّهوه على مواضع الخطأ والصواب ، بما يقيمونه له من الأدلّة العقلية ، والبراهين الشرعية ، ليكون على بصيرة من أمره ، فتتم الحجة عليه.

فيجب علينا إذن أن نبحث بحثا عميقا ، ونحلّل هذه المباحث تحليلا دقيقا ، من مختلف الجوانب بطريقة علمية صحيحة صريحة. متحلّلين من القيود والمجاملات ، وذلك لما يشعر به كل واحد منّا بانسلاخ زمن الجمود ، وذهاب عصر التمويه والكتمان ، وذرّ الرماد في العيون ، وإنّنا في عصر تنوّرت فيه العقول ، وانتشر فيه العلم ، حتى عمّ البلاد والعباد. لذا كان علينا أن نلج فيه إلى الأعماق ، ليتسنّى لنا إخراج لؤلؤ الحقيقة اللمّاع ، الخالي من الغش والزيف ، ومن الطبيعي أنّ من أراد فتح هذا الباب ، وانتحى منحى الصراحة ، وعرف قيمة البحث العلمي المجرّد من التحيز ، يجب عليه أن ينفض عن نفسه غبار العاطفة ، ويترفّع عن التعصّب البغيض ، الأمر الذي يقوده إلى التمسّك بالحقائق مهما كانت مزعجة ومؤلمة. وإنّما أوردت لكم هذا الأمر يا صاحبي لكي لا تتأثّر أنت ، ولا يتأثّر غيركم ممّن يمسّه هذا البحث ، بسردنا الحقائق التي توصّلنا إليها من خلال هذه الدراسات

٨

العقائدية. ومهما كان الأمر فأنا لا أبالي بما أعانيه من جرّاء صراحتي في هذه المباحث القيمة معكم ، أو مع غيركم ، من الإخوان ، بل أرى نفسي سعيدا جدّا بالانخراط في زمرة الرجال الذين دافعوا عن الحقّ ، ونزلوا إلى ساحة الجهاد ، في سبيل المبدأ والمعاد ، مضحّين بكل نفيس وغال في صلاح المسلمين ، ومصلحة الإسلام.

هذا ما أردت عرضه عليكم فهل في نفسكم منه شيء. قال : كلّا إنّ ذلك كلّه ممّا لا يجوز لذي مسكة أن يعدل عنه إلى سواه. قلت أجل فما عندكم.

السيد أمير محمد الكاظمي

القزويني

٩
١٠

الإمامة وتحقيق معناها

قال : ما هي الإمامة عند المحققين في الشرع واللغة.

قلت : هي التقدّم فيما يوجب لصاحبه الطاعة المطلقة فيما تقدم فيه.

قال : من أين يحصل هذا التقدّم لصاحبها.

قلت : إنّما يحصل له ذلك بملكات ، وصفات ، أوجبت له التقدّم ، وفرض الطاعة عند الله تعالى على الناس أجمعين ، وقد كشف عن مستحقّها النصّ من الله تعالى عليه على لسان نبيّه (ص) فيكون ذلك من جعل الله تعالى ، لا من جعل غيره. وفي القرآن يقول الله تعالى في سورة الأنبياء (ع) آية ٧٣ : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وقال تعالى في سورة القصص آية ٥ : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) وأنت تراه قد أضاف تعالى جعل الأئمة إلى نفسه ولم يعط تعالى صلاحية ذلك لغيره مطلقا.

الإمامة لا تكون باختيار الناس

قال : فلما ذا لا يصحّ أن يكون اختيار الإمام من قبل الناس؟.

١١

قلت : إنّما لا يصحّ اختيار الناس للإمام ، لدلالة القرآن الكريم على بطلان اختيارهم له فمن ذلك ما تقدم في الآيتين اللتين أضافتا جعل الأئمة إلى الله تعالى وحده. ومن الآيات قوله تعالى في سورة القصص آية ٦٨ : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). فإنّ إثبات الاختيار له تعالى ، ونفيه لهم ، يفيد العموم باتّفاق علماء الأصول من الفريقين ، فيكون مفاد الآية أنّه ليس للصحابة خاصّة ، ولا لغيرهم من الناس عامّة ، الخيرة في كل شيء يتعلق بتحديد سلوكهم في الحياة ، وإنّ ذلك كلّه ممّا يرجع حكمه وأمره إلى الله تعالى ، لا إلى سواه ، بدليل قوله تعالى في سورة الأعراف آية ٥٤ : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) والخلافة من أهم الأمور ، فيرجع أمرها إليه تعالى ، لا إلى غيره ، فهو تعالى الذي يخلق ما يريد من الناس ، ويختار من يشاء للنبوّة والإمامة ، لا سيّما إذا لاحظتم سبب نزولها في ص (١٩٥) من تفسير الخازن من جزئه الخامس وغيره من مفسّري أهل السنّة وإنّها نزلت في جواب المشركين على ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الزخرف آية ٣١ (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعنون الوليد بن المغيرة بمكّة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف. فأخبر تعالى أنّه لا يبعث الرسل باختيارهم (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي ليس لهم أن يختاروا على الله تعالى. ولا يخفى عليكم أنّ سبب النزول وخصوصية المورد لا يوجبان تخصيص الوارد مع عموم الحكم المستفاد من عموم اللفظ في الآية لأنّ العبرة بعمومه لا بخصوص سببه عند العلماء جمعاء.

ومنها : قوله تعالى في سورة الأحزاب آية ٣٦ : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً).

فالإمام إن كان ممّا قضى الله تعالى ورسوله (ص) بترك نصبه ، فلا

١٢

يجوز للناس الخيرة بنصبه ، وإن كان ممّا قضيا بنصبه ، كان كغيره من الوظائف الدينية والأحكام الشرعية التي قضيا بها ولم يتركاها ، فليس للناس الخيرة في نفيها أو إثباتها ، كما ليس لهم الخيرة في غيرها من أحكام الله تعالى ، لا سلبا ولا إيجابا.

ومنها : قوله تعالى في سورة الحجرات آية ١ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

فالخطاب في الآية موجّه للصحابة بصورة خاصة ، ولغيرهم بصورة عامّة بالإجماع ، ولا نشك في أنّ اختيارهم لشخص الإمام والخليفة تقديم بين يدي الله ورسوله (ص) وأنتم ترون أنّه تعالى قد نهى عن ارتكاب ذلك ، وحرّم عليهم فعله ، كما حرّم الركون إليه.

ومنها : قوله تعالى في سورة آل عمران آية ١٥٤ : (يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).

والقائلون ذلك لم يكونوا خارجين عن أصحاب النبي (ص) فالآية كما ترونها واضحة الدلالة على أنّه ليس لأصحاب رسول الله (ص) ، ولا لغيرهم ، أمر ولا نهي ، ولا حكم في شيء أبدا مطلقا ، وإنّما الأمر كله لله تعالى وحده. والإمامة من أعظم الأمور وأهمّها وعليها تبتنى مصالح العباد الدينية والدنيوية فلا يجوز إسناد أمرها إليهم بل هو مسند إلى الله تعالى ، ويكون نصبه من عنده تعالى.

ومنها قوله تعالى لخليله إبراهيم (ع) عند ما طلب الإمامة لذرّيته فيما قصّه في سورة البقرة آية ١٢٤ (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وهذه الآية صريحة في أنّ الإمامة من عهد الله تعالى فلا يناله اختيار الناس مطلقا ، وإذا ثبت لديكم بمقتضى الآية أنّ الإمامة من عهد الله تعالى بدليل إضافته إلى نفسه القدسية في قوله : (لا يَنالُ

١٣

عَهْدِي) ودليل قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ، ثبت عدم جواز اختيار الناس فيه. ولأنّ الناس كما تعلمون إنّما لهم الاختيار في عقد العهود التي ترجع إليهم ، لا في عهد الله تعالى ، وما يرجع أمره إليه تعالى.

فإن قلتم : إنّ الآية تريد النبوّة من لفظ الإمام في منطوقها فيقال لكم :

أولا : لو كان يريد النبوّة من لفظ الإمام ، لكان المناسب أن يعبّر بها لكي تفيده. فحمل الآية على إرادة النبوّة من الإمام سلخ لمعناها المطابقي ، وتحميلها معنى لا صلة بينها وبينه ، وبطلانه واضح.

ثانيا : إنّ إبراهيم (ع) كان نبيّا قبل أن يجعله الله تعالى إماما ، ولهذا صحّ الوحي إليه بجعله للناس إماما ، لأنّ قوله تعالى له : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) لا يصحّ إلّا إذا كان نبيّا لأنّ الإمام لا يوحى إليه فلو كان يريد بالإمام النبوّة لزم نسبة تحصيل الحاصل إليه ليكون معنى الآية بعد ذلك هكذا (إنّي جاعلك للناس نبيّا) ويلزمكم أن تقولوا بنزول الوحي على الإمام وكل أولئك معلوم البطلان ولأنّ ذلك موجب لأن يكون الإنسان نبيّا بطلب منه لا باختيار من الله تعالى ، وبطلانه ظاهر فتأمّل.

ومنها : قوله تعالى في سورة الأعراف آية ٣ : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ).

فاتّباع الذين اختاروا شخص الخليفة من الناس اتّباع من دون الله تعالى أولياء وكذلك اتّباع شخص الخليفة المنصوب باختيارهم ، وقد نهت الآية عن ذلك وحرّمت عمله ، فاختيارهم له بحكم الآية محرّم ، مأثوم فاعله ، ولأنّ الناس ، كل الناس ، تابعون لتصرّف الشريعة بهم فليس لهم أن يجعلوا من يتصرّف في أموالهم ،

١٤

وأعراضهم ، ودمائهم ، فإن الذي ليس له ولا من حقّه أن يتصرّف في شئون نفسه من نفسه ، كيف يجوز له أن يتصرّف في شئون غيره ، ويتصرّف في سلوكه من نفسه؟ إنّ ذلك ما لا يمكن أن يكون جائزا أبدا.

آية (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) تبطل اختيار الناس للإمام

على أنّ قوله تعالى في سورة النساء آية ٥٩ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يبطل اختيار الأمّة للأئمة وذلك لوضوح دلالة الآية في مخاطبتها المؤمنين على اشتراط العصمة في أولي الأمر ، بدلالة الأمر لهم بالطاعة ، على سبيل الجزم والإطلاق ، واقتران طاعتهم بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله (ص). فكما أنّ الله تعالى لا يأمر ولا ينهى إلّا بما كان صوابا دائما فكذلك رسوله (ص) ، وأولي الأمر من بعده (ص) ، وتلك قضية وحدة السياق وتساوي المتعاطفات في الحكم في الآية.

فأولوا الأمر إن لم يكونوا معصومين لأمروا بالخطإ ، فتجب طاعتهم في أمرهم بالخطإ ، ولا شيء من الخطأ تجوز طاعتهم فيه ، ولما أمر الله تعالى بطاعتهم مطلقا ، كطاعة نفسه تعالى ، وطاعة نبيّه (ص) علمنا أنّهم لا يخطئون ، ومن لا يخطئ في قوله وفعله ، يكون معصوما. فإن قلتم : نخصّص ذلك بغير الخطأ. فيقال لكم : إنّ هذا التخصيص منكم مناف لظاهر الآية من جهة وتخصيص بلا مخصص من جهة أخرى وكلاهما باطلان وشيء آخر يلزمكم أن تفعلوه وهو أن تفككوا بين فقرات الآية ، بغير دليل ، وهي تأبى ذلك كل الإباء ، ولأنّ كون ما يفعله ، أو يأمر به ، معصية لا يعرف إلّا من طريق

١٥

النبي (ص) أو الإمام الذي يقوم مقامه ، فلا يمكن أخذه شرطا فيه وتقييده به ، ولأنّه لو ارتكب المعصية ، لوقع التضادّ بين وجوب طاعته فعلا كما هو مفاد عموم إطلاق الآية ، وبين وجوب زجره وردعه لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، للإمام والرعية.

فإن رجحتم الشقّ الأول ، فمع أنّه ترجيح بلا مرجّح وهو باطل لزمكم أن تقولوا بجواز ارتكاب الإمام المعاصي وهو معلوم البطلان بدليل أن مرتكب المعاصي ظالم ، والظالم لا يصلح أن يكون إماما يقتدى به ، ويركن إليه. وقد مرّ عليكم قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى في سورة هود (ع) آية ١١٣ : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ).

وإن رجحتم الشقّ الثاني فمع أنّه أيضا ترجيح بلا مرجّح وهو باطل يبطله وجوب طاعته على الإطلاق بمقتضى الآية ، وحينئذ تبطل الفائدة من إمامته ، والمصلحة في نصبه ، ومن حيث ثبت لديكم بطلان كلّا الشقّين ثبت وجوب عصمته على الإطلاق ـ ولما كانت العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يطّلع عليها إلّا الله تعالى وحده وثبت اعتبارها في الإمام بحكم ما تقدم من الأدلّة ، امتنع نصبه من الأمّة كلّها فضلا عن بعضها لأنّه غير مستطاع لهم معرفته ، والاطّلاع عليه فلا يمكنهم عقده ، ومن المعلوم لدى الخاصّ والعام أنّه ليس في المستخلفين بعد رسول الله (ص) معصوم من الخلفاء الثلاثة (رض) لبداهة عدم عصمتهم من واقعهم العملي لذا لا يصحّ أن يكونوا من أولي الأمر الواجبي الطاعة بعد رسول الله (ص) في منطوق الآية لانتفاء صفة العصمة عنهم ، الأمر الذي هو شرط أصيل في الإمام على الأمّة كما هو مفاد الآية.

١٦

الأدلّة الأربعة توجب معرفة الإمام بعد النبي (ص)

قال : فهل ترون أنّ معرفة هذا الإمام واجبة على الناس ، أو أنّها مستحبة كغيرها من المستحبات التي يؤجر فاعلها ، ولا يعاقب تاركها؟

قلت : إنّ معرفة الإمام بعد النبي (ص) من أعظم الواجبات في الدين وأكبر الفرائض في الإسلام ، بعد معرفة الله تعالى ، ومعرفة رسوله (ص) لأن به تحفظ الأحكام الإلهية من الضياع ، وتنفذ أوامره ونواهيه بعد النبي (ص) ودليلنا على ذلك كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (ص) وإجماع الأمّة ، ودليل العقل السليم.

أمّا كتاب الله تعالى فقوله تعالى في سورة الإسراء آية ٧١ : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) : ولا يصحّ قطعا أن يدعى أحد بما لم يجب عليه معرفته ، ولم يلزم به علمه. فإذا ثبت أنّه يدعى به بحكم الآية ، ثبت وجوب معرفته عليه. وفي القرآن يقول تعالى فيما تقدم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهذه الآية صريحة في وجوب معرفة أولي الأمر لأنّه تعالى أوجب طاعتهم ، فتجب معرفتهم ، كما أوجب معرفة نفسه تعالى ، ومعرفة نبيه (ص) ، بما أوجب لهما الطاعة على الناس أجمعين.

وأمّا السنّة فالحديث المتواتر الذي نقله أهل الصحاح من الفريقين بألفاظ مختلفة ، وقد أخرجه الحميدي في جمعه بين الصحيحين ، البخاري ومسلم ، ومحمد الخضري في ص ٢٥ من كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم).

عن النبي (ص) أنّه قال : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».

١٧

وهذا القول من النبي (ص) صريح في أنّ الجهل بالإمام موجب لخروج صاحبه عن الإسلام.

وبهذا المعنى أخرج شيخ الحديث البخاري في صحيحه ص ١٤٦ من جزئه الرابع في باب قول النبي (ص) سترون بعدي أمورا تنكرونها من الطبعة التي كانت سنة ١٣٣٢ هجرية.

عن النبي (ص) أنّه قال : «من خرج عن السلطان شبرا مات ميتة جاهلية» وقوله (ص) فيما أخرجه مسلم في صحيحه ص ١٢٧ و ١٢٨ من جزئه الثاني في باب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.

عن النبي (ص) أنّه قال : «من خرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة ، ثم مات ، مات ميتة جاهلية». وقوله (ص) : «ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلّا مات ميتة جاهلية». وقوله (ص) : «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

وهذه الأحاديث الثلاثة كلّها مسجّلة في صحيح مسلم من جزئه الثاني من الطبعة التي كانت سنة ١٣١٩ هجرية في دلهي الهند كما ذكرنا. وأخرجه أيضا الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص ٢٩٧ و ٣١٠ من جزئه الأول والإمام ابن تيمية في منهاجه ص ٢٧ من جزئه الأول وغير هؤلاء من علماء أهل السنّة وحفّاظها.

معنى الإمام في الآية والحديث

قال : يقول خصومكم إنّ المراد من الإمام في الآية والحديث هو القرآن الكريم لا سواه فما يكون جوابكم؟.

قلت : إنّ ذلك لا يصحّ لأمور :

١٨

الأول : إنّ في بعض تلك الأحاديث لفظ السلطان ، والخروج عن الطاعة ، وليس في عنقه بيعة ، وذلك لا يصحّ أن يراد به القرآن إطلاقا ، لأنّه لا يفيده ، فلا يمكن حمله عليه.

الثاني : إنّ لفظ الإمام لا يفيد معنى القرآن عند الإطلاق ، ولا يتبادر ذلك منه إلى الذهن ، لا شرعا ، ولا لغة ، وكذا لفظ القرآن الذي معناه الجمع لا يفيد لغة معنى الإمام ، فلا يصحّ حمل أحدهما على الآخر عند الإطلاق ، وليس في الآية قرينة ، ولا في الحديث ، تدلّ على إرادته ، بل القرينة مضافا إلى ذلك قائمة على خلافه ، كما سيتضح لكم فيما يأتي.

الثالث : لو أراد به القرآن لعبّر به لكي يفيده ، ومن حيث أنّه (ص) عدل عنه إلى لفظ الإمام دونه ، علمنا أنّه لا يريده.

الرابع : لو أراد القرآن لزم بطلان قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) لأنّ القرآن لكل الناس في سائر العصور والأزمان لا لكل أناس ، لأنّه يفيد بأنّ لكل أناس إماما يدعون به ، وكذا الحال لو أراده من الحديث ، فإنّه موجب لبطلان تقييده بالزمان في قوله (ص) «إمام زمانه» أي زمان المكلف ، لوجود القرآن في كل زمان. فتخصيصه بزمان المكلف دليل واضح على أنّه لا يريد القرآن ، وليس في الله تعالى ، ولا في رسوله (ص) ، من أن يعبرا بالقرآن بدل تعبيرهما بالإمام ، لو أراداه فعدمه دليل على عدمه.

الخامس : لو أراد القرآن لوجب تعلّمه على كل مكلف ، وذلك لا يقول به أحد من المسلمين ، لا سيما من لا يرى وجوب حتى سورة الفاتحة كما هو المعروف من مذهب الإمام أبي حنيفة ، فإنّه قد اكتفى بالكلمة الفارسية (دو برك سبز) التي تعني بالعربية جملة (مدهامتان).

أمّا الإجماع : فإنّه لا خلاف بين المسلمين أجمعين في أنّ معرفة

١٩

أئمة الدين ، وخلفاء المسلمين بعد النبي (ص) ، واجبة على العموم ، كوجوب غيرها من فرائض الإسلام ، لم يختلف في ذلك اثنان من أهل الإيمان وقد نقل ذلك غير واحد من علماء أهل السنّة حتى أصبح ذلك متواترا عندهم فمنهم صاحب (المواقف) قال في مواقفه ص ٢٤ ما نصّه :

(تواتر إجماع المسلمين في الطبقة الأولى على امتناع خلو الوقت من خليفة وإمام يقوم بأمر الدين والدنيا) وقالت هيئة كبار العلماء في الجامع الأزهر في رسالتها المطبوعة سنة (١٣٤٤ ه‍) في مصر القاهرة من الطبعة الثانية ما نصّه :

(أجمعت الصحابة على وجوب نصب الإمام) وقالت أيضا في ص ٦ ؛ (قد أجمع المسلمون على امتناع خلو الوقت من إمام ونقل إلينا ذلك بطريق التواتر فلا سبيل إلى الإنكار).

وأمّا العقل : فتقريب الاستدلال به هو : إنّا نعلم بالضرورة أنّه يستحيل على الله تعالى الحكيم اللطيف أن يترك المكلفين من عباده مع ما هم عليه من حبّ الإثرة ، والأطماع ، وطلب العزّة والجاه ، واختلاف الطباع والأهواء ، مع بقاء التكليف عليهم بعد زمان النبي (ص) من أوامر ونواه ، بلا زعيم يقوم المعوج منهم ، ويقيم الحدود ، وينفّذ الأحكام ، ويهديهم إلى سبيل الرشاد ، ويرشدهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل ، على ضوء ما أنزل لها الله تعالى لهم من الدين ، وبعث به نبيّه سيد المرسلين (ص) بينا نجد أنّه تعالى لم يخلق جوارح الإنسان إلّا وجعل لها مرجعا يصرّفها إلى أفعالها ، وأميرا يحكم في متشابهاتها ، أعني بذلك القلب فكيف يكون معقولا أن يترك الناس المنتشرين في الأقطار والبقاع ، في شعاب الجهل ، وحيرة الضلال ، يحكم فيهم سلطان الهوى ، والجهل والعمى ، فإذا كان هذا

٢٠