مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

قولهم علي أسلم وهو صغير

وأسلم أبو بكر وهو كبير

وأمّا القول : بأنّ عليّا (ع) أسلم وهو صبي صغير ، وأسلم أبو بكر وهو شيخ كبير ، وما يوجب إسلام البالغ الكبير لا يوجبه إسلام غير البالغ الصغير ، فيبطله قول النبي (ص) : «أوّلكم ورودا علي الحوض ، أولكم إسلاما علي بن أبي طالب» (ع) فإنّ المخاطبين بلفظ (أولكم) لم يكونوا غير أصحاب النبي (ص) وكانوا كلّهم رجالا بالغين ، وقد أنزل النبي (ص) عليّا (ع) بهذا الخطاب منزلة الرجال البالغين من أصحابه (ص) ، وأعطاه كل مميّزات الكبار البالغين الراشدين ، ثمّ إنّ العبرة بكبر العقل لا بكبر السنّ ، فكم من كبير في السنّ لا يدرك ما يدركه الصغير في السنّ ، وهذا ما لا يمكن لأحد أن ينكره أو يناقش فيه فعلي (ع) من هذا القبيل بحكم النبي (ص).

وأمّا الجهاد في سبيل الله تعالى فإنّه لا قدم لأحدهم (رض) فيه ، فلا يمكن لمن له عقل أو شيء من الدين أن يدّعي أنّهم بارزوا مشركا في وقت من الأوقات ، أو جرحوا في الحرب كافرا ، أو قاتلوا إنسانا ، ولقد ذكرنا لكم فيما سلف ما يغنينا عن التكرار بالإعادة.

أمّا علي (ع) فجهاده وجلاده بين يدي رسول الله (ص) ممّا لا

٤٤١

يختلف فيه اثنان من جميع أهل الملل والأديان ، فضلا عن المتمسكين بدين الإسلام ، وقد ذكرنا لكم جهاده ، وقتله ، وقتاله ، يوم (بدر) و (أحد) و (حنين) و (خيبر) و (الأحزاب) وقتله (مرحبا) و (نوفلا) و (وليدا) و (عمرو بن عبد ودّ) أولئك الأحزاب ، وقد كفى الله تعالى المؤمنين بمواقفه القتال.

وأمّا العلم في الدين. فحسبك شهادة النبي (ص) لعلي (ع) به بقوله (ص) : «أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب» على ما أخرجه الطبراني في الكبير ، وحكاه السيوطي في جامعه الصغير ص ١٠٧ من جزئه الأول في حرف الألف ، ونقله الذهبي في تذكرة الحفّاظ ص ٢٨ من جزئه الثالث وقال فيه صحيح ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ص ١٢٦ من جزئه الثالث بسندين صحيحين أحدهما عن ابن عباس من طريقين صحيحين والآخر عن جابر ابن عبد الله الأنصاري. ويقول ابن عبد البر في استيعابه ص ٤٧٣ من جزئه الثاني فيما حكم ابن جرير بصحّته ، وحكاه عنه المتقي الهندي في (منتخب كنز العمال) ص ٣١ بهامش الجزء الخامس من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) :

عن النبي (ص) «أنّه (ص) قال في علي (ع) أنّه أول أمّتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما».

وقد تواتر قول الخليفة عمر بن الخطاب : «لو لا علي لهلك عمر».

وقوله (رض) : «لا أبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن».

وقد أحصي عليه أنّه قال ذلك في سبعين موطنا ، وكانت الصحابة يرجعون إليه (ع) إذا أشكل عليهم الأمر.

وقد تواتر عنه (ع) أنّه قال : «سلوني قبل أن تفقدوني» تجدون

٤٤٢

ذلك كلّه وأضعافه في ترجمة علي (ع) من كتاب (الاستيعاب) لابن عبد البر ، و (الرياض النضرة) للمحبّ الطبري و (الإصابة) للحافظ ابن حجر العسقلاني وغير هؤلاء ممّن جاءوا على ترجمته (ع).

ونقل هؤلاء أيضا عن النبي (ص) أنّه قال في علي (ع) : «علي أقضاكم» وقال الخليفة عمر بن الخطاب : «علي أقضانا».

وأنتم تعلمون أنّ القضاء يستدعي العلم ، ولا شك في أنّ أقضى الناس أعلمهم بالحلال والحرام ، والأدلّة والأحكام ، ويقول النبي (ص) في الصحيح المجمع عليه بين حفّاظ أهل السنّة : «أقرؤكم أبيّ وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ ، وأفرضكم زيد ، وأقضاكم علي».

وأنتم ترون أنّ رسول الله (ص) قد أعطى كل واحد منهم شطرا من العلم ، ولم يعط أبا بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) شيئا من العلم ، إطلاقا.

وأعطى عليّا (ع) سائر ما أعطى أولئك الجماعة بما حكم له (ع) بالقضاء الذي يحتاج صاحبه إلى جميع ما حكم به (ص) لهم من الصفات.

فإن شئتم أن تقفوا على ذلك فعليكم أن تراجعوا صحاح أهل السنّة كالبخاري ومسلم وغيرهما من الحفّاظ ممّن جاء على ذكر مناقبهم في فضائل الصحابة لتعلموا ثمة صحّة ما نقول.

وأمّا الإنفاق فقد تقدم منا ما يثبت إنفاق علي (ع) بالليل والنهار ، سرّا وعلانية وإطعام الطعام على حبّه مسكينا ، ويتيما ، واسيرا ، لوجه الله تعالى ، وتصدقه بخاتمه الشريف على ذلك الأعرابي وهو راكع في صلاته ، ولم يرد ما يمكن أن يكون دليلا على إثبات إنفاق أبي بكر (رض) كما أشرنا إليه.

٤٤٣

أمّا عمر بن الخطاب (رض) فلا شيء له من الإنفاق بالاتّفاق بين الفريقين وأمّا عثمان بن عفان فإنّ عدم نزول القرآن بمدحه (رض) على ما كان منه في جيش العسرة ، لأوضح دليل على أنّه لا فضل له (رض) فيه ، ولو كان له (رض) فيه شيء من الفضل لكان حظه منه كحظ غيره من المنفقين الذين لم يوجب لهم التقدم على غيرهم من المسلمين في إمامة الأمّة وخلافة النبوّة (ص).

وأمّا الزهد في الدنيا : فحسبك في انتفائه بشكله الكامل عن الخلفاء الثلاثة (رض) ، تسارعهم إلى السقيفة لنيل الرئاسة العامّة ، والنبي (ص) بين أيديهم جنازة لم يغسل بعد ، ولم يدفن ، فتنازعوا مع من حضر فيها على زعامة الدنيا ، ولو لم يكن الأمر كما ذكرنا لكان لزاما عليهم أن ينتظروا ريثما ينتهي أهل بيت النبي (ص) من تجهيزه (ص) ، ودفنه (ص) في ضريحه الطاهر ، ثم يعودوا إلى اختيار من له أهلية الإمامة على الأمّة بعد نبيّها ، لا سيما أنّ أهل السنّة جميعا مجمعون على عدالة جميع الصحابة ، وأنّه لا يمكن أن يصدر منهم ما يخالف الشريعة ، وأنّهم مبرءون من كل وصمة توجه إليهم ، فهل يا ترى من العدالة أن يتركوا النبي (ص) جنازة بين أهل بيته (ص) ، وينصرفوا عجلين إلى السقيفة لعقد البيعة الأمر الذي دعا الشيعة وغيرهم من المنصفين أن يشكوا في نيّاتهم ، ويحكموا بانتفاء عدالتهم ، وأنّهم يريدون عرض الدنيا ، وزاهدون في الآخرة؟؟.

وأمّا عثمان بن عفان (رض) : فقد ظهر منه من الانقطاع إلى الدنيا ، والانصراف عن الآخرة ، وتولية الفساق من بني أمية وبني مروان على رقاب المسلمين ، ما أوجب أن يستحل أصحاب رسول الله (ص) إهراق دمه (رض) ، ولمّا طلبوا منه نزع الخلافة عن نفسه (رض) امتنع وأبى حبّا للدنيا ، وطمعا فيها ، حتى استباح القوم سفك دمه.

٤٤٤

وأما زهد علي (ع) فحسبك فيه ما تواتر نقله عن حملة الآثار عند أهل السنّة وغيرهم من جميع الملل والأديان ، فقد سجّلوا عليه أنّه (ع) طلق الدنيا ثلاثا ، وكان (ع) يخاطب الدنيا ويقول : «أليك عنّي يا دنيا غرّي غيري ، أبي تعرضت؟ أم إليّ تشوقت؟ لقد طلّقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك».

وهو القائل في كتابه الذي كتبه إلى عثمان بن حنيف ، وكان يومئذ عامله على البصرة ، حينما بلغه أنّه دعي إلى مأدبة من بعض فتيان أهلها : «ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القزّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، أو يقودني جشعي ، إلى تخير الأطعمة ، ولعلّ بالحجاز ، أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع. إلى آخر الكتاب» المسجّل في (نهج البلاغة).

كما أنّهم سجّلوا عليه (ع) أنّه لم ينازع القوم ، ولم يجاهدهم على أخذ حقّه ، ودفعهم له عن مقامه الذي رتّبه الله تعالى فيه يحكم ما تقدم من النصوص النبويّة الجلية حياطة منه (ع) على الدين ، وحقنا لدماء المسلمين من جهة ، واحتفاظا بحقّه من جهة أخرى ، وإن أردتم المزيد من أحواله ، وزهده (ع) فعليكم بمراجعة (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد لتعلموا ثمّة أنّه هكذا يجب أن تكون حياة إمام الأمّة وهاديها بعد النبي (ص) إلى الصراط المستقيم.

٤٤٥
٤٤٦

العلّة في تقديم الناس غير علي (ع) للخلافة

وأمّا التماسكم العلّة في تقديم الناس غير علي (ع) للخلافة مع ما ذكرنا من قلّة ما لهم ، وعدم علو شرفهم ، وقلّة عشيرتهم من غيرهم من المهاجرين والأنصار ، مع انتفاء الفضل الموجب لتقدمهم (رض) على غيرهم ممّن هم أفضل منهم (رض) ، كما حققناه فيقال لكم إن الأمر فيه يتضح لمن كان مثلكم ، من وجوه :

الوجه الأول : إنّما نصبوا من كان غيره أكثر منه مالا ليطمع الفقراء كلّهم في نيل الخلافة ، وجمع الأموال منها ، ولأنّهم إنّما وضعوها فيمن ليس بأشرفهم ليكون ذريعة توصل الجميع إلى نيلها على اختلافهم في منازل الشرف فلا يمنع من كان أحطّهم نسبا في التقدم على من هو أشرف منه في ذلك. ولو أنّهم حصروها في أرفعهم نسبا وأكرمهم حسبا لاختصت بطائفة منهم ، وخرج الآخرون منها أصفارا ، وإنّما جعلوها فيمن دونهم من حيث العشيرة ، ولم يحصروها في أعزّهم نفرا خوفا وفرقا من تبدّله عليهم ، فحينئذ لا يستطيعون إخراجها منه لضعفهم بعشيرته وقومه ، فلا يصلون به إلى مآربهم.

الوجه الثاني : إنّ الخليفة أبا بكر (رض) كان بعيدا عن

٤٤٧

عداوتهم ولم يكن وترهم في الدين وإعلاء كلمة المسلمين كعلي أمير المؤمنين (ع) لذلك فلم تمل نفوسهم إليه (ع) لبغضهم له (ع).

الوجه الثالث : إنّ الخليفة أبا بكر (رض) لم يكن له من الفضائل عندهم ما كان لعلي (ع) ليحسدوه عليها ، الأمر الذي أوجب تأخير علي (ع) عن الخلافة وتقديم غيره كما أوضحنا لكم ذلك كلّه ببرهانه.

الوجه الرابع : إنّما أوجب تأخير علي (ع) وتقديمهم (رض) طمع التابعين لهم في بلوغ مقاصدهم من المتقدمين عليه (ع) في الخلافة والزعامة ، والتسامح معهم في الزلّات ، والمخالفة للواجبات ، وارتكاب المحرّمات ، كما كان يفعله ولاتهم لا سيما أيام الخليفة عثمان بن عفان (رض) ، فإنّ ولاته ارتكبوا المنكرات ، وهتكوا الحرمات ، ويكفيكم أنّ الأموال من بيت مال المسلمين كانت يومئذ تجرف إلى خزائن بني أمية ، وبني مروان ، وكانت تبذل على الفسوق ، والفجور ، وإماتة الحق ، وإحياء الباطل ، وكان هذا من أقوى العوامل الداعية إلى إخراج الحق عن أهله ، ومحلّه من البيت النبوي (ص) وأنتم لو راجعتم التأريخ الإسلامي ، وسبرتم غور الأحاديث ، لعلمتم باليقين صدق ما نقول.

رابعا : لا داعي إلى الاستغراب من اتّفاق القوم على الخلفاء الثلاثة (رض) الأمر الذي لم يرجعوا فيه إلى أصل ثابت ولا إلى دليل قاطع وذكرنا لكم فيما تقدم أنّ قوم نبي الله موسى (ع) وهو نبي من أولي العزم قد اتّفقوا على متابعة السامري ، وتقديمهم له على نبي الله هارون (ع) ، وأرادوا قتله على ما حكاه الله تعالى في القرآن وكان ذلك كلّه في حياة نبي الله موسى (ع) فأيّ غرابة يا ترى في تأخير القوم هارون هذه الأمّة وتقديم غيره عليه (ع) بعد وفاة النبي (ص) والرجال يشبه بعضهم بعضا ، والليلة أخت البارحة؟.

٤٤٨

وهكذا كان حال الناس في الجاهلية فإنّهم اتّفقوا على عبادة اللّات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، وغيرها من الأصنام المصنوعة من الأحجار التي لا تدفع ضرّا ، ولا تجلب لهم نفعا ، وكذلك حال من تقدم في العصور الأولى من طاعتهم للأوثان البشرية ، وتركهم الطاعة لله الذي خلقهم ، ورزقهم ، وأراهم من أنفسهم ، وغير أنفسهم ، البراهين والآيات ، وقتلهم الأنبياء (ع) ، لأنّهم (ع) كانوا يدعونهم إلى عبادة الله تعالى وطاعته وحده ، كما أخبر الله تعالى عنهم في القرآن ولم يكن ذلك كلّه لكثرة مال ، أو شرف نسب ، أو علو حسب ، أو عزّة عشيرة.

ألم تر أنّ الكثير من العرب تابع مسيلمة الكذاب ، الناقص ، العاجز ، والأحمق الجاهل ، بين طبقات الناس ، وأعرضوا عن رسول الله (ص) مع اشتهار فضله ، وصدقه ، وحجته ، ونوره ، وبرهانه ، ووفور عقله وأمانته ، وشرف أصله ، وكرم فرعه ، بينهم حتى كان يدعى فيهم (الصادق الأمين)؟!! ولم يكن مسيلمة أكثر القوم مالا ، ولا أشرفهم نسبا ، ولا أعزهم عشيرة ، ولا أكرمهم حسبا ، بل كان على العكس من هذه الصفات كلها. وليس هذا بجديد في أحوال البشر كيف وقد ظهر من انقياد أكثر الناس للأراذل ، والانصراف عن الأفاضل ، منذ خلق الله تعالى هذه البسيطة ، ما لا يمكن لأحد دفعه ، أو الارتياب فيه ، ولم يكن ذلك لشرفهم ، ولا لكثرة مالهم ، ولا لعزة عشيرتهم ، وإنما كان بالمكر ، والخداع ، والغدر ، والحيلة ، حتى قادت النساء الرجال ، وتأمّر الصبيان على العقلاء ، وتملك العبيد الأحرار ، وتقدم الجهال على العلماء ، وكل هذا موجود في سائر العصور والأزمان ، بمختلف الأدوار إلى زماننا هذا.

ألم تر أنّ أكثر الناس في عصور الأنبياء (ع) منقادين إلى المجرمين والسفاحين حتى صار ذلك سببا لضلال من جاء بعدهم من أممهم ،

٤٤٩

فبدلوا شرائعهم ، وصدفوا عن سبيل الحق ، ودعوا إلى الباطل ، ولم يكن الداعي لذلك كثرة أموال من أضلهم ، ولا شرف نسبهم ، ولا كرم حسبهم ، وإنّما الداعي إلى ذلك ما حققناه من المكر ، والخداع؟ والقرآن يؤكد هذا بقوله تعالى في سورة الفرقان آية ٣١ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي وصفناهم بذلك بما اختاروه ، وحكمنا به عليهم لما استحبوه ، وقال تعالى في سورة الأنعام آية ١١٢ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

ولو أردنا استقصاء ما كان من هذا القبيل لأحوجنا ذلك إلى أوقات وجلسات!.

وعلى الجملة إنّكم تجدون على الأغلب حصول الدنيا وإقبالها على الناقصين ، وفي الأكثر تتم الزعامة فيها للجاهلين ، والمعروف في ملكها والغلبة عليها للكافرين ، والضالين ، والخارج من هذا المعروف بالوجدان من المؤمنين ، من أهل العقل والفضل ، فرد نادر معدود في الشواذ ، كما نطق بذلك القرآن فيما اقتصه من أخبار الماضين ، ودل عليه العيان في سائر العصور والأزمان إلى يومنا هذا.

فمحاولة إنكاره جحد للضروري ، ومكابرة واضحة ، وحينئذ فلا مجال للقول بأنّ تقدّم الخلفاء (رض) على علي (ع) كان لأجل وجود فضل فيهم خفي علمه علينا ، وأحاط بعلمه من كان قبلنا ، فمن قدّمهم على غيرهم من سائر الناس ، لا سيما إذا راجعتم ما وقع في السقيفة من التنازع ، وعدم ذكر واحد منهم بأنّ من قدّموه كان له من الفضل ما لم يكن لغيره من أصحاب النبي (ص) ، أو كان يمتاز على غيره ممن حضر فيها من الصحابة.

فدونك تاريخ الطبري ، وابن الأثير ، والبخاري ، ومسلم ،

٤٥٠

وغيرهم من أهل السير ، والتواريخ ، وحملة الحديث ، عند أهل السنّة ، ليتجلّى لك بوضوح صدق هذا المقال.

وبعد هذا كلّه فلا وجه للاستغراب من تقديم القوم لهم (رض) على أهل بيت النبوّة ، ومعدن الرسالة ، ومهبط الوحي ، تبعا لآرائهم ، ورغباتهم ، لا لاختصاصهم (رض) بفضل خفي علمه علينا ، على ما أبطلناه بما أدليناه من واضح البرهان.

٤٥١
٤٥٢

خلاصة المقال

وخلاصة المقال : إنّ جميع ما أوردتموه من الآيات وذكرتموه من الروايات في فضل الخلفاء الثلاثة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) سواء في ذلك على العموم أو الخصوص ، إمّا أن تكون صحيحة النزول فيهم (رض) والورود في خلافتهم أو لا.

فإن قلتم إنّها صحيحة النزول والورود فيهم (رض) فيقال لكم أكانوا يعلمون بها أم لا؟ فإن قلتم : كانوا يعلمون بها وهو قولكم ، فيقال لكم لما ذا يا ترى لم يحتجوا بها كاحتجاجكم بها على من خالفهم في يومي السقيفة والشورى ، لا سيما عند ما هجم القوم على الخليفة عثمان (رض) في داره ، وأرادوا قتله (رض)؟ ولما ذا يا ترى عدلوا عنها لو كان لها وجود إلى غيرها من قولهم (رض) (الخلافة في قريش) وقول الخليفة أبي بكر (رض) : «اختار لكم أحد هذين الرجلين أو رضيت لكم أحد هذين» مشيرا إلى أبي عبيدة بن الجراح ، وعمر بن الخطاب (رض)؟ وقوله (رض) بعد البيعة : «أقيلوني فلست بخيركم» على ما حكاه عنه (رض) أرباب السنن وأمناء التاريخ عند أهل السنّة في صحاحهم ، وتواريخهم ، كالبخاري ومسلم في صحيحيهما ، وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) ص ٢٤ من جزئه الأول ، والمتقي الهندي

٤٥٣

في (كنز العمال) في كتاب الخلافة ص ١٢٢ من جزئه الثالث ، وابن أبي الحديد في (شرح النهج) ص ١٣٥ و ١٤١ من جزئه الأول وص ٥٦ و ١٢٩ من جزئه الرابع ، وابن حجر الهيتمي في (صواعقه) في الشبهة الرابعة عشرة من شبهات كتابه ، وأنتم تعلمون أنّه لا يجوز للإمام المنصوص عليه بالإمامة من الله تعالى أن يستقيل منها مطلقا لوجوب القيام بأمرها حينئذ عليه ، ثم إنّ قوله (رض) يوم السقيفة لعمر (رض) : «امدد يدك لأبايعك» وقول عمر (رض) «بل نحن نبايعك وأنت سيدنا امدد يدك فمد يده فبايعه» وقول الخليفة عمر (رض) : «إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه».

وقوله (رض) أيضا : «فإن استخلف فقد استخلف من هو خير منّي أبو بكر (رض) فإن أترك فقد ترك من هو خير من أبي بكر رسول الله (ص)».

وغير ذلك مما جرى بينهم في السقيفة يكشف لكم عن عدم صحّة ذلك كلّه فلو كان ذلك صحيحا لاحتجوا به على من نازعهم في الخلافة من الأنصار ، وهم أحوج ما يكونون يومئذ إلى مثله ليدفعوا الأنصار عن منصب الخلافة.

وأمّا استدلالهم بحديث «الخلافة في قريش» فلا يدلّ على استحقاقهم للخلافة دون غيرهم من قريش لأنّ قريشا لم تنحصر فيهم (رض) ولم ينحصروا هم فيها ، لأنّ العموم لا يدلّ على إرادة الخصوص عند العلماء.

وأمّا اختيار الخليفة أبي بكر (رض) أحد الرجلين أو رضاه بأحدهما للخلافة فليس بدليل شرعي يجب اتّباعه كما يجب اتّباع قول النبي (ص) ، مع أنّ ترجيحه لأحد الرجلين على غيرهما من قريش

٤٥٤

ترجيح بلا مرجح ، وتخصيص بلا مخصص ، وكلاهما باطلان شرعا وعقلا ، ولأنّ كل ما أوردتموه من عمومات القرآن ومطلقات الأحاديث يدلّ على مساواتهم في الفضل لو صحّ نزول شيء منها ، أو ورودها فيهم ، فلما ذا يا ترى نصّ الخليفة أبو بكر (رض) على خصوص عمر (رض) ، وأدلى بها إليه من دون غيره من أصحاب رسول الله (ص) ، وكلّهم بمنزلة واحدة في العدالة والفضل بمقتضى تلك العمومات وهاتيك الروايات إن لم نقل بوجود من هو أسبق إسلاما ، وأكثر جهادا ، وأكثر إنفاقا من عمر (رض) في أصحاب النبي (ص) لو صحّ ثبوت شيء من ذلك له (رض)؟ ولما ذا يا ترى ترجيح عثمان بن عفان (رض) للخلافة على غيره من أهل الشورى ، والآيات والروايات لا دلالة في شيء منها على هذا الترجيح ، مع وجود من هو أفضل منه ، أو مساو له في أصحاب النبي (ص) في الفضل كما ذكرنا؟ فإن زعمتم ورود روايات ونزول آيات في الخلفاء الثلاثة (رض) على الخصوص فيقال لكم :

أولا : إنّه لو كان لها وجود لاحتجوا بها يوم السقيفة على استحقاقهم الخلافة دون غيرهم ممّن حضر فيها ، ومن حيث أنّهم لم يذكروها ولم يحتجوا بشيء منها مع شدّة حاجتهم يومئذ إليها كما قدمنا علمنا أنّها موضوعة لا أصل لها.

ثانيا : إنّ ورود الروايات بالخصوص عندكم في فضل غير الخلفاء الثلاثة من العشرة المبشّرة موجب إمّا لتفضيلهم على الخلفاء الثلاثة ، أو تساويهم في الفضيلة. فإن أوجبت تلك استحقاق أبي بكر وعمر وعثمان (رض) للخلافة أوجبت هذه الخلافة لغيرهم من بقية العشرة لا سيما أنّ حديث العشرة المبشّرة يدلّ بوضوح على أنّهم جميعا بمنزلة واحدة فحكمهم واحد وإلّا لزمكم أحد أمرين :

إمّا أن تختاروا الترجيح بلا مرجح الباطل عقلا وشرعا ، أو

٤٥٥

تختاروا مخالفة النبي (ص) في مساواته بينهم وعدم ترجيحه لواحد منهم على الآخرين ، اللهم إلّا أن يرجع المرجح للخلفاء الثلاثة (رض) على غيرهم من الصحابة إلى التعصّب البغيض لهم ، وذلك مما نربأ بكم عن ابتغائه وقبوله. هذا كلّه فيما إذا كانوا يعلمون بنزول تلك الآيات في خلافتهم (رض) وورود هاتيك الروايات في إمامتهم.

إمّا إذا كانوا لا يعلمون بشيء منها ، مع حضورهم حين نزولها وصدورها عن رسول الله (ص) ، فيقال لكم : كيف يا ترى يكون من المعقول أن تعلموا بها أنتم وقد تأخّر عصركم عن عصرهم ، وكنتم بعيدين عن زمان نزولها ، ووقت صدورها ، سنين طويلة ، وهم مع قربهم من زمن النبي (ص) ، وحضورهم بحضرته (ص) ، لم يعلموا بها؟ إنّ هذا من أعجب العجائب لا يمكن لمثلكم قبوله!.

نعم يا صاحبي إنّ تركهم الاحتجاج بشيء منها ، وعدولهم عنها إلى غيرها ، ممّا لا دليل لهم فيه على إثبات خلافتهم (رض) كما قدمنا ليرشدكم إمّا إلى بطلان نزولها فيهم وورودها في خلافتهم ، أو بطلان دلالتها على شيء من أمر خلافتهم (رض) كما عليه إجماع المسلمين من الشيعة وأهل السنّة.

أمّا الشيعة فقد أجمعوا على انتفاء الإجماع الشرعي على خلافته ، وأنّه (رض) لم يكن مختارا من الله تعالى ، ولا من رسول الله (ص) ، وهذا شيء لا يختلف فيه اثنان منهم ، ويعتقدون بأنّ المتفقين عليه (رض) في السقيفة كانوا بعض الأمّة وكانوا مخطئين في ذلك كما تقدّم تفصيله.

وأمّا أهل السنّة فقد نقل هذا الإجماع النووي في شرحه لصحيح مسلم ص ١١٩ من جزئه الثاني في باب الاستخلاف عند قول الخليفة عمر بن الخطاب (رض) لما قيل له : «ألا تستخلف قال : فإن

٤٥٦

استخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير من أبي بكر رسول الله (ص)» إلى أن قال النووي : «وهذا دليل على أنّ النبي (ص) لم ينصّ على أحد وهو إجماع أهل السنّة».

ونحن نقول : لقد فات الإمام النووي بأنّ قول الخليفة عمر (رض) لا حجة فيه على أحد مطلقا ، لأنّه لم يرد في كتاب الله تعالى آية ولا في السنّة القطيعة رواية ، ما يدلّ على وجوب الأخذ بقول عمر (رض) أو غيره ، واعتباره حجّة لها أثرها وقيمتها فكيف يا ترى يصحّ أن يكون دليلا شرعيا نافيا لنصّ النبي (ص) على علي (ع) بما تقدم من نصوصه (ص) القولية والفعلية على خلافته بعده (ص) ، وقول رسول الله (ص) هو الحجّة لا قول عمر (رض) ولا فعله ، لأنّه لا دليل على حجّيته مطلقا.

وشيء آخر فات الإمام النووي ولم ينتبه إليه هو أنّ ترك الاستخلاف المنسوب إلى النبي (ص) في قول الخليفة عمر (رض) إن كان حقّا كان فعله باطلا ، وإن كان ترك النبي (ص) الاستخلاف باطلا لزم الإمام النووي أن يلصق الباطل إمّا بفعل النبي (ص) لأنّه (ص) ترك الاستخلاف على حدّ قول عمر (رض) أو يلصقه بأبي بكر (رض) لأنّه استخلف عمر (رض) إذ لا واسطة بين الحق والباطل ، ولا بين الصحيح والفاسد. وأيّا قال النووي فهو دليل على عدم صحّة قول الخليفة عمر (رض).

٤٥٧
٤٥٨

قول عبد الله الحضرمي

الخلافة كرئاسة شيخ العشيرة

والغريب من عبد الله الحضرمي أن يقول في كتابه ، (رد على كتاب السقيفة) «فإذا اتفق كبار القوم على رئاسة شيخ العشيرة ، فلا عليه إذا تخلف عشرة أو عشرون من سائرهم ، لأنّ العبرة لكبار القوم وكثرتهم» : وأقول : إنّ الحضرمي لما أفلس من الحجة ، ولم يظفر بالسند ، عمد إلى التمويه والمغالطة ، فزعم أنّ مثل الخليفة لرسول الله (ص) كمثل شيخ عشيرة تنعقد بأكثرية العشيرة ، وكبارهم ، ولا يضرها تأخر عشرة أو عشرين من سائرهم لأنّ العبرة بكبارهم وكثرتهم ، لا يا أستاذ! فإنّ الخلافة هي الزعامة الكبرى ، والرئاسة العظمى ، كما قلنا في أمور الدين والدنيا ، وهي خلافة الرسول (ص) وإمامة الأمة في حفظ الشريعة من الضياع ، والزيادة والنقيصة ، وحسم مادة الفتن ، وقطع دابر الفساد. وإقامة الحدود ، وحفظ بيضة الإسلام ، وحوزته ، على الوجه الشرعي والقانون الإلهي ، الذي جاء به النبي (ص) من عند الله تعالى.

وهذا هو المدار في الخلافة ، وهذا لا يحصل إلا إذا كان الإمام جامعا لجميع الفضائل العالية :

من الأعلمية ، والأفضلية ، والأشجعية ، والتقى ، والورع ،

٤٥٩

والجود ، والسخاء ، والعفة ، والحياء ، إلى غير ما هنالك من الخصال الحميدة والخلق العالية.

وأن يكون مع ذلك معصوما من الخطأ ، والنسيان ، والزلل ، والعصيان.

وأن يكون مختارا من الله تعالى دون أحد من الناس الأمر الذي يعترف العقل بلزومه ، والعقلاء بوجوب ثبوته في الإمام على الأمة.

وكل ذلك قد توفر بكامله في عليّ بن أبي طالب (ع) خاصة فإنّه (ع) أشرفهم نسبا ، واكرمهم حسبا ، وأعلاهم قدرا ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما ، وأكثرهم جهادا ، وأقضاهم حكما ، وأولهم إيمانا ، وأوفاهم بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم مزية عند الله تعالى.

إلى غير ما هنالك من الملكات التي هي شرط أكيد في الإمام ، ووجوده ، معتبر عند أهل العرفان ، وقد أتصف بها عليّ وحده عليه‌السلام.

وكل ما كان كذلك فلا ينعقد باختيار الناس ورأيهم كثروا أم قلّوا. إذ ليست الكثرة مدارا في اختيار الإمام وثبوت إمامته ليقاس عليه شيخ العشيرة ، وكيف يجوز القياس لو قلنا بصحته في المقام مع اختلاف الموضوعين : موضوع الإمام ، وموضوع شيخ العشيرة ، وتباينهما موضوعا ومحمولا ، وصغرى ، وكبرى ، وحكما ، فلأنّ رئاسة شيخ العشيرة لا تكون إلا على الوجه السياسي العرفي الذي كان يستعمله أمراء الجور ، وأئمة الضلال ، أمثال معاوية ، ويزيد ، والوليد ، وغيرهم من الذين تربعوا على دست الإمارة في هذه الأمة ، واستعملوا

٤٦٠