مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

الإنفاق على رسول الله (ص)

قال : لقد صحّ ما ذكرتم من أنّ الألقاب والنعوت لا تدلّ على إمامة الموصوف بها ما لم تكن مستندة إلى كتاب الله تعالى والسنّة النبويّة (ص) القطعية المجمع عليها بين الشيعة وأهل السنّة ، لتتم الحجّة به على الفريقين ، ليكون من دليل البرهان الذي لا مناص لهما عنه ، ولما كان الكتاب والسنّة خاليين من ذلك فيمن نعتهم الناس بتلك الصفات والألقاب ، فلا مجال لأحد أن يركن إليها أو يعتمد عليها ، في إثبات خلافة النبوّة (ص) وإمامة الأمّة. ولكن مخالفيكم يقولون : قال رسول الله (ص) : «ما نفعني مال كمال أبي بكر» ، وقال (ص) في موضع آخر : «ما أحد من الناس أعظم علينا حقّا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة» فإنّ في هذين الحديثين لدلالة واضحة على أنّ لأبي بكر (رض) من الإنفاق على النبي (ص) ، والمواساة له بماله (رض) ما لم يكن لعلي بن أبي طالب (ع) ، ولا لغيره من أصحابه (ص).

قلت : أولا : لو كان الحديثان صحيحين ، وكانا صادرين عن رسول الله (ص) ، ويدلّان على اختصاص الخلافة بأبي بكر (رض) ، لكان أبو بكر (رض) أولى وأحقّ بالاحتجاج بهما على منازعيه في السقيفة

٤٢١

من هذا المستدلّ ، لقرب أبي بكر (رض) من النبي (ص) وبعد هذا المستدلّ عن عصره (ص) ، ولا يصحّ أن يغفل عنهما أبو بكر (رض) ، ولا يغفل عنه هذا القائل أو ينساه (رض) ، ولا ينساه هذا المستدل ، وإذا جاز أن يغفل عنهما أبو بكر (رض) أو ينساهما ، فلا جائز أن يغفل عنهما أصحابه (رض) أو ينسوهما مع كثرتهم ، ومسيس حاجتهم إليهما ، في ذلك الحال ، ومن حيث أنّ شيئا من ذلك لم يحدث إطلاقا علمنا أنّهما موضوعان بعده (رض) تعصّبا له.

ثانيا : لو سلمنا لكم جدلا ورودهما ، ولكنهما من آحاد الخبر ، ومثله لا يصلح أن يكون حجّة متّبعة ، لأنّه لا يوجب علما ، ولا يقتضي عملا.

ثالثا : لو كان لأبي بكر (رض) مال أنفقه على رسول الله (ص) لكان له وجه معلوم ، ومعروف ، وظاهر ، ومشهور ، ألا فانظروا إلى صدقة علي (ع) كيف اشتهرت حتى علم بها الخاص والعام ، وإلى نفقته بالليل والنهار ، سرّا وعلانية ، حتى أنزل الله تعالى في ذلك كلّه قرآنا ، ولم يخف أمره على أحد من أهل الإسلام ، ولم تخف صدقته (ع) التي قدّمها بين يدي نجواه حتى أجمع عليها المسلمون كلّهم أجمعون ، وصرّح بها رسول الله (ص) في الصحاح الجياد ، وتواتر إطعامه المسكين ، واليتيم ، والأسير ، لوجه الله تعالى ، كما ورد الحديث فيه مفصّلا في سورة الدهر : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وذكر ذلك كل من جاء على تفسيرها من مفسّري أهل السنّة!.

بل لو كان لأبي بكر (رض) إنفاق لاشتهر في الأقل كاشتهار نفقة عثمان بن عفان (رض) في جيش العسرة ، ولما لم يكن الأمر في إنفاق أبي بكر (رض) على ما قدمنا ، كان الخبر في إنفاقه مقصورا على ابنته عائشة أمّ المؤمنين (رض) خاصّة ، وفي طريقه الشعبي ، ومن كان مثله من

٤٢٢

أهل التعصّب البغيض ، من المتقربين إلى بني أميّة في وضع الأحاديث ، رغبة في الدرهم والدينار ، وكل ما كان الأمر فيه كذلك ، فلا حجّة فيه ، فهو مردود ، ومرفوض.

رابعا : لو كان لأبي بكر (رض) إنفاق على النبي (ص) فلما ذا يا ترى لم يرض رسول الله (ص) أن يأخذ منه (رض) بعيرا إلّا بالثمن عند الهجرة ، وفي تلك الحالة من الشدّة والاضطرار ، على ما أخرجه البخاري في صحيحه ص ٢١٨ في أواخر أبواب الجزء الثاني في باب الهجرة ، والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص ٢٤٥ من جزئه الخامس عن عائشة أم المؤمنين (رض) ، وابن الأثير في كامله ص ٤٩ من جزئه الثاني ، وابن جرير في تاريخه ص ٢٤٥ وما بعدها من جزئه الثاني؟.

بل كيف يستطيع أحد أن يدّعي لأبي بكر (رض) إنفاقا وقد أشفق أن يقدّم بين يدي نجواه صدقة يسيرة وترك أهل المحاويج بلا شيء يوم الهجرة ، وأخذ ماله معه (رض) ، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم ، ولم يترك شيئا لأبيه على ما سجّله الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص ٣٥٠ من جزئه السادس عن أسماء بنت أبي بكر (رض) ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ص ٥ من جزئه الثالث وصحّحه على شرط البخاري ومسلم؟.

ثم يقال له أين يا ترى كان مال أبي بكر (رض) لينفقه على ابنته أسماء ، وقد تزوّجت الزبير وهو فقير لا يملك سوى فرسه ، فكانت تخدم البيت ، وتسوس الفرس ، وتدقّ النوى لناضحة ، وتعلّفه ، وتستقي الماء ، وكانت تنقل النوى على رأسها من أرض الزبير ، وهي على ثلثي فرسخ من منزلها ، لتعتاش به ، على ما رواه البخاري في صحيحه ص ١٧٥ من جزئه الثالث في باب الغيرة من كتاب النكاح ، وابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري ص ٢٥٨ من كتابه

٤٢٣

فتح الباري في باب الغيرة من كتاب النكاح من جزئه التاسع ، والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص ٣٤٧ من جزئه السادس؟.

فلو صحّ ما يدّعيه هذا القائل من الإنفاق لأبي بكر (رض) لزمه أن يقول إنّ أبا بكر ترك ما يجب عليه من الإنفاق على ابنته أسماء لوجوب صلة الرحم عليه ، وهي أقرب الناس إليه ، وذلك ما لا يمكنه دفعه إلّا إذا نسب العصيان إليه (رض) بتركه ما وجب عليه ، وذلك ما لا يرضيه ولا يمكن أن يبتغيه.

بل لو كان ذا مال وثروة لكان الواجب يحتّم عليه أن ينقذ أباه أبا قحافة فإنّه على ما ذكره أبو جعفر الإسكافي وحكاه عنه ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ص ٢٧٢ من جزئه الثالث : (أنّه كان فقيرا ، مدقعا ، سيئ الحال) فلم يعمل بماله على استمالته إلى الإسلام بالنفقة عليه والإحسان إليه وكان عليه ، لو كان له مال ، أن ينقذه من شدّة النصب والتعب المجهدين في تحصيل قوته ، وأبو بكر (رض) كما يدّعي هذا القائل كان ثريا ، فائض المال ، فحين كانت له عينان يبصر بهما ، كان يبرز إلى الصحاري ليصيد الدباسي (وهو طائر صغير) ، ليقتات بثمنه ، ولما ذهبت عيناه جعل ينادي الأضياف إلى مائدة عبد الله بن جذعان ، ليقوت بذلك نفسه ، فكيف يا ترى يمكن أن يجتمع هذا كلّه مع وجود الثروة له (رض) ، والإنفاق؟.

والإلزام لهذا القائل أن يقول بعصيان أبي بكر (رض) ، ومخالفته للشريعة بتركه (رض) الإنفاق على أبيه وابنته مع ما هما عليه من الفقر والفاقة ، وما هو (رض) عليه من المال والثراء ، لأنّه لو صحّ لكان قاطعا لرحمه ، وليس في قلبه شيء من الرقة والرأفة على أقرب الناس إليه رحما ، وأشدّهم به نوطا ، شرعا وعرفا ، وذلك ما لا يستطيع أن يقول به ، فإذا بطل هذا كان ذلك مثله باطل.

٤٢٤

خامسا : لو كان له (رض) إنفاق كان على هذا المستدل أن يذكر لنا موضع إنفاقه وفيما كان ذلك الإنفاق؟ لنعلم به.

فإن قالوا أنفق ماله بمكة قبل الهجرة :

فيقال لهم : لم يكن لرسول الله (ص) بمكة من العيال ما يحتاج إلى أن ينفق عليهم ذلك المال من حين إسلامه إلى زمان هجرته ، ولم يكن (ص) يومئذ قد جهّز جيشا ، ولم يقاتل عدوا لا هو (ص) ، ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه بمكة ، ليحتاج إلى ذلك المال المدّعى إنفاقه عليه (ص) من أبي بكر (رض) ، فإنّ الأمّة مجمعة :

على أنّ الذي أسلم معه وقتئذ أربعون رجلا فلما اشتدّ أذى قريش لهم شكوا ذلك إلى النبي (ص) فولّى عليهم ابن عمّه جعفر بن أبي طالب (ع) ، وأمرهم بالخروج إلى الحبشة ، فكانوا هناك إلى أن هاجر النبي (ص) ، وفتح الكثير من فتوحاته ، لا سيما أنّ أبا بكر نفسه (رض) كان من المعذبين بمكة قبل الهجرة ، فإنّ نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية ضربه مرتين. حتى أدماه ، وشدّه مع طلحة بن عبيد الله بقرن (بحبل) ، وألقاهما في هجيرة عمير بن عثمان ، فسمّيا من ذلك اليوم بالقرينين ، على ما حكاه ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ص ٢٦٧ من جزئه السادس ، وابن كثير في (البداية والنهاية) ص ٢٩ ومن بعدها من جزئه الثالث.

فلو صحّ أنّ له مالا كثيرا لبذله في تخليص نفسه من ذلك الأسر ، ومن حيث أنّ شيئا من ذلك لم يحصل علمنا بطلانه.

وإن قالوا : أنفق ذلك المال بعد الهجرة في المدينة.

فيقال لهم : لقد علم الناس كافة من صحيح الخبر أنّ أبا بكر (رض) ورد المدينة وهو في حاجة ماسّة إلى معونة الأنصار في المال والمسكن ، وقد فتح الله تعالى على نبيّه (ص) من قريب من غنائم أهل

٤٢٥

الشرك والكفر ما أغناه من إنفاق أبي بكر (رض) وغيره من العرب عليه (ص).

سادسا : إنّ الله تعالى قد أخبر في كتابه العزيز أنّه تعالى هو المغني لنبيّه (ص) عن سائر الناس ، وأنّه (ص) لا حاجة به (ص) في الدنيا والدين إلى أحد من المخلوقين ، والقرآن يقرّر هذا ويؤكّده بقوله تعالى في سورة الضحى آية ٦ وما بعدها : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى * وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى).

فإنّه لا جائز مع ذلك أن يحتاج إلى ما بأيدي الناس ، وإلّا لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى ، وتلك قضية وحدة السياق وتساوي المتعاطفات في الحكم. ولما بطل هذا ثبت أنّه تعالى قد أغناه في الدنيا كما أغناه بهداه تعالى.

سابعا : لو كان له (ص) فيما ذكره الله تعالى من نعمة ما يسري بواسطته (ص) الفضل من الله تعالى إلى أحد من الناس ، لكان اللازم اختصاص ذلك الفضل بآبائه (ص) ، وبعمّه أبي طالب ، وولده (ع) وبزوجته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، دون أبي بكر (رض) ، وذلك فإنّ الله تعالى قد آوى نبيّه (ص) من يتمه بجدّه عبد المطلب (رض) ، ثم بعمّه أبي طالب (رض) من بعده ، فكان (رض) مربيّه ، وكفيله في صغره ، وناصره وواقيه من أعدائه بنفسه وولده في كبره (ص) ، وأغناه تعالى بما ورثه من أموال آبائه صلوات الله عليهم أجمعين ، وهم سادات العرب وملوكها ، وأهل المال فيهم واليسار بلا خلاف بين الخاصّ والعام ، بل هو معلوم لدى جميع أهل الملل والأديان.

فإن كان هذا القائل في ريب ممّا قلناه فعليه بمراجعة كتاب (بلوغ الأرب في أحوال العرب) وغيره من كتب التاريخ والسيرة في أحوال

٤٢٦

آباء النبي (ص) ، وأجداده صلى الله عليه وعليهم وسلم ليعلم ثمّة صدق ما قلناه.

ثم كيف يا ترى فات على هذا القائل ، ولم يهتد إلى معرفة ما استحصل النبي (ص) من الأموال ، بعد خروجه إلى الشام ، وما وصل إليه من زوجته أم المؤمنين خديجة رضوان الله تعالى عليها التي علم الناس كافّة ما كانت (رض) عليه من الثراء وكثرة المال؟.

ولم يكن لأبي بكر (رض) ، وعمر ، وعثمان (رض) ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، ما يمكن أن يكون سببا لشيء من ذلك يسري به الفضل منه إلى من ذكرنا ، وإنّما كانوا جميعا معوزين ، فأغناهم الله تعالى برسوله (ص) ، وكانوا ضالين فهداهم الله تعالى به (ص) إلى الهدى ، وكانوا أذلّة يخافون أن يتخطفهم الناس فأعزّهم الله تعالى به (ص) ، فتمكنوا بإظهار طاعته (ص) ، والاعتراف بنبوّته (ص) ، أن يتوصلوا إلى الملك العظيم ، والجاه العريض ، والمال الكثير.

ولو فرضنا أنّ في أولئك المذكورين من كان قبل الإسلام له من الأموال ما يصحّ أن يضاف إليه الغنى واليسار ، وإن منهم من له قبيلة يمتاز بها في الشرف عمّن سواه ، ولكن لا مجال لكم أن تشكوا ، وأنتم واقفون على التأريخ الصحيح عند أهل السنّة ، في فقر أبي بكر (رض) كما تقدّم تفصيله ، وإنّه (رض) كان من أقلّ حيّ في قريش على ما حكاه ابن الأثير في كامله في حديث السقيفة ، وغيره من أمناء التأريخ عند أهل السنّة ممّن جاء على ذكر السقيفة وما وقع فيها من التنازع والاختلاف.

ومن هذا وأضعاف أمثاله تعلمون عدم يساره (رض) ، وعدم إنفاقه على رسول الله (ص) ، وعدم نفعه (رض) له (ص) بشيء ممّا ادّعاه هذا المستدلّ.

٤٢٧

ثامنا : لو كان لأبي بكر (رض) إنفاق على رسول الله (ص) كما يدّعون لنزل بمدحه القرآن ، فمن حيث خلو كتاب الله من ذلك بالإجماع من الشيعة وأهل السنّة ، مع ثبوت نزوله في غيره على اليسير من الإنفاق بالاتّفاق ، نستشرف على القطع واليقين بأنّه لا إنفاق له (رض) عليه (ص) لا سيما أنّكم تعلمون بأنّ الله عادل كريم لا يشيد بذكر القليل من الطاعة له على وجه الخلوص ، ويكتم الكثير ، وينوّه بالصغير ، ويمدح عليه ، ويهمل المدح على الكثير.

تاسعا : إنّكم تعلمون كما يعلم الناس أنّ إنفاق الصحابة على النبي (ص) إنّما كانت في السلاح ، والكراع ، والإعانة على الجهاد ، ووصل الفقراء من المسلمين ، وسدّ إعواز الأرامل والمساكين من المهاجرين.

وأمّا النبي (ص) فإنّه لم يطلب الوصل من أحد لنفسه (ص) ، ولم يجعل عليه قسما من المئونة لذاته الطاهرة (ص) ، ولا أراد منهم شيئا لأهله وعشيرته (ص) ، لأنّ الله تعالى قد حرّم عليه (ص) ، وعلى أهل بيته الأطهار (ع) الصّدقة ، ولم يجعل له (ص) درهما ولا دينارا ، ولا ذهبا ولا فضة ، ولا شيئا من عرض الدنيا ، أجرا على تبليغ رسالات ربّه تعالى إليهم ، وهدايتهم لدينه ، وإخراجهم من ظلمات الشرك والكفر إلى نور الإسلام ، وكان (ص) من أزهد الناس في الدنيا وزخارفها ، ولم يزل (ص) منفقا ما في يديه (ص) من مواريث آبائه ، وتركاتهم ، وما أفاء الله تعالى عليه (ص) من الغنائم والأنفال التي جعلها الله تعالى خالصة له (ص) من دون الناس إلى الفقراء من أصحابه ، وذوي الفاقة من أتباعه ، حتى استقرض لذلك ما قضاه عنه (ص) علي (ع) بعد وفاته (ص) ، وكان علي (ع) هو المنجز لعداته ، والقاضي عنه دينه على ما في الصحيح المتفق عليه بين حملة الآثار النبوية من أهل السنّة.

٤٢٨

حديث الخلافة والوصاية

فقد قال (ص) : «من يضمن عني ديني ، ومواعيدي ، ويكون معي في الجنّة ، ويكون خليفتي في أهلي ـ إلى قوله ـ فقال علي : أنا أكون وزيرك عليه» فأخذ برقبة علي وقال : إنّ هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي» على ما حكاه محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد (ص)) ص ١٠٤ من الطبعة الأولى ، والطبري في ص ٦٣ من تاريخه من جزئه الثاني بطرق مختلفة ، وأرسله ابن الأثير إرسال المسلمات في الجزء الثاني ص ٢٢ من كامله ، والحاكم في مستدركه ص ١٣٢ من جزئه الثالث ، والذهبي في تلخيصه وصححاه على شرط البخاري ومسلم ، والخازن في تفسيره ص ١٠٥ من جزئه الخامس عند تفسير قوله تعالى في سورة الشعراء آية ٢١٤ : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، والبغوي في تفسيره ص ١٠٥ بهامش الجزء الخامس من تفسير الخازن ، والإمام أحمد بن حنبل في مسنده ص ١٥٩ من جزئه الأول ، والسيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ص ٥٧ من جزئه الخامس ، وابن كثير في تفسيره ص ١٣١ من جزئه الثالث ، والحلبي الشافعي في سيرته الحلبية في باب استخفائه (ص)

٤٢٩

وأصحابه في دار الأرقم ص ٣٨١ من جزئه الأول ، والنسائي في خصائصه العلوية ص ٦ ، وكثير غيرهم من حفّاظ أهل السنّة ومفسّريهم ، كما مرّ عليكم تفصيله.

وبعد هذا كلّه فلا يصحّ لهذا القائل أن ينسب إلى النبي (ص) قوله : «ما نفعني مال كمال أبي بكر (رض)» وهو يرى كما ترون ، ويرى غيركم ، أنّ الدلائل الواضحة تشهد على بطلانه وافترائه عليه (ص).

عاشرا : إنّا لم نروجها فيما زعمه هذا القائل من إنفاق أبي بكر (رض) ، إلّا دعوى شرائه بلالا من مواليه لما قصدوا تعذيبه على إسلامه ليردوه عن الإيمان إلى الكفر. وهذا لا يصحّ في حال ، وذلك لأنّ أبا بكر (رض) نفسه كان من المعذبين على ما قدمنا لكم فلم يستطع هو أن يخلّص نفسه ، فكيف تكون له (رض) القدرة على تخليص غيره ، ولأنّ بلالا أعتقه رسول الله (ص) على ما حكاه الواقدي ، وابن إسحاق ، وغيرهما ، فيما قاله أبو جعفر الإسكافي ونقله ابن أبي الحديد في (شرح النهج) ص ٢٧٤ من جزئه الثالث.

ولو سلمنا لكم ذلك جدلا فإنّه لا يوجب أن يمدح النبي (ص) أبا بكر (رض) ويخبر بأنّه «ما نفعه مال كمال أبي بكر (رض)» لأنّ بلالا لم يمتّ إلى رسول الله (ص) بنسب ، ولم يتصل به بسبب ، ليكون خلاصه بمال أبي بكر (رض) نفعا لرسول الله (ص). ولو كان يسري ما اختصّ بلالا من النفع بمال أبي بكر (رض) إلى رسول الله (ص) من أجل إيمان بلال برسالته (ص) ، وإقراره بنبوته (ص) ، ولكي يكون من جملة أصحابه (ص) ، لسرى ذلك النفع إلى الله تعالى ، وإلى جميع ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصديقين ، لأنّ الإيمان بالنبي (ص) يعني الإيمان بالله

٤٣٠

تعالى ، وبجميع من ذكرنا لا خصوص النبي (ص). وهذا كما ترونه لا يذهب إليه من له عقل أو شيء من الدين أو ذرّة من الفهم.

٤٣١
٤٣٢

الحديث جاء في مدح

أمّ المؤمنين خديجة رضوان الله تعالى عليها

الحادي عشر : إنّ الثابت في الحديث الصحيح المتّفق عليه بين الفريقين مدح النبي (ص) لأمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله تعالى عليها دون أبي بكر (رض) ، وهذا ما أجمع المسلمون جميعا على صحة روايته ، وصدوره عن رسول الله (ص) من أنّه (ص) قد انتفع بمالها ، وأنّ ذلك ممّا اختصّت به وحدها لم يدخل معها في ذلك داخل ، ولا داخلة ، ولا دخيلة.

فقد أخرج ابن عبد البر في استيعابه ص ٧٤١ من جزئه الثاني في أحوال أم المؤمنين خديجة رضوان الله تعالى عليها ، والبخاري ومسلم في صحيحهما في باب (فضائل زوج النبي (ص) خديجة وفضلها) بلفظ قريب من اللفظ الذي سنورده عن الاستيعاب.

عن عائشة أم المؤمنين (رض) أنّها قالت : «ذكر رسول الله (ص) خديجة رضي الله تعالى عنها ذات يوم فتناولتها فقالت عجوز كذا وكذا قد أبدلك الله بها خيرا منها! قال : ما أبدلني الله خيرا منها ، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس ، وصدقتني حين كذبني الناس ، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس ، ورزقني ولدها وحرمني ولد غيرها».

٤٣٣

وفيه في الباب نفسه عن عائشة أمّ المؤمنين (رض) (قالت كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة (رضوان الله تعالى عليها) فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلّا عجوزا! فقد أبدلك الله خيرا منها! فغضب (ص) حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال : لا والله ما أبدلني الله خيرا منها! آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء) (الحديث).

وأنتم لو لاحظتم قوله (ص) في الحديثين : «وأشركتني بمالها إذ حرمني الناس وواستني في مالها إذ حرمني الناس» لأدركتم اختصاص ذلك بها وحدها رضوان الله تعالى عليها دون ما ادّعاه هذا المستدلّ لأبي بكر (رض) من الإنفاق على رسوله (ص) وانتفاعه (ص) بماله (رض) وإنّه (رض) سبق جماعة الأمّة إلى الإيمان بالنبي (ص) ، في حين إنّ في الحديثين الشريفين لشهادة قطعية من رسول الله (ص) بتقدم إيمان خديجة رضوان الله تعالى عليها على أبي بكر (رض) ، وهذا كما ترونه من الحجة الواضحة عليكم لأنّكم لثبوته في أصح الكتب لديكم.

٤٣٤

عقد البيعة

قال : إنّ عقد البيعة لأبي بكر (رض) ، وعمر ، وعثمان (رض) ، وتقدّمهم في الزعامة على جميع الصحابة ، يدلّ على فضلهم في الإسلام ، وعلو قدرهم في الدين ، وأفضليتهم من الصحابة أجمعين ، وإن لم يصل إلينا بذلك الفضل أثر ، ولم ينقل لنا فيه خبر ، وذلك لما تعلمون من أن القوم لم يكونوا أكثرهم مالا فيطمع الذين عقدوا البيعة لهم في نيل أموالهم ، ولا كانوا أشرفهم نسبا ، فيدعو ذلك إلى تقديمهم ، فإنّ بني عبد المطلب أشرف منهم ، ولا كانوا أعزّ نفرا ، فيخافوا من عشيرتهم فإذا تسجّل لديكم انتفاء ذلك كلّه عنهم ، وثبوته في غيرهم ، ثبت أن الذين قدموهم على عليّ (ع) ، والعباس بن عبد المطلب ، وغيرهم من أصحاب رسول الله (ص) جميعا ، لم يقدموهم إلّا لوجود فضل فيهم لم يكن شيئا منه في غيرهم ممّن ذكرنا ، وإلّا فما الداعي يا ترى إلى انقياد العقلاء من أصحاب رسول الله (ص) إلى أمرهم وما هو الموجب يا ترى لهم أن ينصبوهم أئمة ورؤساء على الجميع دون غيرهم لو لا ما قدّمنا؟!.

قلت : أولا : لو صحّ ما ادّعيتم لهم من الفضل ما يتميّزون به عن غيرهم من الصحابة خفي علينا خبره لما خفي أثره على الصحابة

٤٣٥

أنفسهم ، فلم يذكروا منه شيئا لمن حضر في السقيفة عند عقد البيعة ، ولا يمكن أن يخفى أمره عليهم ، أو يغفلوا عنه ، مع طول التنازع والاختلاف بينهم في أي منهم سوف ينالها ، كما لا يمكن أن يخفى أمره علينا وقد حدثنا التاريخ الصحيح بكل ما جرى في السقيفة ، ولم يهمل التاريخ منه شيئا ، ولم يغفل عن تسجيله ، وذكر ما حدث فيها ، كاملا غير منقوص ، ولم يذكر التأريخ لنا رغم إحصائه كل شاردة وواردة فيها أن تقدمهم على غيرهم من أصحاب رسول الله (ص) كان لأجل فضل فيهم مفقود في غيرهم ، فالقول بذلك لا يعتمد على دليل ولا يسنده شيء من البرهان.

ثانيا : لو كان لهم (رض) فضل يمتازون به على غيرهم ، كما تدعون ، وخفي علينا علمه ، ولم يخف عن أهل عصرهم لوجب أن تتواتر فيه الأحاديث وتنقله حملة السيرة والآثار ، بل لظهر إلى درجة القطع واليقين عند المسلمين أجمعين لا سيما إذا لاحظتم أنّ جميع الدواعي إلى إذاعة فضائلهم متوفّرة في حكاية ما كان لهم ، لو كان ممّا يوجب الإجلال لأشخاصهم ، والتعظيم لذواتهم ، والموانع زائلة عن التحدّث بها لمن وجد شيئا من ذلك.

ألم تروا أنّهم كانوا أمراء على الناس في عصورهم ، وكانت السلطنة بيدهم ، والسلطة على الجميع لهم ، وكان مظهر والولاء لهم ، والمقرون بخلافتهم ، والمعترفون بإمامتهم في زمانهم وما بعده إلى يومنا هذا. هم ظاهرين ومسيطرين على من خالفهم وعارضهم ، وكان المعروفون بعداوتهم مهدوري الدماء ، والمتهمون بها خائفين مطرودين من البلاد ، ومشرّدين في الأمصار ، ومن ظنّ به بغضهم (رض) أخرجوه من الدنيا ، وألحقوه بالآخرة ، واستخفّوا بعقيدته ودينه ، بل كان القتل عندهم لمخالفيهم (رض) سنّة فيمن أظهر الولاء لعلي بن أبي

٤٣٦

طالب (ع) وإن أظهر الحب لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان (رض) وتديّن به وكيف يا ترى يخفى عليكم؟ :

ما فعله بنو أمية وعمّالهم في أدوارهم من اختبار الناس بالبراءة من علي (ع) ، واعتبارهم ذلك طريقا إلى معرفة اعتقادهم في المتقدمين (رض) عليه (ع) ، وكل من امتنع من البراءة منه (ع) حكموا عليه بعداوة أبي بكر وعمر (رض) ، والبراءة من عثمان بن عفان (رض) ، فلا يجد أمامه إلّا القتل ، ومن تبرأ من علي (ع) كان عندهم من أهل السنّة ، ومن الموالين لأبي بكر وعمر وعثمان (رض) ، وكانوا ينالون منصب الإمارة ، والقضاء ، وحيازة الأموال؟؟.

والتقرّب من خلفاء بني أمية ، وبني العباس ، بالتعصّب لأبي بكر وعمر وعثمان (رض) ، والدعوة إلى إمامتهم ، والتفضيل لهم (رض) على جميع الصحابة ، والافتعال بما ينسبونه إليهم من الفضل ممّا لا وجود له في كتاب الله تعالى ، ولا في سنّة نبيّه (ص) ، ولا يقرّه من له عقل سليم ، وهذا شيء لا سبيل إلى إنكاره.

وبعد وقوفكم على هذا كله ، وأضعاف أمثاله ، كيف يصحّ لكم أن تدعوا وجود فضل لهم (رض) يميّزهم عن غيرهم لم نحط به علما أوجب لهم (رض) التقدّم على أصحاب رسول الله (ص) جميعا؟.

والخلاصة : لو كان ما ادّعيتموه لهم من الفضل صحيحا لاحتجّ به أبو بكر (رض) في السقيفة على من نازعه الخلافة من الخزرج حتى قال هو (رض) لمن حضرها من الأنصار. «منّا أمير ومنكم أمير».

وهذا يدلّكم بوضوح على أنّ شيئا من ذلك لم يكن معلوما لديهم وإلّا لم يقع التنازع بينهم في السقيفة في تعيين شخص الخليفة من بينهم ، حتى كادت الفتنة أن تقع بينهم على ما تقدم تسجيله عن كل

٤٣٧

من جاء على ذكر السقيفة ، وكيفية أخذ البيعة ، من مؤرّخي أهل السنّة وحفّاظهم.

ثالثا : إنّ صفات الفضل من الأمور المعروفة عند المسلمين كافة لا يختلف فيها اثنان منهم وهي :

١ ـ السّبق إلى الإسلام.

٢ ـ الجهاد بين يدي رسول الله (ص).

٣ ـ العلم بالدّين.

٤ ـ الإنفاق في سبيل الله تعالى.

٥ ـ الزّهد في الدنيا وزخارفها ، وقد سبرنا أحوال المتقدمين (رض) على علي (ع) فلم نجد ما يقتضي لهم فضلا يوجب تقدّمهم (رض) عليه (ع).

٤٣٨

صفات الفضل كلّها مجتمعة في علي (ع)

أمّا السّبق إلى الإسلام فقد كان علي بن أبي طالب (ع) أول القوم إسلاما لقول النبي (ص) : «أولكم ورودا على الحوض ، أولكم إسلاما علي بن أبي طالب» على ما أخرجه الحاكم في مستدركه ص ١٢٦ من جزئه الثالث ، والذهبي في تلخيصه وصححاه على شرط البخاري ومسلم ، وهذا الحديث متّفق على صحّته بين الفريقين فهو الحجّة دون غيره ممّا اختلفوا فيه فإنّه لا حجّة فيه ، وفيه دلالة صريحة على خلافته (ع) بعد النبي (ص) لقوله تعالى في سورة الواقعة آية ١٠ و ١١ : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

والمقرّب عند الله تعالى لا شكّ في أنّه أولى وأحقّ بإمامة الأمّة ، وخلافة الرسالة.

أمّا أبو بكر (رض) فقد تقدّم عليه في الإسلام زيد بن حارثة على ما أخرجه المحبّ الطبري في كتابه (الرياض النضرة) ص ٥٥ من جزئه الأول عن ابن إسحاق فإنّه قال :

«أول من أسلم علي بن أبي طالب ثم زيد بن حارثة ثم أبو بكر» والحجة فيه للاتّفاق عليه لا في غيره ، فإنّه مختلف فيه فلا حجّة فيه.

٤٣٩

وأمّا عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان (رض) فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنّهما لم يكونان من السابقين الأولين إلى الإسلام ، وقد تقدّم عليهما في الإسلام خلق كثير من أصحاب النبي (ص) كما تجدون ذلك في كتب الحديث ممّن جاء على ترجمتهما من حفّاظ أهل السنّة ومؤرّخيهم.

٤٤٠