مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

السيد أمير محمد القزويني

مناظرات عقائديّة بين الشيعة وأهل السنّة

المؤلف:

السيد أمير محمد القزويني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٣

فإنّ الله تعالى فضل المجاهدين عليهم بالأجر العظيم ، فكيف يا ترى يحول النبي (ص) بين أبي بكر وعمر (رض) وبين نيلهما أجر المجاهدين في سبيل الله تعالى ، وما أرسل الله تعالى نبيه (ص) إلا لطفا لعباده ، ورحمة للعالمين أجمعين ، ليأمره بما يقربهم إلى الجنة ، وينهاهم عما يبعدهم عن النار.

ثم يقال لكم ما تقولون لو قال لكم قائل : لما كان رسول الله (ص) على علم من خوفهما (رض) من البراز وقتال الأعداء ، وأنّ نزولهما في ميدان القتال يوجب رجوعهما كما صنعا ذلك في يوم (أحد) و (حنين) و (خيبر) بالاتفاق ، فيكون أعظم الضرر على المسلمين ، ولا يؤمن من وقوع الوهن في جيوشهم برجوع شيخين من شيوخهم ، أو إنّهما يستسلمان للعدو؟ لفرط ما يلحقهما من الاضطراب رأى النبي (ص) أنّ مصلحة الإسلام وصلاح المسلمين يوجبان منعهما لطفا من الله تعالى ، ورحمة للمسلمين ، فأمر تعالى رسوله (ص) بذلك لئلا يحدث منهما مثل ما ذكرنا ، ولا شك في أنكم لا ترتضون هذا ، ولا يمكن لكم ، ولا لغيركم أن يبتغيه ، فإذا بطل هذا عندكم كان ذلك مثله باطل.

ثانيا : كيف يجوز لمسلم ، عرف رسول الله (ص) ، وقدّره حقّ قدره ، أن يقول إنّ جلوس الخليفتين أبي بكر وعمر (رض) مع النبي (ص) كان لأجل رجوعه (ص) إليهما في الرأي والتدبير ، والمسلمون كلّهم يعلمون أنّ رسول الله (ص) كان كاملا وأبو بكر وعمر (رض) كانا دونه في الكمال ، وكان (ص) معصوما ، ولم يكونا معصومين ، وكان (ص) مؤيّدا بالملائكة ، وكانا غير مؤيّدين ، وكان (ص) يوحى إليه وينزل عليه القرآن ، وهما (رض) لم يكونا كذلك ، وكان جبرئيل (ع) يخبره عن الله تعالى بما فيه مصلحة العباد وصلاح البلاد ، ولم يكونا كذلك! فأيّ حاجة يا ترى تحصل

٤٠١

لرسول الله (ص) إليهما في الرأي والتدبير حتى يمنعهما من أشرف الفرائض على كل حال ، ويجلسهما معه (ص) في العريش ، ويستعين برأيهما في التدبير؟.

ألا ترون معي أنّه إنّما يستعين ، ويستشير الناقص الكامل أو المساوي له في الكمال ، للاستفادة به ، لا من كان أعقل العقلاء ، وأفضل الأنبياء (ع) ، وأكمل خلق الله تعالى ، ومن كان مؤيّدا ومسدّدا من الله تعالى ، وكأنّ هذا القائل لم يجد سبيلا إلى التنويه بأبي بكر وعمر (رض) ، وكيل الفضائل لهما ، ووضع المناقب فيهما ، لا بخلا ولا كرما ، إلّا من طريق الغض من كرامة النبي (ص) ، والحطّ من قدره ، والتنقّص من مقامه (ص). وكذلك يفعل من ابتلي بداء التعصّب البغيض للمخلوقين ، دون أن يشعروا إلى ضلاله المبين.

وأمّا القول : بأنّ رسول الله (ص) قد أشفق على أبي بكر وعمر (رض) من ضرب السيوف ، وطعن الرماح ، وصانهما عن بذل النفس في سبيل الله تعالى ، فهو من أوهن الكلام وأضعفه ، وذلك فإنّ رسول الله (ص) عرض نفسه الشريفة التي هي من أعزّ الأنفس عند الله تعالى ، وعند المؤمنين أجمعين ، كما تقدّم في قوله تعالى : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ، وعرض بغير نفسه المقدّسة (ص) أعزّ الأنفس عند الله تعالى ، وعنده ، وعند المؤمنين وهي نفوس ابن عمّه ، وأخيه ، وأحبّ الناس إلى الله تعالى وإليه (ع) علي بن أبي طالب (ع) ، وعمّه حمزة بن عبد المطلب (ع) ، وابن عمّه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب (رض) ، وأحبائه من الأنصار والمخلصين له (ص) من أهل الإيمان ، للقتل والقتال في سبيل الله تعالى ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم لذلك كل من عظمت منزلته عنده ، ويعرّضه إلى أعظم منازل الثواب والكرامة ، وكان (ص) يرى أن تخلّفه عن ذلك حطّ له عن أرفع المقامات! وأعلى المراتب

٤٠٢

اللهم إلّا أن يقول هذا القائل الذي لا يفهم ما يقول ، ويقول ما لا يفهم ، إنّ رسول الله (ص) (والعياذ بالله) كان من الخائفين المرتابين ، والشاكين فيما أعدّه الله تعالى من الثواب العظيم للمجاهدين في سبيله تعالى ، وكان (ص) (نعوذ بالله) من أبناء الدنيا والداعين إليها ، والمتمسّكين بأعمال أهلها ، والراغبين في حطامها ، والزاهدين في ثواب الله تعالى ، ورضوانه لكي يصحّ أن يصفه هذا القائل الذي يهرف بما لا يعرف ، بما قاله من الإشفاق على أحبائه من الاستشهاد في سبيل الله تعالى ، والمنع لهم من تحصيل منازل الكرامة عند الله تعالى ، وما يعقبه الراحة الأبدية والسعادة السرمدية. ولو جاز أن يوصف النبي (ص) بما وصفه هذا القائل لخرج عن وصف النبوّة ، وكان من أهل الكبرياء والجبروت تعالى رسول الله (ص) وتسامى عمّا يصفه الجاهلون ، وهو أفضل الأنبياء (ص) وسيدهم (ص).

ثالثا : لو كان السبب في منع النبي (ص) الخليفتين أبا بكر وعمر (رض) عن الجهاد يوم بدر هو المحبة لهما والإشفاق عليهما (رض) من القتل على زعم هذا القائل ، فلما ذا يا ترى لم يشفق (ص) عليهما (رض) من القتل يوم خيبر ، ولما ذا يا ترى عرض يومئذ حياتهما للموت حتى بان للناس رجوعهما عن القتال كما مرّ عليكم تفصيله ومن ذلك تعلمون بطلان ما زعمه هذا القائل من قصة العريش ، وأنّه لا أصل لها إطلاقا.

رابعا : دع عنكم هذا كلّه ، وهلموا معي إلى قول الله تعالى في سورة التوبة آية ١١١ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ، بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

٤٠٣

فلو قال لكم قائل ممّن لا يقول بقولكم : أكان الخليفتان أبو بكر وعمر (رض) مؤمنين ، فلا بدّ أن تقولوا نعم فيقال لكم إنّ الله تعالى قد اشترى منهما نفسيهما بالجنة والفوز العظيم على شرط أن يقاتلا في سبيل الله تعالى فيقتلا عدوه ، ويقتلهما عدوه تعالى ، فكيف يجوز أن يحكم هذا القائل عليهما بعدم الوفاء ببيع الله تعالى الذي بايعاه عليه ، ويقول إنّهما جالسان في العريش!.

وإن قال : إنّهما لم يكونا مؤمنين فقد صار إلى أمر عظيم وهو الحكم على الخليفتين أبي بكر وعمر (رض) ينفي الإيمان عنهما وذلك ممّا لا يمكن القول به وابتغاؤه والرضا به أبدا مطلقا.

خامسا : أخبرونا ما هي الحكمة يا ترى في هذا العريش ، ولما ذا يا ترى لم يصنعوا له (ص) عريشا في أحد وحنين ، وما وعدهما الله تعالى فيهما الانتصار على العدو ، كما وعدهم النصر في هذه الغزوة على ما حكاه الله تعالى في القرآن في سورة الأنفال آية ٧ (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) وهو صادق الوعد ورسول الله (ص) قد بيّن لهم مصارعهم واحدا بعد واحد على ما سجّله الإمام مسلم في صحيحه ص ١٠٢ من جزئه الثاني.

وأخرجه المتقي الهندي في (منتخب كنز العمال) ص ٩٦ بهامش الجزء الرابع من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) عن جماعة من حفّاظ أهل السنّة كالإمام أحمد بن حنبل ومسلم ، والنسائي وأبي يعلى ، وابن جرير ، وغيرهم.

وأخرج أيضا في ص ٩٩ من منتخبه بهامش الجزء الرابع من (مسند الإمام أحمد بن حنبل) عن ابن جرير ، وصحّحه عن علي (ع) قال : «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله (ص) ، وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأسا».

٤٠٤

وفيه أيضا عن جماعة من حفّاظ أهل السنّة كالطبراني ، وأحمد ، وابن حبان ، وأبي نعيم ، وغيرهم عن علي (ع) أنّه قال :

لقد رأيتنا ليلة بدر ، ما فينا إلّا نائم ، إلّا النبي (ص) فإنّه كان يصلّي إلى شجرة ، ويدعو ويبكي حتى أصبح».

وفي القرآن يقول الله تعالى لنبيّه (ص) في سورة التوبة آية ٧٣ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ ، وَالْمُنافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

فكيف يجتمع هذا مع جلوسه في العريش وقد تقدّم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ)؟ وكيف يجوز لمسلم أن يقول : إنّ رسول الله (ص) خالف ربّه ، وعصى أمره ، ولم يكتف بجلوسه في العريش وحده ، حتى أجلس معه (ص) غيره ، ولم يحرّضهما على القتال ، ولا على جهاد الكفّار ، ولا شك في أن من نسب شيئا من ذلك إلى رسول الله (ص) ، فقد خرج عن دين الله تعالى كليّة.

فتلخص من كل ما ذكرناه أنّ قصة العريش لا أصل لها ، وإنّ واضعيها لم يقصدوا من ورائها إلّا الطعن في قداسة النبي (ص) ، والحطّ من كرامة صاحبيه ، وإخراجهما من صفوف المؤمنين من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

سادسا : إنّ قصة العريش في واقعها غير ممكنة ، ولا معقولة. فهذا ابن حجر الهيتمي يقول في ص ٢٨ من (صواعقه) في الفصل الخامس في ذكر شبه الشيعة من الباب الأول في كيفية خلافة أبي بكر (رض) فقد أخرج البزاز في مسنده :

عن علي (ع) أنّه قال : «أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا : أنت. قال أما أنا ما بارزت أحدا إلّا انتصفت منه ، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا : لا نعلم. فمن قال أبو بكر إنّه لما كان يوم بدر صنعنا لرسول الله (ص) عريشا فقلنا من يكون مع رسول الله (ص) ،

٤٠٥

لئلا يهوي إليه أحد من المشركين ، فو الله ما دنا منّا أحد إلّا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله (ص) ، لا يهوي إليه أحد إلّا أهوى إليه ، فهذا أشجع الناس».

وأقول : إنّ من المؤسف أنّ مثل ابن حجر الهيتمي وهو مفتي الديار الحجازية في عصره يحكي هذه القصة في كتاب يزعم أنّه يردّ به على خصمائه دون أن يشعر بأنّ كون أبي بكر (رض) أشجع من علي (ع) ممّا يعرف عدم صحته الخلائق كلها من الجنة والناس أجمعين من عصر النبي (ص) ، وعصر أصحابه ، والتابعين ، إلى يومنا هذا ، وما بعده إلى يوم القيامة ، لذا ترون أنّ أصحاب النبي (ص) الذين سألهم علي (ع) أن يخبروه عن أشجع الناس على حدّ زعم البزار ، فقالوا له (ع) أنت ثم لما أعاد السؤال عليهم مرّة أخرى ، قالوا لا نعلم يعني أنّهم لا يعلمون سواه أشجع الناس ، ومعاذ الله أن يقول أصحاب رسول الله (ص) الكرام ذلك ، وهم يعلمون غير علي (ع) أشجع الناس ، وظنّي ، وربّ ظنّ يقين ، أنّ ما ادّعاه البزار من أشجعية أبي بكر (رض) لا يرضى به أبو بكر نفسه (رض) ، وأغرب من ذلك أن ينسب القول بأشجعية أبي بكر (رض) إلى أشجع الناس بعد النبي (ص) عند الأولين والآخرين ، ليغري به البله المغفلين ، ويصوّر لهم أنّ أبا بكر (رض) أشجع من علي (ع) باعتراف أشجعهم ، وإلّا فلما ذا يا ترى خصّ البزار عليّا (ع) بهذه الرواية دون غيره من الصحابة ، وهم كثيرون لو لا ما أشرنا إليه من إرادة الإغراء لإثبات ما هو غير ثابت عند القريب والبعيد ، والعدو والصديق ، والمسلم والكافر ، من جميع الملل والنحل ، على اختلاف مذاهبهم ثم كيف يا ترى يكون من المعقول أن يخفى على أصحاب النبي (ص) مع كثرتهم ، وقربهم من أبي بكر ، ومعرفتهم به ، واطّلاعهم على صفاته أشجعيته من علي (ع) ، ومن غيره من جميع الناس ، فيجيبون عليّا (ع) بأنّه

٤٠٦

هو (ع) أشجع الناس دون أبي بكر (رض) ودون غيره من جميع الناس؟.

وكيف يا ترى يغفلون عن كون أبي بكر (رض) أشجع الناس ، أو ينسون ذلك ولا يذكرونه ، ولا يجيبون عليّا (ع) بأنّ أبا بكر (رض) أشجع الناس ، وهل يصحّ للبزار أن يقول قد بلغت الغفلة والنسيان بأصحاب رسول الله (ص) ، مبلغا أنساهم أشجعية أبي بكر (رض) من جميع الناس ، ولم ينسهم أشجعية علي من كل الناس ، مع أنّ الأشجعية في الإنسان من الأمور التي لا يمكن أن تخفى على أحد منهم ، أو يمكن نسيانها في حال من الأحوال ، لا سيما أنّ البزار ، وابن حجر ، وغيرهما ممّن حذا حذوهما ، يدعون العصمة لأصحاب النبي (ص) من الغفلة والنسيان ، ثم كيف يا ترى يختصّ علي (ع) بالعلم بأشجعية أبي بكر (رض) من كل الناس ولا يعلم بها غيره (ع) من الصحابة المعاصرين له (رض) في حلّه وترحاله ، في سفره وحضره ، ذلك ما ندع جوابه للمؤمنين المنصفين الذين يعتدلون في مشيهم ، ويسلكون سبيل الحق ، ويتركون سبيل التعصّب الباطل البغيض؟

ثم كان لزاما على البزار أن يذكر لنا من ذلك البطل الشجاع من المشركين الذي أهوى بسيفه إلى النبي (ص) ، فأهوى أبو بكر (رض) بسيفه إليه ، على حدّ قوله؟.

وكيف يا ترى يكون من المعقول أن يجعل الصحابة رسول الله (ص) في مكان يكون في متناول العدو ، وهم أحرص الناس على المحافظة عليه ، والكفاح دونه ، وبذل النفس والنفيس في سبيله ، والمفاداة بين يديه (ص)؟ ولكن الذي فات على البزار هو أنّه لم يذكر لنا اسم ذلك البطل المغوار الذي أهوى بسيفه إلى النبي (ص) ،

٤٠٧

وأهوى أبو بكر (رض) بسيفه إليه فقتله ليكون تبريرا لما ادّعاه من أشجعية أبي بكر (رض) من جميع الناس ، لا سيما إذا لاحظتم أنّه لا يتقدم إلى أشجع الناس إلّا من اعتقد من نفسه أنّه مثله ، وهيهات ذلك! فإنّ ذلك البطل المغوار لا زال في طيّ العدم وليس له في الوجود صورة.

ثم كيف يا ترى تجتمع قصة العريش ، وجلوس النبي (ص) وصاحبه أبي بكر وعمر (رض) فيه ، وقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) كما تقدم بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

فهل يا ترى من صفة المجاهد أن يجلس في العريش؟ وهل يمكن لمن جلس في العريش أن يغلظ على الكافرين والمنافقين؟ ولما ذا يا ترى أغفل البزار ذكر الخليفة عمر (رض) وهو ثاني اثنين مع النبي (ص) في العريش فخصّ الخليفة أبا بكر (رض) بذلك بدليل قوله «فو الله ما دنا منّا أحد إلّا أبو بكر» فقد نفى دنو كل أحد إلّا أبا بكر (رض) ومنهم عمر (رض) فإنّه داخل في النفي ، وتلك قضية الاستثناء بعد العموم وبعد هذا كلّه فهل يبقى شك لذي بصيرة في بطلان قصة العريش؟!!.

* * * *

٤٠٨

حديث الاقتداء بأبي بكر وعمر (رض)

قال : لقد أزلتم الشكّ والريب عنّا واتّضح عندنا امر بالحديث بما أدليتموه من قوة الدليل ، وسلامة البرهان ، وإنّ قصة العريش تتنافى مع ما ذكرتم من الآيات ، وما أوردتم من الروايات ، ولكن مخالفيكم يقولون : لقد ورد في الحديث الصحيح أنّ رسول الله (ص) قال : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (رض) وهذا الأمر في الحديث كما تجدونه صريح في وجوب الاقتداء بهما والرجوع إليهما ، ولزوم طاعتهما ، وهو الدليل الواضح ، والبرهان الساطع ، على إمامتهما على الأمّة وأدلّ دليل على صوابهما فيما فعلا من التقدّم على علي (ع) وعلى صحّة خلافتهما بعد رسول الله (ص).

قلت : إنّ من الغريب أن تأخذوا الأمر بهذه البساطة ، وتجزموا به ، وتحكموا بصحّته من دون تحقيق ، ولا تدقيق ، ولا تثبت ، ولا روية ، وأنتم من عرفنا مستواه العالي في البحث والتنقيب ، وإليكم الجواب :

أولا : إنّ الحديث ، وإن رواه الترمذي في صحيحه ص ٢٠٧ من جزئه الثاني ، لكنّه موضوع سندا ، ومختلّ دلالة. والتضاد في معناه ظاهر للعيان.

٤٠٩

أمّا من حيث سنده ، فإنّه يسند إلى عبد الملك بن عمير القبطي ، عن ربعي بن حراث ، عن حذيفة بن اليمان :

أما عبد الملك بن عمير القبطي ، فهو من أعداء علي (ع) المشهورين في محاربته ونصبه له (ع) ، ولم يزل طول حياته يتزلف إلى بني أمية بوضع الأحاديث في أبي بكر وعمر (رض) ، والطعن في علي (ع) ، وكان يتظاهر بالفسق والفجور والعبث بالنساء فمن ذلك ما سجّله المؤرّخون من أهل السنّة ممّن جاء على ترجمته أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إلى عبد الملك بن عمير القبطي ، عند ما كان قاضيا في أموال وعقار ، وكانت كلثم من أحسن نساء عصرها وجها ، وأجملهن شكلا ، فأعجبته ، فوجّه الحكم على أخيها وحكم عليه تقرّبا إليها ، وطمعا في وصالها ، فظهر ذلك عليه ، واشتهر به ، فافتضح فقال فيه هذيل الأشجعي.

أتاه وليد بالشهود يقودهم

على ما ادّعى من صامت المال والحول

يسوق إليه كلثما ، وكلا منها

شفاء من الداء المخامر والخبل

فما برحت ترمي إليه بطرفها

وترمص أحيانا إذا خصمها عقل

وكان لها دل ، وعين كحيلة ،

فأدلت بحسن الدلّ منها وبالكحل

فاقتلت القبطي حتى قضى لها

بغير قضاء الله في المال والطول

فلو كان من في القصر يعلم علمه

لما استعمل القبطي فينا على عمل

٤١٠

إذا ذات دل كلمته بحاجة

فهمّ بأن يقضي تنحنح أو سعل

وبرّق عينيه ولاك لسانه

يرى كل شيء ما خلا شخصها جلل

ويقول خاتمة حفّاظ أهل السنّة ابن حجر العسقلاني في ترجمة عبد الملك بن عمير القبطي في كتابه (تهذيب التهذيب) في أواخر ص ٤١١ وما بعدها من جزئه السادس : (قال علي بن الحسن السنجاني عن أحمد عبد الملك بن عمير المعروف بالقبطي ، مضطرب الحديث جدا ، وقال إسحاق بن منصور ضعّفه أحمد جدّا وقال ابن معين مخلط) وهكذا سجّله الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال) ص ١٥١ من جزئه الثاني.

وأنتم تعلمون أنّ مثل هذا الحديث الذي في طريقه مثل هذا المضطرب الضعيف جدّا ، والمخلط العدو اللدود لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ساقط عن الحجية. عند الفريقين ، فلا يصحّ الاحتجاج به على شيء.

ثانيا : من المحتمل قويا أنّه يريد بالاقتداء بهما الصلاة خلفهما فلا يدل على شيء من الإمامة العامة بل لا يصحّ أن يريد غيره بدليل الأمر بالاقتداء بهما معا ، فلا يمكن أن يكونا إمامين على الأمّة لما تقدم من قوله (ص) : «إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر» وتقديم أبي بكر (رض) على عمر (رض) ، ترجيح بلا مرجح ، وهو باطل مع أنّه مناف لصريح الحديث الدالّ على تساويهما بالاقتداء فتقديم أبي بكر (رض) على عمر (رض) في الإمامة والخلافة ، مخالف لنصّ الحديث وبطلانه واضح فالحديث كما ترونه حجّة لنا عليكم لا لكم.

ثالثا : إنّ الواقع العملي ، والقولي المتنافيين في كثير من القضايا

٤١١

بين أبي بكر (رض) وعمر (رض) يمتنعان منعا باتّا من وجوب الاقتداء بهما في شيء لاستحالة اتباعهما فيما اختلفا فيه لاستلزامه وجوب مخالفة أحدهما في اتّباع الآخر منهما ، ومخالفة صاحبه في اتّباعه ، والاقتداء به ، وقد ثبت بالضرورة من الدين والعقل أنّ الله تعالى لا يكلّف الناس بالمحال ، ولا يوجب عليهم امتثال الضدّين واتّباع النقيضين ، والجمع بين المتنافيين ، ولا يمكن لمسلم أن ينسب تشريعه إليه وهو تعالى القائل في القرآن كما تقدم (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) ولا يمكن أن يجتمع الحقّ والضلال على صعيد واحد.

أمّا اختلاف أبي بكر وعمر (رض) فحسبك في وقوعه ما حكاه الجلال السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) عن العسكري في أوليات عمر (رض) إنّ عمر بن الخطاب (رض) هو أول من سنّ قيام شهر رمضان بالتراويح ، وأوّل من حرّم المتعة ، وأول من جمع الناس في صلاة الجنائز على أربع تكبيرات ، وأول من قال بالعدل في المواريث وأول من أخذ زكاة الخيل) وهكذا حكاه ابن سعد في طبقاته عند ترجمته لعمر (رض) من جزئه الثالث.

وأقول : وهو (رض) أوّل من أمضى طلاق الثلاث ثلاثة ، وقد كانت واحدة على عهد النبي (ص) وأبي بكر وعمر (رض) على ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ص ٥٧٤ في باب (طلاق الثلاث) من كتاب الطلاق من جزئه الثاني.

وهو (رض) أول من خالف أبا بكر (رض) في وجوب إقامة الحدّ على خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته وقد اختلفا في تولية خالد وقد عزله عمر (رض) في أول خلافته فخالف أبا بكر (رض) في توليته.

فإذا بطل وجوب الاقتداء بهما على العموم للتضاد والتنافي ثبت بطلان الحديث ووضعه.

٤١٢

أمّا الواقع العملي فيما اتّفقا عليه بالخصوص فمع أنّه موجب لبطلان عموم إطلاق الحديث فيقال فيه إنّه إن كان ما اتّفقا عليه موافقا للشريعة لم يكن من الاقتداء بهما في شيء ، وإنّما يكون من اتّباع الشريعة نفسها ، وإن لم يكن ما اتّفقا عليه مطابقا للشريعة حرّم العمل به والنزول عنده ، لأنّه مخالف للشريعة ، وغير مطابق لها ، وكل ما كان كذلك يجب الابتعاد عنه بالضرورة من الدين وإجماع المسلمين.

رابعا : لو كان الحديث صحيحا فما الذي يا ترى منع أبا بكر (رض) من الاحتجاج به يوم السقيفة على مخالفيه مع أنّ حذيفة ، وابن مسعود ، اللذين أسند إليهما رواية هذا الحديث كانا موجودين في المدينة على مرأى منهم ومسمع؟ ولما ذا يا ترى استند أبو بكر (رض) إلى حديث عام في قريش جميعا دون هذا الحديث فقال لمن حضر فيها : «الخلافة في قريش ولو بقي من الناس اثنان»؟.

ولما ذا يا ترى أراد أن يجعل الخلافة في عنق أحد الرجلين أبي عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب (رض) ولما ذا قال (رض) «اختار لكم أحد هذين ، أو رضيت لكم أحد هذين الرجلين (يعنيهما)؟ ولما ذا يا ترى قال (رض) للأنصار نحن الأمراء وأنتم الوزراء على ما سجّل ذلك كلّه عليه (رض) كل من جاء على ذكر السقيفة ، وما وقع فيها من الاختلاف من مؤرّخي أهل السنّة كالطبري ، وابن الأثير ، في تاريخيهما ، وابن عبد البر في استيعابه ، وابن كثير في بدايته ونهايته ، والحلبي والدحلاني في سيرتيهما ، وغيرهم من حفّاظهم.

ولا يصحّ لكم أن تقولوا إنّ هذا الحديث قد غاب عن ذهنه أو نسيه أو غفل عنه (رض) مع قربه من النبي (ص) ، ومسيس حاجته يومئذ إلى مثله.

وليس من المغفول أن الترمذي وغيره ممّن روى هذا الحديث مع

٤١٣

بعدهم عن عصر الرسالة ، وعهد النبوّة ، لم يغفلوا عنه ، فاحتجوا به على خلافته (رض) وخلافة صاحبه عمر (رض) ، وأبو بكر نفسه (رض) لم يحتج به ولم يأت على ذكره كليّة ، بل لو كان الحديث صادرا عن رسول الله (ص) ونسيه أبو بكر (رض) ، أو غفل عنه ، فليس من الجائز أن يغفل عنه شريكه في الحديث عمر (رض) ، وإذا غفلا عنه أو نسياه فليس من الممكن أن ينساه المقرّبون من أصحابهما مع كثرتهم ، أو يغفلوا عنه ولم يذكروه له (رض) ليحتج به في السقيفة على من حضر فيها بل كان عليهم في الأقل أن يقول ولو واحد منهم بأنّ رسول الله (ص) قد أمرنا بالاقتداء بأبي بكر (رض) فلما ذا كل هذا التنازع ، وكل هذا الاختلاف ومن حيث أن ذلك لم يقع ، ولم يقل واحد منهم شيئا من ذلك ، علمنا أنّ الحديث لا أصل له.

خامسا : لو صحّ هذا الحديث لأوجب العصمة لأبي بكر وعمر (رض) من كل الذنوب وقضى لهما بالكمال ، ونفي السهو والخطأ عنهما ، والنسيان ، وذلك لأنّ الأمر بالاقتداء بهما ، على سبيل الجزم والإطلاق ، موجب لصواب المقتدي بهما عند الله تعالى ، وإن ما أتى به من الأعمال كلّها مقبول عنده تعالى فلو لم يكونا معصومين لم يؤمن منهما وقوع الخطأ ، وكان المقتدي بهما فيه ضالا عن الصواب ، وفاعلا من العمل ما ليس صوابا عند الله تعالى ، ولا مقبولا لديه تعالى ، وليس من الجائز في حكمة الله تعالى ، قطعا أن يوجب الاقتداء بهما مطلقا مع ارتفاع العصمة عنهما لاستلزامه ما ذكرنا والأمّة من الشيعة وأهل السنّة مجمعون على أن أبا بكر وعمر (رض) لم يكونا معصومين من الخطأ لا في الجاهلية ولا في الإسلام ، بل يكفي ثبوت اعترافهما بانتفاء العصمة عنهما بالإجماع دليلا قطعيا على بطلان الحديث.

سادسا : إنّ الحديث معارض بحديث (أصحابي كالنجوم بأيّهما اقتديتم اهتديتم) مع أنّ الأمّة من الشيعة وأهل السنّة مجمعة على نفي

٤١٤

إمامتهم جميعا فيسقطان معا عن الاعتبار والحجّية بالتعارض وبطلان الترجيح بلا مرجح ، والتخصيص بلا مخصص.

سابعا : إنّ الاقتداء بهما لو صحّ بمقتضى الحديث فلا يوجب لهما الإمامة العامّة والحكومة المطلقة بعد رسول الله (ص) ، وذلك لما تعلمون أنّ الاقتداء بالفقهاء في الشريعة لا يوجب أن يكونوا خلفاء ، ولا يدلّ عليه ، وإلّا لكان جميع الفقهاء خلفاء وبطلانه واضح.

ثامنا : إنّ تصريح أبي بكر (رض) بأنّ بيعته كانت فلتة ، يمنع منعا قطعيا من صحّة الحديث لا سيما إذا لاحظتم حكم عمر (رض) بفلتتها وذلك حيث أنّه (رض) خطب في أوائل خلافته (رض) فقال : «إنّ بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها ولكن خشيت الفتنة» على ما سجّله الجوهري في كتابه (السقيفة) وحكاه عنه ابن أبي الحديد في الجزء الأول من (شرح النهج) ص ١٣٢.

وأنتم تعلمون أنّه لا يصحّ في منطق العقل أن يجتمع وجوب الاقتداء به (رض) كما هو المدلول عليه في الحديث مع بيعته (رض) التي وصفها (بأنّها فلتة وقى الله شرّها) الذي لا يجوز الاقتداء بها مطلقا.

٤١٥
٤١٦

الأوصاف لا تكفي في استحقاق الخلافة

قال : لا مجال للتمسّك بالحديث في إثبات الخلافة بما ذكرتموه من وجوه الخلل في دلالته ، وعدم صحّة سنده ، ولكن خصومكم يقولون إنّا نجد الأمّة من صدر الإسلام إلى يومنا هذا ينعتون أبا بكر (رض) بالصديق ، وعمر (رض) ، بالفاروق ، وعثمان (رض) بذي النورين ، وقد شاع ذلك بينهم وذاع. وهذا دليل واضح على إنّهم كانوا من الأخيار ، وكانوا فيما فعلوه على الحقّ والصواب ، ولو لم يكن الأمر فيهم (رض) على ما وصفنا لما شاع هذا المدح والثناء.

قلت : أولا : إنّ الأمّة جميعا لم تصفهم بما ادّعيتم لهم من الصفات فإنّ الشيعة قاطبة ترى كما يرى رسول الله (ص) أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) هو الصديق الأكبر ، والفاروق الأعظم دون غيره.

فهذا ابن حجر العسقلاني يقول في إصابته ص ١٦٧ من جزئه السابع ، وذاك ابن عبد البر في استيعابه يقول في ص ٦٧٦ من جزئه الثاني : «قال رسول الله (ص) : ستكون بعدي فتنة فالزموا فيها علي بن أبي طالب (ع) فإنّه أول من آمن بي ، وأول من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصديق الأكبر ، وهو فاروق هذه الأمّة».

٤١٧

والحجّة في هذا الحديث لأنّه متّفق عليه بين الفريقين بخلاف ما ادّعيتموه من النعوت ، فإنّه غير متّفق عليه ، ولا صادر عن رسول الله (ص) قطعا فلا حجّة فيه أصلا. ولو سلمنا لكم جدلا صحّة ما نسب إليهم (رض) من النعوت ولكن شيئا من ذلك لا يوجب لهم العصمة ، ولا ينفي عنهم تعمّد الخطأ وخلاف الصواب ، لعدم عصمتهم بالإجماع.

ثانيا : لا قيمة لانتشار المدح والثناء لأيّ كان ما لم يكن مستندا إلى كتاب الله تعالى والسنّة النبوية (ص) القطعية ، وذلك لما هو المعلوم والمشاهد بالعيون أنّه قد يتّفق في المدح والثناء بها من لا يستحق ذلك ، محاباة أو عنادا لله تعالى وكفرا به ، وقد تبلغ الحماقة ، والجهالة ، وفقدان الكرامة ، ببعض الناس فيفدي أمراءه وملوكه بنفسه ، وآخر بنفسه وولده ، وثالث بنفسه وولده ودينه ، دون أن يشعروا إلى أنّهم نظراؤهم في الخلق ، وأنّ أولهم نطفة قذرة ، وآخرهم جيفة نتنة تملأ الفضاء سخونة وعفونة ، وبين جنبيهم يحملون البول والعذرة ، ولولاهما لأصبحوا من الهالكين.

وشيوع هذا بينهم شيء لا سبيل إلى إنكاره ، وليس هذا بغريب في تاريخ الناس منذ هبوط آدم (ع) إلى الأرض ، فهؤلاء أصحاب نبي الله تعالى موسى (ع) وهو نبي من أولي العزم ، فانظروا إليهم كيف أنّهم سمّوا العجل إلها وعكفوا على عبادته من دون الله تعالى بعد إيمانهم بالله تعالى كما جاء التنصيص عليه في القرآن.

ثم ألقوا نظرة على عصرنا هذا فإنّكم تجدون أكثر الناس يكيلون النعوت والألقاب لغير مستحقّيها من الملوك ، والأمراء ، والحكّام ، خوفا أو طمعا ، ثم ارجعوا قليلا إلى العصر الأول لتروا كيف أنّ مشركي قريش وصفوا الأصنام بالآلهة على ما قصّ الله تعالى خبرهم في

٤١٨

القرآن بقوله تعالى في سورة ص آية ٥ : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ!) وقد كان ذلك منتشرا في الجاهلية قبل الإسلام ، حتى شاع ذلك عندهم ، وذاع.

ثم ألقوا ببصركم حيث عصر خليل الله إبراهيم (ع) على ما حكاه الله تعالى عن قومه بقوله تعالى في سورة الأنبياء (ع) آية ٦٨ : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) بل وجود ذلك معلوم في هذه الأواخر في بلاد الهند وغيرها حيث أنّهم يعبدون الأصنام ، ويعكفون على عبادة الأوثان ، وذلك شايع عندهم ، ومستفيض مع وجود خلاف ذلك في العصور الأولى وما بعدها إلى يومنا هذا من المؤمنين بالله تعالى وبشرائعه التي شرعها لعباده وكيف غاب عن بالكم أنّ الوصف بالربوبية قد شاع وذاع لكثير من الملوك في القرون الخالية ، والأزمان الماضية ، على ما اقتصّ القرآن من أخبارهم في غير واحد من الآيات مع ثبوت مخالفة أهل الحقّ لهم وكانوا يتّقون في ترك إظهار الخلاف عليهم ، وقد استفاض من الصفات لملوك الأمويين ما يقتضي المدح والثناء لهم ، كما شاع وانتشر مثل ذلك لمن نازعهم في السلطة والإمارة من الطالبيين حتى صاروا في ذلك على السواء في النعوت الموجبة للمدح والثناء ، ولم يوجب ذلك أن يكونوا مجمعين على الصواب ، ولا متفقين في استحقاق المدح والثناء.

ولا يخفى عليكم أنّ أبا جعفر المنصور العباسي كانوا ينعتونه ، كما كانوا ينعتون محمد بن عبد الله بن الحسن المهدي ، وينعتون القائم بعد المنصور بالمهدي ، وابنه الهادي ، وابن ابنه بالرشيد ، والمنصور والمعز ، والعزيز ، والقادر ، وهلم جرا على ما سجّله المقريزي في (خططه) ، وابن خلكان في (وفيات الأعيان) ، وابن عبد ربّه في (العقد الفريد) ، وغيرهم ممّن جاء على ذكر ملوك العباسيين والطالبيين من مؤرّخي أهل السنّة.

٤١٩

وإذا كان اشتهار النعوت والصفات فيما ذكرنا على نمط واحد ، وطريقة واحدة ، بطل أن يكون الجميع على الحق والهدى ، لوجود التضاد والتنافي في ذلك كلّه ، فإذا بطل هذا لم يثبت لكم ما ادّعيتم من دلالة اشتهار النعوت بين العامة من الأمّة في المتقدمين على علي (ع) على صحّة خلافتهم (رض) بعد النبي (ص) على نحو القطع واليقين.

ثالثا : نقول لهؤلاء الخصوم ما هو الدليل العلمي الذي رجعتم إليه في وجوب الانقياد والطاعة لكل من شاع وصفه ، وذاع لقبه بين الناس ، بأنّه خليفة رسول الله (ص) ، وإمام المسلمين ، أو صدّيق ، أو فاروق ، أو سيف الله ، وأمثال ذلك من الألقاب المشعرة بالمدح والثناء ، وإنّه بذلك يكون واجب الطاعة على الناس أجمعين ، بل لو صحّت تلك الألقاب والنعوت لمن ذكرتم في عصر رسول الله (ص) وبتقريره لها لم ، وكانت أدلّة على استحقاقهم إمامة الأمّة وخلافة الرسالة لاحتجوا بها يوم السقيفة ، وهم أحوج ما يكونوا إليها في ذلك اليوم لقطع التنازع والاختلاف بينهم ، ومن حيث أنّ شيئا من ذلك لم يحصل منهم ولا من غيرهم في السقيفة علمنا أنّها وضعت لهم بعد عصرهم (رض) من أتباعهم ، وتعصّبا لهم.

ثم متى يا ترى كان اجتماع أكثر الناس على شخص بعينه ووصفهم له بالنعوت بالعظيمة ، والألقاب الضخمة ، دليلا شرعيا على استحقاقه لتلك النعوت والألقاب؟!! ومتى كان ذلك دليلا في الشريعة على إمامته عليهم ، وكتاب الله تعالى والسنّة النبويّة القطعية ينبذانه نبذا ، ويرفضانه رفضا ، ويحكمان بفساده وبطلانه كما مرّ البحث عنه مستوفى في أوائل الكتاب؟!.

٤٢٠